الشورى في الإمامة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الشورى في الإمامة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-262-8
الصفحات: ٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الأمر الأوّل : إنّه كان لعبد الرحمن بن عوف وعثمان ضلع في تعيين عمر بعد أبي بكر ، وإنْ شئتم التفصيل فراجعوا تاريخ الطبري (١) حتّىٰ تجدوا كيف أشار عبد الرحمن وعثمان علىٰ أبي بكر ، وكيف كتب عثمان وصيّة أبي بكر لعمر بن الخطّاب.

الأمر الثاني المهم : إنّ خلافة عمر بعد أبي بكر لم تكن بنصّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا برضا من أعلام الصحابة ، بل إنّهم أبدوا معارضتهم واستيائهم من ذلك ، وإنّما كانت خلافته بوصيّة من أبي بكر فقط.

وإلى الان ، لم نجد ما يفيد طريقيّة الشورىٰ لتعيين الإمام والإمامة ، مع ذلك لو تراجعون بعض الكتب المؤلّفة أخيراً ، من هؤلاء الذين يُصوّرون أنفسهم مفكّرين وعلماء ومحققين ، وهكذا تصوّر في حقّهم بعض الناس والتبس عليهم أمرهم تجدون هذه الدعوى :

يقول أحدهم في كتاب فقه السيرة : فشاور أبو بكر قبيل وفاته طائفة من المتقدّمين ، ذو النظر والمشورة من أصحاب رسول الله ، فاتّفقت كلمتهم علىٰ أنْ يعهد بالخلافة إلىٰ عمر بن الخطّاب.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٦١٧.

٢١

وقد رأيتم من أهمّ مصادرهم ، راجعوا طبقات ابن سعد ، راجعوا تاريخ الطبري ، وراجعوا سائر الكتب ، لتروا أنْ لم يكن لأحدٍ دخل ورأي في هذا الموضوع ، بل الكل مخالفون ، وإنّما عبد الرحمن بن عوف وعثمان.

وسنرىٰ من خلال الاخبار ومجريات الحوادث أنّ هناك تواطئاً وتفاهماً علىٰ أن يكون عثمان بعد عمر ، وعلىٰ أن يكون عبد الرحمن بعد عثمان ، ويؤكّد هذا الذي قلته النص التالي ، فلاحظوا :

إنّ سعيد بن العاص أتىٰ عمر يستزيده [ سعيد بن العاص تعرفونه ، هذا من بني أُميّة ، ومن أقرباء عثمان القريبين ، الذي ولاّه علىٰ بعض القضايا ، وصدر منه بعض الأشياء ] في داره التي بالبلاط ، وخطّط أعمامه مع رسول الله ، فقال عمر : صلّ معي الغداة وغبّش ، ثمّ أذكرني حاجتك ، قال : ففعلت ، حتّىٰ إذا هو انصرف ، قلت : يا أمير المؤمنين الحاجة التي أمرتني أن أذكرها لك ، قال : فوثب معي ثمّ قال : امض نحو دارك حتّىٰ انتهيت إليها ، فزادني وخطّ لي برجله ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، زدني ، فإنّه نبتت لي نابتة من ولد وأهل ، فقال : حسبك وخبّئ عندك أن سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك ، قال : فمكثت خلافة عمر بن الخطّاب ، حتّىٰ استخلف عثمان ، فوصلني وأحسن وأقضىٰ

٢٢

حاجتي وأشركني في إمامته ... إلىٰ آخر النصّ.

وهذا أيضاً في الطبقات (١). يقول عمر لسعيد بن العاص أن انتظر سيعطيك ما تريد الذي سيلي الأمر من بعدي ، واختبئ عندك هذا الخبر ، فليكن عندك السر.

__________________

(١) طبقات الكبرىٰ ٥ / ٣١.

٢٣
٢٤



متى طرحت فكرة الشورى

إذن ، متىٰ جاء ذكر الشورىٰ ؟ ومتىٰ طرحت هذه الفكرة ؟ في أيّ تاريخ ؟ ولماذا ؟ وحتّىٰ عمر أيضاً لم تكن عنده هذه الفكرة ، وإنّه كان مخالفاً لهذه الفكرة ، وإنّما كان قائلاً بالنص :

منها : قوله : لو كان أبو عبيدة حياً لولّيته (١).

ومنها : قوله : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته (٢).

ومنها : قوله : لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيته (٣).

إذن ، ما الذي حدث ؟ ولماذا طرحت هذه الفكرة فكرة الشورى ؟

هذه الفكرة طرحت وحدثت بسبب ، سأقرؤه الآن عليكم من

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ١٨ ، سير أعلام النبلاء : الجزء الأول ، وغيرهما.

(٢) الطبقات الكبرىٰ ٣ / ٣٤٣.

(٣) مسند أحمد ، الطبقات ، سير أعلام النبلاء : بترجمة معاذ.

٢٥

صحيح البخاري ، وهو أيضاً في : سيرة ابن هشام ، وأيضاً في تاريخ الطبري ، وأيضاً في مصارد اُخرىٰ ، وهناك فوارق بين العبارات ، والنص تجدونه قد تلاعبوا به ، لا أتعرّض لتلك الناحية ، ولا أبحث عن التلاعب الذي حدث منهم في نقل القصة ، وإنّما أقرأ لكم النص في صحيح البخاري ، لتروا كيف طرحت فكرة الشورىٰ من قبل عمر في سنة ٢٣ ه‍ ، وأرجوكم أن تنتظروا إلىٰ آخر النص ، لأن النص طويل ، وتأمّلوا في ألفاظه وسأقرؤه بهدوءٍ وسكينة :

حدّثنا عبد العزيز بن عبدالله ، حدّثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب [ وهو الزهري ] عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس قال : كنت [ ابن عباس يقول ، والقضية أيضاً فيها عبد الرحمن بن عوف كما سترون ] أُقرىء رجالاً من المهاجرين [ اُقرؤهم يعني القرآن ] منهم عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله بمنىٰ [ القضيّة في الحج ، وفي منىٰ بالذات ، وفي سنة ٢٣ من الهجرة ] وهو عند عمر بن الخطاب [ أي : عبد الرحمن بن عوف كان عند عمر بن الخطاب ] في آخر حجّة حجّها ، إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال : لو رأيت رجلاً أتىٰ أمير المؤمنين اليوم فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في فلان يقول : لو

٢٦

قد مات عمر لقد بايعت فلاناً ، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلته فتمّت ، فغضب عمر ثمّ قال : إنّي إنْ شاء الله لقائم العشيّة في الناس ، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أُمورهم.

[ لاحظوا القضيّة : عبد الرحمن كان عند عمر بن الخطاب في منىٰ ، فجاء رجل وأخبر عمر أنّ بعض الناس كانوا مجتمعين وتحدّثوا ، فقال أحدهم : لو قد مات عمر لبايعنا فلاناً فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة ، في البخاري فلان ، وسأذكر لكم الإسم ، وهذا دأبهم ، يضعون كلمة فلان في مكان الأسماء الصريحة ، فقال قائل من القوم : والله لو قد مات عمر لبايعت فلاناً. القائل من ؟ وفلان الذي سيبايعه من ؟ لبايعت فلاناً ، يقول هذا القائل : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت ، لكن سننتظر موت عمر ، لنبايع فلاناً ، لمّا سمع عمر هذا المعنىٰ غضب ، وأراد أن يقوم ويخطب ].

قال عبد الرحمن فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ، فإنّ الموسم يجمع رعاء الناس وغوغائهم ، فإنّهم هم الذين يغلبون علىٰ قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشىٰ أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر ، وأن لا يعوها ، وأن لا يضعوها علىٰ مواضعها ، فأمهل حتّىٰ تقدم المدينة ، فإنّها دار الهجرة والسنّة ،

٢٧

فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكّناً ، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها علىٰ مواضعها ، فقال عمر : أما والله إنْ شاء الله لأقومنّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة.

[ فتفاهما علىٰ أن تبقى القضيّة إلىٰ أن يرجعوا إلىٰ المدينة المنوّرة ].

قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجّة ، فلمّا كان يوم الجمعة عجّلنا الرواح حين زاغت الشمس ، حتّىٰ أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلىٰ ركن المنبر ، فجلست حوله تمسّ ركبتي ركبته ، فلم أنشب أنْ خرج عمر بن الخطّاب ، فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولنّ العشيّة مقالة لم يقلها منذ استخلف ، فأنكر عَلَيّ ـ سعيد بن زيد ـ وقال : ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله ؟ فجلس عمر علىٰ المنبر ، فلمّا سكت المؤذّنون قام فأثنىٰ علىٰ الله بما هو أهله ثمّ قال :

أمّا بعد ، فإنّي قائل لكم مقالة ، قد قدّر لي أن أقولها ، لا أدري لعلّها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أُحلّ لأحد أنْ يكذب عَلَيّ ، إنّ الله بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وسلمبالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل آية الرّجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله

٢٨

ورجمنا بعده ، فأخشىٰ إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضل بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حقّ علىٰ من زنىٰ إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البيّنة ، أو كان الحبل أو الاعتراف. ثمّ إنّا كنّا نقرأ في ما نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أنْ ترغبوا عن آبائكم [ هذا كان يقرؤه في كتاب الله عمر بن الخطّاب ، وهذا ليس الآن في القرآن المجيد ، فيكون دليلاً من أدلّة تحريف القرآن ونقصانه ، إلاّ أنْ يحمل علىٰ بعض المحامل ، وعليكم أن تراجعوا كتاب التحقيق في نفي التحريف ] ثمّ يقول عمر بن الخطّاب : ثمّ إنّ رسول الله قال : لا تطروني كما أُطري عيسىٰ بن مريم ، وقولوا عبد الله ورسوله.

ثمّ إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلاناً ، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول : إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا وإنّها قد كانت كذلك ولكنّ الله وقىٰ شرّها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً [ اسمعوا هذه الكلمة ] من غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أنْ يقتلا.

وإنّه قد كان من خبرنا حين توفّىٰ الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ الأنصار

٢٩

خالفونا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف علينا علي والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلىٰ أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلىٰ إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلمّا دنونا منهم ، لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا ما تمالا عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لا عليكم أن لا تقربوهم أخذوا أمركم ، فقلت : والله لنأتينّهم ، فانطلقنا حتّىٰ أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا سعد بن عبادة ، فقلت : ما له ؟ قالوا : يوعك ، فلمّا جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم ، فأثنىٰ علىٰ الله بما هو أهله ، ثمّ قال :

أمّا بعد ، فنحن أنصار الله ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفّت دافّة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلها ، وأن يحضوننا من الأمر.

فلمّا سكت أردت أن أتكلّم ، وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أُريد أنْ أُقدّمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أُداري منه بعض الحد ، فلمّا أردت أن أتكلّم قال أبو بكر : علىٰ رسلك ، فكرهت أن أُغضبه ، فتكلّم أبو بكر ، فكان هو أحلم منّي وأوقر ، والله ما ترك

٣٠

من كلمة أعجبتني في تزوير إلاّ قال في بديهته مثلها أو أفضل منها ، حتّىٰ سكت ، فقال :

ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين [ يعني أبو عبيدة وعمر ] فبايعوا أيّهما شئتم ، فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ، فلم أكره ممّا قال غيرها ، كان والله لأن أُقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من إثم أحب إليّ من أن أتأمّر علىٰ قوم فيهم أبو بكر ، اللهمّ إلاّ أن تسوّل إليّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.

فقال قائل من الأنصار : أنا جذيله المحكك وعذيقها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، فكثر اللّغط وارتفعت الأصوات ، حتّىٰ فرقت من الاختلاف.

فقلت : أُبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده ، فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثمّ بايعته الأنصار ، ونزونا علىٰ سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت : قتل الله سعد بن عبادة.

قال عمر : وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوىٰ من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا

٣١

رجلاً منهم بعدنا ، فإمّا بايعناهم علىٰ ما لا نرضىٰ ، وإمّا نخالفهم فيكون فساد.

فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.

هذه خطبة عمر بن الخطاب التي أراد أن يخطب بها في منىٰ ، فمنعه عبد الرحمن بن عوف ، فوصل إلىٰ المدينة ، وفي أوّل جمعة خطبها ، ولماذا في أوائل الخطبة تعرّض إلىٰ قضيّة الرجم ؟ هذا غير واضحٍ عندي الآن ، أمّا فيما يتعلّق ببحثنا ، فالتهديد بالقتل للمبايع والمبايع له مكرّر ، فقد جاء في أوّل الخطبة وفي آخرها بكلّ صراحةٍ ووضوح : من بايع بغير مشورة من المسلمين هو والذي بايعه يقتلان كلاهما.

أمّا من فلان المبايع ؟ وفلان المبايع له ؟ وما الذي دعا عمر بن الخطّاب أن يطرح فكرة الشورىٰ ، وقد كان قد قرّر أن يكون من بعده عثمان كما قرأنا ؟

الحقيقة : إنّ أمير المؤمنين وطلحة والزبير وعمّار وجماعة معهم كانوا في منىٰ ، وكانوا مجتمعين فيما بينهم يتداولون الحديث ، وهناك طرحت هذه الفكرة أن لو مات عمر لبايعنا فلاناً ، ينتظرون

٣٢

موت عمر حتّىٰ يبايعوا فلاناً ، اصبروا حتّىٰ نعرف من فلان ؟ ثمّ أضافوا أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فأولئك الجالسون هناك ، الذين كانوا يتداولون الحديث فيما بينهم قالوا : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً ، يريدون أنّ تلك الفرصة مضت ، وإنّا قد ضيّعنا تلك الفرصة ، وخرج الأمر من أيدينا ، لكن ننتظر فرصة موت عمر فنبايع فلاناً ، قالوا هذا الكلام وفي المجلس من يسمعه ، فأبلغ الكلام إلىٰ عمر ، وغضب عمر وأراد أن يقوم هناك ويخطب ، فمنعه عبد الرحمن بن عوف.

وفي المدينة اضطرّ الرجل إلىٰ أن يذكر لنا بعض وقائع داخل السقيفة ، وإلاّ فمن أين كنّا نقف علىٰ ما وقع في داخل السقيفة ، وهم جماعة من الأنصار وأربعة أو ثلاثة من المهاجرين ، ولابد أن يحكي لنا ما وقع في داخل السقيفة أحد الحاضرين ، والله سبحانه وتعالىٰ أجرىٰ علىٰ لسان عمر ، وجاء في صحيح البخاري بعض ما وقع في قضيّة السقيفة ، وإلاّ فمن كان يحدّثنا عمّا وقع ؟.

يقول عمر : إرتفعت الاصوات ، كثر اللّغط ، حتّىٰ نزونا علىٰ سعد بن عبادة ، هذا بمقدار الذي أفصح عنه عمر ، أمّا ما كان أكثر من هذا ، فالله أعلم به ، ما عندنا طريق لمعرفة كلّ ما وقع في داخل

٣٣

السقيفة ، والقضية قبل قرون وقرون ، ومن يبلّغنا ويحدّثنا ، لكن الخبر بهذا القدر أيضاً لو لم يكن في صحيح البخاري فلابدّ وأنّهم كانوا يكذّبون القضيّة.

ثمّ إنّ عمر أيّد قول القائلين إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وهذا أيضاً أيّدهم فيه ، لكنْ يريد الأمر لمن ؟ يريده لعثمان من بعده ، فهل يتركهم أن يبايعوا بمجرّد موته غير عثمان ، فلابدّ وأن يهدّد ، فهدّدهم وجاءت الكلمة : فلان وفلان ، وليس هناك تصريح في الاسم كما في كثير من المواضع.

٣٤



بعض جزئيات طرح فكرة الشورى

فلنراجع إلىٰ المصادر ـ كما هو دأبنا ـ ونحاول أن نعثر علىٰ جزئيات القضايا وخصوصياتها ، من الشروح والحواشي ، وإلاّ فهم لا يذكرون ، فبعد قرون يأتي محدّث ، يأتي مورّخ ، ويفتح لنا بعض الألغاز ، ويكشف لنا بعض الحقائق وبعض الأسرار.

هذا الخبر في صحيح البخاري ، في كتاب الحدود ، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة ، في باب رجم الحبلىٰ من الزنا إذا أحصنت.

والعجيب أن يوضع هذا الخبر تحت هذا العنوان ، صحيح أنّ في مقدّمة الخبر ذكر عمر قضيّة رجم الحبلىٰ ، ولم أعرف إلىٰ الآن ـ على اليقين ـ وجه ذكر هذه القضيّة أو هذا الحكم أو هذه الآية من القرآن التي ليست موجودةً الآن في القرآن الكريم ، إلاّ أنّ الخبر كان يقتضي أن يعنونه البخاري بعنوان خاص ، أن يجعل له عنواناً بارزاً

٣٥

يخصّه ويجلب النظر إلى القضيّة ، وأمّا أنّ هذا الخبر يأتي تحت هذا العنوان فمن الذي يطلع عليه ؟ وهذا أيضاً من جملة ما يفعله المحدّثون (١).

هذا في الصفحة ٥٨٥ إلىٰ ٥٨٨ من الجزء الثامن من طبعة البخاري ، هذه الطبعة التي هي بشرح وتحقيق الشيخ قاسم الشمّاعي الرفاعي ، هذه الطبعة الموجودة عندي والله أعلم.

لنرجع إلى الشروح ، فما السبب الذي دعا عمر لأنْ يطرح فكرة الشورىٰ ـ ولا أستبعد أن يكون لعبد الرحمن بن عوف ضلع في أصل الفكرة ، كما كان في كيفيّة طرحها كما في صريح الخبر ـ وهذه الفكرة لم تكن لا في الكتاب ، ولا في السنّة ، ولا في سيرة رسول الله ، ولا في سيرة أبي بكر ، وحتّىٰ في سيرة عمر نفسه ، وحتّىٰ سنة ٢٣ ه‍ ، إلىٰ قضيّة منىٰ ، نريد أن نعرف من هؤلاء القائلون ؟

__________________

(١) نعم ، هذا من جملة أساليبهم ، إذا حاولوا عدم اطلاع الناس وعدم انتشار الخبر ، أمّا لو أرادوا إذاعته فإنّهم يكرّرون ذكره تحت عناوين مختلفة ، وهذا موجود عند البخاري خاصّة في موارد ، منها هذا المورد ، فقارنوا بين كيفية إيراده في كتابه وبين كيفية إيراده ـ مثلاً ـ خبر خطبة أمير المؤمنين بنت أبي جهل الموضوع المكذوب ، ليظهر لكم جانب آخر من جوانب ظلمهم لأهل البيت وتصرفاتهم في السنة النبوية وحقائق الدين وتاريخ الإسلام.

٣٦

لاحظوا ، هذا كتاب مقدمة فتح الباري ، فابن حجر العسقلاني له مقدمة لشرحه فتح الباري ، في مجلَّد ضخم ، في هذه المقدّمة أبواب وفصول ، أحد فصولها لتعيين المبهمات ، يعني الموارد التي فيها كلمة فلان وفلان ، يحاول ابن حجر العسقلاني أن يعيّن مَن فلان ، فاستمعوا إليه يقول :

لم يُسمّ القائل [ فقال قائل منهم ] ولا الناقل [ لاحظوا نصّ العبارة : ] ثمّ وجدته في الأنساب للبلاذري ، بإسناد قوي ، من رواية هشام بن يوسف ، عن معمَر ، عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل [ أي في البخاري نفسه ] ولفظه قال عمر : بلغني أنّ الزبير قال : لو قد مات عمر بايعنا عليّاً.

هذا الزبير نفسه الذي كان في قضيّة السقيفة في بيت الزهراء ، وخرج مصلتاً سيفه ، وأحاطوا به ، وأخذوا السيف من يده ، ينتظر الفرصة ، فهو لم يتمكّن في ذلك الوقت أن يفعل شيئاً لصالح أمير المؤمنين وما يزال ينتظر الفرصة.

لاحظوا ، هنا أقوال أُخرىٰ في المراد من فلان وفلان ، لكن السند القوي الذي وافق عليه ابن حجر العسقلاني وأيّده هذا ، لكن لاحظوا ، هناك أقوال أُخرىٰ ، وأنا أيضاً لا أنفي الاقوال الاُخرىٰ ، لأنّ الزبير وعليّاً لم يكونا وحدهما في منىٰ ، وإنّما كانت هناك

٣٧

جلسة ، وهؤلاء مجتمعون ، فكان مع الزبير ومع علي غيرهما من عيون الصحابة وأعيان الأصحاب.

لاحظوا الأقوال الأُخرىٰ أقرأ لكم نصّ العبارة ، يقول ابن حجر العسقلاني :

وقد كرّر في هذا الفصل حديث ابن عباس عن عمر في قصّة السقيفة فيه ، فقال عبد الرحمن بن عوف : لو رأيت رجلاً أتىٰ أمير المؤمنين فقال يا أمير المؤمنين هل لك [ إذن ، عندنا كلمة : رجلاً ] ثمّ هل لك في فلان [ هذا صار اثنين ] يقول : لو قد مات عمر لبايعت فلاناً.

صار ثلاثة : رجل ، فلان ، فلان. من هم ؟

يقول : في مسند البزّار ، والجعديات ، بإسناد ضعيف أنّ المراد بالذي يبايع له طلحة بن عبيدالله.

إذن ، طلحة أيضاً بحسب هذه الرواية كان ممّن ينتظر فرصة موت عمر لأن يبايع له.

لاحظوا كلام ابن حجر : ولم يسمّ القائل ولا الناقل ، ثمّ وجدته بالإسناد المذكور في الاصل ولفظه قال عمر : بلغني أنّ الزبير قال لو قد مات عمر بايعنا عليّاً ... يقول : فهذا أصح.

وفيه : فلمّا دنونا منهم لقينا رجلان صالحان ، هما عوين بن

٣٨

ساعدة ومعد بن عدي ، سمّاهما المصنّف ـ أي البخاري ـ في غزوة بدر ، وكذا رواه البزّار في مسند عمر ، وفيه ردّ علىٰ من زعم كذا.

ثمّ يقول : وأمّا القائل : قتلتم سعداً فقيل أو قال قائل : قتلتم سعداً ، فلم أعرفه ، لم أعرف من القائل قتلتم سعداً.

هذا في مقدمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري (١).

وفي بعض المصادر : أنّ القائل عمّار بدل الزبير ، هذا راجعوا فيه الطبري وابن الأثير.

أمّا ابن حجر نفسه ، ففي شرح البخاري ، في فتح الباري ، الجزء الثاني عشر ، حيث يشرح الحديث ـ تلك كانت المقدمة أمّا حيث يشرح الحديث ـ لا يصرّح بما ذكره في المقدّمة ، ولا أعلم ما السبب ؟ لماذا لم يصرّح البخاري في المتن وفي أصل الكتاب ، ولا ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث ، بما صرّح به في المقدّمة.

ثمّ إنّه يشرح جملة : هل لك في فلان ، يقول : لم أقف على اسمه أيضاً ، ووقع في رواية ابن إسحاق أنّ من قال ذلك كان أكثر من واحد.

وهذا ما ذكرته لكم من أنّ القول ليس قول شخص واحد ، بل

__________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٣٣٧.

٣٩

أكثر من واحد ، لأنّهم كانوا جماعة جالسين جلسةً فيما بينهم ، وطرحت هذه النظريّة والفكرة في تلك الجلسة ، ولذا غضب عمر.

قوله لقد بايعت فلاناً هو طلحة بن عبيدالله أخرجه البزّار من طريق أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه. إنتهى.

أمّا خبر البلاذري الذي هو أصحّ وقد روي بسند قوي ، فلا يذكره في شرح الحديث ، فراجعوا (١).

لكن عندما نراجع القسطلاني في شرح الحديث ، نجده يذكر ما ذكره ابن حجر في المقدمة في شرح الحديث ، في الجزء العاشر من إرشاد الساري ، لاحظوا هناك يقول : لو قد مات عمر لبايعت فلاناً : قال في المقدمة يعني قال ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري : في مسند البزّار والجعديات بإسناد ضعيف : إنّ المراد ... قال ثمّ وجدته في الانساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام ابن يوسف عن معمَر عن الزهري بالاسناد المذكور في الأصل ولفظه : قال عمر بلغني إنّ الزبير قال : لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً ... الحديث ، وهذا أصحّ (٢).

ويقول القسطلاني : وقال في الشرح قوله : لقد بايعت فلاناً هو

__________________

(١) فتح الباري في شرح البخاري ١٢ / ١٢١.

(٢) إرشاد الساري شرح صحيح البخاري ١٠ / ١٩.

٤٠