موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

٥ ـ انّه من أهل بيت النبوة :

عن عكرمة قال : « بينا ابن عباس يحدّث الناس ، إذ قام إليه نافع بن الأزرق (١).

فقال : يا بن عباس تفتي في النحلة والقملة ، صف لي إلهك الّذي تعبده.

فأطرق ابن عباس إعظاماً لقوله ، وكان الحسن ( عليه السلام ) جالساً في ناحية ، فقال : إليّ يا بن الأزرق ، قال : لست إياك أسأل.

قال ابن عباس : يا بن الأزرق انّه من أهل ( بيت ) النبوة ، وهم ورثة العلم (٢) فأقبل نافع نحو الحسن ( عليه السلام ).

فقال له الحسن : يا نافع إنّه من وضع دينه على القياس لم يزل دهره في التباس قابلاً غير المنهاج ، ظاعناً في الإعوجاج ، ضالاً عن السبيل ، قائلاً غير الجميل.

يا بن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه ، وأعرّفه بما عرّف به نفسه : لا يدرك بالحواس ولا يُقاس بالناس ، فهو قريب غير ملتصق ، وبعيد غير متقصّي ، يُوحَّد ولا يبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال.

قال : فبكى ابن الأزرق وقال : يا حسن ما أحسن كلامك! أمّا والله يا حسن لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الاحكام ، حتى بدّلتم فاستبدلنا بكم.

____________________

(١) رأس فرقة الأزارقة من الخوارج ، وهو صاحب المسائل في غريب القرآن الّتي سأل ابن عباس عنها وطلب منه أن يأتيه بشاهد على ذلك من شعر العرب ، وسيأتي في الحلقة الثالثة مزيد بيان عنها.

(٢) ستأتي من ابن عباس كلمة له مشابهة قالها لمعاوية في الإمام الحسين ( عليه السلام ) حين أرادهما على بيعة يزيد فانتظر وانظر : إنها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر.

٨١

فقال الحسن : إنّي أسألك عن مسألة قال : سل ، قال : هذه الآية ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ) (١) يا بن الأزرق ، من حفظ في الغلامين؟ قال : أبوهما ، قال الحسن : فأبوهما خيرٌ أم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )؟ قال ابن الأزرق : قد أنبأنا الله بأنّكم قوم خصمون » (٢).

٦ ـ لو كان رسول الله حياً لآذيته :

روى الحاكم بسنده عن أبي مليكة قال : « جاء رجل من أهل الشام فسبّ عليّاً عند ابن عباس ، فحصبه ابن عباس وقال : يا عدو الله آذيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) (٣) لو كان رسول الله حياً لآذيته » (٤).

وأخرجه الذهبي في التلخيص وقال : « أنّه صحيح » (٥).

هذه نماذج من مواقف ابن عباس في مقاومته السلطة الغاشمة الّتي فرضت التعتيم الإعلامي على فضائل الإمام وأهل بيته وهو بنشاطه المستمّر ، وكفاحه المستمر كان يشكل عنصراً مهماً في تحدي معاوية لا يوازيه فيه غيره ، وفي كلّ مواقفه الّتي مرّت والّتي سوف تأتي في الحلقة الثالثة كان الوحيد الّذي حفظ التاريخ له مواقفه الكثيرة ، فكان ابن عباس رجل الساعة والساحة بتحديه الصارخ لمعاوية مع شدة إجراءاته التعسفية.

____________________

(١) الكهف / ٨٢.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١٥٤ مط مكتبة مركز بدر العلمي والثقافي في صنعاء.

(٣) الأحزاب / ٥٧.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢١.

(٥) تلخيص الذهبي بهامش المستدرك.

٨٢

ولعل أشد أثر تلك المواقف على معاوية ، وأكثرها إيلاماً له ما كان أشدها جرأة وتحدياً ، حتى بلغ امتلاك ابن عباس لرصيد شعبي في الشام كوّنه في وفاداته ، فصار يهدد كيان معاوية في عاصمة ملكه ، فقد كان يجلس في الجامع فيحدث الناس بفضائل الإمام ، وينقد معاوية ، فنفذ إلى أعماق سامعيه بحديثه ، واحتل مكانة في نفوسهم توازي هيبة معاوية في سلطانه.

وأخاله اتخذ من السفر إلى الشام وطول المكث فيها وسيلة من وسائل الإعلام المضادّ للإعلام السلطوي الكاذب ، وغزواً فكرياً ثقافياً في عقر داره ، وبذلك تمكن من أداء رسالته في نصرة الحقّ وإنكار الباطل. فلقد حدث المؤرخون عن مدى استقطابه جماهير الشاميين حتى التفوا حوله يحضرون مجلسه ويستمعون حديثه ، ما تبيّن لمعاوية أثر ذلك في خلوّ مجلسه منهم. فضاق به ذرعاً.

٧ ـ أرحني من شخصك :

ولقد بلغ الحسد والحقد من معاوية في نفسه مبلغاً لم يكتمه في موقف آخر فقال لابن عباس أرحني من شخصك شهراً ، وذلك حين بلغ من ازدراء ابن عباس بمعاوية أنّ وصمه أمام أهل الشام بميسم عاره ، وذكّره بماضي أصله الأسود وشناره ، والّذي كان في ذمة جده وجواره ، فقال له كلمة أخرجته من اهابه وانقطع عن جوابه فلم يملك سوى كلمته الرعناء.

فلنقرأ ما رواه الجاحظ في المحاسن والأضداد (١) ، والبيهقي في المحاسن والمساوي (٢) ، وغيرهما ، قالا :

____________________

(١) المحاسن والأضداد / ١١٦ ط المعاهد بمصر سنة ١٣٥٠.

(٢) المحاسن والمساوي ١ / ٦٧ ط النعساني.

٨٣

« قدم عبد الله بن عباس على معاوية وعنده جمع من بني أمية ووفود العرب ، فدخل وسلّم وقعد فسأله معاوية مَن الناس؟ فقال ابن عباس : نحن ، قال معاوية : فإذا غبتم؟ قال : فلا أحد ، فقال معاوية : فإنك ترى أني قعدت هذا المقعد بكم؟ فقال ابن عباس : نعم ، فبمن قعدت؟ فقال معاوية : بمن كان مثل حرب بن أمية. فقال ابن عباس : بل بمن أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه ، فغضب معاوية. وقال : أرحني من شخصك شهراً فقد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك.

فخرج ابن عباس وهو يقول لمن معه : ألا تسألونني ما الّذي أغضب معاوية؟ فقالوا : بلى فقل بفضلك. فقال : إن أباه حرب لم يلق أحداً من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق إلاّ تقدّمه حتى يجوزه ، فلقيه يوماً رجل من بني تميم في عقبة فتقدمه التميمي ، فقال حرب : أنا حرب بن أمية ، فلم يلتفت إليه وجازه ، فقال : موعدك مكة ، فخافه التميمي ، ثمّ أراد دخول مكة فقال : من يجيرني من حرب بن أمية ، فقيل له عبد المطلب ، فقال : عبد المطلب أجل قدراً من أن يجير على حرب ، فأتى ليلاً إلى دار الزبير بن عبد المطلب ، فدقّ بابه ، فقال الزبير لعبده : قد جاءنا رجل إمّا طالب قِرى وإمّا مستجير ، وقد أجبناه إلى ما يريد ، ثمّ خرج الزبير إليه فقال التميمي :

لاقيت حرباً في الثنية مقبلاً

والصبح أبلج ضوؤه للساري

فدعا بصوت واكتنى ليروعني

وسما عليَّ سموّ ليث ضاري

فتركته كالكلب ينبح ظِله

وأتيت قرم معالم وفخار

ليثاً هزبراً يستجار بعزّه

رحبَ المباءة مكرماً للجار

ولقد حلفت بمكة وبزمزمٍ

والبيت ذي الأحجار والأستار

إنّ الزبير لمانعي من خوفه

ما كبّر الحُجّاج في الأمصار

٨٤

فقدّمه الزبير وأجاره ودخل به المسجد ، فرآه حرب فقام إليه فلطمه ، فحمل عليه الزبير بالسيف ، فولى هارباً يعدو حتى دخل دار عبد المطلب ، فقال : أجرني من الزبير ، فأكفأ عليه جفنة كان هاشم يطعم فيها الناس ، فبقي تحتها ساعة ، ثمّ قال له : أخرج ، قال : وكيف أخرج وعلى الباب تسعة من بنيك قد احتبوا بسيوفهم ، فألقى عليه رداء كان كساه اياه سيف بن ذي يزن له طرتّان خضروان ، فخرج عليهم ، فعلموا أنّه قد أجاره عبد المطلب فتفرقوا عنه ».

فهذه المحاورة تجاوزت المفاخرة فيها إلى حدّ المنافرة ، لأنّه عند اختلال الموازين ترتفع حدة الخلاف ، وتتبدّل لغة الحوار من اللين إلى الشدّة ، وهذه كانت حال ابن عباس مع معاوية في جلّ محاوراته طيلة عشرين عاماً أيام حكمه فكان يبدؤها معاوية بما يستثير به ابن عباس من زخرف القول ، وباطل الإدّعاء ، فيكون جواب ابن عباس ولا مناص له دون ردّ السهم إلى مأتاه ، فيصيب به مرماه ، سواء في حضره أو سفره وفي صحته أو مرضه ، وعندما يعرف معاوية بغلبة ابن عباس عليه في الحوار يلجأ إلى استخدام لغة المصانعة ، الّتي سمّاها بالحلم أو التحلّم ، وإليك الحوار الآتي :

مغازلة واستدراج :

روى ابن عبد ربه ( ت ٣٢٨ ) في العقد الفريد قال : « أرسل معاوية إلى ابن عباس قال : يا أبا العباس إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنسَ بك ، ويقرّبك ، وتشير عليه برأيك ولا يدخل الناس بينك وبينه فيشغلوا كلّ واحد منكما عن صاحبه ، وأقلّ من ذكر حقك ، فإنه إن كان لك فقد تركته لمن هو أبعد منّا حُباً

٨٥

( حياً / ظ ) ، وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره ، مع أنّه صائر إليك وكلّ آت قريب ، ولتجدنّ إذا كان ذلك خيراً لكم منا.

فقال ابن عباس : والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد ، وأمّا ما سألتني من الكف عن ذكر حقي ، فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن انتصر بلساني ، ولئن صار هذا الأمر إلينا ثمّ وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك لا يرى أهلُك إلاّ ما يحبون ... اهـ » (١).

وقد ذكر ابن الأثير في الكامل قال : « وفي هذه السنة ـ ٤٩ ـ وقيل سنة خمسين سير معاوية جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم للغزاة وجعل عليهم سفيان بن عوف وامر ابنه يزيد بالغزاة معهم فتثاقل واعتل فأمسك عنه أبوه ، فأصاب الناس في غزاتهم جوع ومرض شديد ، فأنشأ يزيد يقول :

ما إن أبالي بما لاقت جموعهم

بالغر قدونة من حُمّى ومن موم

إذا اتكأت على الأنماط مرتفعا

بدير مرّان عندي أم كلثوم

وأم كلثوم امرأته وهي ابنة عبد الله بن عامر ، فبلغ معاوية شعره فأقسم عليه ليلحقن بسفيان في أرض الروم ليصيبه ما أصاب الناس ، فسار ومعه جمع كثير أضافهم إليه أبوه ، وكان في هذا الجيش ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم ... » (٢).

وهذا الّذي ذكره ابن الأثير لم يذكره من المؤرخين قبله كالطبري والدينوري وابن قتيبة واليعقوبي وفيما مر عن العقد الفريد لا يشعر بخروج ابن عباس في الجيش المذكور.

____________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٣٦٧ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

(٢) الكامل ٣ / ١٩٧.

٨٦

كأسان أحلاهما مرّ :

كان معاوية ـ بالرغم ممّا وصفوه به من دهاء ومكر سياسي ـ خلواً من العلم كما كان خلواً من الدين ، بل كان من الجاهلين حتى بأحكام الشريعة الّتي تسنّم باسمها حكومة المسلمين. فضلاً عن معرفة سائر فنون المعرفة. وحسبنا ما جرى بينه وبين سعد بن أبي وقاص بمكة المكرمة حين حج فطلب منه أن يطوف به لأنّه يجهل أحكام الطواف (١).

وما صلاته بالمدينة المنورة ، وقد أتم القراءة في فرض ثمّ نقص في الآخر ونقده الصحابة على ذلك إلاّ شاهداً مؤيداً لخلوه من العلم كما هو خلو من الدين.

وله مخالفات دينية صريحة في مسائل الشريعة أتى على بعضها السيوطي والسكتواري وغيرهما في كتبهم في الأوائل. وستأتي مسألة الوتر وغيرها في مرويات مفتريات على ابن عباس في فضل معاوية. ولم يجده من ضم معه من حثالات الرجال المتفيقهين ، من صحابة وآخرين تابعين ، حيث كانت تردُ عليه مسائل مستعصية ، لا يهتدون إلى جوابها سبيلا ، فكان يفزع ـ رغم أنفه ـ بأساليبه الملتوية لمعرفة جواب السائلين ، فيرسل إلى الكوفة أيام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من يسأله ، وستأتي شواهد ذلك أمّا بعد أن استحوذ على حكومة المسلمين عام أربعين ، فقد ازدادت حراجته حيث احتل موقعاً ليس له فيه نصيب ، ولكنه بمكره وخداعه صار خليفة للمسلمين. فكانت ترد عليه من الأطراف مسائل يعيى بحلها فلا يعرف لها جواباً ، وليس في بطانته من يستنقذه من ورطته ليجيب عليها.

____________________

(١) روى ابن عساكر في تاريخه ( ترجمة الإمام ) ١ / ٢١٨ تح ـ المحمودي بسنده قال : لمّا حج معاوية أخذ بيد سعد بن أبي وقاص فقال : يا أبا إسحاق إنا قوم قد أجفانا هذا الغزو عن الحج حتى كدنا ننسى بعض سننه ، فطف نطف بطوافك ...

٨٧

وكان أشدّ ما يلقاه ما يرد عليه من مسائل ملك الروم الّتي لا يهتدى إلى جوابها سبيلا. فكان مضطراً إلى أن يبحث عمّن عنده علم بجوابها. وليس ثمة سوى أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لكنه لعناده واستكباره قد استبعدهم عن مقامهم وموقعهم القيادي ، وظن أنّه سوف يقضي عليهم ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ، حين ضرب الحصار عليهم وعلى شيعتهم ، وابن عباس منهم ، بل هو المنظور إليه عنده بعد الإمامين الحسن والحسين ( عليهما السلام ).

ولم يدر في خلده سوف يضطره الزمن إلى طلب نصرته في خلاصه من ورطته ، ولما لم يكن له بدّ من جواب مسائل ملك الروم ، والا فسوف يسقط من عينه كما سيأتي على حدّ قول بعضهم له ، فلا ضير أن يلجأ إلى ابن عباس يستنجد به ، وإن كان هو الآخر من أعدائه ، لكن أهون الأمرين المرّين اللجوء إليه ، لأنّه مسلم يغار على الإسلام وان لم يكن حاكم وقته كما يبتغي ويروم فهو أهون الشرّين عليه.

معاوية يستنجد بابن عباس في محنته :

لقد كان قياصرة الروم يكيدون المسلمين بارسالهم مسائل تعجيزية يسألون بها الحاكم القائم ، لعلمهم بعجزه وعدم أهليته ، لتبوّئه منصباً ليس له أن يكون فيه ، وهذا بعض أساليب الحرب النفسية ، ومن سوء الطالع أن يلي أمور المسلمين من لا يفقه بسائط أحكام الشريعة فضلاً عن مكنون أسرارها. ولكن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليضيع دينه ، فلن يخلي الأرض من حجة يلجأ إليه العلماء الّذين يحفظون دينه ويقيمون شرعه ، ويردون عنه عادية الكفار والمنافقين.

٨٨

وقد روى الأثبات بعض الشواهد على ذلك ، فقد ذكر الحافظ ابن شهر اشوب مسائل رسول ملك الروم لأبي بكر وجواب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عنه (١).

وروى سبط ابن الجوزي في التذكرة نقلاً عن أحمد في الفضائل مسائل ملك الروم من عمر وعجزه عن الجواب فأجاب الإمام أيضاً عنه حتى قال ابن المسيب راوي الخبر وسيقول عمر ، أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن ، كان هو جواب تلك المسائل.

وروى الحافظ ابن شهر اشوب نماذج أخرى عن معاوية في مسائل سأله عنها قيصر فعجز عن الجواب فاحتال في تحصيل الجواب من الإمام بوسائل ملتوية.

هذا في أيام حياة الإمام ، أمّا بعد وفاته فكان مفزعه في ذلك إلى ابن عباس.

فقد روى ابن قتيبة ( ت ٢٧٦ ) في عيون الأخبار (٢) مسائل قيصر من معاوية فعجز عن جوابها فاستعان بابن عباس ، ورواها الفسوي ( ت ٢٧٧ ) في المعرفة والتاريخ (٣) ، وبين روايتيهما بعض التفاوت.

كما رواها المعلم بطرس البستاني ( ت ١٣٠١ هـ ـ ١٨٨٣ م ) في دائرة المعارف (٤) وفي روايته أيضاً بعض التفاوت ، فأنا أذكر الخبر مرتباً منها جميعاً :

قالوا : « كتب قيصر ملك الروم إلى معاوية : سلام عليك أمّا بعد : فأنبأني بأحب كلمة إلى الله ( عزّ وجلّ )؟ وثانية وثالثة ورابعة وخامسة؟ ومَن أكرم عباده عليه؟

____________________

(١) أنظر المناقب ٢ / ١٨٠ ط الحيدرية.

(٢) عيون الأخبار ١ / ١٩٩ ط دار الكتب المصرية.

(٣) المعرفة والتاريخ ١ / ٥٣٠ ط الأوقاف ببغداد.

(٤) دائرة المعارف ١ / ٥٨٤.

٨٩

ومَن أكرم إمائه عليه؟ وعن أربعة أشياء فيهم الروح لم يركضوا في رحم؟ وبقبر يسير بصاحبه؟ وبمكان لم تصبه الشمس إلاّ مرة؟ وبالمجرّة وما موضعها من السماء؟ وبقوس قزح وما بدء أمره؟ قال ابن قتيبة والفسوي : فلمّا قرأ كتابه قال : اللّهمّ ألعنه ما أدري ( ما يدريني ) ما هذا.

وفي لفظ البستاني : ( قال معاوية : أخزاه الله وما علمي بما هنا. فقيل له اكتب إلى ابن عباس ، فكتب إليه بذلك ).

فكتب إليه ابن عباس : إنّ أفضل الكلام لا إله إلاّ الله كلمة الإخلاص لا يقبل عمل إلاّ بها وهي المنجية ، فإذا قالها العبد يقول الله ( عزّ وجلّ ) : أخلص عبدي.

والثانية الّتي تليها : سبحان الله وبحمده ، صلاة الخلق ( الحقّ ) فإذا قال سبحان الله ، قال : عبدني عبدي.

والثالثة الّتي تليها : كلمة الشكر ، فإذا قال الحمد لله ، قال شكرني عبدي.

والرابعة الّتي تليها : الله أكبر فواتح الصلوات والركوع والسجود فإذا قال الله أكبر ، قال : صدق عبدي أنا أكبر.

والخامسة الّتي تليها : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وإذا قال لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، قال : ألقى إلي عبدي السلم.

وأمّا أكرم عباد الله ( أكرم الخلق على الله ( عزّ وجلّ » فآدم ( عليه السلام ) الّذي خلقه بيده وعلّمه الأسماء كلّها.

وأمّا أكرم إمائه عليه فهي مريم الّتي أحصنت فرجها فنفخ فيه الروح.

وأمّا الأربعة الّتي فيهن الروح ولم يركضن في رحم. فآدم وحواء وعصا موسى حين ألقاها وكانت ثعباناً مبيناً ، ( وفي رواية ناقة صالح بدل العصا )

٩٠

والكبش الّذي ذبح عن إسماعيل ( وفي هامش الفسوي في الأصل إسحاق ) ( وصوّبه بطرس أيضاً! ).

وأمّا القبر الّذي سار بصاحبه ، فهو بطن الحوت الّذي كان فيه يونس.

وأمّا المكان الّذي لم تصبه الشمس إلاّ مرة واحدة فالبحر حين انفلق لموسى وبني إسرائيل.

وأمّا المجرّة فباب من أبواب السماء.

وأمّا قوس قزح : فأمان من الغرق بعد قوم نوح.

قال الفسوي في روايته : ( فلمّا قرأ قيصر كتابه قال : أيم الله ما علمتَها وما كنت تعلمها إلاّ من رجل من أهل بيت نبيّ ) ».

معاوية يستنجده ثانياً فينجده :

روى العاصمي ( من القرن الرابع ) في زين الفتى (١) ، والابشيهي ( ت ٨٥٠ ) في المستطرف (٢) ، والأمير حيدر الشهابي ( ت ١٢٥١ ) في الغرر الحسان (٣) ، والخبر مرتباً منهم جميعاً ، قالوا :

« إنّ هرقل ملك الروم كتب إلى معاوية عن الشيء ولا شيء؟ وعن كلمة ( دين ) لا يقبل الله غيرها؟ وعن مفتاح الصلاة؟ وعن غرس الجنة؟ وعن صلاة كلّ شيء؟ وعن أربعة فيهم الروح ولم يركضوا في أصلاب الرجال وارحام النساء؟ وعن رجل لا أب له؟ وعن رجل لا أم له؟ وعن امرأة ولدت من غير أم؟ وعن رجل لا قوم له؟ وعن قبر جرى بصاحبه؟ وعن قوس قزح ما هو؟ وعن بقعة

____________________

(١) زين الفتى في تفسير سورة هل أتى ( مخطوط ).

(٢) المستطرف ١ / ٤٦ ط دار إحياء التراث العربي ( أفست ).

(٣) الغرر الحسان ١ / ٥٣.

٩١

طلعت عليها الشمس مرة واحدة ولم تطلع عليها قبلها ولا بعدها؟ وعن ظاعن ظعن مرة واحدة ولم يظعن قبلها ولا بعدها؟ وعن شجرة نبتت من غير ماء؟ وعن شيء تنفس ولا روح له؟ وعن اليوم وأمس وغد وبعد غد؟ وعن البرق والرعد وصوته؟ وعن المجرة؟ وعن المحو الّذي في القمر؟.

قيل لمعاوية : لست هناك ومتى أخطأت في شيء من ذلك سقطت من عينه ، فاكتب إلى ابن عباس وسله عن تفسيرهن يخبرك عن هذه المسائل. فكتب إليه فأجابه : أمّا الشيء الماء قال الله تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (١) وأمّا لا شيء فإنّها الدنيا تبيد وتفنى ، وأمّا دين لا يقبل الله غيره فشهادة أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأمّا مفتاح الصلاة فهو الله أكبر ، وأمّا غرس الجنة فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم ، وأمّا صلاة كلّ شيء فسبحان الله وبحمده ، وأمّا الأربعة الّذين فيهم الروح ولم يركضوا في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فآدم وحواء وناقة صالح وكبش إسماعيل ، وأمّا الرجل الّذي لا أب له فالمسيح ابن مريم ، وأمّا المرأة الّتي ولدت من غير أم فهي حواء ، وأمّا الرجل الّذي لا قوم له فأبونا آدم ( عليه السلام ) ، وأمّا القبر الّذي جرى بصاحبه فهو الحوت الّذي ابتلع يونان وسار به في البحر ، وأمّا قوس قزح فأمان من الله لعباده من الغرق ، وليست بقوس قزح ، وانّما قزح شيطان ، وأمّا البقعة الّتي طلعت عليها الشمس مرة واحدة فهي أرض البحر الّذي انشق قدام بني إسرائيل ( حين انفلق لبني إسرائيل ) ، وأمّا الظاعن الّذي ظعن مرة ولم يظعن قبلها ولا بعدها ، فجبل طور سيناء ، كان بينه وبين الأرض المقدسة أربع ليال ، فلمّا عصت بنو إسرائيل أطاره الله تعالى بجناحين من نور فيه ألوان العذاب ، فنادى مناد : إن قبلتم التوراة كشفته عنكم

____________________

(١) الأنبياء / ٣٠.

٩٢

وإلاّ القيته عليكم فأخذوا التوراة معذرين ، فرده الله تعالى إلى موضعه فذلك قوله تعالى : ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ) (١) الآية ، وأمّا الشجرة الّتي نبتت من غير ماء فشجرة اليقطين الّتي أنبتها الله تعالى على يونس ( عليه السلام ) ، وأمّا الشيء الّذي تنفس بلا روح فالصبح قال الله تعالى : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) (٢) ، وأمّا اليوم فعمل ، وأمّا أمس فمثل ، وأمّا غد أجل ، وبعد غد فأمل ، وأمّا البرق فمخاريق بأيدي الملائكة تضرب بها السحاب ، وأمّا الرعد فاسم الملك الّذي يسوق السحاب وصوته زجرة ، وأمّا المجرة فأبواب السماء ومنها ما يفتح أبواب السماء ، وأمّا المحو الّذي في القمر فقول الله تعالى ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) (٣) ولولا ذلك المحو لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل.

قال العاصمي : فبعث معاوية بهذا التفسير إلى هرقل ملك الروم. وفي ذلك قال البراء بن عازب القرشي :

سأل الهرقل ابن هندعن عجائبه

عند التخلف فيه فروة الناس

لمّا أتته أضاقت من مخانقه

حتى استغاث جهاراً بابن عباس

لمّا جلا غيّها عنه ونورّها

باهى الهرقل بما أعيي على الناس

هذا لعمرك أمر ليس ينفعه

علم ابن هند وما بالحق من باس

وقال معاوية لابن عباس : ويح لك يا بن عباس إذا دفنت تحت التراب أيّ علم دفن معك ، وان قريشاً لتغبط بك ، بل جميع العرب بل أمة محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

____________________

(١) الأعراف / ١٧١.

(٢) التكوير / ١٨.

(٣) الاسراء / ١٢.

٩٣

فقال في ذلك أيمن بن خريم الأسدي :

ما كان يعلم هذا العلم من أحد

بعد النبيّ سوى الحبر ابن عباس

مستنبط العلم غضاً من معادنه

هذا اليقين وما بالحق من باس

دينوا بقول ابن عباس وحكمته

إنّ الفتى فيكُم من أعلم الناس

كالقطب قطب الرحى في كلّ معضلة

أو كاللجام فمنه فروة الراس

من ذا يفرّج فيكم كل معضلة

إذ صار رمساً رميماً بين أرماس

أقول : لقد روى أبو نعيم في الحلية بعض هذه المسائل ، كما لا يفوتني التنبيه على تداخل بعض الصورتين ، فنجد تكرار بعض المسائل ، وفيما عندي انّ ذلك من خلط الرواة. وقد حدّد الأمير الشهابي تاريخ الواقعة بسنة ٤٣ ولم أقف على ذلك عند غيره.

معاوية يستنجد بابن عباس مرة ثالثة :

قال أبو عبيد البكري في فصل المقال : « ذكر أنّ ملك الروم بعث إلى معاوية يسأله عن هذه المسائل : يسأله عن رجل سار به قبره ، وعن رجل لا قبلة له ، وعن خمسة أكلوا في الدنيا وحيوا لم يخلق واحد منهم في رحم ، وعن شيء ونصف شيء ولا شيء ، وبعث بوفد يسمعون الجواب عنها ، فاستنظرهم معاوية وبعث إلى ابن عباس يسأله عنها.

فقال ابن عباس : أمّا من سار به قبره فيونس حين التقمه الحوت.

وأمّا من لا قبلة له فمن صعد فوق الكعبة فلا قبلة له حتى ينزل.

وأمّا الخمسة الأنفس الّذين أكلوا في الدنيا وعاشوا ولم يخلق واحد منهم في رحم ، فآدم وحواء وكبش إبراهيم أخرجه الله ( عزّ وجلّ ) من الجنة ، وناقة ثمود

٩٤

أخرجها الله من صخرة صمّاء ، وعصا موسى ألقاها من يده فانقلبت حية تسعى ، والتقمت ما ألقى السحرة.

وأمّا الشيء فالرجل العاقل العامل ترد عليه الأمور فيدّبرها بعقله ويمضيها بعلمه.

وأمّا نصف الشيء فالرجل الممضي لما علم ، المتثبّت فيما جهل ، ترد عليه أمور يعجز عنها علمه ، ويقصر فهمه ، فيلجأ إلى ذوي العقول فيستشيرهم ، فلا تنتشر قواه ، ولا يتبع هواه.

وأمّا لا شيء فالرجل الّذي لا علم له ولا عقل ، ترد عليه الأمور فيتبع فيها هواه ، فيحل به رَداه ، فلا تلقاه إلاّ حائراً ، ولا تجده إلاّ بائراً.

فأخبرهم معاوية بذلك ، فقالوا : ما خرج هذا إلاّ من أهل نبيّ.

فقال معاوية : أجل ، هذا كلام ابن عم نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قالوا : فاذن لنا نأتيه ، فإذن لهم فأتوه ، فقال : ءأنتم أصحاب المسائل؟ قالوا : نعم ، فقال : إنّ صاحبكم ذكر أنّكم أفضل أهل دينكم ، قالوا : إن قومنا ليقولون ذلك. قال : فقد سألتمونا فأجبناكم ، فهل تجيبوننا إن سألناكم؟ قالوا : سل.

قال : أخبروني عن موضعين أحدهما سهل والآخر جبل ، السهل لم تطلع قط عليه الشمس إلاّ ساعة من الدهر. والجبل رفعه الله ( عزّ وجلّ ) عن الأرض بلا عمد يمسكه ، ولا سبب يحبسه؟

قالوا : ما لنا بذلك علم فأخبرنا.

قال : السهل منفلق البحرين لما فرقه الله تعالى لموسى لم تصل إليه الشمس قط إلاّ في تلك الساعة.

والجبل هو الّذي نتقه الله ( عزّ وجلّ ) فوق بني إسرائيل كأنّه ظلّة.

٩٥

قالوا : صدقت وانصرفوا مغلوبين » (١).

ما تقول يا بن عباس؟

روى ابن عبد ربه في العقد الفريد (٢) ، والسيّد ابن طاووس في الملاحم والفتن (٣) ، واللفظ للأوّل وما بين القوسين من الثاني :

« وقال يوماً معاوية وعنده ابن عباس : إذا جاءت هاشم بقديمها وحديثها ، وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها ، وبنو أسد بن عبد العزى برفادتها ودياتها ، وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها ، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها ، وبنو تيم بصدّيقها وجوادها ، وبنو عديّ بفاروقها ومتفكرها ، وبنو سهم بآرائها ودهائها ، وبنو جمح بشرفها وأنفتها ، وبنو عامر بن لؤي بفاروقها وقريعها فمن ذا يجلّي في مضمارها ، ويجري إلى غايتها؟ ما تقول يا بن عباس؟

قال : أقول : ليس حي ( من قريش ) يفخرون إلاّ وإلى جنبهم من يشركهم ( فيه ) إلاّ ( بنو هاشم ) فإنّهم يفخرون بالنبوّة الّتي لا يُشاركون فيها ، ولا يساوون بها ، ولا يدفعون عنها ، وأشهد أنّ الله ( تعالى ) لم يجعل محمداً من قريش إلاّ وقريش خير البريّة ( ولم يجعله في بني هاشم إلاّ وهاشم من خير قريش ) ولم يجعله في بني عبد المطلب إلاّ وهم خير بني هاشم ( ولسنا ) نريد أن نفخر عليكم إلاّ بما تفخرون به ( على العرب ، وهذه أمة مرحومة فمنها نبيّها ومهديّها ومهدي أخرها لأنّ ) بنا فُتح الأمر وبنا يختم ، ولك ملك معجّل ولنا ملك مؤجّل ، فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك ، لأنّا أهل العاقبة ، والعاقبة للمتقين ».

____________________

(١) فصل المقال / ٣٣٠ ط دار الأمانة بيروت.

ولقد مرّت بعض المسائل مشابهة لما ورد هنا ، ولعل التكرار من وهم الرواة.

(٢) العقد الفريد ٤ / ١٠ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

(٣) الملاحم والفتن / ٨١ ـ ٨٢.

٩٦

تمهيد لبيعة يزيد :

فمن هذه المحاورة والّتي قبلها بدت بدايات مريبة توجّس منها ابن عباس خيفة على خروج الأمر من معدنه في بني هاشم ثمّ لا يعود إليهم إلاّ في آخر الزمان ، فأجاب بما وسعه البيان فأسكت خصمه. ولكن بقيت بارقة أمل في وثيقة الصلح وعودة الأمر إلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد موت معاوية ، لكن معاوية كما مرّ تعريفه من قدماء ومحدثين ، لم يكن يؤمن بمثُل أو قيم ، ولا يرى لوثيقة الصلح أي اعتبار لديه ، وقد أعلن رفضها قولاً ، وبدأ تطبيق الرفض عملاً ، حيث صار همّه إزالة العناصر الّتي يتطلع إليها الناس كقادة من أولى الحجى والنُهى ، وفي مقدمتهم الإمام الحسن ( عليه السلام ) صاحب الحقّ الشرعي ، تمهيداً لأخذ البيعة لابنه يزيد ، واستشعر ابن عباس من خلال تلك المحاورات بنوايا معاوية السيئة ، فصار يولي اهتمامه في حواره حول المفاضلة بين ولاية بني أمية وبني هاشم ، ومن الطبيعي كان المستمعون لكل المحاورات يروون لمن لم يحضر ما جرى وما دار ، ولا شك أنّ لتلك المحاورات أثرُها ـ سلباً أو ايجاباً ـ في النفوس ، وبالتالي يستفيد منها كلّ من المتحاورَين. وقد مرّت بنا بعض المحاورات حول المفاضلة.

وهلم الآن فاقرأ لوناً جديداً لا يخلو من مساومة خفية وتهديد أخفى رواه ابن عبد ربه عن ابن الكلبي قال : « أقبل معاوية يوماً على ابن عباس ، فقال : لو وليتمونا ما أتيتم الينا ما أتينا اليكم من الترحيب والتقريب ، وإعطائكم الجزيل واكرامكم على القليل ، وصبري على ما صبرتُ عليه منكم ، وإنّي لا أريد أمراً إلاّ أظمأتم صَدرَه ، ولا آتي معروفاً إلاّ صغّرتم خَطرَه ، وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم ، فتأخذونها متكارهين عليها ، تقولون قد نقص الحقّ دون الأمل ، فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم ، ثمّ أكون أسرّ بإعطائها منه بأخذها ، والله

٩٧

لئن انخدعت لكم في مالي ، وذللت لكم في عرضي ، أرى انخداعي كرماً ، وذلّي حلماً ، ولو وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف ، ولا نسألكم أموالكم ، لعلمنا بحالنا وحالكم ، ويكون أبغضها الينا وأحبّها اليكم أن نُعفيكم.

فقال ابن عباس : لو ولينا أحسنا المواساة ، وما ابتلينا بالأثرة ، ثمّ لم نغشم الحي ، ولم نشتم الميت ، ولستم بأجود منا أكفّاً ، ولا أكرم أنفساً ، ولا أصون لأعراض المروءة ، ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا ، وأعطى في الحقّ منكم في الباطل ، وأعطى على التقوى منكم على الهوى ، والقسَم بالسويّة والعدل في الرعية يأتيان على المُنى والأمل ، ما رضاكم منّا بالكفاف! فلو رضيتم به منا لم ترض أنفسنا به لكم ، والكفاف رضا مَن لا حقّ له ، فلا تُبخلّونا حتى تسألونا ، ولا تلفظونا حتى تذوقونا ... تهـ » (١).

ولم تقف خطوات معاوية عند هذا الحد ، بل بدأ يحاور ويناور ، عسى أن يتم له الأمر بأقل جهد ، فسافر إلى الحجاز وقرر الاجتماع بالعبادلة الأربعة وهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير فدعاهم وذكر لهم مهمته الّتي من أجلها أتاهم. ولنترك الحديث لابن قتيبة فقد قال في كتابه الإمامة والسياسة ( قدوم معاوية المدينة وما فوّض ( فاوض ) فيه العبادلة ) :

« قالوا : فاستخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين ، فتلقاه الناس ، فلمّا استقر في منزله ، أرسل إلى عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وإلى عبد الله بن عمر وإلى عبد الله بن الزبير ، وأمر حاجبه

____________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٨ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

٩٨

أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر ، فلمّا جلسوا تكلم معاوية فقال : الحمد لله الّذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأن محمّداً عبده ورسوله ، أمّا بعد : فإنّي قد كبر سنّي ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا وانتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها ، ولم يمنعني أن أحضر حسناً وحسيناً إلاّ أنهما أولاد أبيهما على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما ، فردوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله.

فتكلم عبد الله بن عباس فقال : الحمد لله الّذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله وصلّى الله على محمّد وآل محمّد ، أمّا بعد : فإنّك قد تكلّمتَ فأنصتنا ، وقلتَ فسمعنا ، وان الله جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه اختار محمداً صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم لرسالته ، واختاره لوحيه وشرّفه على خلقه ، فاشرف الناس من تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنّما على الأمة التسليم لنبيها إذ اختاره الله لها ، فإنّه إنّما اختار محمّداً بعلمه وهو العليم الخبير. واستغفر الله لي ولكم » (١).

أقول : وأحسب أنّ نقصاً طرأ في رواية كلام ابن عباس من الرواة ، وذلك فإنّ ما يقتضيه بيانه من أنّ أولى الناس بأمر أخصهم بمحمّد أن يقول وهم آل محمّد وليس أحد اليوم أولى من الحسن والحسين بذلك.

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٤٢ ط مصر سنة ١٣٢٨ هـ.

٩٩

ومهما يكن فقد تتابعت الردود من بقية العبادلة بما لم يعجب معاوية ، فشدّ الرحال وعاد إلى الشام فشلاً في مهمته وصار إلى القضاء على الإمام الحسن ( عليه السلام ) الّذي سمع الهتاف به وبأخيه من العبادلة ، كما قد سمعه من قبل من الأحنف بن قيس وربّما من غيره. فبدت دسائسه للتخلص من الحسن أوّلاً ، لأنّه إن نجح في أمره أحكم قناصته على ما بيده من أمر المسلمين ، وهان عليه أمر الباقين من معارضيه ، فإنّهم مهما أوتوا من حجة في الخصام وقوّة البيان في الكلام لا يخشى منهم حدّ الحسام ، وكان ابن عباس من رؤوس المعارضة فيما يراه معاوية ، ويعلم أنّه إنّما يصول ويجول يفعل ذلك لاسترداد الحقّ المهضوم ، وإعادته إلى صاحبه وهو الإمام الحسن ( عليه السلام ) الّذي سيرجع إليه الحكم لو مات معاوية في أيامه ، وهذا يعني إفلات الحكم من براثن الأمويين بعد أن تصيّدوه بأحابيلهم كما أفلت منهم بعد عثمان ، وهؤلاء ضباع لا تزال ترن في أسماعهم كلمة أبيهم أبي سفيان « تلقفوها يا بني أمية ... ».

ولقد أدرك الكاتب العصري المصري خالد محمّد خالد في كتابة أبناء الرسول في كربلاء البُعد الحقيقي لهدف معاوية حين قال : « فها هو ذا معاوية لا يكتفي باغتصابه الخلافة ، ثمّ لا يرغب وهو على وشك لقاء ربه في التكفير عن خطئه ، تاركاً أمر المسلمين للمسلمين ... بل يمعن في تحويل الإسلام إلى مُلك عضوض وإلى مزرعة أموية ، فيأخذ البيعة ليزيد كوليّ عهد له. يأخذها بالذهب وبالسيف » (١).

فعلى هذا التصور الميكافيلي عند معاوية يجب التخلص بكلّ الوسائل من رموز المعارضة وأولهم الإمام الحسن ( عليه السلام ).

____________________

(١) أبناء الرسول في كربلاء / ٢٠.

١٠٠