موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

١

٢

٣

٤

٥

٦

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

به نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، ورضي الله عن الصحابة المهتدين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد فهذا هو الجزء الخامس من الحلقة الأولى من ( موسوعة عبد الله بن عباس ) حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله تعالى عنه ، أسأل المولى سبحانه أن يوفقني لإتمامه وإخراجه ، ويتقبّل جهد هذا العبد المقلّ بأحسن القبول ، ويثيبني بأحسن المأمول ، إنّه ولي ذلك ، وهو السميع المجيب.

٧

٨

الفصل الأول :

بداية عهد جديد

٩
١٠

وآذنت شمس الخلافة بالغروب :

لقد آذنت شمس الخلافة بالغروب في آخر يوم موادعة الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية بن أبي سفيان. وفي ذلك اليوم بدأ فيه الملك العضوض للشجرة الملعونة في القرآن ، وأنغض شياطينها برؤوسهم كرؤوس الشياطين ، فصالح الإمام وهو السيّد ـ كما سمّاه جده في حديث أبي هريرة وابي بكرة وابي جحيفة ـ معاوية الصعلوك ـ كما سماه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حديث فاطمة بنت قيس (١).

وفي ذلك اليوم صدق الله رسوله الرؤيا الّتي رآها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وانزل فيها قرآناً يتلى إلى يوم القيامة ، فقال تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) (٢).

وإلى القارئ أقوال بعض علماء أهل السنّة في ذلك :

١ ـ قال الجاحظ ـ وهو المعروف بعثمانيته ـ : « ... إلى أن كان من اعتزال الحسن ( رضي الله عنه ) الحرب ، وتخلية الأمور عند انتشار أصحابه ، وما رأى من الخلل في عسكره ، وما عرف من اختلافهم على أبيه وكثرة تلوّنهم عليه.

فعندها استبد معاوية على الملك ، واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الّذي سمّوه ـ عام الجماعة ـ وما كان عام

____________________

(١) أنظر مسند أحمد ٦ / ٤١٢ ط الأولى.

(٢) الإسراء / ٦٠.

١١

جماعة ، بل كان عام فُرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الّذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسروياً ، والخلافة منصباً قيصرياً ، ولم يعدُ ذلك أجمع الضلال والفسق.

ثمّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتّبنا ، حتى ردّ قضيّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رداً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهر ، في ولد الفراش وما يجب للعاهر ، مع إجماع الأمة أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً وإنّه إنّما كان بها عاهراً ، فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفار.

وليس قتل حجر بن عدي ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر ، وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفيء ، واختيار الولاة على الهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس جحد الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة ، والسنن المنصوبة ، وسواء في باب ما يستحق الكفار جحد الكتاب وردّ السنّة إذا كانت السنّة في شهرة الكتاب وظهوره ، إلاّ انّ أحدهما أعظم ، وعقاب الآخرة عليها أشدّ.

فهذه أوّل كفرة كانت من الأمة ، ثمّ لم تكن إلاّ فيمن يدّعي إمامتها والخلافة عليها ، على أنّ كثيراً من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره ، وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ، ومبتدعة دهرنا ، فقال : لا تسبّوه فإنّ له صحبة ، وسبّ معاوية بدعة ، ومن يبغضه فقد خالف السنّة فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة وجحد السنّة » (١).

٢ ـ قال ابن حجر المكي الهيتمي في صواعقه في حديثه عن الإمام الحسن ( عليه السلام ) : « هو آخر الخلفاء الراشدين بنص جدّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولي الخلافة بعد قتل أبيه بمبايعة أهل الكوفة ، فأقام بها ستة أشهر وأياماً خليفة حقّ ، وإمام عدل

____________________

(١) رسائل الجاحظ / ٢٩٢ فما بعدها الرسالة الحادية عشرة جمع ونشر حسن السندوبي ط الأولى بمط الرحمانية سنة ١٣٥٢ هـ.

١٢

وصدق ، تحقيقاً لما أخبر به جده الصادق المصدوق ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بقوله : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، فإن تلك الستة الأشهر هي المكمّلة لتلك الثلاثين ، فكانت خلافته منصوصاً عليها وقام عليها اجماع من ذكر فلا مرية في حقيّتها ، ولذا ناب معاوية عنه ، وأقرّ له بذلك كما ستعلمه ممّا يأتي قريباً في خطبته حيث قال : إن معاوية نازعني حقاً وهو لي دونه فنظرت إصلاح الأمة وقطع الفتنة ... » (١).

٣ ـ قال أبو الثناء الألوسي في تفسيره في تفسير قوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) (٢) :

« وقد اجتمعت لمعاوية أقطار البلاد الإسلامية كلّها بعد أن صالح الحسن ابن عليّ ( رضي الله عنه ) ، فسمى نفسه أمير المؤمنين ، ولكنه لم يسر مسيرة مَن عرفنا من أمراء المؤمنين ، وإنّما جعل الخلافة ملكاً ، وأورثها ابنه من بعده ، استباح أشياء حرّمها الله في القرآن ، فاستلحق زياداً ، ورغب به عن أبيه عبيد ، والله ينهى أشدّ النهي في القرآن عن هذا الاستلحاق وأمثاله في قوله في سورة الأحزاب : ( مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (٣).

____________________

(١) الصواعق المحرقة / ١٣٣ ط محققة.

(٢) الإسراء / ٦٠.

(٣) الأحزاب / ٤ ـ ٥.

١٣

وكان زياد يعرف أباه عبيد الرومي حين قبل هذا الاستلحاق وفرح به ، وقد نهى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن هذا الإستلحاق وأمثاله حين قال : ـ فيما روى الشيخان ـ ( ومن ادّعي لغير أبيه فليتبوأ مقعده من النار ) وحين قال : ـ فيما رواه الشيخان أيضاً ـ ( من رغب عن أبيه فهو كفر ) (١) » (٢).

٤ ـ قال الدكتور عليّ سامي النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : « ولو عاد الأمر ـ بعد عليّ إلى المسلمين الخلّص لكي يحكموا المسلمين وحرم منه ابنا فاطمة الزهراء ـ لما تضخمت المسائل وكبر الحب وعظم ، وكبرت السخيمة وعظمت ، ولكن الأمر عاد إلى معاوية بن أبي سفيان ، ولم يكن المسلمون قد تناسوا أباه الغنوصي القائم هذا الثنوي المجوسي الّذي لم يؤمن أبداً ، وسرعان ما أطلقوا على معاوية الطليق ابن الطليق والوثني ابن الوثني ، ومهما قيل في معاوية ومهما حاول علماء المذهب السلفي المتأخر وبعض أهل السنّة

____________________

(١) من السخرية بعقول المسلمين ما قاله ابن تيمية في مسألة الاستلحاق هذه ، فهلمّ فاقرأ ما يقول : « وكذلك استلحاق معاوية ( رضي الله عنه ) زياد بن أبيه المولود على فراش حارث بن كلدة ، لكون أبي سفيان كان يقول : إنّه من نطفته مع ان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد قال : ( من ادعى لغير أبيه فالجنة عليه حرام ) وقال : ( من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) حديث صحيح ، قضى أن الولد للفراش ، وهو من الأحكام المجمع عليها ، فنحن نعلم أن من انتسب إلى غير الأب الّذي هو صاحب الفراش فهو داخل في كلام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مع انّه لا يجوز أن يعيّن أحداً دون الصحابة فضلاً عن الصحابة ( رضي الله عنهم ) فيقال : ( إن هذا الوعيد لاحق به لإمكان أنّه لم يبلغهم قضاء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأن الولد للفراش واعتقدوا لمن أحبل أمه ، واعتقدوا أن أبا سفيان ( رضي الله عنه ) هو المحبل لسمية أم زياد ، فإن هذا الحكم قد يخفى على كثير من الناس قبل انتشار السنّة ، مع أن العادة في الجاهلية كانت هكذا ، أو لغير ذلك من الموانع المانعة هذا المقتضي للوعيد أن يعمل عمله من حسنات يمحو السيئات غير ذلك ) نقلاً عن رفع الملام عن الأئمة الأعلام / ٣٢ نشر المكتبة العلمية ( باب الرحمة ـ المدينة المنورة ). فاقرأ ولا تعجب فكم له من نظير.

(٢) روح المعاني الجزء / ١٥ ط المنبرية.

١٤

من وضعه في نسق صحابة رسول الله ، فإنّ الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام ، ولقد كان يطلق نفثاته على الإسلام كثيراً ، ولكنه لم يستطع أكثر من هذا ، وبدأ ابنا فاطمة يكتبون بدمائهم أكبر الملاحم » (١).

وقال أيضاً : « وكان خليفة دمشق غارقاً لأذنيه في جاهليته الأولى بين جواريه ومغانيه وملاهيه وطربه ، يرتكب الكبائر سراً أو علانية ، ويحطم بناء المجتمع الإسلامي الخُلقي كما حطّم بناءه السياسي والاقتصادي ، وظن خطأ انّه حلل المجتمع الإسلامي ، وأنّه أشاع الفاحشة بين الناس ، فعاد واقعهم إلى الخمر والنساء والرذائل العادية الشاذة ، وأنّه أنهكهم بما حمّلهم من أوزار وخطايا ، وبهذا يسهل عليه حكمهم ، ظن خطأ أنّ الناس على دين ملوكهم ، وأنّهم لا يفعلون غير ما يفعل ، ولا يأتمرون إلاّ بما أمر » (٢).

٥ ـ قال المؤرخ الشهير السيّد أمير عليّ الهندي في كتابه مختصر تاريخ العرب : « لم ينجم عن تولّي الأمويين دفة الحكم تغيير معالم الخلافة فحسب ، بل أدى أيضاً إلى قلب المبدأ الأساس » (٣).

وقال في كتابه روح الإسلام : « ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الأوليغاشية الوثنية السابقة ، فاحتل موقع ( ديموقراطية الإسلام ) وانتعشت الوثنية بكلّ ما يرافقها من خلاعات ، وكأنها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخلُقي لنفسها متّسعاً في كلّ مكان ارتادته رايات حكام الأمويين من قادة جند الشام » (٤).

____________________

(١) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ٢ / ١٨ ـ ١٩ ط السابعة دار المعارف سنة ١٩٧٧ م.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢٣١ ط.

(٣) مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي / ٦٣ تعريب رياض رأفت.

(٤) روح الإسلام / ٢٩٦ تعريب عمر الديراوي ط دار العلم للملايين بيروت.

١٥

٦ ـ قال أحمد أمين في كتابه يوم الإسلام : « وبمعاوية انتقل الأمر من خلافة إلى ملك عضود ، الفرق بينهما أنّ الخلافة أساسها اقتفاء أثر الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والإعتماد في حل المشاكل على شورى أهل الحل والعقد ، واختيار الخليفة منهم حسبما يرون أنّه الأصلح.

أمّا المُلك فيشبه الملوك الأقدمين من فرس وروم ، واستبداد بالرأي ، وقصر الخلافة على الأبناء والأقرباء ، ولو لم يكونوا صالحين لذلك ، وهذا كلّه ما فعله معاوية ...

والحقّ أنّ معاوية ساد الناس بالغلبة لا بالاختيار ، ثمّ استبد بتسيير الأمور ، ثمّ عهد بالخلافة إلى ابنه يزيد ، ولم يكن أكفأ الناس ، ثمّ ساس الناس سياسة ميكافيلية استبدادية ، لا عهد للناس بها من قبل ، وجرى المسلمون بعد ذلك على أثره من بيت عباسي بعد بيت أموي وهكذا ، وضاع معنى الخلافة الّتي سار عليها الخلفاء الراشدون ، كما ضاع معنى العدل الّذي تشدّد الإسلام في العمل والتعامل به ، وأصبح الأمر أمر سياسة حسبما تتطلبه الغلبة لا عدل حسبما يتطلبه الإسلام » (١).

٧ ـ قال الدكتور طه حسين في الفتنة الكبرى : « ومهما يقل الناس في معاوية من أنّه كان مقرّباً إلى النبيّ بعد إسلامه ، ومن أنّه كان من كتّاب الوحي ، ومن أنّه أخلص الإسلام بعد أن ثاب إليه ، ونصح للنبي وخلفائه الثلاثة ، مهما يقل الناس في معاوية من ذلك فقد كان معاوية هو ابن أبي سفيان قائد المشركين يوم أحد ويوم الخندق ، وهو ابن هند الّتي أغرت بحمزة حتى قتل ، ثمّ بقرت بطنه ولاكت كبده ، وكادت تدفع النبيّ نفسُه إلى الجزع على عمه الكريم ، وكان المسلمون

____________________

(١) يوم الإسلام / ٦٦ ـ ٦٧ ط دار المعارف سنة ١٩٥٢ م.

١٦

يسمون معاوية وأمثاله من الّذين أسلموا بآخرة ومن الّذين عفا النبيّ عنهم بعد الفتح بالطلقاء لقول النبيّ لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء » (١).

٨ ـ قال عباس محمود العقاد في كتابه معاوية في الميزان : « فليس أضل ضلالاً ولا أجهل جهلاً من المؤرخين الّذين سمّوا سنة ( احدى وأربعين هجرية ) بعام الجماعة ، لأنّها السنة الّتي استأثر فيها معاوية بالخلافة ، فلم يشاركه أحد فيها ، لأنّ صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرّقت فيها الأمة كما تفرّقت في تلك السنة ، ووقع فيها الشتات بين كلّ فئة من فئاتها كما وقع فيها ، إذ كانت خطة معاوية في الأمن والتأمين قائمة على فكرة واحدة وهي التفرقة بين الجميع » (٢).

وقال أيضاً : « فلو أنّه استطاع أن يجعل من كلّ رجل في دولته حزباً منابذاً لغيره من رجال الدولة كافة لفعل ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح لما وصفه بغير مفرّق الجماعات » (٣).

وأحسب أنّ القارئ كيف ما كان رأيه في معاوية له أو عليه ، فقد تبيّن له صحة ما مرّ في العنوان من غروب شمس الخلافة وبدء عهد الملك العضوض ، كما أحسبه آمن بصدق أقوال الجاحظ ومن تلاه فيما مرّ ، وخرج بنتيجة أنّ معاوية قد استيقظت فيه عقدة النقص الّتي أورثها إياه الكفر حين ظهر أمر الله ولو كره الكافرون ، وقد تبدّت حين انغضت برأسها يوم تولى عثمان وسمع أباه

____________________

(١) الفتنة الكبرى ٢ / ١٥ ط دار المعارف.

(٢) موسوعة العقاد ( معاوية في الميزان ) ٣ / ٦٦٣.

(٣) نفس المصدر / ٥٨٥.

وراجع في تصديق ذلك إغراؤه بين مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية وبين سعيد ابن العاص بن أمية في المصادر التالية : أنساب الأشراف للبلاذري ١ق٤ / ٣٣ تح ـ احسان عباس وفي الهامش تجد ذكر الطبري وتذكرة ابن حمدون وابن عساكر وابن كثير والبيان للجاحظ وكامل المبرد وعيون الأخبار لابن قتيبة وربيع الأبرار والعقد الفريد ومروج الذهب واليعقوبي والتاج للجاحظ.

١٧

يقول : « تلقّفوها يا بني أمية تلقّف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة » (١). والولد سرّ أبيه.

ولا شك أنّ معاوية ازداد حنقاً على الإسلام بعد تولي الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قيادة الأمة ، فلم يرضخ لحكمه ، بل أعلن تمرّده بعتو وجبروتية ظالمة ، فكان كما قال الجاحظ ومن تلاه.

ولا شك أنّ أهل البيت أصبحوا في وضع خطير وجهاد مرير مع معاوية.

ولمّا كان الإمام الحسن ( عليه السلام ) وهو صاحب الحقّ في الخلافة وأولى الناس بالناس قد وادع مضطراً ، وسمع الكثير من شيعته ومواليه عتاباً مرّاً ، فلا شك في ابن عباس وهو من أبرز بني هاشم قد واجه المحنة في تلك الفترة بصبر أمرّ من الصبر ، وليس أمامه في ذلك الاختبار العسير سوى الصمود وخوض المعركة مع معاوية لصيانة مبادئ الإمام الّتي هي مبادئ الإسلام ، والّتي قاتل عليها في صفين. ولمّا شيم السيف الّذي كان يشهره في حروبه مع الإمام ، فعليه أن يشهر سلاحه الآخر الّذي هو أنكى في العدو ، وذلك سلاح الرواية في نشر فضائل الإمام وأهل بيته خوفاً عليها من الضياع بعد منع معاوية عن التحدّث بها ، وعقوبة من يرويها ببراءة الذمة وهي تعني القتل. كما جد في نشر فضائح الأمويين بكلّ جرأة وإقدام ، وعلينا أن نقرأ بعض مواقفه في محاربته معاوية وبني أمية عن طريق الرواية ، ثمّ مواجهته الساخنة في محاوراته معهم.

ابن عباس في حكومة معاوية :

إذا أردنا معرفة موقف ابن عباس من الحكم والحاكم الأموي الجديد ، يجب أن لا ننسى النزاع والتخاصم القائم بين بني أمية وبني هاشم ، وما بقي من

____________________

(١) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٤١٠ ـ ٤١١ ط مصر الأولى.

١٨

موروث الإنتماء لدى الأبناء ، وهو الّذي كان يتنامى يوماً بعد يوم ، بالرغم من وجود ما يدعو إلى تناسي الترات وشدّ الأواصر المنافية ، كالمصاهرات والمصالح التجارية. لكن كلّ ذلك لم يُزل ما في النفوس من كامن الأحقاد عند تذكّر الآباء والأجداد ، فقد روي : « أنّ عقيل بن أبي طالب لمّا تزوج فاطمة بنت عتبة برغبة وبذل منها ، فكانت تبرمه بخلافها وتقول له يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبداً ، أين أبي؟ أين عمي؟ أين أخي؟ كأنّ أعناقهم أباريق فضة ، ترد آنافهم الماء قبل شفاههم. قال : إذا دخلتِ جهنم فخذي على شمالك ، فشدّت ثيابها وأتت عثمان فشكت عليه ، فبعث عبد الله بن عباس ومعاوية حكَمين ، فقال ابن عباس : لأفرّق بينهما ، وقال معاوية : ما كنت لأفرّق بين شيخين من قريش ، فلمّا أتياهما وجداهما قد أغلقا بابهما واصطلحا » (١).

كما لم تجدِ القرابات النسبية سبيلاً إلى إزالة الكوامن في الصدور ، فقد ذكر البلاذري في الأنساب : « أنّ صفية بنت حزن الهلالية هي أم أبي سفيان بن حرب وهي عمة لبابة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس » (٢) ، كما روى أيضاً عن ابن عباس قال : « دخلت على أبي سفيان بن حرب وهو يتغدى ، فذكرت له حاجتي ثمّ قلت : فما منعك من أن تدعوني إلى غدائك؟ فقال إّنما وضع الطعام ليؤكل ، فإن كانت بك إليه حاجة فكل » (٣).

وهذا منتهى البخل والعذر أقبح من الفعل.

ولو استعرضنا جميل بني هاشم على بني أمية وأياديهم البيضاء لطال بنا الحديث ، وحسب القارئ أن يعلم أنّ صنائع المعروف الّتي أسداها الهاشميون

____________________

(١) الدرجات الرفيعة / ١٦٤ ط الحيدرية.

(٢) أنساب الأشراف ١ق ٤ / ٣.

(٣) نفس المصدر / ١٠.

١٩

بدءاً من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في فتح مكة ، ومروراً بموقف العباس في إنجاء أبي سفيان من موت محقق ، فلولاه لاحتوشته يومئذ سيوف الله من كلّ جانب ، فقد أتى به مردفه معه على بغلة لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فاستأمن له. فمع هذه الأيادي البيضاء والقرابات من الأمهات كيف سيكون حال ابن عباس مع الحاكم الأموي المتغطرس وماذا ينتظره من صعلوك الأمس وقيصر اليوم؟ وهاهو اعتلى عرش الحكم ابتزازاً ، ليجعل منه عرش كسرى وقيصر ، وقد اتخذ منه مقصلة ليجزر عليها بني هاشم ومن يواليهم.

فلا شك أنّ ابن عباس لم يكن يتوقع الخير في ظل ذلك الحكم الغاشم ، ان لم يكن يتوقع المزيد من الشر ، لأن طبيعة الحاكم شر ، وهل يستدعي الشرّ إلاّ الشر.

وهنا نقطة أرى لزاماً عليّ تنبيه القارئ عليها. وهي أنّه لا يمكن لنا دراسة مواقف ابن عباس في العهد الأموي بشكل علمي وموضوعي بمعزل عن استذكار تاريخه في العهد العلوي ، وتبيّن آثاره وأفكاره ، لنرى مدى تأثير إستاذه ومعلمه وإمامه وابن عمه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الّذي تولى تربيته بعد ابن عمه الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فأودعه عملياً سيرته المثلى في مقارعة الظالمين ، وأنهله من صفو مبادئه ـ وكلّها صفو ـ ما كاد أن يكون نسخة مصغرة منه ، حيث بدت مواقفهما متشابهة في أكثر من ميدان وفي غالب الأحيان.

وبشيء من الدقة وبعيداً عن العاطفة ، فإنا نستطيع أن نرى ابن عباس في الفترة الّتي عاشها مع الإمام من قبل توليه الحكم ومن بعده أيام جهاده الناكثين والقاسطين والمارقين كان ساعده الأيمن ومستشاره الأمين ، حتى أنّ معاوية أشدّ الناس عداوة لهما كان يراه رأس الناس بعد الإمام ، كما مرّ بنا كتابه إليه في ذلك

٢٠