موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

وأمّا الأربع الّتي غفرت لك : فعدوك عليّ بصفين فيمن عدان ، وإساءتك في خذل عثمان فيمن أساء ، وسعيك على عائشة أم المؤمنين فيمن سعى ، ونفيك عني زياداً فيمن نفى. فضربت أنف هذا الأمر وعينه حتى استخرجت عذرك من كتاب الله ( عزّ وجلّ ) وقول الشعراء.

أمّا ما وافق كتاب الله ( عزّ وجلّ ) فقوله ( خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) (١)

وأمّا ما قالت الشعراء فقول أخي بني دينار.

ولست بمستبق أخاً لا تلمّه

على شعث أيّ الرجال المهذّب

فاعلم انّي قبلت فيك الأربع الأولى ، وغفرت لك الأربع الأخرى ، وكنت في ذلك كما قال الأوّل :

سأقبل ممّن قد أُحبّ جميلَه

واغفر ما قد كان من غير ذالكا

ثمّ أنصت.

فتكلم ابن عباس فقال بعد حمد الله والثناء عليه. أمّا ما ذكرت أنّك تحبني لقرابتي من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فذلك الواجب عليك وعلى كلّ مسلم آمن بالله ورسوله ، لأنّه الأجر الّذي سألكم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على ما أتاكم به من الضياء والبرهان المبين ، فقال ( عزّ وجلّ ) : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢) فمن لم يجب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى ما سأله خاب وخزي وكبا في جهنم.

وأمّا ما ذكرت أنّي رجل من أسرتك وأهل بيتك فذلك كذلك ، وإنّما أردتَ به صلة الرحم ، ولعمري إنّك اليوم وَصول مع ما قد كان منك فيما لا تثريب عليك فيه اليوم.

____________________

(١) التوبة / ١٠٢.

(٢) الشورى / ٢٤.

٦١

وأمّا قولك إنّ أبي كان خلاً لأبيك فقد كان ذلك كذلك ، وقد علمت ما كان من أبي إليه يوم فتح مكة ، وكان شاكراً كريماً ، وقد سبق فيه قول الأوّل :

سأحفظ من آخى أبي في حياته

وأحفظه من بعده في الأقارب

ولست لمن لا يحفظ العهد واقعاً

ولا هو عند النائبات بصاحبي

وأمّا ما ذكرت أني لسان قريش وزعيمها وفقيهها ، فإنّي لم أعط من ذلك شيئاً إلاّ وقد أوتيته ، غير انّك قد أبيت بشرفك وكرمك إلاّ أن تفضّلني وقد سبق في ذلك قول الأوّل :

وكلّ كريم للكرام مفضّلٌ

يراه له أهلاً وإن كان فاضلا

وأمّا ما ذكرت من عدوي عليك بصفين فوالله لو لم أفعل ذلك لكنت من شر الأم العالمين. أكانت نفسك تحدثك يا معاوية إنّي كنت أخذل سيدي وابن عمي أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وقد حشد له المهاجرون والأنصار والمصطفون الاخيار؟ ولِم يا معاوية أشكاً في ديني؟ أم جبناً؟ أم حيرة في سجيتي؟ أم ضناً بنفسي؟ والله إن لو فعلت ذلك لاختبأته فيَّ وعاتبتني عليه.

وأمّا ما ذكرت من خذلان عثمان ، فقد خذله مَن كان أمسّ رحماً به مني ، وأبعد رجاءً مني ، ولي فيه الأقربين والأبعدين أسوة ، وإنّي لم أعد عليه فيمن عدا ، بل كففت عنه كما كفّ أهل المروءات والحجى.

٦٢

وأمّا ما ذكرت من سعيي على عائشة ، فإن الله تبارك وتعالى أمرها أن تقرّ في بيتها وتحتجب في سترها ، فلمّا عصت ربّها ، كشفت جلباب الحياء ، وخالفت نبيّها ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وسعنا ما كان منّا إليها.

وأمّا ما ذكرت من نفيي زياداً فإني لم أنفه بل نفاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذ قال : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) وإنّي من بعد هذا لأحب ما يراك في جميع أمورك » (١).

أقول : إلى هنا أخرج المحاورة صاحب كتاب مختصر تاريخ الخلفاء وقال : « وإنّما أوردنا هذه الحكاية على وجهها ، لأنّ فيها مسائل يقع الشك فيها لكل من تأمّلها ويشتهي المخرج منها ، والمظنون أن من جعل عبد الله ابن العباس قدوة في ذلك ، مع علمه وحلمه وقرباه برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكونه في الفتن واختياره لنفسه ، وسار بسيرته وحكم بمثل حكمه كان من الفايزين ... اهـ » (٢).

ونعود إلى بقية المحاورة برواية الشيخ ابن بابويه الصدوق وقد رواها في كتابه الخصال فقال : « فتكلم عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين والله ما أحبَّك ساعة قط ، غير أنّه قد أعطي لساناً ذربا يقلّبه كيف شاء ، وان مثلك ومثله كما قال الأوّل ( وذكر بيت شعر ).

فقال ابن عباس : إن عمراً داخل بين العظم واللحم ، والعصا واللحا ، وقد تكلم فليستمع فقد وافق قرنا. أما والله يا عمرو إنّي لأبغضك في الله وما اعتذر منه ، انك قمت خطيباً فقلت : إنا شانئ محمّد ، فأنزل الله ( عزّ وجلّ ) ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ) (٣)

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق٤ / ٩٤ تح ـ احسان عباس.

(٢) مختصر تاريخ الخلفاء ط موسكو سنة ١٩٦٧ من ورقة ٢٤٠ب إلى ورقة ٢٤١ ب.

(٣) الكوثر / ٣.

٦٣

فأنت أبتر الدين والدنيا ، وأنت شانئ محمّد في الجاهلية والإسلام ، وقد قال الله تبارك وتعالى : ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (١) وقد حاددتَ الله ورسوله قديماً وحديثاً ، ولقد جهدتَ على رسول الله جهدك ، وأجلبتَ عليه بخيلك ورجلك ، حتى إذا غلبك الله على أمرك ، وردّ كيدك في نحرك ، وأوهن قوتك ، وأكذب أحدوثتك ، نزعت وأنت حسير ، ثمّ كدت بجهدك لعداوة أهل بيت نبيّه من بعده ، ليس بك في ذلك حبّ معاوية ولا آل معاوية إلاّ العداوة لله ( عزّ وجلّ ) ولرسوله ، مع بغضك وحسدك القديم لأبناء عبد مناف ، ومثلك في ذلك كما قال الأوّل :

تعرّض لي عمرو وعمرو خزاية

تعرّض ضبع القفر للأسد الورد

فما هو لي ندّ فاشتم عرضه

ولا هو لي عبد فأبطش بالعبد

فتكلم عمرو بن العاص فقطع عليه معاوية وقال : أما والله يا عمرو ما أنت من رجاله ، فإن شئت فقل ، وإن شئت فدع ، فاغتنمها عمرو وسكت.

فقال ابن عباس : دعه يا معاوية فوالله لأسمنّه بميسم يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة ، تتحدث به الإماء والعبيد ، ويتغنى به في المجالس ويتحدث به في المحافل.

ثمّ قال ابن عباس : يا عمرو ما تبدأ في الكلام ، فمدّ معاوية يده فوضعها على في ابن عباس وقال له : أقسمت عليك يا بن عباس إلاّ أمسكت ، وكره أن يسمع أهل الشام ما يقول ابن عباس ، وكان آخر كلامه ، إخسأ أيها العبد وأنت مذموم ، وافترقوا » (٢).

____________________

(١) المجادلة / ٢٢.

(٢) الخصال ١ / ٩٩ ـ ١٠١ بتقديمي ط الحيدرية.

٦٤

إنّك لا تشاء أن تَغلِب إلاّ غَلبَت :

ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد (١) والنويري في نهاية الإرب (٢) : « إنّ عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد ، فرحّب به معاوية وألطفه وقرّب مجلسه ، ووسّع إلى جنبه ، وأقبل عليه يسائله ويحادثه وزياد ساكت ولم يكلّمه شيئاً. فابتدأ ابن عباس وقال له : ما لك أبا المغيرة كأنّك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؟ قال : لا ، ولكن لا يسلّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين ، فقال له ابن عباس : ما أدركت الناس الا وهم يسلّمون على إخوانهم ، ما ترك الناس التحية بينهم وبين يدي أمرائهم. فقال له معاوية : كفّ عنه يا بن عباس فإنّك لا تشاء أن تغلب إلاّ غلبت ».

ولا شك أنّ هذا الموقف الجاف من زياد الّذي أثار ابن عباس فقال له ما قال ، قد ترك في نفسه حقداً صار معه يتحيّن الفرصة بالإيقاع بابن عباس ، وقد مرّت بنا في أوائل حديثنا عن وفادة ابن عباس إلى الشام ولعلها الأولى كانت ، وقد جرى فيها حوار ساخن دار بين معاوية وجلسائه بمن فيهم زياد وبين ابن عباس ، وكانت الغلبة له حتى قال له معاوية : لله درّك يا بن عباس ما تكشف الأيام منك إلاّ عن سيف صقيل ورأي أصيل ...

كما مرّ بنا أنّ ابن عباس كان معلناً بنفي زياد ـ فيما يبدو من كلام معاوية معه في ذلك ، وردّ ابن عباس عليه ـ. ولجميع ذلك تراكمات في نفس زياد ، وكلّما كانت مواقف ابن عباس مع معاوية أشدّ كلما حاول زياداً أن ينفذ من خلالها بحجة الإنتقام لمعاوية ، لكن معاوية كان أبعد نظراً من زياد في ذلك ، فقد

____________________

(١) العقد الفريد ١ / ١٩ و ٢ / ٤٥٩ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

(٢) نهاية الارب ٦ / ١٤.

٦٥

ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد قال : « وفي كتاب زياد إلى معاوية يخبره بطعن عبد الله بن عباس في خلافته » ، وكرر ذكره في مكان آخر (١) وانّه كتب إليه : « انّ عبد الله بن عباس يُفسد الناسَ عليّ ، فإن أذنت لي أن أتوعّده فعلتُ.

فكتب إليه : انّ أبا الفضل وأبا سفيان كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد وذلك حلفٌ لا يحلّه سوء رأيك ( أدبك ) » (٢).

أقول : إنّ من معاني المسلاخ : الإهاب ، وهو الجلد ، والثوب ، ومنه سلخت المرأة ثوبها نزعته ، ومن المجاز : فلان حمار في مسلاخ إنسان ، وفي حديث عائشة ما رأيت امرأة أحبّ اليَّ أن أكون في مسلاخها من سودة ، وتمنت أن تكون في هيئتها وطريقتها ، ورجل سليخ مليخ شديد الجماع ولا يلقح (٣).

فيا هل ترى أنّ معاوية أشار على استحياء ، ومن طرف خفي إلى أنّ العباس وأبا سفيان كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد ، يعني بذلك كناية عن إتيانهما معاً إلى هند أمه؟ والّذي يقرّب الينا هذا المعنى الكنائي ـ وربّ كناية أبلغ من تصريح ـ ما صرح به لابنه يزيد حين جرى بينه وبين إسحاق بن طابة بن عبيد كلام بين يدي معاوية وهو خليفة فقال يزيد لاسحاق : إن خيراً لك أن يدخل بنو حرب كلّهم الجنة ـ أشار يزيد إلى أنّ أم إسحاق كانت تتهم ببعض بني حرب ـ فغالطه إسحاق : إن خيراً لك أن يدخل بنو العباس كلّهم الجنة ، فلم يفهم يزيد قوله وفهم معاوية ، فلمّا قام إسحاق قال معاوية ليزيد : كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك؟ قال : قصدت شين إسحاق قال : وهو كذلك أيضاً ، قال :

____________________

(١) العقد الفريد ٥ / ١١.

(٢) نفس المصدر ٤ / ٢٠٦.

(٣) تاج العروس ٢ / ٢٦٢ سلخ.

٦٦

وكيف؟ قال : أما علمت ان بعض قريش في الجاهلية يزعمون أنّي للعباس ، فسقط في يدي يزيد (١).

وممّا يؤكد هذا المعنى حديث بيعة النساء يوم فتح مكة ومنهنّ هند أم معاوية ، فقال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مشترطاً عليهنّ شرائط الإسلام : ( وان لا تزنينّ ) فقالت هند : « وهل تزني الحرّة » فنظر إلى عمه العباس وتبسم (٢).

وذكر الزمخشري : « انّ معاوية كان يعزى إلى أربعة : مسافر بن عمرو وعمارة بن الوليد والعباس بن عبد المطلب والصباح مغنٍّ أسود كان لعمارة » (٣).

إنّا كتبنا في الآفاق :

لقد مرّت بنا في أولى محاوراته في الحرمين قول معاوية له : « فإنّا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته ، فكفّ لسانك يا بن عباس واربع على نفسك ». فأجابه ابن عباس وحاوره حتى خصمه وانتهت المحاورة يقول معاوية وقد بان عليه الفشل والخجل أمام جموع المسلمين الّذين كانوا يستمعون إلى النقض والإبرام ، بين المتحاورين في المسجد الحرام فقال : يا بن عباس اكفني نفسك ، وكفّ عني لسانك ، وإن كنت لابدّ فاعلاً فليكن ذلك سراً ولا يسمعه أحد منك علانية. ثمّ تقول الرواية فرجع معاوية إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم ، وثمة روايات زاد فيها الرقم إلى مائة ومائتين. وليس معرفة الرقم الصحيح بذي بال. إنمّا المهم أن نعرف موقف ابن عباس بعد هذه المحاورة هل استجاب لطلب معاوية فلم يتحدث إلى الناس بفضائل الإمام أمير

____________________

(١) المثالب للكلبي نسخة المرحوم الشيخ السماوي بخطه.

(٢) الفخري في الآداب السلطانية لابن الطقطقي / ١٠٤ ط صادر.

(٣) ربيع الأبرار ٣ / ٥٥١ باب القرابات والأنساب.

٦٧

المؤمنين ( عليه السلام )؟ وهل كان للمال تأثيره في تغيير المواقف؟ مع أنّ الجواب عن مسألة أخذ ابن عباس للمال قد تبيّن ممّا مرّ في محاورته الّتي لخصها الفضل بن العباس اللهبي في أبياته فراجع. لكن يبقى الجواب عن مدى استجابة ابن عباس لطلب معاوية في عدم ذكره مناقب عليّ ( عليه السلام ) وأهل بيته. تحت تأثير الترغيب بالمال أو الترهيب بالقوة فنقول : من خلال متابعتي لمواقف ابن عباس مع أعداء الإمام تبيّن لي إنّه كان ابن جلاها وطلاع ثناياها في تحدي السلطة وإعلان معارضته ، عن طريق التحدث بفضائل الإمام ( عليه السلام ) ، وكلّ تلك المواقف تنتهي بفوزه على خصومه ، وجملة منها كانت في أيام حكم معاوية ، فهو لم تلن له قناة ، ولم تقرع له صفاة ، بل كان مثجاً يسيل غربا ، واذا أردت عرض جميع ما وقفنا عليه فاحتاج إلى وقت طويل يعيقنا عن متابعة تاريخه ونحن بهذا السبيل ، إلاّ أني أعرض بعض نماذج فيها تحدٍ تسافر لبيان السلطة وصاحبها ، ولم أقف على مورد واحد فيه عقاب أو عتاب جوبه به ، وهذا يعني أنّ ابن عباس في هذا الميدان كان أقوى من سلطة معاوية ، وسلاحه فيه أمضّ وأمضى.

فإلى نماذج من مرويّاته ومواقفه في هذا الباب :

١ ـ تسعة رهط يفسدون في الأرض :

قد روى هذه الواقعة أحمد في مسنده ، والنسائي في الخصائص ، والحاكم في المستدرك ، والذهبي في تلخيصه وآخرون نيّفوا على العشرة كما سيأتي ذكرهم وموارد رواياتهم في مصادرهم جميعاً في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.

أمّا الآن فإلى الحديث برواية عمرو بن ميمون قال : « إنّي لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط. فقالوا : يا بن عباس إمّا أن تقوم معنا وإمّا أن يخلونا هؤلاء؟ ـ وأشاروا إلى جلسائه ـ فقال ابن عباس : بل أقوم معكم ـ وهو يومئذ

٦٨

صحيح قبل أن يذهب بصره ـ فانتبذوا وابتدأوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا. قال عمرو : فجاء ابن عباس ، وهو ينفض ثوبه وهو يقول : أفّ وتفّ ، وقعوا في رجل له بضعة عشرة فضيلة ليست لأحد غيره ، وقعوا في رجل قال له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لأبعثنّ رجلاً يحبّ الله ورسولَه ويحبّه اللهُ ورسولهُ ، لا يخزيه الله أبداً. قال : فاستشرف لها من استشرف فقال : أين ابن أبي طالب؟ قالوا هو في الرحى يطحن ، قال : وما كان أحدكم ليطحن ، فدعاه وهو أرمد لا يكاد يبصر ، فنفث في عينيه وهزّ الراية ثلاثاً ثمّ دفعها إليه. فجاء بصفية بنت حي.

وبعث أبا بكر بسورة التوبة ، وأرسل عليّاً خلفه فأخذها منه ، فقال أبو بكر للنبيّ : أنزل فيَّ شيء؟ فقال : لا ولكن لا يذهب بها رجل إلاّ مني وأنا منه.

وقال لبني عمه أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ ـ قال : وعليّ معهم جالس ـ فقال عليّ : أنا أواليك في الدنيا والآخرة فقال له : أنت أخي في الدنيا والآخرة.

وجمع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فاطمة وعليّاً وحسناً وحسيناً فقال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١).

وكان ـ عليّ ـ أوّل من آمن ( أسلم ) من الناس بعد خديجة.

وشرى عليّ نفسه ، فلبس ثوب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ثمّ نام مكانه ، فجعل المشركون يرمونه كما كانوا يرمون رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو على فراش النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فجعل يتضور ، وجعلوا يستنكرون ذلك ، فجاء أبو بكر وعليّ نائم وهو يظنه رسول الله فقال : يا نبيّ الله ، فقال انّ نبيّ الله قد انطلق إلى بئر ميمون فأدركه ، فاتبعه ودخل معه الغار ، وبات عليّ يُرمى بالحجارة كما كان يُرمى نبيّ الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو يتضوّر ، وقد لفّ

____________________

(١) الأحزاب / ٣٣.

٦٩

رأسه بالثوب لا يخرجه حتى أصبح ، ثمّ كشف عن رأسه ، فقالوا : إنك للئيم ، كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر وأنت تتضوّر وقد استنكرنا ذلك.

قال ابن عباس : وخرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالناس في غزوة تبوك فقال له عليّ : أخرج معك؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لا ، فبكى عليّ فقال له : أما ترضى بأن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلاّ إنّك لست بنبيّ ، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي.

قال : وقال له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أنت وليي في كلّ مؤمن بعدي.

قال ابن عباس : وسدّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أبواب المسجد غير باب عليّ فكان يدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره.

قال : وأخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فان مولاه عليّ ، وقال : من كنت وليّه فعلي وليّه. وقال : اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.

قال : وأخبرنا الله ( عزّ وجلّ ) في القرآن أنّه قد رضي عن أصحاب الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، هل حدثنا أحد انّه سخط عليهم بعدُ ، قال : وقال نبيّ الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لعمر حين قال : إئذن لي فلأضرب عنقه ، قال : أو كنت فاعلاً؟ وما يدريك لعل الله اطلّع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم » (١).

وسيأتي إن شاء الله في الحلقة الثالثة تخريج هذه الفضائل من مصادرها والتعليق عليها بما يسرّ المؤمنين ويكبت المعاندين (٢). غير أنّا نود لفت نظر القارئ إلى أدب حبر الأمة مع جلسائه وزواره ، فحين طلب التسعة رهط منه إما

____________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٣١ ط مصر الأولى وخصائص النسائي / ٥٠ تح ـ محمّد الكاظم وفي الهامش مجموعة من مصادره.

(٢) راجع نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار ١٦ / ١٧٥ ـ ٢٢٧ حول هذا الحديث ومن أخرجه وما يتعلق به.

٧٠

القيام معهم أو يخلوهم جلساؤه ، فاختار القيام معهم إكراماً لجلسائه ، لأنّه يرى جليسه أكرم الناس عليه ـ كما سيأتي كلامه في ذلك في أدبيات حكمه في الحلقة الثالثة ـ لذلك اختار القيام مع أولئك الرهط ، ولمّا انتبذ معهم مكاناً قصياً وجلسوا نديا ليوفّر لهم حرية الكلام ، ولكن عناصر الشرّ أسمعوه في الإمام ما أثار حفيظته ، فلم يتمالك على نفسه دون أن قام عنهم ينفض ثوبه مغضباً وهو يقول : ( أف وتف ). وهما كلمتا تضجر وتأفف ، أي قذَراً وبعداً عليهم. ولم يحدّث جلساءه بما قالوه إلاّ أنّه ذكر أنّهم وقعوا في رجل له ... وأخذ يعدّد فضائل الإمام كما مرّ ، ولم يذكر الرواة لنا عن مصير أولئك النفر بعد سماعهم حديث ابن عباس.

٢ ـ أيكم السابّ لله؟

روى ابن المغازلي المالكي في مناقبه (١) والخوارزمي الحنفي في مناقبه (٢) وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول (٣) وغيرهم وقد نيّفوا على العشرين كما سيأتي بيانهم في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.

وإليكم الحديث بلفظ الخوارزمي الحنفي : « عن سعيد بن جبير قال : بلغ ابن عباس أنّ قوماً يقعون في عليّ ( عليه السلام ) فقال لابنه عليّ بن عبد الله : خذ بيدي فاذهب بي اليهم ، فأخذه ولده بيده حتى انتهى اليهم فقال : أيكم السابّ لله؟

فقالوا : سبحان الله من سبّ الله فقد أشرك.

فقال : أيكم السابّ لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )؟

____________________

(١) مناقب ابن المغازلي / ٣٩٤.

(٢) مناقب الخوارزمي / ٨١.

(٣) مطالب السؤول / ١٠٥.

٧١

فقالوا : سبحان الله من سبّ رسول الله فقد كفر.

فقال : أيكم السابّ لعليّ بن أبي طالب؟

فقالوا : قد كان ذلك.

فقال لهم : فاشهدوا لقد سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : من سب عليّاً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله فقد أكبّه يوم القيامة على وجهه في النار ، ثمّ ولى عنهم فقال لابنه : كيف رأيتهم؟ فأنشأ يقول :

نظروا إليك بأعين محمّرة

نظر التيوس إلى شفار الجازر

قال : زدني فداك أبوك يا بني ، فأنشأ يقول :

خزر الحواجب ناكسوا أذقانهم

نظر الذليل إلى العزيز القاهر

قال : زدني فداك أبوك ، قال : ما أجد مزيداً قال : لكني أجد :

أحياؤهم عار على أمواتهم

والميّتون فضيحة للغابر »

أقول : يوجد بين مرويات المصادر لهذه الواقعة تفاوت غير قليل ، سنأتي على ذكره في الحلقة الثالثة إن شاء الله ، ولعل أهمّ ما وجدته في بعض المصادر المتأخرة تعيين هوية النفر الّذين كانوا يسبّون الإمام وأنّهم من بني أمية.

وعندي لا استبعاد في ذلك وإن لم يرد في المصادر التاريخية الأولى ، كما لا استبعاد أيضاً أن يكون أولئك التسعة رهط الّذين تقدم حديثهم أيضاً منهم ، والّذي لا شك فيه إنّهم إن لم يكونوا من بني أمية نسباً فهم منهم ذَنَبا.

وستأتي بصورة أوسع ممّا هنا في زيادة الأبيات (١).

____________________

(١) نقلاً عن منتخب الطريحي / ١٥٧ ـ ١٥٨ ط الحيدرية الثالثة سنة ١٣٦٩ هـ ـ ١٩٥٩ م.

٧٢

٣ ـ لقد سبقت لعليّ سوابق :

روى العاصمي في زين الفتى (١) ، وروى فرات بن إبراهيم في تفسيره عن ميمون بن مهران قال : « كنت مع عبد الله بن عباس في الطواف ، فإذا هو بشاب متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عليّ بن أبي طالب ، وممّا أحدث في الإسلام.

فقال لي ابن عباس : ادع لي ذلك الشاب. قال : فدعوته إليه ، فجاء فجلس عن يمين ابن عباس.

فقال له ابن عباس : من أنت؟ وما أسمك؟ قال : أنا زمعة بن خارجة الخارجي.

قال : فقال له ابن عباس : يا زمعة وما أحدث عليّ في الإسلام؟ قال : إنّه قتل المسلمين يوم الجمل وصفين.

فقال له ابن عباس : إّنك لغبيّ الرأي مخذول الرأس ، إن عليّ بن أبي طالب شهر سيفه على من خرج على الأمة وقاتل الأئمة ، لو لم يكن لعلي إلاّ أربع خصال كانت له سوابق فوالله لقد سبقت لعليّ سوابق لو قسمت واحدة منهنّ على جميع الخلائق ( أهل الأرض ) لوسعتهم.

قال الرجل : وما هي يا بن عباس أعددها على لأتوب إليك ، إخبرني بواحدة منهن.

قال : أمّا أولاهن أنّه كان أوّل الناس إسلاماً ، فانّه صلّى مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) القبلتين وهاجر معه ، ولم يعبد صنماً قط ، ولم يشرب خمراً.

قال : يا بن عباس زدني فإني تائب.

____________________

(١) زين الفتى / ٤٣ مخطوطة مكتبة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) العامة.

٧٣

قال : والثانية : إنّه كان يسمع حسّ جبرئيل على محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالوحي دوننا.

والثالثة : لمّا أراد الله أن يزوّج كريمته فاطمة من عليّ أمر الحور العين أنّ يتزيّنَّ وأمر طوبى أن تنثر فنثرت الدرّ مثل القِلال ، فكنّ يلقطن وهن يتهادين إلى يوم القيامة ، ويقلن هذه هدايا فاطمة بنت محمّد.

قال : ولمّا فتح النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مكة دخلها فإذا هو بصنم لخزاعة على الكعبة يُعبد من دون الله ، فقال النبيّ لعليّ : يا عليّ انطلق بنا حتى نكسر صنم بني خزاعة ـ وكان لبني خزاعة صنم عند الميزاب ـ فانطلقا فلمّا انتهيا إليه ، فقال عليّ ( عليه السلام ) للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أطمئن لك فترقى عليّ ، ثمّ انحنى عليّ وقال : ارق يا رسول الله ، فوضع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رجله على كتف عليّ فكاد عليّ يتكسر فاستغاث بالنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقال : ألا تأنّ يا رسول الله فقد كادت أعضائي يختلف بعضها في بعض ، فرفع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رجله عن كتف عليّ وقال : يا عليّ ذلك ثقل النبوة ، لو أنّ أمتي اطمأنوا لي لم يُعلوني لموضع الوحي ، ثمّ قال : ولكن أطمئن لك فترقى عليّ ، فاطمأن له فرقى عليٌ وكان طول الكعبة أربعين ذراعاً فقال له النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : يا عليّ هل وصلت؟ قال : يا رسول الله لو أردت أن أمس السماء لمسستها ، فأخذ الصنم فضرب به الصفا فصار إرباً إربا ثمّ وثب إلى الأرض وهو ضاحك ، فقال له ما أضحكك يا عليّ؟ قال : عجبت لسقطتي ولم أجد لها ألما ، قال : وكيف تألم منها ، وإنّما حملك محمّد وأنزلك جبرئيل.

قال : فتاب زمعة الخارجي ووالى عليّاً ( عليه السلام ).

قال محمّد بن حرب ـ أحد رواة الخبر ـ وزادني فيه إبراهيم بن محمّد التميمي عن عبد الله بن داود عنه ـ ميمون بن مهران ـ انّه قال : قال عليّ : لقد رفعني رسول الله يومئذ ، ولو شئت أن أنال السماء لنلتها.

٧٤

قال فقال الرجل لابن عباس زدني فإنّي تائب.

قال : أخذ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيدي ويد عليّ بن أبي طالب فانتهى إلى سفح الجبل ، فرفع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يده فقال : اللّهمّ اجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدد به أزري.

فقال ابن عباس للرجل : ولقد سمعت منادياً ينادي من السماء : لقد أعطيت سؤلك يا محمّد. قال النبيّ لعلي : ادع فقال عليّ ( عليه السلام ) : اللّهمّ اجعل لي عندك عهداً ، اللّهمّ اجعل لي عندك ودّا. فأنزل الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) (١) » (٢).

٤ ـ فرّجت عني :

روى البيهقي في المحاسن والمساوي (٣) ، والقاضي نعمان في كتاب الهمة في آداب أتباع الأئمة (٤) ، وابن شاذان في الفضائل (٥) ، وابن طاووس في اليقين (٦) ، قالوا :

« كان عبد الله بن عباس بمكة يحدّث الناس على شفير زمزم ونحن عنده ، فلمّا قضى حديثه قام إليه رجل من الملأ.

فقال : يا بن عباس إنّي امرؤ من أهل الشام. فقال : أعوان كلّ ظالم إلاّ من عصمهم الله منهم ، فسل عمّا بدا لك.

____________________

(١) مريم / ٩٦.

(٢) تفسير فرات / ٩٠.

(٣) المحاسن والمساوي ١ / ٣٠.

(٤) الهمة في آداب اتباع الأئمة / ٧٥.

(٥) الفضائل / ١٦٠.

(٦) اليقين / ١٠٦ و ١٢٩.

٧٥

قال : يا بن عباس إنّي رجل من أهل حمص إنّهم يتبرأون من عليّ بن أبي طالب ويلعنونه.

فقال ابن عباس : بل لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهينا ، أَلِبُعد قرابته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )؟ أو أنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين إيماناً بالله ورسوله ، وأوّل من صلّى وركع وعمل بإعمال البرّ؟

فقال الشامي : انّهم والله ما ينكرون قرابته وسابقته ، غير أنّهم يزعمون أنّه قتل الناس ، وإنّما جئتك لأسألك عن عليّ وقتاله أهل لا إله إلاّ الله ، لم يكفروا بقبلة ولا قرآن ولا بحج ولا بصيام رمضان.

فقال ابن عباس : ثكلتك أمك سل عمّا يعنيك ولا تسل عمّا لا يعنيك.

فقال : يا بن عباس ما جئت أضرب إليك من حمص لحج ولا لعمرة ، ولكني جئتك لأسألك لتشرح لي من أمر عليّ وقتاله أهل لا إله إلاّ الله.

فقال ابن عباس : ثكلتكم أمهاتكم إنّ عليّاً أعرف بالله ( عزّ وجلّ ) وبرسوله وبحكمهما منكم ، فلم يقتل إلاّ من استحق.

قال يا بن عباس : إنّ قومي جمعوا لي نفقة وأنا رسولهم إليك ، وأمينهم ولا يسعك أن تردني بغير حاجتي فإن القوم هالكون في أمره ففرّج عنهم فرّج الله عنك.

فقال ابن عباس : ويحك إنّ علم العالم صعب ولا يحتمل ولا تقبله القلوب إلاّ قلب من عصمه الله ، ولا تقرّبه قلوب أكثر الناس. يا أخا أهل الشام إنّما مثل عليّ في هذه الأمة في فضله وعلمه كمثل موسى والعالم ، وذلك ان الله تبارك

٧٦

وتعالى يقول في كتابه : ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ ) (١).

قال : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (٢).

فكان موسى يرى أنّ جميع الأشياء قد أثبتت له كما ترون أنتم أنّ علماءكم أثبتوا لكم جميع الأشياء ، فلمّا انتهى موسى إلى ساحل البحر لقي العالِم فاستنطقه ، فأقرّ له بفضل علمه ، ولم يحسده كما حسدتم أنتم عليّاً في علمه ، فقال له موسى : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) (٣) فعلم العالم أنّ موسى لا يطيق صحبته ولا يصبر على علمه ، فقال له العالم : ( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) (٤) قال موسى وهو يعتذر : ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) (٥) فعلم أنّ موسى لم يصبر على علمه فقال له : ( فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ) (٦) وكان خرقها لله ( عزّ وجلّ ) رضىً ولأهلها صلاحاً. وكان عند موسى ( عليه السلام ) سخطاً وفساداً ، فلم يصبر ( عليه السلام ) وترك ما ضمن له فقال : ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) (٧) فكفّ عنه العالم ( فَانطَلَقَا

____________________

(١) الأعراف / ١٤٤.

(٢) الأعراف / ١٤٥.

(٣) الكهف / ٦٦.

(٤) الكهف / ٦٧ ـ ٦٨.

(٥) الكهف / ٦٩.

(٦) الكهف / ٧٠ ـ ٧١.

(٧) الكهف / ٧١.

٧٧

حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ ) (١) وكان قتله لله ( عزّ وجلّ ) رضىً ولأبويه صلاحاً ، وكان عند موسى ( عليه السلام ) ذنباً عظيماً ، قال موسى ولم يصبر : ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) (٢) قال العالم : ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ) (٣) قال : ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) (٤) ، ( فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ) (٥) وكانت إقامته لله ( عزّ وجلّ ) رضىً وللعالمين صلاحاً ، فقال : ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) (٦) ، ( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) (٧) ، وكان العالم أعلم بما يأتي من موسى ( عليه السلام ) وكبر على موسى الحقّ وعظم إذ لم يكن يعرفه ، هذا وهو نبيّ مرسل من أولى العزم ممّن قد أخذ الله ( عزّ وجلّ ) ميثاقه على النبوة ، فكيف أنت يا أخا أهل الشام وأصحابك؟

إنّ عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) لم يقتل إلاّ من كان يستحل قتله ولله رضىً ولأهل الجهالة من الناس سخطاً. إجلس أخبرك الّذي سمعته من رسول الله وعاينته. أخبرك إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تزوج زينب بنت جحش فأولم ، وكانت في وليمته الحبشة ، فكان يدعو عشرة عشرة من المؤمنين فكانوا إذا أصابوا طعام النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) استأنسوا لحديثه واشتهوا النظر إلى وجهه ، وكان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يشتهي

____________________

(١) الكهف / ٧٤.

(٢) الكهف / ٧٤.

(٣) الكهف / ٧٥.

(٤) الكهف / ٧٦.

(٥) الكهف / ٧٧.

(٦) الكهف / ٧٧.

(٧) الكهف / ٧٨.

٧٨

أن يخففوا عنه فيخلوا له المنزل ، لأنّه كان حديث عهد بعرس ، وكان محباً لزينب وكان يكره أذى المؤمنين فأنزل الله تبارك وتعالى فيه قرآناً قوله ( عزّ وجلّ ) : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) (١) الآية ، فكانوا إذا أصابوا طعاماً لم يلبثوا أن يخرجوا ...

قال : فمكث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ثلاثة أيام ولياليهن ثمّ تحوّل إلى أم سلمة بنت أبي أمية وكانت ليلتها من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وصبيحة يومها ، فلمّا تعالى النهار انتهى عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى الباب يريد الدخول على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فنقر نقراً خفيّاً ، فعرف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نقره فقال : يا أم سلمة قومي فافتحي الباب ، فقالت يا رسول الله مَن هذا الّذي يبلغ خطره أن أفتح له الباب وقد نزل فينا بالأمس حيث يقول : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) (٢) من هذا الّذي يبلغ من خطره أن استقبله بمحاسني ومعاصمي؟

فقال لها نبيّ الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كهيئة المغضب يا أم سلمة إن طاعتي طاعة الله ، الله ( عزّ وجلّ ) قال : ( مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (٣) قومي يا أم سلمة وافتحي له الباب ، فإنّ بالباب رجلاً ليس بالخرق ولا النزق ولا بالعجل في أمره ، يحب الله ورسوله. يا أم سلمة انّه آخذ بعضادتي الباب إن تفتحي له الباب فليس بفاتحه حتى تتواري ولا

____________________

(١) الأحزاب / ٥٣.

(٢) الأحزاب / ٥٣.

(٣) النساء / ٨.

٧٩

داخل البيت حتى يخفى عليه الوطء ان شاء الله ، فقامت أم سلمة وهي لا تدري من بالباب غير أنّها قد حفظت المدح فمشت نحو الباب وهي تقول : بخ بخ لرجل يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ففتحت ، وأمسك عليّ بعضادتي الباب فلم يزل قائماً حتى غاب عنه الوطء ، ودخلت أم سلمة خدرها ففتح الباب ودخل فسلّم على النبيّ فردّ عليه السلام وقال : يا أم سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت نعم فهنيئاً له هذا عليّ بن أبي طالب.

فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : نعم صدقت هو عليّ سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي ، وهو مني بمنزلة هرون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي ، يا أم سلمة إسمعي واشهدي هذا عليّ سيّد مبجّل مؤمل المسلمين وأمير المؤمنين ، وموضع سري وعيبة علمي ، وبابي الّذي أؤتى منه يؤى إليه ، وهو الوصي على الأموات من أهل بيتي ، والخليفة على الأحياء من أمتي ، وهو أخي في الدنيا والآخرة ، وهو معي في السنام الأعلى ، إشهدي يا أم سلمة إن عليّاً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

قال ابن عباس : وقتلهم لله رضىً وللأمة صلاح ولأهل الضلالة سخط.

قال الشامي : يا بن عباس مَن الناكثون؟ قال : الّذين بايعوا عليّاً بالمدينة ثمّ نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل ، والقاسطون معاوية وأصحابه ، والمارقون أهل النهروان ومن معهم.

فقال الشامي : يا بن عباس ملأت صدري نوراً وحكمة ، وفرّجت عني فرّج الله عنك ، وأشهد أنّ عليّاً ( رضي الله عنه ) مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ».

٨٠