موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

وحده ، وهذا ما لمسناه في صَلاته وصِلاته ، وفي أسرته وفي أمّته ، وذلك هو منهج الإسلام الّذي كان هو أحد سدنته ، وحاملي رسالته.

ونعود إلى ذكر الشواهد الّتي ألمحنا إليها وانّها قد تغاير ما يألفه الناس ، فمثلاً عندما نصفه بالزهد ، وقد عرف الناس الزاهد مَن كان معرضاً عن الدنيا ولذائذها وطيبات الحياة ، واكتفى بلبس المسوح والصوف ، بينما كان ابن عباس يلبس الرداء وقد اشتراه بألف (١). فأين منه الزهد الّذي يعرفه الناس؟ لكننا إذا تأمّلنا قوله : « لأن أرقّع ثوباً فألبسه فيرفعني عند الله أحبّ إليَّ من أن ألبس ثياباً تضعني عند الخالق وترفعني عند المخلوقين » (٢). فالميزان عنده ليس هو لبس الثياب ، بل هو الرفعة عند الله تعالى لينال بها الثواب ، وهنا أدركنا معنى الزهد الحقيقي الّذي كان يعمر قلبه.

ونزداد إيماناً بذلك حين نقرأ قوله الآخر : « كلّ ما شئت وألبس ما شئت إذا ما أخطأك اثنتان إسراف ومخيلة » (٣).

وقوله الثالث : « ثلاث من كنّ فيه فقد استحق ولاية الله ، حلم أصيل يدفع به سفه السفيه ، وورع يمنعه عن المعاصي ، وحسن خلق يداري به الناس » (٤).

وقوله الرابع : « من لم تكن فيه ثلاث خصال فلا توافه : ورع يحجزه عن معاصي الله ، وحلم يطرد به فحشه ، وخلق يعيش به » (٥).

____________________

(١) أنظر العقد الفريد ١ / ٣٢٨ ، وربيع الأبرار باب اللباس والحلي.

(٢) أنظر اللمع في التصوف / ١٣٦.

(٣) أنظر عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ / ٢٩٦ ، ربيع الأبرار للزمخشري باب اللباس والحلى ، محاضرات الراغب ١ / ٣٠٠ و ٢ / ١٥٦.

(٤) أنظر نزهة المجالس للصفوري ١ / ١٧٥ ط مصر.

(٥) أنظر المجتنى لابن دريد / ٦٤ ط حيدر آباد.

٤٤١

وهذا جميعه يلقي الضوء على منهجه المستقيم في الحياة.

وما أبلغ كلمته في الغيرية القائمة على مبادئ الإسلام القيمة حين يقول لرجل وقد سبّه : « أتسبّني وفيَّ ثلاث خصال » وقد مرّت في أوّل شواهد سلوكه مع الناس ، كما أنّه ليس دونها قوله : « لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله ، أحبّ إليَّ من حجة بعد حجة ، ولطبق بدانق أهديه إلى أخ لي في الله ( عزّ وجلّ ) أحبّ إليَّ من دينار أنفقه في سبيل الله ( عزّ وجلّ ) » (١).

ونكتفي بهذه الشواهد للتدليل على سلوكيته في نفسه ومع غيره ، وأنّها قائمة على مبادئ الإسلام ، وأخرى لم نأتِ عنه بفلسفة جدلية يصعب فهمها ، إنّما الّذي ذكرناه يندر ويصعب وجدانه عند الكثير من الناس.

ولو تدبرنا كلمته في أساس الدين ، عرفنا مبلغ علمه وكمال عقله ومنتهى بصيرته في سلوكه ، فقد قال : « أساس الدين على العقل ، وفرضت الفرائض على العقل ، وربّنا يعرف بالعقل ، ويتوسّل إليه بالعقل ، والعاقل أقرب إلى ربّه من جميع المجتهدين بغير عقل ، ولمثقال ذرّة من برّ العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام » (٢).

أمّا إذا أردنا الإلمام بملامح دالة على ورعه وتقواه وانحاء عبادته فعلينا أن نقرأ أوّلاً بعض أقوال معاصريه ومنهم بعض تلامذته الّذين هم أكثر الناس إحاطة وخبرة بأحواله في سفره وحضره.

١ ـ عن ابن أبي مليكة قال : « صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة ، وكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتّل القرآن

____________________

(١) أنظر حلية الأولياء لأبي نعيم ١ / ٣٢٨ ، وصفوة الصفوة ١ / ٣١٨.

(٢) روضة الواعظين للفتال / ٩.

٤٤٢

يقرأ حرفاً حرفاً ، ويكثر في ذلك النشيج والنحيب ، ويقرأ ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (١) » (٢). وجاء نحو ذلك عن طاووس كما في التذكار للقرطبي.

٢ ـ قال طاووس اليماني : « ما رأيت أحداً كان أشدّ تعظيماً لحرمات الله تعالى من ابن عباس ، والله لو أشاء إذا ذكرته أن أبكي لبكيت » (٣).

٣ ـ قال أبو رجاء العطاردي : « رأيت ابن عباس وأسفل عينيه مثل الشراك البالي من البكاء » (٤).

وقال مرّة : « كان في وجه ابن عباس خطان من أثر الدموع » (٥).

٤ ـ قيل للحسن ـ البصري ـ يا أبا سعيد إنّ قوماً زعموا أنّك تذم ابن عباس ، فبكى حتى أخضلّت لحيته ثمّ قال : « إنّ ابن عباس كان من الإسلام بمكان ، ان ابن عباس كان من القرآن بمكان ، وكان والله له لسان سؤول وقلب عقول ، وكان والله مثجاً يسيل غربا » (٦).

٥ ـ ذكر أبو الجوزاء عن ابن عباس صلاة التسبيح وقال : « انّه لم يكن يدع هذه الصلاة كلّ يوم جمعة بعد الزوال وأخبر بفضلها ما يجل عنه الوصف ».

____________________

(١) ق / ١٩.

(٢) شعب الإيمان للبيهقي ١ / ورقة ٢٩ أ نسخة مصورة ميكروفيلم بمكتبتي ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ٢٣٦ ، والتذكار للقرطبي / ١٤١.

(٣) المعرفة والتاريخ للفسوي ١ / ٥٤٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٣٦.

(٥) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ / ٢٩٥.

(٦) البيان والتبيين للجاحظ ١ / ٨٥ تح ـ هارون ، ولسان العرب ( ثج غرب ) وفيه كان من العلم بمكان.

٤٤٣

وروي عن عطاء : « أنّ رجلاً دخل على ابن عباس وبين يديه المصحف وهو يبكي وقد أتى على هذه الآية إلى آخرها : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (١).

فقال ابن عباس : قد علمت أنّ الله أهلك الّذين أخذوا الحيتان وأنجى الّذين نهوهم ، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوهم ولم يواقعوا المعصية ، وهي حالنا » (٢).

أمّا الحديث عن أنحاء عباداته فمن نافلة القول الإسهاب فيه ، وحسبنا ما مرّ من عكوفه على التهجّد ليلاً بالصلاة وتلاوة القرآن.

ولا ننسى قوله : « ركعتان مقتصدتان خير من قيام ليلة والقلب ساه » (٣). وفي عوارف السهروردي : « ركعتان في تفكر خير من قيام ليلة » (٤).

وقوله : « لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام » (٥).

كما لا ننسى قوله في تلاوة القرآن : « لأن أقرأ البقرة وآل عمران في ليلة أرتّلهما وأتدبّرهما وأتفكر فيهما أحبّ إليَّ من أن اقرأ القرآن كلّه هذرمة » هكذا ورد اللفظ في ربيع الأبرار (٦) ، وصفوة الصفوة (٧) ، وشرح النهج للمعتزلي (٨) ،

____________________

(١) الأعراف / ١٦٥.

(٢) التبيان للطوسي ٥ / ١٩.

(٣) رواه ابن أبي الدنيا في التفكر نقلاً عن موسوعة آثار الصحابة ٣ / ٤٨ ، والغزالي في الإحياء ٣ / ٢١٤ و ٤ / ٣٦٤.

(٤) أتحاف السادة المتقين ٣ / ٤٤.

(٥) منهاج العابدين للغزالي / ٣٥ ط مصر سنة ١٣٢٧ ، وطبقات الشعراني ١ / ٢٢.

(٦) ربيع الأبرار باب الدين وما يتعلّق به ( نسخة الرضوية ونسخة السماوي ).

(٧) صفوة الصفوة ١ / ٣١٧.

(٨) شرح النهج للمعتزلي ٢ / ٤٧٧.

٤٤٤

والمستظرف للأبشيهي (١). إلاّ أنّ عبد الرزاق في المصنف بلفظ : « لأن أقرأ البقرة وأرتلها أحبّ إليَّ من أن أهذّ القرآن كلّه » (٢).

ومهما يكن اللفظ فقد دلّ على التزام في أدب التلاوة ، وترغيب في أدب التعليم للآخرين ، وهو في هذا كان نموذجاً فذّاً ، حيث كان من رأيه على حد قوله : « تذاكر العلم بعض ليلة أحبّ إليَّ من إحيائها » ، وعقب على هذا القول منه ابن القيّم فقال : « وفي مسائل إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل قوله : تذاكر العلم بعض ليلة الخ أيّ علم أراد؟

قال : هو العلم الّذي ينتفع به الناس في أمر دينهم ، قلت : في الوضوء والصلاة والصوم والحج والطلاق ونحوها؟

قال : نعم. وقال لي إسحاق بن راهويه هو كما قال أحمد » (٣).

وأتاه رجل فقال يا بن عباس كيف صومك؟ قال أصوم الإثنين والخميس ، قال : ولم؟ قال : لأنّ الأعمال ترفع فيها وأحبّ أن يرفع عملي وأنا صائم (٤).

وروى البيهقي في شعب الإيمان خبر اعتكافه في المسجد النبوي الشريف وإنّ رجلاً أتاه في حاجة فخرج معه لقضائها ، ثمّ روى ما دلّ على فضل قضاء الحاجة على فضل الأعتكاف ، وذكر في ذلك حديثاً عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ودمعت عيناه عند ذكر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) (٥). وسوف نذكر الخبر بتمامه في الحلقة الثالثة في فقهه إن شاء الله.

____________________

(١) المستظرف للأبشيهي ١ / ١٨.

(٢) المصنف لعبد الرزاق ٢ / ٤٨٩.

(٣) أتحاف السادة المتقين للزبيدي ١ / ١٣٨ ط دار الكتب العلمية بيروت.

(٤) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٣٦.

(٥) شعب الإيمان ٢ / ورقة ٢٩ أ نسخة مصورة ( ميكروفلم ) بمكتبتي.

٤٤٥

إلاّ أنا سنذكره الآن برواية أبي نعيم في كتابه ذكر أخبار اصبهان : فقد روى بسنده عن عطاء عن ابن عباس أنّه كان معتكفاً ودخل عليه رجل فسلّم عليه ، فقال له ابن عباس : أراك حزيناً كئيباً؟ قال : نعم يا بن عم رسول الله ، لفلان عليَّ حقّ ، لا وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه. قال : أولا اُكلّمه لك؟ قال : إن أحببت ، قال : فانتعل ابن عباس وخرج من المسجد ، وقال له الرجل : أنسيت ما كنتَ فيه؟ قال : لا ولكن سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب ـ يقول : ( من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان أفضل من اعتكاف عشر سنين ، ومن اعتكف ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد ممّا بين الخافقين ) (١).

كما روى البيهقي أيضاً في شعب الإيمان عن محمّد بن عطاء قال : « دخل ابن عباس حجرة خالته ميمونة بعد الجمعة فجاء سائل فقام على الباب فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته وصلواته ومغفرته ، فقال ابن عباس : انتهوا بالتحية إلى ما قال الله ( عزّ وجلّ ) : ( و ) ( رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ) (٢).

ثمّ قال ابن عباس : ما آسي على شيء فاتني من الدنيا إلاّ أني لم أحج ماشياً حتى أدركني الكبر ، أسمع الله تعالى يقول : ( يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ) (٣) » (٤).

وقد أخرج الطبراني في معجمه عنه قوله لبنيه : « يا بني أخرجوا من مكة حاجين مشاة فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( إنّ

____________________

(١) ذكر أخبار اصبهان لأبي نعيم ٢ / ٨٩ ط أفست عن ليدن.

(٢) هود / ٧٣.

(٣) الحج / ٢٧.

(٤) شعب الإيمان ٢ / ورقة ٣٠ / أ.

٤٤٦

للحاج الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة ، والماشي بكلّ خطوة سبعمائة حسنة ) » (١).

ما روي عنه من الدعاء وآدابه :

لقد روي عنه في هذا الباب كثيراً مرفوعاً عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ونجد بعض ذلك روي موقوفاً ، وفي نظري القاصر أنّه في هذا هو أيضاً بحكم الرفع لأنّه من أين تلقّاه؟ ومن الّذي ربّاه؟ أليس قد مرّت بنا في الجزء الأوّل شواهد اختصاصه بمدينة العلم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ثمّ من بعد بباب مدينة علمه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فحمل عنهما ما وسعه فهمه ، ففاض بذلك علمه ، إذن لا مشاحّة لو رأينا بعض الموقوف في مصدر مرفوعاً في مصدر آخر.

نعم هناك مرويات عنه ظاهرة الوقف نحو قوله في هذا المجال : « كان رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم إذا دعا جعل باطن كفه إلى وجهه » (٢) ، وقوله : « إياك والسجع في الدعاء فإني شهدت النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وأصحابه لا يفعلون ذلك » (٣).

أو مرفوعة متبوعة منه بقول نحو قوله : « كان النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم إذا نظر في المرآة يقول : ( الحمد لله ربّ العالمين الّذي خلقني وسوّى خلقي وجعلني بشراً سويّا ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ).

قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : فما تركتها منذ سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم. ثمّ قال : لا يمسّ وجه من قالها سوءٌ أبداً » (٤) ، إلى غير ذلك.

____________________

(١) المعجم الكبير ١٢ / ٩ ط الموصل.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ١١ / ٣٤٤ ط الموصل.

(٣) نهاية الإرب للنويري ٥ / ٢٨٥ ط دار الكتب بمصر.

(٤) نفس المصدر ٥ / ٣١٤.

٤٤٧

ومن شواهد ما روي عنه موقوفاً في مصدر كما روي عنه مرفوعاً في مصدر آخر ما ورد في كيفية الدعاء ، حيث روي موقوفاً بلفظ عند ابن قتيبة عنه ، قال : « الإخلاص هكذا : وبسط يده اليمنى وأشار بإصبعه من يده اليسرى.

والدعاء هكذا : وأشار براحتيه إلى السماء.

والإبتهال هكذا : ورفع يديه فوق رأسه ظهورها إلى وجهه » (١).

ورواه ابن عبد ربه أيضاً باستبدال اليمنى باليسرى وبالعكس في المقامين موقوفاً (٢) غير أنّ النويري ذكر ذلك عنه مرفوعاً فقال : « وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم قال : الإخلاص هكذا ورفع اصبعاً واحداً من اليمنى ، والدعاء هكذا وجعل بطونهما ممّا يلي السماء ، والابتهال هكذا ومدّ يديه شيئاً وجعل ظهر الكف ممّا يلي السماء » (٣).

وممّا روي عنه مرفوعاً وموقوفاً الدعاء الّذي رواه عنه سعيد بن جبير ، وأخرجه الطبراني في معجمه بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : « إذا أتيت سلطاناً مهيباً تخاف أن يسطو بك فقل : الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعاً ، الله أعزّ ممّا أخاف وأحذر ، أعوذ بالله الّذي لا إله إلاّ هو الممسك السماوات السبع أن تقعن على الأرض إلاّ بإذنه ، من شرّ عبدك ـ فلان ـ وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والأنس ، إلهي كن لي جاراً من شرّهم ، جلّ ثناؤك ، وعزّ

____________________

(١) عيون الأخبار ٢ / ٢٨٣ ط دار الكتب بمصر.

(٢) العقد الفريد ٣ / ٢٢١ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

(٣) نهاية الارب ٥ / ٨٤ ط دار الكتب بمصر ، ورويت الكيفية عنه بلفظ آخر في نزهة المجالس للصفوري ١ / ١٥٢ و ٢ / ٤٣ ( إذا أشار أحدكم باصبع واحدة فهي الإخلاص في الدعاء ، وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء ، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظهرهما ممّا يلي وجهه فهو الابتهال ).

٤٤٨

جارك ، وتبارك اسمك ، ولا إله غيرك. ثلاث مرات » (١). وهذا ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال : « ورجاله رجال الصحيح » (٢).

كما رواه أبو نعيم في حليته بتفاوت يسير (٣). ورواه الشعراني في لواقح الأنوار القدسية (٤) ، وكلّ هؤلاء رووه موقوفاً. إلاّ أنّ النويري رواه عنه مرفوعاً (٥). ولا ضير.

وممّا روي عنه من الدعاء موقوفاً ما أخرجه الطبراني في معجمه بسنده عن سعيد ابن جبير قال : « كان ابن عباس يقول : اللّهمّ إنّي أسألك بنور وجهك الّذي أشرقت له السماوات والأرض أن تجعلني في حرزك وحفظك وجوارك وتحت كنفك » (٦). ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال : « رواه البزار ورجاله رجال الصحيح » (٧).

وكان من الدعاء الّذي لم يدعه ما سمعه من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو قوله : ( اللّهمّ قنعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف عليّ كلّ غائبة لي بخير ) (٨).

ومن أدعيته ما رواه السيّد ابن طاووس في كتابه التشريف بالمنن نقلاً عن كتاب زكريا بن يحيى بن الحارث البزاز ، فقال : « روى باسناده عن ابن عباس قال : من نزل به غمّ أو همّ أو كرب ، أو خاف من سلطان ظلماً فدعا بهذه الدعوات استجيب له ، قال : يقول : أسألك بلا إله إلاّ أنت ربّ السماوات السبع

____________________

(١) المعجم الكبير للطبراني ١٠ / ٢٥٨ ط الموصل.

(٢) مجمع الزوائد ١٠ / ١٣٧ ط القدسي.

(٣) الحلية ١ / ٣٢٢.

(٤) لواقح الأنوار القدسية / ٣٨٨ ط البابي الحلبي سنة ١٣٨١ هـ.

(٥) نهاية الإرب ٥ / ٣١٩.

(٦) المعجم الكبير للطبراني ١٠ / ٢٥٩.

(٧) مجمع الزوائد ١٠ / ١٨٤.

(٨) تاريخ جرجان السهمي / ٦٣ ط أفست أوربا.

٤٤٩

وربّ العرش العظيم ، وأسألك بلا إله إلاّ أنت ربّ العرش الكريم ، وأسألك بلا إله إلاّ أنت ربّ السماوات السبع وما فيهن إنّك على كلّ شيء قدير. ثمّ تسأل حاجتك » (١). وهذا أخرجه أحمد في مسنده وفيه : « انّه يقول أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعو بهذه الدعوات عند الكرب » (٢) ، وقد أخرجه مكرراً مرفوعاً وموقوفاً وفيه تفاوت وفي بعضه ( وربّ الأرض ) (٣).

ومرّ بنا دعاء علّمه له الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليلة صفين ـ الهرير ـ. إلى غير ذلك من الأدعية الّتي رواها عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، روى في فضلها الكثير ممّا سمعه ، ولعل دعاء التسبيح الّذي أخرجه السيّد ابن طاووس في مهج الدعوات (٤) من مهمات تلك الأدعية ، حريّ بأن يُرغب المؤمن في طلبه ولولا طوله لذكرته. كما انّ روايته لدعاء الإمام كتبه لليماني المروي في مهج الدعوات أيضاً وكتابته له ما يشعر بالتزامه به ، فليراجع.

وقد مرّ بنا في حياته بالبصرة أيام ولايته ( ٣ / ٢٣٧ ) عن طاووس انّه كان يعلمهم الدعاء كما يعلّمهم السورة من القرآن ...

وذكر الشيخ النجاشي في رجاله في ترجمة عبد العزيز بن يحيى الجلودي الأزدي البصري ، من جملة كتبه ممّا يخص ابن عباس بروايته عنه منها : كتاب قوله ـ أي ابن عباس ـ في الدعاء والعَوذ وذكر الخير وفضل ثواب الأعمال والطب والنجوم (٥).

____________________

(١) التشريف بالمنن / ٣٤٩ ط مؤسسة صاحب الأمر ( عج ).

(٢) مسند أحمد ٤ / ٨١.

(٣) المصدر نفسه ( مسند ابن عباس ).

(٤) مهج الدعوات / ٨٢ ـ٨٣.

(٥) رجال النجاشي / ١٦٩ ط بمبئ.

٤٥٠

وحسبنا بهذا في الحديث عن ملمح ربانيته في السلوك.

أمّا الحديث عن ملامح شخصيته السياسية في الحزم والحكم فقد تقدم عنها ما يغني في تاريخه ج ٣ أيام ولايته على البصرة.

وأمّا عن ملامح شخصيته الثقافية في العلم والمعرفة ، فقد مرّ بعض الشواهد عليها ويأتي استيفاء ذلك في الحلقتين الثانية والثالثة ان شاء الله تعالى.

ولنقف هنا مكتفين بما عرضناه ، تاركين لأشتات من أخباره ، ليس في ذكرها كثير إفادة ، وإن جمعت منها الكثير ممّا وصلت إليه يدي من صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة ، وصبرت طويلاً وكثيراً على معاناة ذلك الجمع ، إلاّ انّي في ذكرها برمتها قد أكون متجاوزاً في ذلك حدود المألوف في مناهج الباحثين ، وفيما ورد في أجزاء هذه الحلقة الأولى ما يغني عن ذكر جميع تلك الأخبار ، ولا أرى في تركها بأساً ما دامت قناعتي الشخصية رهن إيماني بأني نصرت مظلوماً فيما حبّرته في هذه الأجزاء الخمسة من تاريخ حبر الأمة وترجمان القرآن بما فيه الكفاية.

وسوف نستأنف مسيرتنا مع حبر الأمة من خلال الحلقات الثلاث إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين الّذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والصلاة والسلام على أشرف أنبياء الله ، وأوصيائه حجج الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

ولنختم الحلقة الأولى من موسوعة حبر الأمة وترجمان القرآن ، بما جاشت به القريحة ، من أبيات تعرب عن نفس جريحة ، عاشت الآلام حتى من المتردية والنطيحة نسأل المولى جلّ اسمه ، أن يتفضل علينا بلطفه لإكمال بقية الحلقات

٤٥١

الثلاث ، عسى أن يُنتفع بها في كشف البُهمة عن تاريخ حبر الأمة ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تم تحريره وتبييضه بيد مؤلفه الفقير إلى ربه الغني ، المعترف بالتقصير والعصيان محمّد مهدي السيّد حسن الموسوي الخرسان عفي عنه يوم الخميس السابع عشر من ٥ سنة ١٤٢٤ هـ حامداً مصلياً.

بسمه تعالى شأنه

آيات فضلك :

آيات فضلك كلّها عنوان

مهما أنتقيتُ فإنّه البرهان

فبليغ نطقك دونه سحبان

وحديث زهدك كلّه إيمان

وعلو كعبك دونه الكيوان

فشذت صفاتك كلّها ريحان

من أين أبدأ في حديثي كلما

خايرتها يتميّزُ القرآن

* * *

تلك الحقيقة قد بدت مزهوة

كالشمس واضحة لديّ عيان

يا حافظاً دون البلوغ لمحكم

ومفسّراً فيما أتى التبيان

يا ترجمان الوحي أنت وعيته

حفظاً ومعنى واستبان لسان

يا حبر أمتنا بنعتٍ صادق

هل يُنكرنْ نور الذَكا إنسان

يا بحر علمٍ قد أفضتَ معارفاً

زخرتْ بطوفان الهدى الوديان

فلأنتَ ربانيّ أمة أحمد

فيما حُبيتَ شهيدُك الفرقان

٤٥٢

 

يُفني البِلا جسداً ويبقى بعده

للمرء ذكرٌ ما أتت أزمان

يحيى بذكر الخالدات لدى الورى

تُروى ليَحيى ذكرَها الإنسان

يا راسخاً في العلم زيّنه التقى

علماً وحلماً زانك الإيمان

فاهنأ أبا العباس يزجيك الثَنا

صوراً صحاحاً دونها البرهان

أخلاقك الغراء شعّت رفعة

أنوار علمك زَيتها القرآن

إيهاً أبا العباس هذي مدحتي

مني الفخار ومنكمُ الإحسان

* * *

يا ناهلاً للعلم من صفو الهدى

بمدينة وببابها تزدان

فقتَ الصحابَ بما سمعتَ وعيتَه

لم تلهك الأسواق والبعران

فمدينة العلم النبيّ صحبته

فسبقتَ من سبقت به الأسنان

وحباك من نبع النبوة منهلاً

ما زال ثراً سيله غُدران

ونعمتَ في بيت النبوة برهةً

فتقاصرت عن شأوها الأزمان

لا غروَ لو فقتَ الصحابَ روايةً

قلبٌ عقولٌ بالسؤال لسان (١)

أنّى يكون السابقون دراية

لو وازنوك لما استوى الميزان

* * *

إيه ابن عباسٍ فدعني سائلاً

عما كتبتُ فهل به بهتان

هل صحّ عندك ما رأيتَ وما روي

فيما أتى الشيخانِ أو نكران

كيف المواثيق الّتي قد أبرمت

عهد النبي ، وبعده مَن خانوا

____________________

(١) قال عمر بن الخطاب : عبد الله فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول. الاستيعاب ٣ / ٩٣٥ ومصادر أخرى.

٤٥٣

 

أفهل رأوا في هجرها ومرخَّصاً

منع الوصيةِ مَن هم الخوّان

إيهاً عصيّ الدمع حدّثنا بما

أشجاك حتى فاضت العينان

تبكي الرزية حين قالوا ضلة

قلبَ النبيّ أصابه الهُجران

لم ذا التنازع وهو ينشد صحبَه

صُمّت لهم عن سمعه آذان؟

ماذا جرى حتى أرقت على الثرى

دمعاً تحدّر قيل فيه جُمان؟

لولاك ما عُرف الحديث وشأنُه

كم ذا المعالمُ لفّها الكتمان

أو ليس في يوم الغدير ولايةً

مشهودةً قد لفّها النكران؟

حدّث أبا العباس فيما قد جرى

قد كنت في البيت الّذي قد كانوا

هل صحّت الأخبار حين أتوكم

بالجزل حتى قد بدا الدخان

أفهل رأيتَ عجاجةً لم يّطفها

غير الدماء يقولها سفيان؟ (١)

كثر الحديث وما أتى من نثّه

فيه الأسى فليطوه النسيان

* * *

حدّث لمن عايشت بعد محمّد

عن خير مَن سادت به عدنان

حتى إذا مات النبيُّ لزمتَ مَن

هو نفسُه وشهيدك القرآن

صاحبته طفلاً وكهلاً شاخصاً

سلماً وحرباً ضمكم تحنان

حدّث أبا العباس عمّا قلته

كم نفثة صُكّت لها الآذان

فوقفت في صفّ الإمام تحوطه

حرفاً وسيفاً ما أقتضى الميدان

ونصرت حيث الخالفين تقدموا

بمواقف هاجت لها الأحزان

حاججت في أمر الإمامة عصبةً

جحدت بما قد شاده القرآن

____________________

(١) قال أبو سفيان بعد بيعة أبي بكر : أرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم. تاريخ الطبري ٣ / ٢٠٩.

٤٥٤

 

أخرستَ كلّ الناعقين بحجة

لكنّ هاشم حظُها الحرمان

فكعمتَ فاغرةً تلجلج منشداً

فيما يوسوس نُشدها الشيطان

واه ابن عباس يقول مخاصمٌ

وخصمتَه بالحقّ وهو مدان

كم معشر سبقوا ووافى بعدهم

مَن سار سيرهُم فهم أعوان

ما كنتَ يوماً ناكصاً عن موقف

قد شدّ مقولك القويمَ جَنان

حقاً إذا ما عشتَ تبقى ماثلاً

في الخالدين مواقفاً تزدان

* * *

يا خير من عاش الزمان مكابداًً

عَنَتَ الحوادث إذ يفيء زمان

صلب العقيدة في المواقف كلّها

إن يُقتدح زند له نيران

خبّر عن الأمر الذي قد جاءكم

من بعد غاشية الخنوع فدانوا

ثارت شقاشقُ فاستثارت عصبةٌ

فعلا النعيقُ وصاتت الغربان

وتحزّبت فرق الضلال يسوقها

طمعٌ وتعلو فوقَه الأضغان

وعلا نعيقُ بالشئام يجيبه

يرغو رغاءً عسكرٌ شيطان

حدّث لنا عن ذي الحروب وما بها

من محنة طالت بها الأزمان

هبّت ظعينة أحمد في هودج

سارت فسار بسيرها الركبان

مرَحَى أبا العباس كنت موفّقا

في كل ما تخطو لك الإذعان

كم مرة جئت الزبير مناصحاً

ولطلحة ولمثلهم من خانوا

فلقد نصحتَ الناكثين ومذ أبوا

يوم الهياج شهيدُك الميدان

ونهضتَ في تلك الضروس مجاهداً

بضُبا جهادك حجةٌ وسنان

يكفيك من ناءت بحجتك البكا

تبكي وتبكي عندها النسوان

٤٥٥

أبدت لك الأضغانَ من مكنونها

الله ماذا تفعل الأضغان

* * *

إيهاً أبا العباس حدّث ما جرى

في حرب صفّينٍ ومن ذا كانوا

حيث الطليق مع اللصيقَ تناغما

في حربكم مذ تعبد الأوثان

كم أشعلوها في القديم بليّةً

طالت وعمّت واستعزّ كيان (١)

حتى إذا الإسلام طنّب ضارباّ

تلك الرؤوسَ فساقَها الإذعان

جاءت إلى الإسلام تبغي مكسباً

من بعد شركٍ حظه الخسران

عصبت علياً بالدماء أراقها

في يوم بدر قالها عثمان (٢)

وأتى ابن هند كافراً بقتاله

حتى قضى ما بلّه الإيمان (٣)

يا حبر يا من يستلذّ لسامع

تروي له ما ضمّه الميدان

نازلتَ عمرواً والوليد وغيره

وشهيدك البتارُ والخرصان (٤)

وبفتنة الحكمين ساء مسارُها

مضريةٌ نقّت فنقَّ يمان

وتجاوبت أصداءَ كل مرنّة

بلهاءُ شاكيةً لها إرنان

كنت المرشّح والمفضّل عندهم

لكن أبوا مذ ساقهم عصيان

____________________

(١) قوي وأشتد.

(٢) قال عثمان لعليّ : ما ذنبي إليك إذا لم تحبّك قريش وقد قتلت منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب تصرع آنافهم قبل شفاههم ( شرح النهج ٩ / ٢٢ ، نثر الدرر ٢ / ٦٨ ، معرفة الصحابة لأبي نعيم / ٢.

(٣) قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( سُباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) والحديث صحيح مروي في أكثر من أربعين مصدراً سنّياً حسبك منها صحيح البخاري ٢ / ٢٧ ، ورواه في تاريخه الكبير ٤ / ٤٧ و ٧ / ٣٨٤ ، وتاريخه الصغير ١ / ٢٢٦ ، وأحمد في مسنده ١ / ٣٨٥ و ٤١١ و ٤٣٣ و ٤٥٤.

(٤) الخرصان = الرماح.

٤٥٦

 

فتباريا الحكمان هذا خادع

خبّ وذاك مغفّلٌ حيوان

وإذا العراق رهينة في حكمهم

خسروا الرهان إذا همُ إرهان

فتشتتوا زمراً وكنت رقيبَهم

تبغي الهدى ورقيبَهم شيطان

وسرت ركابُهم على غير الهدى

تُحدى كأنّ مسيرهم كوفان

لكنهم نزلوا حروراء انتهى

أمر الحكومة فابتدا الإعلان

فأتيتَ نحوهم بأمر بالغٍ

حتى استجاب إلى الهدى من دانوا

وبقيتَ ترقبهم وتلك عصابة

مرقت من الدين الحنيف فبانوا

* * *

إيهاً أبا العباس خبّر ما جرى

لعصابة المرّاق مهما كانوا

عاثوا فساداً وانتهوا بجموعهم

في النهروان يسوقهم شيطان

ولئن نجا مَن فرّ عاد مكايداً

فتحالفوا قسماً عتاةً مانوا

فأتوا بفاجعة الصيام وجلّلو

بسوادهم واظلمّت الأكوان

وهنا أبا العباس رغم رزية

متجلداً لم تلهك الأحزان

فحمدتَ مشكوراً تعيد لأمةٍ

سفّت وطارت واستشاط دخان

ودعوتَ للسبط الزكي مبايعاً

حتى استجابوا وليتهم ما خانوا

فبقيتَ تسترعي المواقف خلسة

بالشام حيث مقرّه السلطان

أصحرتَ في كلّ المواقف ناصراً

آل النبيّ وأنّك المعوان

ولكم دمغتَ الخصم حجةَ بالغ

مهما تزايد جمعُه الخُوّان

ونصرتَ للسبط الشهيد مناصحاً

فيما رأيت وفاتك النشدان

لولا الشهادة للحسين كما ترى

ما انفّكّ حزنُك ، ما أتى السلوان

٤٥٧

آهاً أبا العباس عشت مكابداً

فقد الحبيب وما أتى العدوان

* * *

ماذا لقيتَ من الأذى من معشر

عُفُنِ الرؤوس وعشعش الشيطان

فبقيت ترزح تحت كلّ بلية

طخياءَ قد جاءت بها الأوثان

فبنى على ظلم النبيّ وآله

جورُ ابن هند واعتلى البنيان

فيزيدهُم حَكَم البلاد بكفره

وأتى بما لم يطوه النسيان

قتَلَ الحسين وذاك أعظم فادح

مترنّما شعراً به الكفران

وغزا المدينة واستباح حريمها

وغزا لمكّة هدّه الرحمن

وتسافلت فرص الحياة فساسها

أسفاً وتعساً إذا أتى مروان

وابنُ الزبير وذاك رجس عائذ

بالبيت قد ضجّت به الأركان

فلقد نفاك وكان آخر ظلمه

تباً له إذ حظّه الخسران

ذهب الذين تهضّموك بظلمهم

فجزاؤهم يوم الجزا النيران

وبقيتَ حياً في العلوم لقارئ

هذا ابن عباس يشير بنان

هذا ابن عباس تجده ماثلاً

ملأ القماطر كلها أعيان

يكفيك حياً أن تعيش مخلّداً

إذ ليس من بعدِ العيان عيان

حزتَ الخلودَ وزادك الإيمانُ

ومضى العتاة نصيبهم خسران

* * *

عذراً أبا العباس هذي نفثةٌ

تخز الضلوعَ ونارُها حَرّان

فأقول من أسفٍ تصاعدَ حزنُه

حتى استشاط بأن يبوح لسان

صرتَ الضحية للعدو وللأولى

ما أنصفَ الأعداءُ والخلاّن

٤٥٨

عصفت رياح بالعداوة لم تدع

حصناً سليماً أو يُرى بنيان

سنّوا مسبّتكم وتلك رزيةً

باءت بها الأعداء والولدان

خصمان في أمر الخلافة أنحلا

الآباء كلَ رزية تُختان

فالمكرماتُ تبدلت أضدادَها

وغدا هجين يصطفيه هجان

وتسابقا بالطعن حتى أنّهم

مَن دان مَن يبغي عليه يُدان

فلقد جرتْ عبر العصور مصائبٌ

كانت مناقبك العُلا أثمان

لولا بنوك وقد أساؤا سيرة

في آل أحمد ما أتى البرهان

فأبثها شكوى وقلبيَ مؤمن

أني نصرتُ وملؤه إيمان

حسبي بما حبّرتُ فيك موضّحاً

أخطاءَ من بَهتوا عليك فدانوا

مستشرفاً وَضَح الحقيقة معلنا

للناس أن الحق فيه بيان

والله بصّركم عمايةَ مغرضٍ

من نسج أعداء لهم أضغان

لا تعجلوا بالقدح إن وراءكم

يوم الحساب سينصبُ الميزان

* * *

يا خير من نصر الوصيّ مشايعاً

عمراً طويلاً كله تحنان

إيهاً أبا العباس يهنيك الولا

من خير خاتمة حوى إنسان

فولا علي وهو خير وسيلة

قربىً وزلفى يرتضي الرحمن

ولقد عملتَ بما علمتَ وقد أتى

من أحمدَ المختارِ فيه بيان

طوبى أبا العباس قد جزت المدى

في كلّ شوط في الدنا تزدان

* * *

يا حبرُ يا من يستريح محدِّث

يروي حديثَك كله عرفان

٤٥٩

فلكم نشرتَ من العلوم صحائفاً

متلوةً تعنو لها الأذقان

ولكم هديتَ من الضلالة حائراً

لم يستبن سبل الهدى حيران

ولكم كشفتَ من الغوامض سرّها

للناس من آي حوى الفرقان

لا غرو لو عشتَ القرون مخلدا

ذكراً حميداً كلّه إحسان

فلأنتَ حي في فنون معارف

بصحائف لم تبلها الأزمان

* * *

يا مجزل الإحسان برّك واسع

كالغيث قد سالت به الوديان

عفواً إذا ما كنت فيك مقصّراً

ومبيّناً ما شابه النقصان

هذا جناي وما جنيتُ مجازفاً

فلقد أتيتُ بما أتى البرهان

خمسون عاماً قد دأبتُ وممعناً

في البحث حتى ملّني الأخوان

حسبي بهذا أن يكون بضاعتي

أرجو بها أن يثقل الميزان

فتثيبني عند النبيّ شفاعةً

ولدى الوصي مكانةً ازدان

ويضمني والحبر أقربُ منزل

عند الآله وعفوه الغفران

أنت الشفيعُ فلا تخيّب حاجتي

حيث الشفيع وبرّه الإحسان

لا شك ترعاني وترعى صحبتي

حسبي بما قد قلت فيك ضمان

* * *

يا حبر أمتي المجيدة إنّني

ما زلت بالحقّ السنيّ أُزان

ها قد حبوت لباب قبري شاخصاً

نحو السماء ليعفو الرحمان

وقطعتُ من عمري سنيناً نيّفت

ما قد قطعتَ وجازه الحسبان

والمرء مهما قيل فيه معمَّر

لابدّ يوماً ينتهي الإنسان

٤٦٠