موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

منها ما رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن ، قال : « عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انّهم ذكروا عنده اثني عشر خليفة ثمّ الأمير فقال ابن عباس : والله إنّ منّا بعد ذلك السفاح والمنصور والمهدي يدفعها إلى عيسى بن مريم » (١).

ومنها : ما روه نعيم أيضاً بسنده عن أبي هريرة يقول : « كنت في بيت ابن عباس فقال : اغلقوا الباب ، ثمّ قال : هاهنا من غيرنا أحد؟ قالوا : لا ، وكنت في ناحية من القوم فقال ابن عباس : إذا رأيتم الرايات السود تجيء من قبل المشرق فأكرموا الفُرس ، فإنّ دولتنا فيهم.

قال أبو هريرة : فقلت لابن عباس : أفلا أحدّثك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه و ( آله ) وسلّم؟

قال : وإنك لهاهنا؟ قلت : نعم ، قال : حدّث ، فقلت : سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : إذا خرجت الرايات السود فإنّ أولها فتنة وأوسطها ضلالة وآخرها كفر » (٢).

ولابن عباس وصايا لابنه عليّ ، غير ما تقدم :

منها : ما رواه أبو نعيم في تاريخه : « قال لابنه يا بني عليك بالاعتبار فإنّه يذهب بالإغترار ، وعليك بتقصير الأمل وتقريب الأجل ، فإنّه يذهب بالكسل ويحض على العمل » (٣).

ومنها : ما رواه الشيخ المفيد في أماليه وعنه الشيخ الطوسي في أماليه (٤) وعنهما المجلسي في البحار (٥) ، واللفظ للأوّل بسنده عن عكرمة قال : « سمعت

____________________

(١) الفتن ١ / ٩٦ ، وعنه في كنز العمال ١١ / ٢٤٦ ط مؤسسة الرسالة سنة ١٤٠٩ بيروت.

(٢) الفتن ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ و ٥٥١ ط القاهرة سنة ١٤١٢ تح ـ سمير ابن أمين الزهري.

(٣) تاريخ اصبهان ١ / ٣٥٦ ط أوروبا.

(٤) أمالي الطوسي ١ / ١١٠ ط النعمان.

(٥) بحار الأنوار ١٧ / ٣٣٥ ط حجرية.

٣٦١

عبد الله بن عباس يقول لابنه عليّ بن عبد الله : ليكن كنزك الّذي تدّخره العلم ، كن به أشد اغتباطاً منك بكنز الذهب الأحمر ، فإنّي مودعك كلاماً إن أنت وعيته اجتمع لك به خير أمر الدنيا والآخرة :

لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل ، ويؤخر التوبة لطول الأمل ، ويقول في الدنيا قول الزاهدين ، ويعمل فيها عمل الراغبين ، إن أعطي منها لم يشبع ، وإن منع منها لم يقنع ، يعجز عن شكر ما أوتي ، ويبتغي الزيادة فيما بقي ، ويأمر بما لا يأتي ، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم ، ويبغض الجاهلين ـ الفجار ـ وهو أحدهم ، ويقول لِمَ أعمل فأتعنّى ، ولا أجلس فأتمنّى ، فهو يتمنى الغفرة وقد دئب في المعصية ، قد عمّر ما يتذكر فيه من تذكّر ، يقول فيما ذهب لو كنت عملت ونصبت كان ذخراً لي ، ويعصي ربّه ـ تعالى ـ عزّ اسمه فيما بقي ، غير مكترث ، إن سقم ندم على العمل ، وإن صحّ أمن واغترّ وأخّر العمل ، معجبٌ بنفسه ما عوفي ، وقانط إذا بشيء ابتُلي ، إن رغب أَشِر ، وإن بسط له هلك ، تغلبه نفسه على ما يظن ، ولا يغلبها على ما يستيقن ، لا يثق من الرزق بما قد ضُمِن له ، ولا يقنع بما قُسِم له ، لم يرغب قبل أن ينصب ، ولا ينصب فيما يرغب ، إن استغنى بَطِر ، وان افتقر قنط ، فهو يبتغي الزيادة وان لم يشبع ، ويضيّع من نفسه ما هو أكره ، يكره الموت لإساءته ، ولا يدع الإساءة في حياته ، إن عرضت شهوته واقع الخطيئة ثمّ تمنى التوبة ، وإن عرض له عمل الآخرة دافع ، يبلغ في الرغبة حين يسأل ، ويقصّر في العمل حين يعمل ، فهو بالطول مدلّ ، وفي العمل مقلّ ، يبادر في الدنيا يعيى بمرض ، فإذا أفاق واقع الخطايا ولم يعوّض ، يخشى الموت ولا يخاف الفوت ، يخاف على غيره بأقلّ من ذنبه ، ويرجو لنفسه بدون عمله ، وهو على الناس طاعن ، ولنفسه مداهن ، يرى الأمانة ما رضي ، ويرى الخيانة إن سخط ، إن عوفي ظنّ أنّه قد تاب ، وإن ابتلي طمع في العافية وعاد ، لا يبيت قائماً ، ولا يصبح صائماً ، يصبح وهمّه الغذاء ،

٣٦٢

ويمسي ونيّته العشاء وهو مفطر ، يتعوّذ بالله مَن فوقه ، ولا ينجو بالعوذ مَن هو دونه ، يهلك في بغضه إذا أبغض ، ولا يقصّر في حبّه إذا أحبّ ، يغضب من اليسير ، ويعصي على الكثير ، فهو يطاع ويعصي ، والله المستعان » (١).

أقول : قارن هذه الوصية مع الحكمة ( ١٥٠ ) نهج البلاغة بشرح محمّد عبده (٢) ، تجدها مأخوذة منها مع تغيير بعض ألفاظها بما يرادفها ، ولا تكاد تفرّق بينهما ، وتلك الحكمة هي الّتي قال عنها الشريف الرضي ( رحمه الله ) : « لو لم يكن في الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة ، وحكمة بالغة ، وبصيرة لمبصر ، وعبرة لناظر مفكّر » (٣).

وهي بحق كذلك ، ولا غرابة فقد وصفها حبر الأمة لابنه أبلغ وصف حين قال له : إنّي مودعك كلاماً إن وعيته اجتمع لك به خَير الدنيا والآخرة.

وأخرج الطبراني في المعجم بسنده عن زاذان قال : « مرض ابن عباس مرضة ثقل منها فجمع إليه بنيه وأهله ، فقال لهم : إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إليها فله بكلّ خطوة سبع مائة حسنة من حسنات الحرم ) ، فقال بعضهم : وما حسنات الحرم؟ قال : ( كلّ حسنة بها ألف حسنة ) » (٤). وأحسب أنّ هذا كان منه في الطائف في مرضه الّذي توفي فيه ( رحمه الله ).

وكان ابن عباس ( رحمه الله ) يقول : « آخر شدّة يلقاها ـ ابن آدم ـ المؤمن الموت » (٥).

____________________

(١) أمالي المفيد / ١٧٦ ط الحيدرية سنة ١٣٦٧ هـ.

(٢) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده / ١٨٩ حكمة ( ١٥٠ ).

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المعجم الكبير ١٢ / ٨٢ ط الموصل.

(٥) صفة الصفوة ١ / ٣١٩.

٣٦٣

فها هو الآن يودّع الحياة الّتي قاسى آخر أيامه فيها الشدائد من ظلم ابن الزبير الّذي أخرجه عن مكة حرم الله ، وكان يودّ أن يموت فيها كما مرّ في دعائه بنُعمان ، ولكن لله أمر هو بالغه.

وها هي آخر شدة من شدائد الحياة يلقاها بأحسن عدة وخير زاد ليوم المعاد.

ملاك العمل خواتيمه (١) :

لقد ورد في الحديث النبوي الشريف : ( وإنّما الأعمال بخواتيمها ) ، وهو حديث صحيح لا غبار عليه سنداً ومتناً (٢) ، وهو ميزان يعرف به تقويم الناس في الحياة الدنيا.

ولمّا كانت خاتمة ابن عباس في حسنها فريدة في بابها ، يحسن بنا أن نذكرها ونقدم عليها ذكر من رواها توثيقاً لها.

فقد رواها أحمد بن حنبل ـ وهو أقدم من رواها ـ في كتابه فضائل الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « حدّثنا الحسن بن عليّ البصري قال حدّثنا محمّد بن يحيى قال حدّثنا أبي قال حدّثنا الحاكم بن ظهيرة عن السدي عن أبي صالح ... » (٣) الخبر.

وروى الخبر بهذا السند أيضاً أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم عليّ بن محمّد بن عليّ الطبري ـ من علماء الإمامية في القرن السادس ـ في كتابه بشارة المصطفى (٤) ، وأحسبه أخذه من كتاب أحمد.

____________________

(١) حديث نبوي شريف رواه عن ابن عباس ، أنظر كنز العمال ٢٠ / ١٨٧ ط حيدر آباد الثانية.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاص ، وأحمد في مسنده ٥ / ٣٣٥ من حديث سهل بن سعد ، وغيرهما.

(٣) فضائل الصحابة ( الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام » ١ / ورقة ١٠١ أ نسخة مصورة بمكتبتي.

(٤) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى / ٢٣٩ ط الحيدرية سنة ١٣٨٣ هـ.

٣٦٤

كما رواه عن أحمد العصامي المكي في سمط النجوم العوالي (١) ، وكذلك الباعوني في جواهر المطالب (٢).

وروى حسن الخاتمة أيضاً عطاء المكي ، وهو من تلامذة ابن عباس المحظيين عنده ، وكان معه في الطائف ملازماً له كسعيد بن جبير وأبي العالية وهما من خيرة التابعين.

وحديثه أخرجه الخزاز في كفاية الأثر بسنده في باب ما جاء عن عبد الله ابن عباس (٣).

وروى حسن الخاتمة أيضاً عبد الله بن عبيد ياليل ( ثاليل ) ، وعنه الكشي بسنده في رجاله (٤).

وعنه مبثوثاً في مصادر المتأخرين كالدرجات الرفيعة (٥) ، وغيرها.

حديث الخاتمة :

فلنقرأه أوّلاً برواية عطاء بن أبي رباح المكي في آخر ما حدّث به عن اُستاذه حبر الأمة ، وقد مرّ في معطيات الطائف صدر الخبر :

« ... وتفرّق مَن كان عنده من أهل الطائف ، ووصيته لهم بتقوى الله والعمل للآخرة والتمسك بالعروة الوثقى من عترة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لما سمعه منه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : ( من تمسك بعترتي كان من الفائزين ).

____________________

(١) سمط النجوم العوالي ٢ / ٣٨٤ ط السلفية بمصر.

(٢) جواهر المطالب في آخر الباب الثالث عشر من كتابه ورقة ١٧ أ ( نسخة مصورة بمكتبتي ).

(٣) كفاية الأثر ط حجرية سنة ١٣٠٥.

(٤) كما في اختياره / ٥٦ ط محققة.

(٥) الدرجات الرفيعة / ١٤٠ ط الحيدرية.

٣٦٥

قال عطاء : فقال لي : يا عطاء خذ بيدي واحملني إلى صحن الدار ، فأخذنا بيده أنا وسعيد ، وحملناه إلى صحن الدار ، ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال : « اللّهمّ إنّي أتقرب إليك بمحمّد وآله ، اللّهمّ إنّي أتقرب إليك بولاية الشيخ عليّ بن أبي طالب » فما زال يكررها حتى وقع إلى الأرض ، فصبرنا عليه ساعة ، ثمّ أقمناه فإذا هو ميت رحمة الله عليه ».

ولنقرأ الخبر ثانية برواية عبد الله بن عبد ياليل ( ثاليل ) كما في رواية الكشي : « قال : اللّهمّ إنّي أحيى على ما حيي به عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأموت على ما مات عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ثمّ مات ».

ومرة ثالثة برواية أبي صالح كما رواها أحمد بن حنبل قال : « لمّا حضرت عبد الله بن عباس الوفاة قال : اللّهمّ إنّي أتقرب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب ».

هذه ثلاث روايات عن ثلاثة ممّن حضروا ساعة الوفاة ، وكلّهم اتفقوا على رواية تقرّبه إلى الله تعالى بولاية عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فأيّ خاتمة أحسن من هذه الخاتمة : حبر الأمة يتقرب إلى الله سبحانه بولاية الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليثقّل بها ميزانه ، فهو في آخر رمق من حياته يدعو مبتهلاً إلى الله تعالى أن يجعل الولاية أفضل قرباه إليه ، مستودعاً لها عنده لتكون من وسائل فوزه يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.

ولقد مرّ عنه أيضاً عندما بلغه خبر استشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) فقال : « اللّهمّ إنّي أشهدك أنّي لعليّ بن أبي طالب ولولده وليّ ، ومن عدوه وعدوهم بريء ، وإنّي سلم لأمرهم. كيف لا وقد أوصاه بذلك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) » (١) ، وأوصاه بذلك أبوه العباس (٢).

____________________

(١) كما مر في الجزء الأوّل.

(٢) كما مر في الجزء الأوّل.

٣٦٦

وهو الّذي روى عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قوله : ( أيها الناس الزموا مودتنا أهل البيت ، فإنّه من لقي الله بودّنا دخل الجنة بشفاعتنا ، فوالذي نفس محمّد بيده لا ينفع عبداً عمله إلاّ بمعرفتنا وولايتنا ) (١).

فهو إذن يعيش الولاء ملء إهابه ، ولا يفتر عن إعلانه ، فهو ذكره المفضل لديه ، عاش وناضل دونه ، وها هو اليوم مات عليه.

ـ اللّهمّ وإنّا عبيدك المذنبون نتقرّب إليك أيضاًً بما تقرّب به إليك ابن عباس حبر الأمة من ولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولتجعلنا من الفائزين بقربه والناجين بحبّه إنّك سميع الدعاء قريب مجيد.

فقد روى أحمد بن حنبل بسنده عن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : ( طلبني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فوجدني في حائط نائماً فضربني برجله قال : قم فوالله لأرضينّك أنت أخي ، وأبو ولدي ، تقاتل على سنتي ، من مات على عهدي فهو في كنز الله ، ومن مات على عهدك فقد قضى نحبه ، ومن مات بحبّك بعد موتك ختم له بالأمن والإيمان ما طلعت شمسٌ أو غربت ) (٢) ـ.

اللّهمّ اختم لنا بالأمن والإيمان.

ماذا بعد موته؟

لقد ذكر المؤرخون عن الرواة الّذين حضروا مراسيم تجهيزه أموراً بعضها شرعية ، وبعضها ظاهرة غير طبيعية ، وجميعها يسترعي الأنتباه ، ويستوجب الوقوف عندها لبحثها ، بدءاً من دخول الطير في أكفانه ثمّ الصلاة عليه ، ومروراً بكيفية إجنانه ، وسماعهم تلاوة آية قرآنية تدل على

____________________

(١) أمالي المفيد / ٧٥ ط الحيدرية سنة ١٣٦٧.

(٢) فضائل الصحابة ( الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام » ورقة ٩٦ / أ.

٣٦٧

عظم شأنه ، وتسطيح قبره في بنيانه ، والسحابة الّتي أمطرته بوابلها ، وأخيراً ضرب الفسطاط على قبره.

فنحن الآن وقد أشرفنا على توديعه في تاريخه ، فينبغي لنا أن نودّعه بوقفة تحقيق وتأمل في تلك المرويّات الّتي لم تخل من مناقبية ربّما تخيّلها البعض أنها وضعت أيام حكومة بني العباس تزلفاً إليهم ، لذلك قلت أنها أسترعت الإنتباه فاستوجبت البحث ، فنقول :

أوّلاً : دخول الطائر الأبيض في أكفانه :

رواه غير واحد ممّن حضر تجهيز ابن عباس وقالوا : « أنّ طائراً دخل في أكفانه ودفن معه »!؟ وهذا أمر عجيب وغريب ، إذ لم يحدث مثله فيما أعلم مع غيره. ولنقرأ بعض الروايات في ذلك :

١ ـ روى ابن سعد (١) والفسوي (٢) وأحمد (٣) وغيرهم عن بجير بن سالم أبي عبيد الطائفي : « أنّ ابن عباس مات بالطائف فلمّا أخرج بنعشه جاء طائرٌ أبيض عظيم من قبل وجّ ـ واد بالطائف ـ حتى خالط أكفانه لم يُدر أين ذهب ».

قال عفان ـ شيخ ابن سعد ـ فكانوا يرون أنّه عمله ـ علمه خ ل ـ.

٢ ـ وروى ابن سعد والفسوي (٤) وأحمد (٥) ، واللفظ للأوّل بسنده عن عبد الله بن ياسين قال : « أخبرني أبي أنّه لمّا مرّ بجنازة ابن عباس بالجيزة ـ وهو وادٍ لهم ـ جاء طائر أبيض يقال له الغرنوق فدخل في النعش فلم يُر » (٦).

____________________

(١) الطبقات الكبرى ( ترجمة ابن عباس ) / ٢٠٧.

(٢) المعرفة والتاريخ ١ / ٣٩.

(٣) فضائل الصحابة برقم ١٩٤٩.

(٤) المعرفة والتاريخ ١ / ٥٣٩.

(٥) فضائل الصحابة برقم ١٩٠٢ و ١٩٠٧.

(٦) الطبقات الكبرى ( ترجمة ابن عباس ) / ٢٠٦.

٣٦٨

٣ ـ وروى ابن سعد بسنده عن شعيب بن يسار قال : « لمّا مات ابن عباس ( رضي الله عنه ) وأدرج في كفنه دخل فيه طائر أبيض فما رؤي حتى الساعة » (١).

٤ ـ وروي أبو نعيم في الحلية بسنده عن ميمون بن مهران قال : « شهدت جنازة عبد الله بن عباس ( رضي الله عنه ) بالطائف ، فلمّا وُضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه ، فالتمس فلم يوجد » (٢). ورواه الذهبي مختصراً (٣).

٥ ـ وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي الزبير ـ المكي ـ قال : « شهدت جنازة عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) بالطائف فرأيت طيراً أبيض جاء حتى دخل في أكفانه تحت الثوب فلم يزحزح بعدُ » (٤).

٦ ـ غيلان بن عمر بن أبي سويد قال : « شهدت جنازة ابن عباس بالطائف فلمّا حملناه جاء طائر أبيض فدخل في أكفانه ولم نره خرج ». وقد رواه المحب الطبري في الذخائر عن معجم البغوي (٥).

٧ ـ وروى الحاكم (٦) والطبراني (٧) والذهبي (٨) بلفظه وسنده عن سعيد بن جبير قال : « مات ابن عباس بالطائف فجاء طائر لم يُر على خلقته فدخل نعشه ، ثمّ لم يُر خارجاً منه » (٩).

____________________

(١) الطبقات الكبرى / ٢٠٦.

(٢) حلية الأولياء ١ / ٣٢٩.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٦.

(٤) المستدرك ٣ / ٥٤٣. هكذا في مطبوع مكتب المطبوعات الإسلامية بالأفست عن طبعة حيدر آباد ، وفي آخر الخبر تصحيف لم ينبّه عليه إذ الصواب ( فلم ير خرج بعد ) ، وقد رواه الذهبي في التلخيص وسكت عنه.

(٥) ذخائر العقبى / ٢٣٧.

(٦) المستدرك ٣ / ٥٤٣.

(٧) المعجم الكبير ١٠ / ٢٣٦.

(٨) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٦.

(٩) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٨٥ ط القدسي نقلاً عن الطبراني فقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

٣٦٩

فهذه سبع روايات عن سبعة من التابعين كلّهم ادعوا المشاهدة لظاهرة غريبة لم يسبق لها مثيل ، وهؤلاء أربعة منهم ـ وهم الثلاثة الأوائل والسادس كانوا من أهل الطائف ، والثلاثة الآخرون كانوا من تلاميذ ابن عباس ، واحتمال تواطئهم على الكذب في ذلك مستبعد جداً ، لا لأنّهم جميعاً فوق مستوى الشُبهة ، بل لو كان ذلك عن تواطؤ لما اختلفت رواياتهم في وصف الطائر بعد اتفاقهم على أنّه طير أبيض ، فوصفه الأوّل بأنه عظيم ، وقال الثاني : يقال له الغرنوق ، وقال السادس لم يُر على خلقته ، وهذا التفاوت في النقل يوحي باطمئنان رؤيتهم على نحو الكشف ، وهو أمر ممكن الوقوع ، ولا استحالة عقلية فيه ، بل اتفاق من ذكرنا من المحدثين والمؤرخين على روايته من دون تعقيب بما يوحي بالريب والتشكيك ، يعني إخباتهم بصحته ، وأمّا تعقيب عفان ـ شيخ ابن سعد ـ على الرواية الأولى بقوله : فكانوا يرون أنّه علمه ـ عمله خ ل ـ فهو يؤيد الوقوع بناء على القول بتجسيد الأعمال كما هو الصحيح ، وقد ورد في أحاديث البرزخ والقيامة ما يدفع معرّة الإنكار.

وحسبنا في المقام دليلاً على تجسم العمل قبل القيامة حديث الرسول الكريم مع قيس بن عاصم النقري سيّد أهل الوبر وقد وفد مع بني تميم ، فقد طلب من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) موعظته ، فوعظه موعظة حسنة جاء فيها : ( وإنّه لا بدّ لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ وأنت ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثمّ لا يحشر إلاّ معك ولا تحشر إلاّ معه ، ولا تسأل إلاّ عنه ، فلا تجعله إلاّ صالحاً ، فإنّه إن صلح أنستَ به ، وإن فسد لا تستوحش إلاّ منه وهو فعلك الخير ) (١).

____________________

(١) أنظر بحار الأنوار ٣ / ٢٥٧ ط الكمياني حجرية و ٧ / ٢٢٨ ط الإسلامية نقلاً عن الشيخ البهائي القائل بتجسم الأعمال.

٣٧٠

فقال قيس بن عاصم : « أحب أن يكون هذا الكلام أبياتاً من الشعر نفتخر به على من يلينا وندّخرها ، فأمر من يأتيه بحسّان فقال الصلصال ـ ابن الدلهمس وكان حاضراً ـ : يا رسول الله قد حضرتني أبيات أحسبها توافق ما أراد قيس ، فقال : هاتها ، فقال :

تخيّر خليطاً من فعالك إنما

قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

ولابدّ الموت من أن تعدّه

ليوم ينادى المرء فيه فيقبل

فإن كنت مشغولاً بشيء فلا تكن

اتكن بغير الذي يرضى به الله تُشغل

ولن يصحب الإنسان من قبل موته

ومن بعده إلاّ الّذي كان يعمل

ألا إنّما الإنسان ضيف لأهله

يقيم قليلاً بينهم ثم يرحل (١)

وقد روى الكليني في الكافي بسنده عن أبي عبد الله قال : « إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبرّ يطلّ عليه ويتنحى الصبر ناحية ، وإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته ، قال الصبر للصلاة والزكاة دونكما صاحبكما ، فإن عجزتم عنه فأنا دونه » (٢). وفي فتح الباري (٣) عن أبي هريرة بنحو ذلك.

فمسألة تجسم الأعمال ثابتة بأدلتها ومن شاء الإستزادة فعليه بمراجعتها في مظانّها من كتب الفريقين (٤).

____________________

(١) أنظر الإصابة ٢ / ١٨٦ ـ ١٨٧ ط مصطفى محمّد سنة ١٣٥٨ هـ أمالي الصدوق / ٢ ، والخصال ١ / ١١٠ ، ومعاني الأخبار / ٢٢١ جميعها ط الحيدرية بتقديمي ، وبحار الأنوار ٧٧ / ١٧٥ ط الإسلامية.

(٢) الكافي ( الفروع ) ٣ / ٢٤٠ ط دار الكتب الإسلامية.

(٣) فتح الباري ٣ / ٤٨٠ ط مصطفى محمّد.

(٤) التذكرة للقرطبي / ١٠٧ ـ ١٠٨ ط دار المنار سنة ١٤١٨ ، ومنازل الآخرة للقمي والمرآة الناظرة للهمداني وإرشاد القلوب للديلمي وغيرها.

٣٧١

إذن لا مانع من تصديق أولئك الرواة الّذين رأوا دخول الطائر في أكفانه.

نعم يبقى التنبيه على أنّ الكشي كما في اختيار رجاله للطوسي روى بسنده عن أبي عبد الله ـ الصادق ـ ( عليه السلام ) : « انّ ابن عباس لمّا مات وأخرج ، خرج من كفنه طير أبيض يطير ، ينظرون إليه يطير نحو السماء حتى غاب عنهم ... » (١). فمضمون هذا الخبر مروي أيضاً مرسلاً في ذخائر العقبى قال : « ويروى أنّ طائراً أبيض خرج من قبره فتأولوه علمه خرج إلى الناس » (٢).

وقال الصفدي في النكت : « وروي أنّ طائراً أبيض خرج من قبره ، فتأولوه علمه خرج إلى الناس ويقال : بل دخل قبره طائر أبيض ، فقيل إنّه بصره بالتأويل. وقيل جاء طائر أبيض فدخل نعشه حين حمل فما رؤي خارجاً منه » (٣) ، وقال الذهبي بعد ذكره أخبار الرواة لقصة الطائر : « فهذه قصة متواترة » (٤).

ومهما يكن أمر التأويل فلا مانع من التصديق بأمر الطائر ، ما دام تجسّد العمل قد ثبت كتاباً وسنّة. قال سبحانه وتعالى : ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) (٥) ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ العمل الصالح يذهب إلى الجنة فيمهد لصاحبه كما يبعث الرجل غلامه فيفرش له ، ثمّ قرأ الآية ) (٦).

ولولا تجسد الأعمال يوم القيامة لما نُصبت الموازين يوم القيامة ، والله سبحانه تعالى يقول : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (٧).

____________________

(١) اختيار معرفة الرجال ١ / ٥٧ تح ـ المصطفوي.

(٢) ذخائرالعقبى للمحب الطبري / ٢٣٧ ط القدسي.

(٣) نكت الهميان / ١٨٢ ط الجمالية بمصر سنة ١٣٢١ هـ.

(٤) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٦ ط دار الفكر.

(٥) الروم / ٤٤.

(٦) أمالي المفيد / ١٠٤ ط الحيدرية ١٧١.

(٧) الأنبياء / ٤٧.

٣٧٢

وفي الحلية لأبي نعيم عن وهب بن منبّه قال : « إنّما يوزن من الأعمال خواتيمها ، وإذا أراد الله بعبد خيراً ختم له بخير ، وإذا أراد الله به شراً ختم له بشر عمله » (١).

وقال تعالى : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ) (٢).

وقد روي عن ابن عباس : « أنّ الله تعالى يقلب الأعراض أجساماً فيزنها يوم القيامة » (٣).

ثانياً : مسألة الصلاة عليه :

لقد جاء في ذخائر العقبى عن أبي حمزة : « لمّا مات ابن عباس وليه ابن الحنفية » (٤).

وهذا الّذي رآه أبو حمزة فرواه أمر طبيعي ، ينبغي أن يكون كذلك ولا سواه ، لأنّ العلاقة بين ابن عباس وابن الحنفية ، ليست وقفاً على النسب فحسب ، بل هما شريكان في الرأي والعمل والنضال والقتال منذ أيام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد شاركا معاً في الحروب الثلاث الجمل وصفين والنهروان ، ومواقفهما فيها متشابهة ومتشابكة ، وتنامت تلك العلاقة قوّة وشدة في أيام الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ثمّ امتدّت تتنامى قوتها أيام الحسين ( عليه السلام ) ، وبلغت ذروتها بعد شهادته حيث واجها عدواً مشتركاً يتربّص بهما الدوائر ، وقد استهدفهما بالأذى حتى أراد تحريقهما ومن معهما ، وذلك هو ابن الزبير وقد مرّ الحديث عنه.

____________________

(١) حلية الأولياء ٤ / ٣٣.

(٢) المؤمنون / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٣) التذكرة للقرطبي / ٢٨٧.

(٤) أنظر ذخائر العقبى / ٢٣٧ ط القدسي.

٣٧٣

فلا غرابة في الأمر لو تولى ابن الحنفية أمر ابن عباس وتجهيزه بعد موته ، ومَن هو أولى منه بذلك شرعاً سوى أبناء عبد الله بن عباس لأنّهم الأقرب نسباً ، لأن أولى الناس بالميت أولاهم بميراثه. ولا مانع من أن يكونوا هم الّذين فوّضوا الأمر إلى زعيم الهاشميين وقد حضر عندهم ، أو أنّ ابن عباس أوصى إليه بذلك.

وروى أبو حمزة (١) وعمران بن أبي عطاء (٢) كلّ يقول : « شهدت ابن الحنفية صلّى على ابن عباس فكبّر عليه أربعاً ».

ولمّا كانت الصلاة على الجنائز هي خمس تكبيرات كما عليه اجماع الشيعة سلفاً وخلفاً تبعاً لإمامهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأبنائه الأئمّة الطاهرين ، وبه قال من الصحابة زيد بن أرقم (٣) وحذيفة (٤) ، وبه قالت الظاهرية (٥) إلاّ أنّ أصحاب المذاهب الأخرى قالوا : إنّ التكبيرات أربع ، وذكروا أنّ عمر هو الّذي جمع

____________________

(١) طبقات ابن سعد ترجمة ابن عباس / ٢٠٥ ، مستدرك الحاكم ٣ / ٥٤٤ ، المعرفة والتاريخ ١ / ٥١٨.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ١٠ / ٢٣٤.

(٣) صحيح مسلم ٣ / ٥٦ ط محمّد عليّ صبيح ، والسنن الكبرى للبيهقي ٤ / ٣٦ ، والاستذكار لابن عبد البر ٣ / ٣١ ط دار الكتب العلمية.

(٤) الانتصار للمرتضى / ٥٩ ط الحيدرية ، والاستذكار ٣ / ٣١.

(٥) المحلى لابن حزم ٤ / ١٢٥ ـ ١٢٦ ، وقال في / ١٢٧ بعد مناقشته لمن ادعى الإجماع على ان التكبير أربعاً قال أبو محمّد : أف لكل إجماع يخرج منه عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وابن عباس والصحابة بالشام ( رضي الله عنهم ) ثمّ التابعون بالشام وابن سيرين وجابر بن يزيد وغيرهم بأسانيد في غاية الصحة ، ويُدعى الإجماع بخلاف هؤلاء بأسانيد واهية ، فمن أجهل ممّن هذا سبيله؟ فمن أخسر صفقة ممّن يدخل في عقله أن إجماعاً عرفه أبو حنيفة ومالك والشافعي ، وخفي علمه على عليّ وابن مسعود وزيد بن أرقم وأنس بن مالك وابن عباس حتى خالفوا الإجماع؟ حاشا لله من هذا؟

٣٧٤

الناس عليها (١) ، فلا يبعد ـ إن صحت الرواية ـ أن يكون ابن الحنفية صلّى تقية بأربع تكبيرات ظاهرة برفع الأيدي عند كلّ تكبيرة ثمّ كبّر خفية بخامسة للإنصراف ، فلم يشعر الراويان بذلك ، ويكون في ذلك قد اقتدى بأبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حيث صلّى على يزيد بن الكفيف فكبّر عليه أربعاً ـ وقالوا ـ وسلّم واحدة (٢) ، فهذه الواحدة الّتي ظنها الرواة تسليمة هي التكبيرة الخامسة للإنصراف ، خصوصاً وأنّها خفية كما في حديث مجاهد عن ابن عباس انّه كان سلّم في الجنازة تسليمة خفية (٣).

وحكى ابن عبد البر في الاستذكار ذلك عن عليّ وابن عباس وأبي امامة ابن سهل بن حنيف وسعيد بن جبير (٤).

وفي المغني : « وكان أصحاب معاذ يكبرون خمساً على الجنائز » (٥).

ولمّا كانت صلاة الجنازة ليس فيها دعاء موقت وليس فيها تسليم (٦) فتخيل الرواة التكبيرة الخامسة وهي خفيّة أنّها تسليم. على أنّ في أحاديث الفريقين أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) صلّى على حمزة سيّد الشهداء سبعين مرّة ، وصلّى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على سهل بن حنيف خمس مرات بخمس وعشرين

____________________

(١) روى البيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٣٧ بسنده عن أبي وائل قال : كانوا يكبّرون على عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سبعاً وخمساً وستاً أو قال أربعاً ، فجمع عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأخبر كلّ رجل بما رأى فجمعهم عمر ( رضي الله عنه ) على أربع تكبيرات كأطول الصلاة.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ٤ / ٤٣ ، وكنز العمال ٢٠ / ٢١٥ ط حيدر آباد الثانية.

(٣) السنن الكبرى ٤ / ٤٣.

(٤) الاستذكار ٣ / ٥١.

(٥) المغني ٢ / ٥١٤.

(٦) الكافي ( الفروع ) ٣ / ١٨٥ ط دار الكتب الإسلامية طهران.

٣٧٥

تكبيرة (١) ، وفي خبر رواه البيهقي بسنده عن عبد خير عن عليّ ( رضي الله عنه ) : « أنّه كان يكبّر على أهل بدر ستاً ، وعلى أصحاب محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خمساً ، وعلى سائر الناس أربعاً » (٢) ، فليس من المعقول ولا المقبول أن لا يعلم ذلك محمّد بن الحنفية ، كما أنّه ليس من المعقول ولا المقبول أن يعلمه ثمّ هو لا يفعله ، فيكبّر على ابن عباس وهو من الصحابة ـ أربعاً ، ( وإنّ من يشابه أبه فما ظلم ) كيف وهو قد تبعه في فعل سنة مستحبة وهي :

ثالثاً : مسألة الدفن :

أ ـ روى الراويان السابقان أبو حمزة وعمران : أنّ ابن الحنفية أخذهُ وأدخله في قبره من قبل القبلة معترضاً.

أقول : وهذه سنّة شرعية يستحب فعلها ، فقد روي في ذلك فعل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع يزيد بن المكفف ، قال ابن حزم في المحلى : « وقد صح عن عليّ أنّه أدخل يزيد بن المكفف من قبل القبلة ، وعن ابن الحنفية أنّه أدخل ابن عباس من قبل القبلة ، وروى ذلك عن إبراهيم مرسلاً ـ أنّه ( عليه السلام ) ـ يعني النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ أدخل من قبل القبلة » (٣).

وحكى ابن قدامة عن إبراهيم النخعي ، قال : « حدثني من رأى أهل المدينة في الزمن الأوّل يدخلون موتاهم من قبل القبلة ، وأنّ السلّ شيء أحدثه أهل المدينة » (٤).

____________________

(١) نفس المصدر / ١٨٦.

(٢) السنن الكبرى ٤ / ٣٧.

(٣) المغني لابن قدامة ٢ / ٥٠٥ ط دار المنار بمصر.

(٤) نفس المصدر ٢ / ٤٩٦ ـ ٤٩٧.

٣٧٦

ب ـ قال الواقدي : « فنزل في قبره وتولى دفنه عليّ بن عبد الله ومحمّد بن الحنفية ( والعباس بن محمّد بن عبد الله بن عباس ) وصفوان وكريب وعكرمة وأبو معبد مواليه ... ».

وفي هذا النص الّذي رواه لنا المقريزي في كتابه المقفى (١) وهمٌ من غلط النساخ لم يتنبه له محقق الكتاب محمّد اليعلاوي جعلته بين القوسين والصواب ( والعباس ومحمّد ابني عبد الله بن عباس ) وعلى هذا يكون الّذين تولوا دفنه وإجنانه ثمانية أشخاص أربعة من ذويه وهم محمّد بن الحنفية وثلاثة من أولاده وهو بحسب أسنانهم العباس وهو أكبرهم ومحمّد وعليّ وهو أصغرهم سناً وأكبرهم شأناً ، وأربعة من مواليه وهم : صفوان وكريب وعكرمة وأبو معبد.

ج ـ أخرج الحسن بن عرفة في جزئه (٢) ، والخطيب في تاريخه (٣) في ترجمة مروان بن شجاع ، وأحمد بن حنبل في فضائله (٤) باسناد حسن ، والطبراني في المعجم (٥) وعنه الهيثمي في المجمع (٦) وقال رجاله رجال الصحيح ، والحاكم في المستدرك (٧) ، والذهبي في التلخيص بهامشه ، كلّهم بأسانيدهم عن سعيد بن جبير ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية باسناده عن ميمون بن مهران قال : « شهدت جنازة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه بالطائف ، فلمّا وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل كفنه فالتمس فلم يوجد ، فلمّا سوّي عليه سمعنا صوتاً نسمع صوته ولا

____________________

(١) المقفى الكبير ٤ / ٢٢ ط دار الغرب الإسلامي بيروت.

(٢) جزء ابن عرفة / ٧١.

(٣) تاريخ بغداد ( ترجمة مروان بن شجاع ) ١٣ / ١٤٧.

(٤) فضائل الصحابة / برقم ١٨٧٩.

(٥) المعجم الكبير ١٠ / ٢٣٦ ط الثانية بالموصل.

(٦) مجمع الزوائد ٩ / ٢٨٥.

(٧) المستدرك ٣ / ٥٤٣.

٣٧٧

نرى شخصه ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (١) » (٢) ، وقد رواه الطبري في ذيل تاريخه والذهبي في سير أعلام النبلاء والمحب الطبري في ذخائر العقبى في ترجمة ابن عباس. فاتفاق المؤرخين على روايته يكاد يلحقه بالتواتر.

رابعاً : غيث السحابة قد بلّ ترابه :

أ ـ أخرج الحاكم في المستدرك بسنده عن مجاهد روى أبياتاً ليزيد بن عتبة بن أبي لهب في رثاء ابن عباس ويذكر السحابة الّتي سقت قبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال :

صبّت ثلاث سماء الله رحمتها

بالماء مرت على قبر ابن عباس

قد كان يخبرنا هذا ونعلمه

علم اليقين فمن واع ومن ناسي

انّ السماء يروي القبر رحمتَه

هذا لعمري أمرٌ في يد الناس

لو كان للقوم رأي يعصمون به

عند الخطوب رموكم بابن عباس

لله در أبيه أيّما رجل

هل مثله عند فصل الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن

لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس (٣)

أقول : لقد رواها الحاكم ولم يعقب عليها بشيء كما ان الذهبي لم يذكرها في تلخيصه ، ومن الغريب منهما ذلك مع ان فيها أكثر من ملاحظة ، أظهرها الخلط بين أبيات يزيد اللهبي وهي الثلاثة الأولى وبين أبيات لايمن بن خريم قالها في مسألة التحكيم وقد مرت ، فراجع.

____________________

(١) الفجر / ٢٧ ـ ٣٠.

(٢) حلية الأولياء ١ / ٣٢٩.

(٣) المستدرك ٣ / ٥٤٤.

٣٧٨

ومنها قوله صبت ثلاث والصواب ( ثلاثاً ) ومنها تذكير السماء الخ وهي مؤنثة قال الله سبحانه : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (١).

ب ـ روى ابن سعد في طبقاته عن أبي سلمة الحضرمي قال : « رأيت ابن الحنفية قائماً على قبر ابن عباس يأمر به أن يسطّح » (٢).

أقول : وهذه سنة شرعية أخرى أمر بها ابن الحنفية تبع فيها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سطّح قبر ابنه إبراهيم ( عليه السلام ).

قال الشافعي : « تسطيحه أفضل وقال : بلغنا أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذ سطّح قبر ابنه إبراهيم » (٣).

ومن الطريف أنّ أصحاب المذاهب الإسلامية السنّة والشيعة كادوا أن يجمعوا على أنّ التسطيح هو السنّة ، لكن أهل السنّة قالوا : لما صار شعار الرافضة كان الأولى مخالفتهم إلى التسنيم؟! (٤).

خامساً : تأبين :

أخرج ابن سعد في طبقاته بسنده عن أبي كلثوم قال : « رأيت ابن الحنفية يوم دفن ابن عباس قال : اليوم مات ربّاني هذه الأمة » (٥).

____________________

(١) الذاريات / ٤٧.

(٢) الطبقات الكبرى ( ترجمة ابن عباس ) / ٢٠٦.

(٣) المغني لابن قدامة ٢ / ٥٠٥ ط دار المنار بمصر.

(٤) قال ابن أبي هريرة : ان الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم ، لأن التسطيح صار شعاراً للروافض ، فالأولى مخالفتهم وصيانة الميت وأهله عن الاتهام بالبدعة!!! ( فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي ٥ / ٥٥ ).

أقول : ويلزمهم على ذلك ترك سنن كثيرة والله المستعان على إغواء الشيطان.

(٥) الطبقات الكبرى ( ترجمة ابن عباس ) / ٢١٠ تح ـ السُلمي ، ورواه أحمد في فضائل الصحابة مكرراً برقم / ١٨٤٢ ، ورقم / ١٨٥٥ ، ورقم / ١٨٩٧ ، كما رواه الفسوي في المعرفة والتاريخ

٣٧٩

وأخرج ابن سعد أيضاً بسنده عن مجاهد قال : « لقد مات ابن عباس وإنّه لحَبر هذه الأمة ، وما رأيت مثله قط. أو قال : ما سمعت إلاّ أن يقول رجل : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) » (١).

وأخرج ابن سعد أيضاً بسنده : « انّ جابر بن عبد الله حين بلغته وفاة ابن عباس صفق احدى يديه على الأخرى وقال : مات أعلم الناس وأحلم الناس ، ولقد أصيبت به الأمة مصيبة لا ترتق » (٢).

وأخرج ابن سعد أيضاً بسنده عن رافع بن خديج قال : « ـ حين أخبر بوفاة ابن عباس ـ : مات والله من بين الشرق والغرب ومَن بينهما يحتاجون إلى علمه » (٣).

وقد روى ذلك كثير من المؤرخين ومنهم ابن كثير (٤).

ثمّ هو قد انفرد فيما أعلم بخبر ذكره الواقدي بسنده عن عكرمة قال سمعت معاوية يقول : مات والله أفقه من مات ومن عاش. وهذا كذبٌ صريح ولم أدر كيف أدرجه ابن كثير في كتابه فإنّ معاوية مات سنة ٦٠ هـ وابن عباس مات ٦٨ هـ ، فكيف سمع عكرمة معاوية يقول في ابن عباس : مات والله أفقه من مات ومن عاش؟

____________________

١ / ٥١٧ ، وأبو نعيم في الحلية ١ / ٣١٦ ، والخطيب في تاريخه ١ / ١٧٥ ، والبغوي في معجمه كما في ذخائر العقبى / ٢٣٧ ، والصفدي في نكت الهميان / ١٨٠ ط الجمالية سنة ١٣٢٩ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٥ ، والبلاذري في أنساب الأشراف في ترجمة ابن عباس برقم / ١٢٧ نسخة مخطوطة بقلمي وغيرهم وغيرهم.

(١) طبقات ابن سعد ٦ / ٣٤٧ ط الخانجي.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ / ٣٢٠ ط الخانجي ، أنساب الأشراف برقمي / ٣٠ نسخة بقلمي ، والإرشاد لأبي يعلى القزويني ١ / ١٨٥ تح ـ محمّد سعيد عمر ادريس ط مكتبة الرشد ـ الرياض ١٣٠٩ ، والاستيعاب والإصابة واسد الغابة في ترجمة ابن عباس.

(٣) طبقات ابن سعد ٢ / ٣٢١ ط الخانجي ، أنساب الأشراف برقم / ١٣١ نسخة مخطوطة بقلمي.

(٤) البداية والنهاية ٨ / ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٣٨٠