موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

فأجابه ابن عباس بما أسكت به نامته ، وطأطأ به هامته ، فقال له : « نعم والله لأخرجنّ خروج من يقلاك ويذمّك ».

ما تقول يا عرية؟

لقد بقي ابن عباس في أخريات حياته بمكة يكابد ـ مع تقدّم سنّه وفقدانه بصره ـ معاناة عداوة آل الزبير ، وتلك المعاناة أورثته حزناً مقيماً وكمداً دائماً ، لأن عدوّه لدود معلنٌ بنصبه العداء لبني هاشم ، ولا يرعى فيهم إلاّ ولا ذمة ، ولا يخشى من الله سبحانه أن يستحل قتلهم وحرقهم في البلد الحرام ، بينما ابن عباس لا يستحلّ ذلك منه ، وهو لا يمتلك من قوّة يمكنه استعمالها ، سوى قوة البيان وحجة البرهان. فحين يشهّر به ابن الزبير بفتياه في المتعة وحمله مال البصرة ومقاتلته عائشة ، يسمعه ابن عباس من الجواب ما يدحض به دعاواه ، لكن هل الخطب في عروة بن الزبير الّذي تناسى إحسان ابن عباس إليه يوم وفد عليه في البصرة وهو حدَثَ فقال له :

أمتّ بأرحام إليكم قريبة

ولا قرب للأرحام ما لم تقرّب

فقال له ابن عباس : أتدري مَن قاله؟ قال عروة : أبو أحمد بن جحش.

فقال : فهل تدري ما قال له رسول الله؟ قال : لا ، قال : قال له : صدقت (١).

فأحسن إليه مع سابق إساءة أبيه وأخيه إلى ابن عباس في الأمس القريب بمحاربتهم له وللإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوم الجمل.

لكن عروة بقي على ما ورثه من العداوة والمناواة لابن عباس وبني هاشم ، فقد روى الذهبي في ذيل ترجمة محمّد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج عن

____________________

(١) ربيع الأبرار ٢ / ١٨١ نسخة الشيخ السماوي بخطه ، و ٣ / ٥٧٨ ط الأوقاف ببغداد.

٣٤١

سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : « تمتع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس : ما تقول يا عريّة؟ قال : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ـ ابن عباس ـ : أراهم سيهلكون! أقول : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ويقولون : قال أبو بكر وعمر.

قال ابن حزم : إنّها لعظيمة ما رضي بها قط أبو بكر وعمر ... » (١).

وازداد عروة عتواً حين جرت الرياح لصالح أخيه وتعدّى في سلطانه على بني هاشم حتى أراد إحراقهم ، فأنجاهم الله تعالى من كيده بإغاثة المختار لهم بجيش أرسله مع أبي عبد الله الجدلي ـ كما مرّ ذكر ذلك ـ وصار الناس ينقدون ابن الزبير على فعله ذلك ، وخشية انفضاض من معه عنه.

« كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم ، وحصره إياهم في الشعب ، وجمعه الحطب لتحريضهم ويقول : إنما أراد بذلك ألاّ تنتشر الكلمة ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فإنّه أحضر الحطب ليحرّق عليهم الدار » (٢). قال المسعودي في مروج الذهب بعد ذكره هذا الخبر

____________________

(١) تذكرة الحفاظ ٣ / ٨٣٧ ط حيدرأباد.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي ٢٠ / ١٤٧ بتحـ محمّد أبو الفضل إبراهيم. نقلاً عن المسعودي ، ولدى الرجوع إلى المطبوع من مروج الذهب نجد الاختلاف في الطبعات القديمة والحديثة وحسبنا أن ننقل لكم ما في طبعة بولاق سنة ١٢٨٣ ، ٢ / ٧٩ وطبعة الأزهرية سنة ١٣٠٣ وبهامشها روضة الناظر لابن الشحنة ٢ / ٧٢ ، وطبعة مصرية ثالثة بهامش تاريخ ابن الأثير ٦ / ١٦٠ ـ ١٦١ وطبعة العامرة البهية سنة ١٣٤٦ ففيها : كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحصره إياهم في الشعب ، وجمعه الحطب لتحريقهم ويقول : إنّما أراد بذلك إرهابهم ، ليدخلوا في طاعته ، كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لإحراقهم ، إذ هم أبوا البيعة فيما سلف ...

أمّا في الطبعات الحديثة بمصر وبيروت فثمة حذف متعمد ، ستراً على السلف. واليكم نص ما في طبعة مصر بتحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد سنة ١٣٦٧ مطبعة

٣٤٢

باقتضاب : « وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا ، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب ( حدائق الأذهان ) ».

أقول : وهذا الكتاب من آثاره المفقودة فيما أعلم.

وأمّا الخبر الّذي أشار إليه ولم يحتمل ذكره في المقام ، فهو من الأخبار الثابتة تاريخياً ، ولا مجال لإنكارها أو كتمانها لاستنكارها ، فقد رواه من المؤرخين من غير الشيعة من لا يتهم في نقله :

١ ـ أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة وعنه ابن أبي الحديد في شرح النهج (١).

٢ ـ ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (٢).

٣ ـ البلاذري في أنساب الأشراف (٣).

٤ ـ النظام وأقرّه الشهرستاني في الملل والنحل (٤) وبهامش الفصل لابن حزم (٥).

____________________

السعادة ، وأيضاً الطبعة الثالثة سنة ١٣٧٧ وقد كتب عليها مزيدة ومنقحة في ٣ / ٨٦ ، وطبعة بيروت دار الفكر وكذلك طبعة دار الأندلس فجميعها حذف منها جملة « كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لاحراقهم إذ هم أبوا البيعة فيما سلف » وقد عمي المحققون لهذه الطبعات عمّا نمّ به السارق على نفسه بإثباته جملة « إذ هم أبوا البيعة فيما سلف » فهي لا تتفق ولا تتسق إلاّ مع الجملة المحذوفة « كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لإحراقهم » فكيف استساغوا تمرير العبارة مع وضوح الإشارة؟ أما شارل بلا في تحقيقه لمروج الذهب منشورات الشريف الرضي ٣ / ٢٧٦ برقم ١٩٣٤ فقد ذكر ذلك في الهامش عن نسخة م.

(١) شرح النهج ١ / ١٣٢ ط مصر الأولى.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ١٢ ط مصطفى محمّد.

(٣) أنساب الأشراف ١ / ٥٨٦ دار المعارف بتحـ الدكتور محمّد حميد الله.

(٤) الملل والنحل ١ / ٥٧ ط بيروت.

(٥) هامش الفصل لابن حزم ١ / ٦٥ ط محمّد عليّ صبيح.

٣٤٣

٥ ـ ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد (١).

٦ ـ ابن أبي شيبة (٢).

٧ ـ ابن الشحنة في تاريخه (٣).

٨ ـ أبو الفداء في تاريخ المختصر في أخبار البشر (٤).

٩ ـ المتقي الهندي في كنز العمال نقلاً عن ابن أبي شيبة كما مرّ (٥).

١٠ ـ حافظ إبراهيم شاعر النيل في قصيدته العمرية كما في ديوانه المطبوع بمصر حيث قال :

وقولة لعليّ قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقت دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنان وحاميها

فهذا ما احتج به عروة تعذيراً لأخيه في عزمه على تحريق بني هاشم ، لولا أن أنجاهم الله من كيده على يد جيش المختار بقيادة أبي عبد الله الجدلي كما مرّ.

وهذا ما أعرض عنه المسعودي فلم يروه في مروجه ، وذكره غيره ولكلّ وجهةٌ هو مولّيها بين مشرّق ومغرّب ، وهكذا تضيع الحقائق.

ولنعم ما فعل الشاطبي ( ت ٧٩٠ ) في كتابه الاعتصام حين ساق الشواهد على مخالفة الناس للسنّة ومؤالفتهم للبدعة فقال : « إذ ما من بدعة تحدث إلاّ

____________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ط لجنة التأليف والترجمة والنشر بتحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري.

(٢) أنظر كنز العمال ٣ / ١٤٠ ط حيدر آباد الأولى و ٥ / ٣٨١ ط حيدر آباد الثانية.

(٣) روضة الناظر بهامش تاريخ ابن الأثير ١١ / ١١٣ ط ذات التحرير بمصر سنة ١٣٠٣ هـ.

(٤) تاريخ المختصر في أخبار البشر ١ / ١٥٦ ط أفست بيروت عن الطبعة المصرية.

(٥) كنز العمال ٥ / ٣٨١ ط حيدر آباد الثانية.

٣٤٤

ويموت من السنّة ما هو في مقابلتها حسبما جاء عن السلف في ذلك ، فعن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلاّ أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنّة ، حتى تحيى البدعة وتموت السنن » (١).

وكأنّ فعل عمر وقوله في التحريق لبيت عليّ وفاطمة ( عليهما السلام ) صار سنة يقتدى بها ، أمّا وقوف النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على باب ذلك البيت وتلاوته ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٢) طيلة تسعة أشهر ، فيعرض عنه ، مع أنّ فعله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقوله حجة ملزمة للمسلمين ، وسنّة تفرض المودّة والولاء ، لكن المسلمين أعرضوا عن تلك السنّة ، والتزموا سنّة عمر عملياً واحتجوا بها كما فعل أبناء الزبير.

ورحم الله ابن عباس الّذي وقف مجاهداً في سبيل إحياء السنّة وإماتة البدعة بشتى الوسائل المتاحة له يومئذ. فهو لم يبرح يحدّث الناس في ذلك.

فتارة يقول : « من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ولم تمض به سنّة من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله ( عزّ وجلّ ) » (٣).

وأخرى يقول لهم : « إنّما هو كتاب الله وسنّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فمن قال بعد ذلك رأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته » (٤).

وثالثة ينكر على من يعارض ما بلغه من السنّة بقوله قال أبو بكر وعمر ، ويقول : « يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وتقولون : قال أبو بكر وعمر » (٥).

____________________

(١) الاعتصام ١ / ٢١٣.

(٢) الأحزاب / ٣٣.

(٣) أعلام الموقعين ١ / ٤٨ ط المنيرية.

(٤) نفس المصدر.

(٥) نفس المصدر ٢ / ١٧١.

٣٤٥

ورابعة يقول : « كيف لاتخافون أن يخسف بكم أو تعذّبون ، وأنتم تقولون : قال رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وقال فلان » (١).

الطائف دار الهجرة الآخرة إلى الآخرة :

لقد كان ابن عباس يرى في إقامته بمكة فضلاً لا يدركه في أيّ مكان آخر ، كما أنّ أهل مكة كانوا يفتخرون على بقية الأقطار بعبد الله بن عباس.

وفي النجوم الزاهرة : « وكان ابن عباس يقول : ما أعلم على وجه الأرض بلدة تدفع فيها بالحسنة مائة إلاّ مكة ، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة يكتب لمن صلّى فيها ركعة بمائة ركعة غير مكة ، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة يتصدق فيها بدرهم فيكتب له ألف درهم إلاّ مكة ، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة هي مأوى الأبرار ومصلى الأخيار غير مكة ، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة ما مسّ منها شيء إلاّ وفيه تكفير للخطايا إلاّ مكة ، ولا أعلم بلدة يحشر فيها الأنبياء غير مكة ، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كلّ يوم من روح الجنة ما ينزل بمكة ... » (٢).

ولشدّة المعاناة الّتي لاقاها من ابن الزبير وأصحابه صار يتمنى الخروج إلى أي مكان وليس فيه سلطان للظالمين وهو القائل : « لولا مخافة الوسواس لرحلت إلى بلاد لا أنيس فيها وأقمت فيها إلى أن ألقى الله تعالى ، فما يفسد الناس إلاّ الناس » (٣).

ولم يهاجر ابن عباس إلى الطائف في هذه المرة وهي الثالثة ، إلاّ مرغماً ومراغِماً من ابن الزبير ، فقد قاسى منه الأمرّين مكابَداً و مكايَداً حتى تفتت من

____________________

(١) تاريخ جرجان للسهمي / ٤٢٧ ط أفست عن طبعة أوربا.

(٢) النجوم الزاهرة ١ / ١٩٧.

(٣) الحكمة الخالدة لأبي عليّ بن مسكويه / ١٧٣ تح ـ عبد الرحمن بدوي ط مصر سنة ١٩٥٢.

٣٤٦

أذاه كبده كما أخبر عن نفسه ، فقد روى الشيخ يوسف البحراني : « أنّ بقرة ذبحت فوجد كبدها قد تفتت فقال له ابنه عليّ يخبره : أما ترى كبد هذه البقرة يا أبت قد تفتت ، فقال له : يا بنيّ هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك » (١).

وقال المسعودي في المروج : « فخرج ابن عباس من مكة خوفاً على نفسه فنزل الطائف » (٢).

وقال اليعقوبي في تاريخه : « ولمّا لم يكن بابن الزبير قوة على بني هاشم وعجز عمّا دبّره فيهم أخرجهم عن مكة ، وأخرج محمّد بن الحنفية إلى ناحية رضوى ، وأخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف إخراجاً قبيحاً » (٣).

ومهما تكن كيفية الخروج أو الأخراج فقد نزل ابن عباس وهو في طريقه إلى الطائف بنَعمان ـ وهو بلد بين مكة والطائف غزاه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ وقيل واد لهذيل بين أدناه ومكة نصف ليلة (٤) ـ فنزل وصلّى ركعتين ثمّ رفع يديه يدعو فقال : « اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن بلد أحبّ إليَّ من أن أعبدك فيه من البلد الحرام ، وإنّني لا أحب أن تقبض روحي إلاّ فيه ، وإنّ ابن الزبير أخرجني منه ليكون الأقوى في سلطانه ، اللّهمّ فأوهن كيده ، واجعل دائرة السوء عليه » (٥).

وبلغ أهل الطائف خبر مجيئه فخرجوا لاستقباله يهرعون فتلقوه بالترحاب وقالوا له : مرحباً يا بن عم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، أنت والله أحبّ إلينا وأكرم علينا ممّن أخرجك ، هذه منازلنا تخيّرها فانزل منها حيث أحببت. فنزل الطائف وحلّ بين

____________________

(١) الكشكول ٢ / ١٣ ط النجف.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٨٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٣ / ٩ ط الغري.

(٤) معجم البلدان ( نعمان ).

(٥) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ٢٠ / ١٢٤ ط محققة.

٣٤٧

ظهرانيهم ، وشاع خبر إخراج ابن الزبير له عن مكة فعظم ذلك على المسلمين ، وورد إليه كتاب تسلية من محمّد بن الحنفية ـ الّذي كان برضوى فيما أخال ، وربّما كان بعدُ في طريقه إياباً أو ذهاباً إلى الشام ـ جاء فيه :

أمّا بعد فقد بلغني أنّ ابن الكاهلية ـ ابن الجاهلية ـ سيّرك إلى الطائف ، فرفع الله ( عزّ وجلّ ) اسمه بذلك لك ذكراً ، وأعظم لك أجراً ، وحطّ به عنك وزرا ، يا بن عم إنما يبتلى الصالحون ، وإنما تهدى الكرامة للأبرار ، ولو لم تؤجر إلاّ فيما نحب وتحب إذاً قلّ الأجر ، فاصبر فان الله تعالى قد وعد الصابرين قال الله ( عزّ وجلّ ) : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (١) وهذا ما لست أشك أنّه خير لك عند بارئك ، وعظم الله لك الصبر على البلوى والشكر في النعماء انّه على كلّ شيء قدير ).

فكتب إليه ابن عباس مجيباً عن ذلك :

( أمّا بعد فقد أتاني كتابك تعزّيني فيه على تسييري ، وتسأل ربّك جلّ اسمه ان يرفع لي به ذكراً ، وهو تعالى قادر على تضعيف الأجر ، والعائدة بالفضل ، والزيادة من الإحسان ، ما أحب أنّ الّذي ركب مني ابن الزبير كان ركبه مني أعدى خلق الله لي ، احتساباً ، وذلك في حسناتي ولما أرجو أن أنال به رضوان ربّي ، يا أخي الدنيا قد ولّت وإن الآخرة قد أظلّت ، فاعمل صالحاً تجز صالحاً ، جعلنا الله وإياك ممّن يخافه بالغيب ، ويعمل لرضوانه في السرّ والعلانية ، إنّه على كلّ شيء قدير ) (٢).

____________________

(١) البقرة / ٢١٦.

(٢) لقد روى الكتاب والجواب الشيخ المفيد في أماليه / ١٨٦ ط الحيدرية سنة ١٣٦٧ وعنه رواه الشيخ الطوسي في أماليه أيضاً ١ / ١١٩ ـ ١٢٠ وبين الكتابين تفاوت لفظي يسير ليس بشيء إلاّ أن الحسن بن شعبة الحراني ـ من القرن الرابع الهجري ـ روى في كتابه تحف العقول / ٥٨ ط حجرية سنة ١٢٩٩ ص٢٥٠ طبعة كتابفروشي إسلامية هذا الكتاب بزيادة

٣٤٨

نشاط ابن عباس في الطائف :

قال أبو عبد الله النقاش فأجاد :

إذا وجد الشيخ من نفسه

نشاطاً فذلك موت خفي

ألست ترى أنّ ضوء السراج

له لهب قبل أن ينطفي (١)

وهكذا لقد نشط ابن عباس وهو بذلك السنّ وقد جاوز السبعين من العمر ، نشاطاً ملحوظاً في تثقيف أهل الطائف وان كان نشاطه كنور ذبالة السراج قبل إنطفائها وقد نفد زيتها ، فهو يؤدي بذلك رسالته الإصلاحية الّتي تحمّلها. فكان يجلس لأهل الطائف الّذين يتوافدون عليه مغتبطين بحلوله عندهم ، يستفتونه فيفتيهم ، ويتطلبون المزيد من حديثه فيحدّثهم ، ينهلون من نمير علومه ما وسعهم ، وهو على ما به من تقدم السنّ وفقدان البصر وضعف الحال ، لم يترك أداء رسالته الّتي أخذ الله على العلماء أن يؤدّوها ، وأن ( لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ) كما قال إمامه وابن عمّه ومربّيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في آخر شقشقته الّتي وعاها ابن عباس عنه دراية ، فأدّاها إلى الأمة رواية ، فمن هو أولى بها رعاية وحماية ، فاتخذها نهجاً يخطب في أهل الطائف ويبلّغهم ـ غير هيّاب ولا خائف ـ

____________________

في آخره : ولا أشمت بنا ولا بك عدواً حاسداً أبداً والسلام. ونسبه إلى الحسين ( عليه السلام ) ، فقد رواه فيما روي عن الحسين فقال : وكتب إلى عبد الله بن العباس حين سيّره عبد الله بن الزبير إلى اليمن وذكر الكتاب. ولما كان التبعيد من ابن الزبير أيام حكومته وهي بعد شهادة الحسين ( عليه السلام ) فلا يعقل أن يكون الكتاب منه ( عليه السلام ) ، واحتمال انّه من عليّ بن الحسين بعيد ، لأنّ ابن عباس خاطب المكتوب إليه بـ ( يا أخي ) ممّا يكشف أنّه من أقرانه سنّاً ، وعليّ بن الحسين ليس كذلك في سنّه. فاحتمال وهم المؤلف أو من روى عنهم وارد ، ويؤكد أن مرسل الكتاب هو محمّد بن الحنفية رواية اليعقوبي له في تاريخه ٣ / ٩ ط الغري فقد ذكره مرسلاً من دون ذكر الجواب.

(١) الخريدة ق ٣ / ١ / ٥٠.

٣٤٩

ما وعى وحوى من العلم النافع ، وكثر عكوف الناس عليه ، فصار يخطب فيهم مندداً بابن الزبير من غير أن يسمّيه ، ويكنّي عنه كناية أبلغ من التصريح ، وبلغ خبره ابن الزبير فغاضه ذلك.

وقد حدّث المدائني عن جانب من ذلك فقال : « كان يحمد الله ويذكر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والخلفاء بعده ويقول : ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم ولا أشباههم ولا من يدانيهم ، ولكن بقي أقوام يطلبون الدنيا بعمل الآخرة ، ويلبسون جلود الضأن تحتها قلوب الذئاب والنمور ، ليظن الناس أنّهم من الزاهدين في الدنيا ، ويراؤون الناس بأعمالهم ، ويسخطون الله بسرائرهم ، فادعوا الله أن يقضي لهذه الأمة بالخير والإحسان ، فيولّي أمرها خيارها وأبرارها ، ويهلك فجّارها وأشرارها. ارفعوا أيديكم إلى ربّكم وسلوه ذلك » (١) ، فيفعل ذلك أهل الطائف ذلك ويؤمّنون على دعائه.

وتطايرت الأخبار إلى ابن الزبير بواسطة رجاله عن نشاط ابن عباس في الطائف وحاله ، ومدى تأثيره في الناس واستجابتهم لمقاله ، فأقلقه ذلك وتميّز غيظاً وغضباً ، فكتب إليه كتاباً يفيض بالحقد والشنآن والإحن والأضغان يقول فيه : « أمّا بعد فقد بلغني أنّك تجلس بالطائف العصرين ، فتفتيهم بالجهل ، وتعيب أهل العقل والعلم ، وإنّ حلمي عليك ، واستدامتي فيأك جرأك عليَّ ، فاكفف لا أباً لغيرك من غربك ، واربع على ضلعك ، واعقل إن كان لك معقول ، وأكرم نفسك ، فإنّك إن تهنها تجدها على الناس أعظم هواناً ، ألم تسمع قول الشاعر :

فنفسك أكرمها فإنّك إن تهَن

عليك فلن تلق لها الدهر مكرما

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ١٢٥.

٣٥٠

وإنّي أقسم بالله لئن لم تنته عمّا بلغني عنك لتجدنّ جانبي خَشِناً ، ولتجدنني إلى ما يردعك عني عجلا ، فرأيك ، فإن أشفى بك شقاؤك على الردى فلا تلم إلاّ نفسك ». فهذا كتاب فيه تنديد وفيه تهديد ووعيد.

فأجابه ابن عباس : « أمّا بعد فقد بلغني كتابك قلت إنّي أفتي الناس بالجهل ، وإنّما يفتي بالجهل من لم يعرف من العلم شيئاً ، وقد أتاني الله من العلم ما لم يؤتك ، وذكرت أنّ حلمك عني واستدامتك فيئي جرأني عليك ، ثمّ قلت اكفف من غربك ، واربع على ظلعك ، وضربت لي الأمثال ، أحاديث الضبع ، متى رأيتني لعرامك هائبا ، ومن حدك ناكلاً ، وقلت : لئن لم تكفف لتجدنّ جانبي خشناً ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ، ولا أرعى إليك إن أرعيت ، فوالله لا أنتهي عن قول الحقّ ، وصفة أهل العدل والفضل ، وذم الأخسرين أعمالاً الّذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً والسلام » (١).

وهذا جواب فيه تقريع وزراية ، وفيه إهانة واستهانة نافت على الغاية. وأيّ غايةٌ بعد قوله : « فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ، ولا أرعى إليك إن أرعيت »؟ ولعل ابن عباس إنّما أجابه على كتابه لأنّه كان يقول : « إنّي لأرى ردّ جواب الكتاب حقاً عليَّ كردّ السلام » (٢) ولئلا يظن به الجبن والانهزامية أمام تهديد ووعيد ابن الزبير ، وهو هو لا يزال في صلابة موقفه المتماسك ، وقوة شخصيته المتعالية.

روى البلاذري في أنسابه خبر ذلك بسنده عن أبي مخنف قال : « لمّا نزل ابن عباس الطائف حين نافره ابن الزبير ، كان صلحاء الطائف يجتمعون إليه ،

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ١٢٥.

(٢) الطبقات الكبري لابن سعد / ١٦٦ تح ـ السُلمي.

٣٥١

ويأتيه أبناء السبيل يسألونه ويستفتونه ، فكان يتكلم في كلّ يوم بكلام لا يدعه وهو : ( الحمد لله الّذي هدانا للإسلام ، وعلّمنا القرآن ، وأكرمنا بمحمّد ( عليه السلام ) ، فانتاشنا به من الهلكة ، وانقذنا به من الضلالة ، فأفضل الأئمة أحسنها لسنّته اتّباعاً ، وأعلمهم بما في كتاب الله احتساباً ، وقد عمل بكتاب الله ربّكم وسنة نبيكم قوم صالحون ، على الله جزاؤهم ، وهلكوا فلم يدعوا بعدهم أمثالهم ، ولا موازياً لهم ، وبقي قوم يريغون الدنيا بعمل الآخرة ، يلبسون جلود الضأن لتحسبوهم من الزاهدين ، يرضونكم بظاهرهم ، ويسخطون الله بسرائرهم ، إذا عاهدوا لم يوفوا ، واذا حكموا لم يعدلوا ، يرون الغدر حزماً ، ونقض العهد مكيدة ، ويمنعون الحقوق أهلها ، فنسأل الله أن يهلك شرار هذه الأمة ويولّي أمورَها خيارَها ).

فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إليه : ( إنّك تجلس العصرين فتفتي بالجهل ، وتعيب أهل البرّ والفضل ، وأظنّ حلمي عنك واستدامتي إياك جرّءاك عليَّ ، فاكفف عني من غربك ، واربع على ظلعك ، واربح على نفسك ).

فكتب إليه ابن عباس : ( فهمت كتابك ، وإنّما يفتي بالجهل من لم يؤت من العلم شيئاً ، وقد أتاني الله منه ما لم يؤته إياك ، وزعمت أنّ حلمك عني جرأني عليك ، فهذه أحاديث الضبع أستها ، متى كنت لعرامك هائباً ، وعن حدّك ناكلاً ثمّ تقول : إنّي إن لم أنته وجدت جانبك خشناً ، وجدتك إلى مكروهي عجلاً ، فما أكثر ما طرت إليَّ بشقّة من الجهل ، وتعهدتني بفاقرة من المكروه ، فلم تضرر إلاّ نفسك ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ، ولا أرعى إن رعيت ، فوالله لا انتهيت عن ارضاء الله بإسخاطك » (١).

____________________

(١) أنساب الأشراف ( في ترجمة ابن عباس ) بخطي.

٣٥٢

معطيات ابن عباس في الطائف :

أمّا أنّ معطياته لكثيرة وكبيرة إذا ما تدبّرنا ما جاء في كتاب ابن الزبير ما يعرب عن قلق ، يخشى أن يستمر العطاء فيفلت منه الوكاء لذلك هدّد وتوعّد ، ولكن ابن عباس كما قرأنا جوابه قد أقسم بالله أن لا ينتهي عن قولة الحقّ وصفة أهل العدل والفضل ، وذمّ الأخسرين أعمالاً ... وقد أبرّ قسمه ولم يحنث ، بل وفى وأوفى ، وقد وردت أخبار متفرقة في معانيها ، مجتمعة في مبانيها ، دلّت على ما كان يبذله من عطاء مثمر ومستمر حتى آخر أيامه ، بل وحتى ساعة موته.

فلنقرأ ما وصل إلينا من تلك الأخبار :

١ ـ روى السيّد ابن طاووس ( ت ٦٦٤ ) في فلاح السائل قال : « ورواية أخرى في أسرار الأذان مروية عن ابن عباس رضوان الله عليه ، وهو تلميذ مولانا عليّ ( عليه السلام ) ، ورواياته في مثل هذا إمّا إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأمّا إلى مولانا عليّ ( عليه السلام ).

قال السعيد أبو جعفر ابن بابويه (١) : حدّثني أبو الحسن محمّد بن عمرو بن عليّ بن عبد الله البصري ، قال : حدّثنا أبو محمّد خلف بن محمّد البلخي بها عن أبيه محمّد بن أحمد قال : حدّثنا عياش بن الضحاك عن مكي بن إبراهيم عن ابن جريج عن عطاء قال : كنا عند ابن عباس بالطائف أنا وأبو العالية وسعيد بن جبير وعكرمة ، فجاء المؤذن فقال الله أكبر الله أكبر ـ واسم المؤذن قثم بن عبد الرحمان الثقفي ـ قال فقال ابن عباس : أتدرون ما قال المؤذّن؟ فسأله أبو العالية وقال : أخبرنا بتفسيره.

قال ابن عباس : إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر يقول : يا مشاغيل الأرض قد وجبت الصلاة فتفرّغوا لها.

____________________

(١) معاني الأخبار / ٣٨ ط الحيدرية بتقديمي سنة ١٣٩١.

٣٥٣

وإذا قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله يقول : يقوم يوم القيامة ويشهد لي ما في السموات وما في الأرض على أنّي أخبرتكم في اليوم خمس مرات.

وإذا قال : أشهد أنّ محمّداً رسول الله يقول : يقوم يوم القيامة ومحمّد يشهد لي عليكم أن قد أخبرتكم بذلك في اليوم خمس مرات وحجتي عند الله قائمة.

وإذا قال : حي على الصلاة يقول : ديناً قيّماً فأقيموه.

وإذا قال : حي على الفلاح يقول : هلمّوا إلى طاعة الله وخذوا سهمكم من رحمة الله ـ يعني الجماعة ـ.

وإذا قال العبد : الله أكبر يقول : حرمت الأعمال.

وإذا قال : لا إله إلاّ الله يقول : أمانة سبع سماوات وسبع أرضين والجبال والبحار وُضعت على أعناقكم ، إن شئتم فأقبلوا ، وإن شئتم فأدبروا » (١).

وفي هذا النص إيماءة إلى أنّ ابن عباس كان يصلي بهم جماعة ، وتلك الايماءة هي قول عطاء : « فجاء المؤذن فقال ... لماذا جاء وأذّن؟ أليس للصلاة؟ » فمن ذا يكون الإمام إذا لم يكن هو ابن عباس ، ولو كان غيره لذكر لنا عطاء اسمه كما ذكر اسم المؤذن. هذا ما أراه وفوق كلّ ذي علم عليم.

٢ ـ أخرج الحاكم النيسابوري بسنده عن عبد الله بن مليك العجلي : « قال سمعت ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قبل موته بثلاث يقول : اللّهمّ إنّي أتوب إليك ممّا كنت أفتي الناس في الصرف ».

ثمّ قال الحاكم : « هذا حديث صحيح الإسناد وهو من أجلّ مناقب عبد الله ابن عباس ، إنّه رجع عن فتوى لم ينقم عليه في شيء غيرها » (٢). ووافقه الذهبي (٣).

____________________

(١) فلاح السائل / ١٣٧ ط الحيدرية بتقديمي سنة ١٣٨٥.

(٢) المستدرك ٣ / ٥٤٢.

(٣) التلخيص / ٥٤٣ بهامش المستدرك على التصحيح.

٣٥٤

وأشار إلى ذلك ابن أبي الحديد في شرحه ، فقال : « وأنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الصرف وسفّهوا رأيه حتى قيل إنّه تاب من ذلك عند موته » (١).

أقول : لقد روى ابن حزم عدم رجوعه عن سعيد بن جبير وهو من المختصين به. ومهما يكن فسوف يأتي البحث حول هذه الفتيا الّتي أثارت عليه نقد الصحابة في الحلقة الثالثة في فقهه. وممّا ينبغي الإشارة إليه أنّه لم يكن وحده يرى ذلك ، فقد كان ابن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم يرون مثل رأيه أيضاً كما في الخلاف للشيخ الطوسي (٢) والمغني (٣).

٣ ـ أخرج الخزاز في كفاية الأثر بسنده عن عطاء قال : « دخلنا على ابن عباس وهو عليل بالطائف في العلة الّتي توفي فيها ـ ونحن رهط ثلاثين رجلاً من شيوخ الطائف ـ وقد ضعف ، فسلّمنا عليه وجلسنا ، فقال لي : يا عطاء من القوم؟ قلت : يا سيدي هم شيوخ هذا البلد منهم عبد الله بن سلمة الحضرمي الطائفي وعمارة بن الأجلح وثابت بن مالك فما زلت أعدّ له واحداً بعد واحد ، ثمّ تقدموا إليه فقالوا : يا بن عم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وسمعت منه ما سمعت ، فأخبرنا عن أختلاف هذه الأمة ، فقوم قد قدّموا عليّاً على غيره ، وقوم جعلوه بعد ثلاثة؟

قال ـ عطاء ـ فتنفّس ابن عباس وقال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : ( عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، وهو الإمام والخليفة من بعدي ، فمن تمسّك به فاز ونجا ، ومن تخلف عنه ضل وغوى ، يلي تكفيني وتغسيلي ، ويقضي ديني ، وأبو سبطيّ

____________________

(١) شرح النهج ٤ / ٤٥٩.

(٢) الخلاف ٣ / ٤٢ ـ ٤٣ ط جماعة المدرّسين بقم.

(٣) المغني لابن قدامة الحنبلي المقدسي ٤ / ١ ط دار المنار.

٣٥٥

الحسن والحسين ، ومن صلب الحسين تخرج الأئمة التسعة ، ومنا مهدي هذه الأمة ) فقال له عبد الله بن سلمة الحضرمي : يا بن عم رسول الله فهلاّ كنت تعرفنا قبل هذا؟

فقال : قد والله أدّيت ما سمعت ، ونصحت لكم ولكنكم لا تحبّون الناصحين. ثمّ قال :

أتقوا الله عباد الله تقاة من اعتبر بهذا ، واتقى في وجل ، وكمش في مهل ، ورغب في طلب ، ورهب في هرب ، واعملوا لآخرتكم قبل حلول آجالكم ، وتمسكوا بالعروة الوثقى من عترة نبيكم ، فإني سمعته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : ( من تمسك بعترتي كان من الفائزين ).

ثمّ بكى بكاءً شديداً ، فقال له القوم : أتبكي ومكانك من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مكانك؟

فقال لي : يا عطاء إنما أبكي لخصلتين : هول المطّلع وفراق الأحبّة. ثمّ تفرّق القوم ... » (١).

٤ ـ روى الذهبي عن عكرمة : « إنّ الناس من أهل الطائف ومعهم علم من علمه أو قال كتب من كتبه ، فجعلوا يستقرؤونه ، وجعل يقدّم ويؤخّر ، فلمّا رأى ذلك قال : إنّي قد تلهت من مصيبتي هذه ، فمن كان عنده علم من علمي ، فليقرأ عليَّ ، فإنّ إقراري له كقراءتي عليه. قال : فقرأوا عليه » (٢).

تلهت : تحيرت ، والأصل : ولهت كما قيل في وجاه تجاه.

____________________

(١) كفاية الأثر ( باب ما جاء عن عبد الله بن عباس ) ط حجرية و ٢٠ ط محققة إيران.

(٢) أنساب الأشراف ترجمة ابن عباس بخطي برقم / ٥٣ ، سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٤ ط دار الفكر.

تلهت : تحيرت ، والأصل : ولهت كما قيل في وجاه تجاه.

٣٥٦

ورواه المقريزي في كتابه المقفى الكبير (١).

٥ ـ أخرج الكشي في معرفة الناقلين ، قال : « حمدويه وإبراهيم قالا : حدّثنا أيوب بن نوح عن صفوان بن يحيى عن عاصم بن حميد عن سلام بن سعيد عن عبد الله بن عبد ياليل ( ثاليل / خ ) ـ رجل من أهل الطائف ـ قال : أتينا ابن عباس ( رحمة الله عليهما ) نعوده في مرضه الّذي مات فيه ، قال : فأغمي عليه في البيت فأخرج إلى صحن الدار. قال : فأفاق فقال : إنّ خليلي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : إنّي سأهجر هجرتين ، وإنّي سأخرج من هجرتي ، فهاجرت هجرة مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وهجرة مع عليّ ( عليه السلام ) ، وإنّي سأعمى فعميت ، وإنّي سأغرق ، فأصابني حكة فطرحني أهل في البحر فغفلوا عني فغرقت ثمّ استخرجوني بعد.

وأمرني أن أبرأ من خمسة من الناكثين وهم أصحاب الجمل ، ومن القاسطين وهم أصحاب الشام ، ومن الخوارج وهم أهل النهروان ، ومن القدرية وهم الّذين ضاهوا النصارى في دينهم فقالوا : لا قدر ، ومن المرجئة الّذين ضاهوا اليهود في دينهم فقالوا : الله أعلم » (٢).

وسيأتي عنه بعض الأخبار الغيبية ممّا قد يرتاب فيها المبطلون ، لكنّا لا نشك في إنّها من عين صافية وهو صادق أمين ، وفي هذا الخبر الآنف الذكر دليل على صحة ما نراه.

٦ ـ إنّ بداية هجرته الآخرة إلى الطائف كانت فيما أحسب بعد مقتل المختار الّذي هو في ١٤ رمضان سنة ٦٧ هـ ، وقد مرّ بنا شماتة ابن الزبير به حين

____________________

(١) المقفى الكبير ٤ / ٥٠١ ط دار الغرب الإسلامي بيروت.

(٢) معرفة الناقلين كما في اختياره للشيخ الطوسي / ٣٨ ط بمبئ و ٥٦ بتحـ حسن المصطفوي ط دار مشكاة مشهد.

٣٥٧

أخبره بقتل المختار وجوابه اللاذع البارع حتى استهانّ به ، أهون من كلب في درب الجامع على حدّ تعبيره ، أمّا نهايتها فكانت سنة ٦٨ ، ومن المؤسف حقاً أن لا يذكر لنا رواة وفاته الّذين حضروها وشاركوا في تجهيزه والصلاة عليه ، وحتى ذكروا ما قيل في تأبينه ساعة دفنه ، فلم يذكروا لنا تاريخ موته يوماً وشهراً ، وحتى السنة الّتي ذكروها ، قد خالفهم من ذكر أنّها كانت في غير سنة ٦٨ كما سيأتي تحقيق ذلك.

ماذا عنه في مرض موته؟

لقد ذكر ابن سعد في طبقاته من حديث عطية بن سعد العوفي ، قال : « فمرض عبد الله بن عباس ، فبينما نحن عنده إذ قال في مرضه : إنّي أموت في خير عصابة على وجه الأرض ، أحبهم إلى الله ، وأكرمهم عليه ، وأقربهم إلى الله زلفى ، فإن متّ فيكم فأنتم هم. فما لبث إلاّ ثماني ليال بعد هذا القول حتى توفي رحمه الله ... » (١). وحكى ذلك أيضاً ابن الأثير (٢).

ونحن أزاء هذا الخبر لا نستبعد أن يكون ابن عباس قد تلقى ذلك إمّا من ابن عمه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وإمّا من ابن عمه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولا أحسب أنّه قاله من عنده لأنّه من الغيبيات المبشّرة ، وهو مع سموّ مكانته العلمية ، فلم يكن من أهل الغيبيات من عنده ، كيف وهو يتلو ويفسّر قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) (٣).

____________________

(١) الطبقات الكبرى ( ترجمة ابن عباس ) / ١٨٨ بتحـ السلمي.

(٢) أسد الغابة ٣ / ١٩٥ مط أفست الإسلامية.

(٣) الجن / ٢٦ ـ ٢٧.

٣٥٨

فقد حكى السيوطي في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) قال : أعلم الله الرسلَ من الغيب الوحي وأظهرهم عليه فيما أوحى إليهم من غيبه ، وما يحكم الله فإنّه لا يعلم ذلك غيره (١).

وإذا أردنا أن نتعامل مع النص السابق كوثيقة تاريخية أمكننا أن نعرف أنّ مدة مرضه كانت أكثر من الّتي حدّدها عطية بن سعد بثماني ليال ، فإنّها الليالي الّتي عاشها بعد قوله القول ، ولو أنّ عطية ذكر لنا تاريخ المرض أو تاريخ الوفاة لأفاد كثيراً.

وصاياه لابنه عليّ :

ومهما يكن فإنّ لابن عباس وصية أوصى بها ولده عليّاً لعلها كانت في تلك الفترة الّتي ذكرها عطية.

فقد ورد في مختصر تاريخ الخلفاء : « إنّه لمّا دنا موت عبد الله أوصى إلى ابنه عليّ فقال له : إنّ أفضل ما أوصيك به تقوى الله الّذي هو دعامة الأمر ، وبه يقوم الدين والدنيا ، ومن بعد ذلك فاعلم يا بني إن الناس قد أصبحوا ـ إلاّ قليلاً ـ في عمىً من أمرهم ، يضرب بعضهم بعضاً على دنيا فانية قد نعاها الله إليهم ، وقد سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول لجدّك : هذا الأمر كائن في ولدك عند زواله عن بني أمية ، فمن منهم ولي أمر الأمة فليتق الله وليعمل بالحقّ ، وليقتد برسول الله ، فإنّ أحق الناس باتباع أثره أمسّهم به رحماً ، وليست الحجاز لكم بدار بعدي ، فإذا أنت واريتني ، فالمم شعث أهلك

____________________

(١) الدر المنثور ٦ / ٢٧٥.

٣٥٩

والحقّ بالشام ، فإنّ لبني أمية أُكُلاً لابدّ أن يستوفوه ، وهم وإن كانوا على ضلالتهم وعتوّهم أرأف بك وبأهلك من آل الزبير ، للرحم الّتي بينك وبينهم ، وتوقّ حركات بني عمك عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأوص بذلك ولدك ، فإنّ لهم حركات يُقتَل الشاخص فيها » (١).

وقيل : إنّه قال له : الحقّ بابن عمك عبد الملك فإنّه أقرب وأخلق بالإمارة ، ودع ابن الزبير ، فإنّي رأيته لا يعرف صديقه من عدوه ، ومن يكون كذلك لم يتم أمره ولم يَصفُ له ، إنّ عبد الملك مشى اليقدمية ، وابن الزبير مشى القهقري وتمثل :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ثمّ قال له : يا بني إن أتيت الشام وخيّرك عبد الملك المنازل فانزل بالشراة فإنّ الملك إذا تحوّل من بني أمية تحوّل إلى رجل من أهل الشراة من أكثر أهل بيت في الناس ، وأنتم أولئك ....

ولا شك أنّ ابن عباس لم يكن ليقول ذلك من عنده ، إنّما تلقاه من لدن مدينة العلم ، أو من بابها ، وقد حدّثت هند بنت المهلب أنّ عكرمة أخبرها ـ وكان يدخل عليها كثيراً ويحدّثها ـ قال قال ابن عباس : لا يزال هذا الأمر في بني أمية ما لم يختلف بينهم رمحان ، فإذا اختلفوا خرجت منهم إلى يوم القيامة (٢). وله نحو هذا عدّة أقوال.

____________________

(١) مختصر تاريخ الخلفاء ط موسكو / ورقة ٢٤٢ ب.

(٢) كتاب الفتن لنعيم بن حماد ( نسخة مصورة ـ ميكروفلم ـ عن مكتبة المتحف البريطاني في لندن بمكتبتي ) ، والملاحم والفتن للسيد ابن طاووس / ١٣ نقلاً عن الفتن لنعيم بن حماد وعنه في كنز العمال ١٤ / ٨٧.

٣٦٠