موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

في حرب صفين ، وفيه : « فإنك راس الناس بعد عليّ » ولم يخدع ابن عباس بتلك المخاتلة والمغازلة.

وإنّ الخط البياني للعلاقة بين ابن عباس المأموم وبين ابن عمه الإمام لم يشهد منحيات تباعد بينهما فكراً وأسلوباً ومنهجاً ، وإن جهد المناؤون أن يوجدوا زاوية حادة لينفذوا منها في ثغرة فيوسعوها حتى النُفرة ، ولكنّا حين تبينّا الدسّ فقد تبنّينا العكس ، كما سيأتي توضيح ذلك بتفصيل في الحلقة الرابعة ( ابن عباس في الميزان ).

ولم نلاحظ أي تغيير في رأيه تجاه مبادئ الإمام بعد وفاته ، فهو على أنماط سلوكه في حياته ، بل ازدادت مواقفه الجهادية في الدفاع عنه ومقارعة أعدائه ضراوة وقساوة ، ولم يزل صامداً في خط المواجهة الساخن كجندي محارب ، ضد معاوية وأشياعه ، وحتى مع الخوارج والنواصب.

وعلى ذلك فقد ناصبوه العداء ، سواء المعلَن أو المبطّن ، وحسبنا دليلاً على ذلك محاوراته مع المناوئين وسيأتي الكثير منها في الحلقة الثانية إن شاء الله في صفحة احتجاجاته.

جهاد ابن عباس بسلاح الرواية :

ليس من شك في أنّه لا يوجد في جميع بني هاشم رهط الإمامين الحسنين ( عليهما السلام ) بعدهما ـ من يوازي ابن عباس في رصيده العالي في رواية الحديث. وحتى من كان يمتلك بعض ذلك فلم يرو الرواة عنه انّه استعمل رصيده ضدّ الحاكمين كما استعمله ابن عباس. كما لا شك في أنّه لا يوجد في حملة الحديث من الصحابة من يمتلك جرأة كجرأة ابن عباس في التحديث

٢١

بمساوئ الحاكمين ، وأخيراً لا يوجد في المسلمين يومئذ مَن كان لا يقبل حديث ابن عباس إذا حدّث بما يرويه في الحكّام الظالمين ، اللّهمّ إلاّ أن يكون أموي النسب أو النزعة.

وفيما أحسبه قد استقلّ وحده في المواجهة مع عدوّه اللدود معاوية خصوصاً حين بلغه تجبّره وطغيانه ، وقد بسط على الناس سلطانَه ، فأعلن بسبّ الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على منابر المسلمين ، ثمّ كتابته إلى الآفاق ينهى عن التحدث بفضائل الإمام ، وأعلن ببراءة الذمة ممّن روى في ذلك شيئاً ، والبراءة معناها إهدار دمه ، ثمّ هيأ من مرتزقة المحدثين زمرة تضع له الأحاديث في عثمان وأهل بيته ، فما كان أحدٌ يقوى على خوض تلك المعركة الظالمة الّتي بدأها معاوية إلاّ ابن عباس ، فكان منه الردّ السريع والمريع والحاسم والحاكم في نشر أحاديث فضائل الإمام ( عليه السلام ) ، كما كانت الضربة الموجعة لمعاوية في رواياته الّتي سمعها من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في معاوية وفي بني أمية سوى ما كان منه في توجيه الصفعة بعد الصفعة لهم.

لا أشبع الله بطنه :

وأخال أوّل تلك الضربات الموجعة لمعاوية رواية ابن عباس لحديث : ( لا أشبع الله بطنه ) وهو حديث ثابت ، وقد أخرجه مسلم ، باب من لعنه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أو سبّه أو دعا عليه ، وليس هو أهلاً لذلك كانت له زكاة وأجراً ورحمة (؟) ، ولفظه : « بسنده عن أبي حمزة القصاب عن ابن عباس قال : كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فتواريت خلف باب ، قال : فجاء فحطأني حطأة وقال : اذهب وادع

٢٢

لي معاوية ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، قال : ثمّ قال لي : اذهب فادع لي معاوية ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، فقال : ( لا أشبع الله بطنه ) » (١).

وأعاد ذكره مسلم مرة أخرى بسند آخر إلى أبي حمزة وبتفاوت يسير (٢).

فهذا الحديث صريح في دعاء النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على معاوية ، كما هو صريح في عدم مبالاة معاوية باستدعاء الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) واستمراره بالأكل ، وقد مرّ في الجزء الأوّل في حياة ابن عباس في عهد الرسول في شواهد ومشاهد ذكر الحديث. وسيأتي أيضاً تعقيبنا على هذا الحديث في مرويات مفتريات على ابن عباس.

وقفة تنوير مع علماء التبرير :

وهنا لابدّ من وقفة تنوير عن موقف علماء التبرير أزاء هذا الحديث ، بدءاً من شرّاح صحيح مسلم وأولهم النووي ولعله أهمّهم فقد قال :

« وأمّا دعاؤه على معاوية أن لا يشبع حين تأخر ففيه الجوابان السابقان ، أحدهما : انّه جرى على اللسان بلا قصد ، والثاني : انّه عقوبة له لتأخره. وقد فهم مسلم ( رحمه الله ) من هذا الحديث أنّ معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه فلهذا أدخله في هذا الباب ، وجعله غيره من مناقب معاوية ، لأنّه في الحقيقة يصير دعاء له ... » (٣).

وقال الوشتاني الآبي المالكي : « قوله : ( لا أشبع الله بطنه ) ( م ) يحمل على أنّه من القول السابق إلى اللسان من غير قصد إلى وقوعه ولا رغبة في إجابته ( ط ) وهو دعاء حقيقة فلعله لتراخيه في الإجابة ، وإجابته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على الفور ، ويحتمل انّه

____________________

(١) صحيح مسلم ٨ / ٢٧ ط محمّد عليّ صبيح في البرّ والصلة.

(٢) المصدر السابق.

(٣) شرح صحيح مسلم للنووي ١٦ / ١٥٦ ط مصر.

٢٣

معذور في تراخيه لجوع كان به أو خوف فساد الطعام ، ولهذا المعنى أدخله بعضهم في فضائل معاوية من حيث انّه ليس من أهل الدعاء عليه ، فيقال ما تقدم من قوله : اللّهمّ من دعوت عليه من أمتي وليس بأهل لها فاجعلها له طهوراً وزكاة وقربة تقرّبه بها يوم القيامة » (١).

وهذا ذكره بعينه السنوسي الحسيني في شرحه مكمّل إكمال الإكمال ولم يزد عليه بشيء. فراجع هامش المصدر السابق.هذا ما عند شرّاح صحيح مسلم.

أمّا عن المصادر الأخرى : فقد رواه أحمد في مسنده أربع مرات وليس في شيء منها ذكر الدعاء ( لا أشبع الله بطنه ) (٢) ، ورواه الطيالسي في مسنده (٣) ، وابن الأثير في أسد الغابة (٤) ، وابن أبي الحديد في شرح النهج (٥) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٦) وذكر أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ارسل ابن عباس خلف معاوية ثلاث مرات وقال في الثالثة : ( لا أشبع الله بطنه ) قال ـ ابن عباس ـ فما شبع بعدها. فعقب ابن كثير على ذلك بقوله :

« وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وآخراه ، أمّا في دنياه فانه لمّا صار إلى الشام أميراً ، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها ، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم ومن الحلوى

____________________

(١) اكمال اكمال المعلم ٧ / ٤٧ ط دار الكتب العلمية بيروت.

(٢) مسند أحمد ٣ / ١٩ برقم ٢١٥٠ تح ـ أحمد محمّد شاكر ط مكتبة التراث الإسلامي ، و ٣ / ٢٢٦ برقم ٢٦٥١ ، و ٤ / ٤٢ برقم ٣١٠٤ و ٤ / ٥١ برقم ٣١٣١ فستجد الحديث متفاوت الألفاظ ومبتوراً من الدعاء.

(٣) مسند الطياليسي ٢ / ٣٥٩.

(٤) أسد الغابة ٤ / ٣٨٦.

(٥) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٤٤٤ ط الأولى.

(٦) البداية والنهاية ٨ / ١١٩.

٢٤

والفاكهة شيئاً كثيراً ، ويقول : والله ما أشبع وإنما أعيى ، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كلّ الملوك. وأمّا في الآخرة فقد اتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الّذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( اللّهمّ إنّما أنا بشر فأيّما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلاً فاجعل ذلك كفارة وقربة تقرّبه بها عندك يوم القيامة ) فركّب مسلم من الحديث الأوّل وهذا الحديث فضيلة لمعاوية ، ولم يورد له غير ذلك » (١).

وهذا الحديث الثاني من رواية أبي هريرة نصرة للأمويين ، وإلاّ فالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم يكن يلعن من لا يستحق اللعن ، وعن أنس : « لم يكن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فاحشاً ولا لعّاناً ولا سبّاباً » (٢) ، فلعنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لطوائف من أمته ثابت لا شك فيه ، إنّما الّذي زعمه الزاعمون من علماء التبرير أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد يلعن من لا يستحق اللعن ، وهذا معناه غلبة البشرية عليه ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ) (٣) حتى صار يتجاوز في سبّه ولعنه وحتى جلده من لا يستحق ذلك بغلبة هوى البشرية ، فأين العصمة الّتي هي من خصائصه؟ وأين المدح الالهي له ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٤)؟

وأين قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد نهته قريش كلّ شيء يسمعه من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فذكر ذلك للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأومأ النبيّ باصبعه إلى فيه وقال : ( اكتب فوالّذي نفسي بيده لا يخرج عنه إلاّ حقّ ) (٥).

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١١٩.

(٢) الأدب المفرد للبخاري / ١٥٤.

(٣) فصلت / ٦.

(٤) القلم / ٤.

(٥) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر / ٣٦ باب الرخصة من كتاب العلم.

٢٥

وأغرب من ذلك ما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ، وقد ذكر الحديث وفيه الدعاء ثمّ قال : « وفسّره بعض المحبّين قال : لا أشبع الله بطنه حتى لا يكون ممّن يجوع يوم القيامة ، لأنّ الخبر عنه : أطول الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة ». ثمّ قال الذهبي : « قلت : هذا ما صحّ والتأويل ركيك ، وأشبه منه قوله ( عليه السلام ) : ( اللّهمّ من سببته أو شتمته من الأمة فاجعلها له رحمة ) أو كما قال : وقد كان معاوية معدوداً من الأكلة » (١).

أقول : ولا يعنينا الحديث عن نهم معاوية في الطعام فقد ذكر المؤرخون له شواهد كثيرة ونوادر يطلبها من شاء في مضانها. إنّما الّذي يعنينا في المقام نهم أصحاب الكلام في الدفاع عن معاوية ، الّذي قدمنا ما يكفي بتبصرة القارئ بحقيقته نقلاً عن أعلام لا يتهمون في أمره. ولكن الأهواء الشامية والنصب المبطّن حمل المعذّرين من علماء التبرير على الخوض في المستنقع العفن مع معاوية ولو على حساب كرامة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولو كانت لديهم مسكة من دين لكانوا مثل الحافظ النسائي ( رحمه الله ) ، فقد دخل بلاد الشام فرأى النُصب بها فكتب خصائص الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحدّث به ، فسئل عن معاوية وما روي في فضائله فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس حتى يفضّل ، ما أعرف له فضيلة إلاّ ( لا أشبع الله بطنه ) ... فما زالوا يدفعون في حضنيه ( خصييه ) وداسوه حتى أخرجوه من المسجد! قال أبو نعيم : لمّا داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس وهو منقول (٢).

____________________

(١) سير أعلام النبلاء للذهبي ٤ / ٢٨٧ ط دار الفكر.

(٢) راجع في ذلك ترجمة النسائي في مصادرها تجد القصة مذكورة ومنها تاريخ ابن خلكان ١ / ٧٧ تح ـ إحسان عباس.

٢٦

والشجرة الملعونة في القرآن :

لئن كان ابن عباس في روايته لحديث ( لا أشبع الله بطنه ) قد وجّه ضربته الموجعة والمفزعة لمعاوية ، فلقد أشفعها بأخرى أشدّ إيلاماً لمعاوية ولسائر بني أمية ، وتلك روايته في تفسير قوله تعالى : ( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (١) أنّهم بنو أمية.

فقد ذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس : انّه ( عليه السلام ) رأى في المنام بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فقيل : إنّما هي الدنيا أعطوها فسرّي عنه (٢). وذكر ذلك غير القرطبي وقالوا وفي ذلك نزل قوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) (٣).

وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس أنّه قال : « هذه الشجرة بنو أمية ... » (٤).

وقال أيضاً : « الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة الّتي تلتوي على الشجر فتقتله يعني الكشوث » (٥).

وأحسب أنّ قوله : ( يعني الكشوث ) ادراج من الراوي!

ومهما يكن ففي تفسيره للشجرة الملعونة بالشجرة الّتي تلتوي على الشجر فتقتله معنى كنائي وتشبيه له مغزاه ، إذ أنّ الكشوث نبات طفيلي ، لا جذر له ولا

____________________

(١) الإسراء / ٦٠.

(٢) تفسير القرطبي ١٠ / ٢٨٢.

(٣) الإسراء / ٦٠.

(٤) تفسير القرطبي ١٠ / ٢٨٦.

(٥) نفس المصدر.

٢٧

ورق تلتف ساقه على حاضنه وتنشب فيه زوائد ماصة تمص نسغه يضر على الأخص بمروج القُضُب ، وسواء صح أنّه قال ذلك التفسير وسماه الكشوث أو لم يصح فإنّه قد أصاب الهدف في التشبيه ، فبنو أمية أتوا إلى الحكم كالنبات الطفيلي المشبه به فلا جذر لهم فيه ولا ورق ، وإنّما ابتزوا الحكم من أصحابه كهيئة من سرق ، ثمّ امتصوا من الأمة دماءها وعرقها وكدها وجهدها كما يمتص الكشوث النسغ من الشجرة وهو السائل الّذي تمتصه الجذور من الأرض ويجري في الساق والأوراق بواسطة العروق ـ

روايته في آية النبأ :

روى الطبري في تفسيره بسنده عن ابن عباس في قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) (١) الآية ، قال : « كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعث الوليد بن عقبة ابن أبي معيط ، ثمّ أحد بني عمرو بن أمية ، ثمّ أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات ، وإنّه لما أتاهم الخبر فرحوا ، وخرجوا ليتلقوا رسول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وإنّه لمّا حُدِّث الوليد أنّهم خرجوا يتلقّونه ، رجع إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : يا رسول الله إنّ بني المصطلق قد منعوا الصدقة ، فغضب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) غضباً شديداً ، فبينما هو يحدّث نفسه أن يغزوهم ، إذ أتاه الوفد ، فقالوا : يا رسول الله إنّا حُدِّثنا أنّ رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنّا خشينا أن يكون رده كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنّا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله عذرهم في الكتاب فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (٢) » (٣).

____________________

(١) الحجرات / ٦.

(٢) الحجرات / ٦.

(٣) تفسير الطبري ٢٦ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

٢٨

وذكره السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية وقال أخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في سننه وابن عساكر عن ابن عباس.

وقد روى ذلك غير ابن عباس أيضاً ، وكان المسلمون يعرفون الوليد بالفاسق ، وهو المحدود في الخمر حدّه الإمام أمام عثمان بعد أن ثبت ذلك عليه ، وقصته مشهورة في التاريخ حين ولاّه عثمان ـ وكان أخاه لأمه ـ على الكوفة فشرب الخمر ثمّ قاءها في المحراب فشكاه أهل الكوفة وشهد عليه بذلك جماعة بعد أن أخذوا خاتمه من يده وهو سكران لا يعي ، وكاد عثمان يتستر عليه ولكن الإمام طالبه بإقامة الحد عليه فوكل الأمر إليه فجلده ، فكانت هذه الحادثة ممّا عمّقت الخلاف وأوغرت صدور الأمويين على الإمام.

وكان ابن عباس يحدّث بما كان بين الإمام وبين الوليد منذ أيام الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقد أخرج الحاكم الحسكاني والبلاذري في أنساب الأشراف في ترجمة الإمام ، وابن المغازلي المالكي في المناقب والعصامي المكي في سمط النجوم وغيرهم جميعاً عن ابن عباس إن الوليد بن عقبة قال لعلي أنا أسلط منك لساناً وأحدّ سناناً واربط جناناً وأملأ حشواً للكتيبة فقال له عليّ : أسكت يا فاسق ، فأنزل الله ( عزّ وجلّ ) : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ ) (١).

لعنه معاوية في يوم عرفة :

أخرج أحمد في مسنده بسنده عن سعيد بن جبير قال : « أتيت على ابن عباس بعرفة وهو يأكل رماناً ، فقال : أفطر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعرفة ، وبعثت إليه اُم الفضل بلبن فشربه. وقال : لعن الله فلاناً ، عمدوا إلى أعظم أيام الحج فمحوا زينته ، وإنّما زينة الحج التلبية » (٢).

____________________

(١) السجدة / ١٨.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٢٦٤ رقم ١٨٧٠ تحـ أحمد محمّد شاكر.

٢٩

وفي كنز العمال ذكر اللعن المبهم نقلاً عن ابن جرير ، وهذا رواه ابن جرير أيضاً كما روى أيضاً عن ابن عباس قال : « لعن الله فلاناً انّه كان ينهى عن التلبية في هذا ـ يعني يوم عرفة ـ لأنّ عليّاً كان يلبّي فيه » (١).

ويبدو غلب على علماء الدولة التعتيم الإعلامي فلم يصرّحوا باسم معاوية ، وكنّوا عنه فقالوا : ( فلانا )! ولكن النسائي في السنن (٢) وكذا في صحيح ابن خزيمة (٣) والسنن الكبرى للبيهقي (٤) صرّحوا باسمه.

وإليك الحديث بلفظ البيهقي : « عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس بعرفة ، فقال : يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبّون؟ فقلت : يخافون معاوية فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال : لبيك اللّهمّ لبيك وان رغم أنف معاوية اللّهمّ ألعنهم فقد تركوا السنة من بغض عليّ ( عليه السلام ) ».

وموقف ابن عباس في هذا المقام يشبه موقف ابن عمه الإمام حين أعلن بعمرة وحجة في تلبيته بعسفان أيام عثمان ، حين كان ينهى عن العمرة في أشهر الحج ، وقد مرّ الحديث عنه في أيام عثمان.

وهكذا توالت ضرباته على رؤوس الأمويين عن طريق الرواية والقول والعمل ، ولا شك أنّ ذلك كان يبلغ معاوية عن طريق ولاته في الحرمين ، ولا شك أنّ ذلك كان يغيظه ، وما يدرينا لعله فكّر في الحج سنة ٤٤ للحدّ من نشاط ابن عباس ، وإذا لم يكن ذلك هو الغاية فلا شك انّه باعث قويّ.

____________________

(١) كنز العمال ٥ / ٧٩ ط الثانية ( حيدر آباد ).

(٢) سنن النسائي ( كتاب الحجّ ، التلبية بعرفة ) ٢ / ٤١٩ رقم ٣٩٩٣.

(٣) صحيح ابن خزيمة ٤ / ٢٦٠ برقم ٢٨٣٠.

(٤) السنن الكبرى ٥ / ١١٣.

٣٠

وعلينا الآن الرجوع إلى الرواة لنقرأ ما ذكروه عن أوّل لقاء بينهما بعد قطيعة استدامت قرابة عقد من الزمن ، فهما لم يجتمعا منذ أيام عثمان ، ولعل آخر اجتماع بينهما حين بعثهما عثمان حكمَين بين عقيل وزوجته فاطمة بنت عتبة وقد مرّ الحديث عن ذلك. ومهما يكن فلا شك انّه ازدادت القطيعة سوءاً في حرب صفين ، ولم ننس ما مرّ بنا من محاولة معاوية استدراجه بخديعة المراسلة حين ضاق به الخناق من جيش الإمام وبسالة قوّاده ومنهم ابن عباس الّذي كان على الميسرة ، ومرت بنا مواقفه قيادة ومنازلة ومقاتلة في تلك الحرب الطاحنة الضروس ، لكن معاوية لم يفلح بل ندم على فعله حين قرأ جواب ابن عباس كما مرّ ذكر ذلك كلّه.

فإلى الحديث عن أوّل لقاء بينهما. فمتى كان؟ وأين كان؟ وماذا كان بينهما؟

ماذا في معرفة التاريخ؟

لابدّ لي من التنبيه على أمر ذي بال في تاريخ ابن عباس أيام الحكم الأموي في عهد معاوية ، وذلك معرفة تاريخ المواجهات الكلامية الّتي كانت تحدث بينه وبين معاوية طيلة حكمه الّذي دام عشرين عاماً ، وفي بعض تلك المحاورات نجد حضور بعض زمرة معاوية كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه وعتبة بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعبد الرحمن بن أم الحكم ويزيد بن معاوية وهؤلاء كانت لهم مشاركة في محاورة جرت بالشام وأحسبها سنة ٤٢ وهي السنة أتى فيها زياد إلى معاوية بعد استلحاقه أو هي في سنة ٤٣ وهي السنة الّتي مات فيها عمرو بن العاص وذلك قبل ليلة الفطر لأنّ عمراً مات فيها.

٣١

وربّما حضر غير من ذكرنا عند معاوية كسعيد بن العاص ولم يذكر أنّه دسّ أنفه في الحديث. فإن معرفة تاريخ تلك المحاورات هو تسليط الضوء على مدى تشنج العلاقات بين الطرفين مداً وجزراً ، كما يستعين الباحث على معرفة نفسيات المتحاورَين ، وهذا ما ينبغي ملاحظته بدقة ، ولا ينبغي تجاوزه ، لأنّا من خلال تلك المحاورات يمكننا تقييم المتحاورَين زماناً ومكاناً وقدرات وتكافؤا.

فابن عباس يعلم في نفسه أنّه واقع تحت طائلة التهديد ، وعرضة للإنتقام لأنّه لم يجر بينه وبين معاوية صلح ، وإنّما هو تبع لإمامه الحسن ( عليه السلام ) في إمضاء الصلح. وقد مرّ بنا تهديد معاوية له بذلك يوم كان في البصرة وقد جاء في بعض كتابه إليه : « وما جرى بيني وبينك صلحٌ فيمنعك مني ولا بيدك أمان ».

كما أنّ ابن عباس كبقية بني هاشم الّذين عصبهم معاوية بدم عثمان ، وقد صارحه بذلك في كتابه المشار إليه آنفاً.

كلّ ذلك لم يكن ليغيب عن ذاكرة ابن عباس ، وهو كفيل بزرع الخوف في نفسه لو يجد الخوف إلى نفسه سبيلا.

كما لم يغب عن معاوية انّه سيلتقي إنساناً من بني هاشم يتمتع برصيد عال من العلم والمعرفة بالسياسة فلا يُخدع ولا يَضرع ، وله من عزة الهاشميين ما يشمخ بأنفه على معاوية ، وعنده اعتداد لا يضارعه اعتداد معاوية بالملك.

وتتحدّث الأخبار عن عدة لقاءات ربما بلغت العشرين أو تزيد ، لكنها لم تتحدث عن تاريخها زماناً ولا مواقعها مكاناً.

وبحسب اطلاعي على تلك المحاورات ، وجدت بينها ما يساوي ربعها يمكن تحديد زمانه ومكانه من خلال نصوص المحاورات ، أمّا الباقي فلا أستطيع البتّ بتحديد الزمان والمكان ، لكنها في أغلب الظن إنّها كانت في الشام أيام

٣٢

وفادته على معاوية ، وهي في جميعها نجد ابن عباس يحاور فيها بلغة الاعتزاز والاستعلاء ، ونجد معاوية وإن بدأ بلغة التهديد أحياناً فإنّه يختتم المحاورة بلغة الإنكسار والإستخذاء. وليست بلغة الحاكم مع المحكوم.

والأمر الّذي لا يفوتني تنبيه القارئ عليه أيضاً ، هو خلوّ مخاطبة ابن عباس لمعاوية بأمير المؤمنين ، بل كان يخاطبه باسمه ، إذ لا يرى صحة خلافته فكان يسميه باسمه ، وإن وجد في واحدة أو أكثر من محاوراته خطابه له بأمير المؤمنين ، فإنّ أثر الصنعة ظاهر على المحاورة كما سنشير إلى ذلك عند ذكر المحاورات في الحلقة الثانية إن شاء الله.

والآن إلى نماذج من تلكم المحاورات ، ولنبدأ بذكر ما كان في الحرمين الشريفين لشرفهما ، ثمّ نعقّب بذكر الشام بملاحظة شرف المكان ، وإن كانا مختلفين ، وعلى العكس في الزمان ، فمحاورة الأولى في الشام هي قبل المحاورة الأولى في الحرمين.

في مكة المكرمة أو المدينة المنورة :

أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين بسنده عن معروف بن خرّبوذ المكي قال : « بينا عبد الله بن عباس جالس في المسجد ونحن بين يديه إذ أقبل معاوية فجلس إليه ، فأعرض عنه ابن عباس ، فقال له معاوية : ما لي أراك معرضاً؟ ألست تعلم أنّي أحق بهذا الأمر من ابن عمك؟ قال : لم؟ لأنّه كان مسلماً وكنت كافراً؟ قال : ولكني ابن عم عثمان قال : فابن عمي خير من ابن عمك. قال : إنّ عثمان قتل مظلوماً. قال ـ وعندهما ابن عمر ـ فقال ابن عباس : فإنّ هذا أحق

٣٣

بالأمر منك. فقال معاوية : إنّ عمر قتله كافر وعثمان قتله مسلم. فقال ابن عباس : ذاك والله أدحض لحجتك » (١).

ولهذه المحاورة روايات أخرى ذكرتها في الحلقة الثالثة في صفحة احتجاجاته أذكر منها :

صورة أخرى :

ما رواه سليم بن قيس وعمرو بن سلمة قالا : « قدم معاوية حاجاً في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين صلوات الله عليه وصالح الحسن ( عليه السلام ) ... مر بحلقة من قريش ، فلمّا رأوه قاموا له غير عبد الله بن عباس فقال له : يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ موجدة في نفسك عليّ بقتالي إياكم يوم صفين. يابن عباس انّ عمي عثمان قتل مظلوماً.

فقال له ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوماً فسلّم الأمر إلى ولده وهذا ابنه.

فقال : إنّ عمر قتله مشرك. قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟

قال : قتله المسلمون. قال : فذلك أدحض لحجتك ، وأحلّ لدمه إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاّ بحقّ.

قال معاوية : فإنّا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته ، فكفّ لسانك يا بن عباس وأربع على نفسك.

فقال له ابن عباس : أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال : لا.

قال : أفتنهانا عن تأويله؟ قال : نعم.

____________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ٤٦٧.

٣٤

قال : فنقرأه ولا نسأل عمّا عنى الله به؟ قال : نعم.

قال : فأيّما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال معاوية : العمل به.

قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

قال : إنّما أُنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان؟ أو أسأل عنه آل أبي معيط؟ أو اليهود والنصارى والمجوس؟

قال له معاوية : فقد عدلتنا بهم وصيّرتنا منهم!

قال له ابن عباس : لعمري ما أعدلك بهم ، غير أنك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام ، أو ناسخ أو منسوخ ، أو عام أو خاص ، أو محكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.

قال معاوية : فاقرؤ القرآن وتأولوه ، ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم من تفسيره ، وما قاله رسول الله فيكم ، وارووا ما سوى ذلك.

قال ابن عباس : قال الله في القرآن : ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١).

قال معاوية : يا بن عباس اكفني نفسك ، وكفّ عني لسانك ، وإن كنت لا بد فاعلاً ، فليكن ذلك سراً ولا يسمعه أحد منك علانية. ثمّ رجع إلى منزله ، فبعث إليه بخمسين ألف درهم » (٢). وفي رواية : « ثمّ رجع إلى منزله فبعث إليه بمائة ألف درهم » (٣) وفي نسخة أخرى بمائتي ألف درهم.

____________________

(١) التوبة / ٣٢.

(٢) كتاب سليم بن قيس الهلالي ٢ / ٧٧٧ ـ ٧٨٢ ـ ٧٨٤ ط الهادي تح ـ الأنصاري.

(٣) بحار الأنوار ٣٣ / ١٧٩ عن سُليم ط بيروت دار إحياء التراث.

٣٥

ولابدّ لنا من وقفة عند هذه المحاورة لتحقيق زمانها ومكانها ، ثمّ ملاحظة تفاوت الرواة النقلة في روايتها وقبل ذلك التنبيه على أمرين :

أوّلاً : طلب معاوية من ابن عباس ، أن يُسأل عن تأويل القرآن ممّن يتأوله على خلاف ما يتأوله ابن عباس وأهل بيته ، وهذا يعني وجود أناس هيأهم معاوية أو كانوا مهيئين من قبل للقيام بتأويل القرآن على خلاف ما يتأوله أهل البيت وابن عباس ، فمن أين لأولئك العلم بالتأويل وهم ليسوا من أهله وممّن نزل عليهم أو في بيوتهم القرآن؟ ولماذا صاروا المرجع الرسمي الّذي يدعو معاوية بالرجوع إليه؟ وهل في القرآن من ألغاز وطلاسم يحتاج في حلّها إلى مرجع رسمي ينصبه الحاكمون؟ أو ليس الله سبحانه يقول في كتابه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) (١) ، وقال : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (٢).

إذن ليس المطلوب منا إلاّ التدبّر في معرفة معاني القرآن كما يلزمنا معرفة قراءته تلاوة صحيحة ، وهذا ما كان يقوله ابن عباس : « لئن أقرأ البقرة وآل عمران فأتدبرهما خير من أن أقرأ القرآن كلّه هذرمة » ، وكان يرى في قوله تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٣) انّه من الراسخين في العلم العالمين بتأويل القرآن.

إذن فمعاوية في طلبه يريد فصل الناس عن أهل البيت وتأويلهم وتفسير ما نزل فيهم ، والأخذ عمن يقول في ذلك بالرأي والهوى ، وبذلك يكون معاوية قد

____________________

(١) القمر / ٣٢.

(٢) محمّد / ٢٤.

(٣) آل عمران / ٧.

٣٦

عطل الإستفادة من قراءة القرآن كما عطّل نشاط أهل البيت ، وضرب عصفورين بحجر كما يقول المثل.

ثانياً : في آخر المحاورة ورد ( فبعث إليه بخمسين ألف درهم ) ، وفي رواية ( بمائة ألف درهم ) ، وفي ثالثة ( بمائتي ألف ) ، ولا يعنينا تحديد الرقم بمقدار ما يعنينا معرفة موقف ابن عباس من ذلك المال ، إذ لا شك أنّ معاوية إنّما أرسل إليه المال ـ قلّ أو كثر ـ رشوة لشراء سكوته ، ولكن هذا لم يحدث ، بل صار الأمر أكثر حدّة وشدّة ، واستمرّ ابن عباس في تبليغ رسالته ولم يعبأ بسخط معاوية أو رضاه ، كما لم يمتنع من أخذ ما يصله من عطاياه ، لأنّه يرى في نفسه وأهل بيته هم أصحاب الحقّ ، ولهم في بيت المال من الحقّ أكثر ممّا يعطيهم معاوية ، وله في ذلك محاورة سيأتي ذكرها.

ونعود إلى المحاورة لمعرفة زمانها ومكانها واختلاف الرواة فيها.

أمّا عن زمانها : فهو سنة ٤٤ من الهجرة حيث عزم معاوية على الحج وهي أوّل حجة له في حكومته. وإذا استقرينا الحوادث الّتي ارتكبها فأحاق شرّها بالمسلمين منذ توليه الحكم ، نجد أهمّها ممّا هو بالغ الشنعة في مخالفة الكتاب والسنّة هي :

١ ـ إعلانه سبّ الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على منابر المسلمين في جميع أمصار حكومته بقرار رسمي في سنة ٤١.

٢ ـ كتابته إلى الآفاق ببراءة الذمة ممّن روى حديثاً في مناقب الإمام وأهل بيته كسابقه.

٣ ـ استلحاقه زياد بن أبيه سنة ٤٤ ، وتسليطه له على المسلمين في العراقين الكوفة والبصرة ، فأذاقهم مرّ العذاب ، ومن الطبيعي أن يكون قد أغضب ذلك

٣٧

جماعة المسلمين بحكم إسلامهم فاستنكروه ، إلاّ أنّ تفاوت الإستنكار على حسب درجات إيمانهم ، فمنهم المعلن ذلك لساناً في الملأ ، ومنهم مَن هو دونه حتى تصل النوبة إلى الانكار القلبي وهو أضعف الإيمان.

ومع ذلك لم يشأ معاوية أن يقطع شعرته الّتي هي مضرب المثل ، فكان يشدّ ويشتد إذا رأى الريح رُخاءً ، أمّا إذا رآها عاصفة فهو يلين وإذا اشتدت إعصاراً انحنى لها ، وهذا ما قرأناه في المحاورة السابقة وسنقرأ مثله قريباً وقد عرفنا زمانها.

وأمّا عن مكانها : فقد قال اليعقوبي في تاريخه : « وحج معاوية سنة ٤٤ وقدم معه من الشام بمنبر فوضعه عند البيت الحرام ، فكان أوّل من وضع المنبر في المسجد الحرام. ولمّا صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم وكلّموه في أمورهم فقال : أما ترضون يا بني هاشم أن نقرّ عليكم دماءكم وقد قتلتم عثمان حتى تقولوا ما تقولون ، فوالله لأنتم أحلّ دماً من كذا وكذا ـ وأعظم القول ـ فقال له ابن عباس : كلما قلتَ لنا يا معاوية من شرٍ بين دفتيك ، وأنت والله أولى بذلك منا. أنتَ قتلتَ عثمان ثمّ قمتَ تغمص على الناس أنك تطلب بدمه.

فانكسر معاوية ، فقال ابن عباس : والله ما رأيتك صدقتُ إلاّ فزعتَ وانكسرتَ ، قال : فضحك معاوية وقال : والله ما أحبّ أنكم لم تكونوا كلمتموني » (١).

ولنقف هنا قليلاً ونتأمل في موقف ابن عباس من معاوية كيف لوى أخادعه حتى أبان انكساره للناس ، وأجهز عليه ابن عباس ليؤكد ذلك الإنكسار ،

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٨ ط الغري.

٣٨

فلم ير معاوية بأساً من أن ينحني لذلك الإعصار الهادر بضحكة خادعة ومقالة خانعة. ولنقرأ بقية ما عند اليعقوبي في تاريخه :

قال : « ثمّ كلّمه الأنصار فأغلظ لهم في القول وقال لهم : ما فعلت نواضحكم قالوا أفنيناها يوم بدر لما قتلنا أخاك وجدك وخالك ، ولكنا نفعل ما أوصانا به رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ). قال : ما أوصاكم به ، قالوا : أوصانا بالصبر ، قال : فاصبروا ، ثمّ أدلج معاوية إلى الشام ولم يقض لهم حاجة ... اهـ » (١).

أرأيتم جبروتية الملك العضوض كيف شمخت بأنفها على الأنصار أوّلاً ولمّا واجهوها بالحقائق ازدادت عتواً ، ثمّ أدلجت إلى جحرها حيث طغام أهل الشام ، ولم يقض معاوية لهم حاجة. والّذي أستشفّه من ضمير ( لهم ) وإن كان ظاهراً في الأنصار لكنه يشمل الهاشميين والأنصار معاً ، لأنّ اليعقوبي لم يزل وهو في حديثه مسترسلاً يذكر بعض محدثات معاوية فيقول : وفي هذه السنة عمل معاوية المقصورة في المسجد ( الحرام ) وأخرج المنابر إلى المصلى في العيدين ، وخطب الخطبة قبل الصلاة ، وذلك إن الناس كانوا إذا صلوا انصرفوا لئلا يسمعوا لعن عليّ ( عليه السلام ) ، فقدّم معاوية الخطبة قبل الصلاة ، ووهب فدكاً لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

فمن كان بهذه المثابة من التنمّر والحقد أتراه يقضي لبني هاشم حاجة ولا يقضي للأنصار حوائجهم وهم جميعاً عنده في خندق واحد ، وعلى شاكلة واحدة؟ لذلك رأيت أنّ الضمير في قول اليعقوبي ( ولم يقض معاوية لهم حاجة ) لا يبعد شموله لجميع بني هاشم والأنصار ، ويؤكد ما رأيت ما ذكره المقدسي في البدء والتاريخ فقد قال : « فلمّا حج معاوية جاءه الحسن

____________________

(١) نفس المصدر ٢ / ١٩٩.

٣٩

والحسين وابن عباس ( رضي الله عنه ) وسألوه أن يفي لهم بما ضمن ، فقال : أما ترضون يا بني هاشم أن نوفّر عليكم دماءكم وأنتم قتلة عثمان ، ولم يعطهم ممّا في الصحيفة شيئاً » (١).

ويبدو من حديث اليعقوبي الآنف الذكر أنّ اجتماع بني هاشم مع معاوية كان بالمدينة ، ولمّا ساق الحديث لم نجد ذكراً للمحاورة السابقة الّتي مر ذكرها أوّلاً ، ومن خلال معرفة هويّة الرواة وسياق حديثهم تيقنت أنّ مكان المحاورة الأولى هو المسجد الحرام واللقاء كان بمكة لا بالمدينة!

فمعروف بن خرّبوذ ـ راوي الخبر عند الحاكم في المستدرك ـ رجلٌ مكيّ ، وأمّا سليم بن قيس وعمرو بن سلمة وإن كانا مدنيين إلاّ أنّهما يمكن حضورهما بمكة للحج ، على أنّ القاضي نعمان المغربي ذكر في شرح الأخبار (٢) أنّ المحاورة كانت بالمدينة وكان ممّن حضر المحاورة سعد بن أبي وقاص وقد جرى له كلام مع معاوية استشهد عليه بأم سلمة وذلك قول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لعليّ ( عليه السلام ) ( أنت مع الحقّ والحقّ مع عليّ ).

وهناك بقية من الرواة أبهموا المكان ، فقالوا : حج معاوية فجلس إلى ابن عباس فأعرض عنه ، كما في ( الموفقيات ) (٣). وهذا يشير من طرف خفيّ إلى أنّ المحاورة وقعت بمكة ، حيث كان ابن عباس له مجلس عند قبة الشراب عند زمزم يجتمع عليه الناس فيسألونه ـ كما سيأتي وصف ذلك فيما بعد.

____________________

(١) البدء والتاريخ ٦ / ٥.

(٢) شرح الأخبار ٢ / ٦٦.

(٣) أنظر كشف الغمة ١ / ٤٠٦ منشورات مكتبة الشريف الرضي وهذا النص ممّا سقط من مطبوع الموفقيات بتحقيق د. سامي مكي العاني كغيره من نصوص استدركتها على المحقق واشرت إليها في نسختي بلغت خمسة عشر نصاً.

٤٠