موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

صحيح ، وذكره الهيثمي (١) وقال : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح ، وذكره الألباني في الصحيحة برقم ٢٤٦٢.

وماذا قال أبو برزة الأسلمي في ابن الزبير؟

أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي المنهال قال : « لمّا كان ابن زياد ومروان بالشام ووثب ابن الزبير بمكة ، ووثب القرّاء بالبصرة ، فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي حتى دخلنا عليه في داره وهو جالس في ظل عليّة له من قصب ، فجلسنا إليه ، فأنشأ أبي يستطعمه الحديث ، فقال : يا أبا برزة ألا ترى ما وقع فيه الناس؟ فأول شيء سمعته تكلم به : إنّي احتسبت عند الله إنّي أصبحت ساخطاً على أحياء قريش ، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الّذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة ، وان الله أنقذكم بالاسلام ومحمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتى بلغ بكم ما ترون ، وهذه الدنيا الّتي أفسدت بينكم ، إن ذاك الّذي بالشام والله إن يقاتل إلاّ على الدنيا. وإن هؤلاء الّذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلاّ على الدنيا. وإن ذاك الّذي بمكة والله إن يقاتل إلاّ على الدنيا » (٢).

هذه أقوال بعض الصحابة ممّن لهم مكانة مرموقة عند المسلمين ، ولم نذكرهم إلاّ للتدليل على انحراف ابن الزبير عن جادة الصواب ، ومع ذلك نجد الذهبي وابن كثير وأضرابهما يصفونه بأمير المؤمنين!؟!

____________________

(١) مجمع الزوائد ٣ / ٢٨٤ ـ٢٨٥.

(٢) صحيح البخاري ٩ / ٥٧ باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج بخلافه ، وأخرج الحديث أيضاً البخاري في التاريخ الصغير / الأوسط ١ / ١٣٨ ط دار الوعي مكتبة التراث ، ونعيم بن حماد في الفتن / ١٢٣ ( المتوفى ٢٢٩ ) تح ـ أبو عبد الله أيمن محمّد محمّد معرفة انتشارات المكتبة الحيدرية ، وأخرجه أحمد في المسند٤ / ٤٢٤ ط مؤسسة قرطبة بمصر ، وابو يعلى في مسنده ٦ / ٣٢٣ ط دار المأمون للتراث دمشق سنة ١٤٠٤ ، والروياني في مسنده ٢ / ٣٤١ مؤسسة قرطبة بمصر سنة ١٤١٦ وفيها تسمية عبد الملك بالشام وابن الزبير بمكة وذكر نافع بن الازرق رأس الأزارقة من الخوارج.

٢٨١

ولسنا في مقام الردّ عليهما ، يكفينا بيان عدم أهليته للخلافة قول ابن عبد البر في ترجمته في الاستيعاب قال : « ... إلاّ أنّه كانت في ابن الزبير خلال لا تصلح معها الخلافة ، لأنّه كان بخيلاً ضيّق العطن سيء الخلق حسوداً كثير الخلاف أخرج محمّد بن الحنفية ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف » (١).

والأنكى من ذلك أنّه كان يتطلب الخلافة في مبايعته بني هاشم له ، ويتطلب بيعة ابن عباس وابن الحنفية بشتى وسائل الترهيب مع ما يكنّه لهما من بغض وحقد دفين منذ يوم الجمل ، وهو بذلك الهوى والهوس صار يتعرّض لهم بالأذى ، وقد مرّت بنا مطالبته ابن عباس بالبيعة فامتنع عليه ، وبلغ ذلك يزيد بن معاوية فكتب إلى ابن عباس يستميله ويخادعه ، فأجابه بكتابه الّذي ذكرناه آنفاً ، ومع ذلك الحال فقد كان ابن عباس يدفع عنه شرّ الأمويين ما استطاع بقدر ما يسمح له الدين حفاظاً على حرمة البيت الحرام.

فقد روى البلاذري في أنسابه : « انّ عمرو بن سعيد الأشدق قدم المدينة والياً عليها وحج في تلك السنة في جماعة من مواليه وهو خائف من ابن الزبير ، وكان يزيد قد ولاه الموسم ، فأتاه ابن الزبير فسكن لذلك. وأتى عمرو ابن عباس فشكا ابن الزبير ، فقال : عليكم بالرفق ، فإن له قرابة وحقاً » (٢).

وأخرج الطبري في تفسيره بسنده عن عطاء قال : « أخذ ابن الزبير سعداً مولى معاوية ـ وكان في قلعة بالطائف ـ فأرسل إلى ابن عباس مَن يشاوره فيه فإنهم لنا عين ـ عدو ـ فأرسل إليه ابن عباس : لو وجدتُ قاتل أبي لم أعرض له.

____________________

(١) الاستيعاب ٣ / ٩٠٦ تح ـ البجاوي ، وط حيدرآباد ١ / ٣٥٣.

(٢) أنساب الأشراف ١ ق ٤ / ٣٠٩ تح ـ احسان عباس.

٢٨٢

قال : فأرسل إليه ابن الزبير : ألا نخرجهم من الحرم؟ قال : فأرسل إليه ابن عباس ، أفلا قبل أن تدخلهم الحرم؟

قال الطبري : أبو السائب ـ أحد شيوخه ـ في حديثه : فأخرجهم فصلبهم ، ولم يصغ إلى قول ابن عباس » (١).

وروى الأزرقي أخبار مكة بسنده عن عطاء : « انكر ابن عباس قتل ابن الزبير سعد مولى عتبة وأصحابه ... » (٢).

ولكن الّذي خبُث لا يخرج إلاّ نكدا ، فإنّه اشتد على بني هاشم بالرغم من مبايعة بعضهم له فقد روى المدائني بسنده انّ عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب بايعه ... وبايعه عبد الله ابن جعفر ، وأراد ابن الحنفية على البيعة فلم يبايع (٣).

وكان ذلك كلّه بعد موت يزيد واضطراب أمر بني أمية فيما بينهم ، حيث استغل ذلك الظرف ، فبسط عمّاله في الحجاز والعراق ، وصار يحمل الناس على البيعة له بالإكراه فمقته ـ كما مرّ ـ الخوارج وكثير من الناس ، وأخذ بالعنف والشدة والاكراه مَن لم يبايعه ، ونال بأذاه بني هاشم عموماً ، وابن عباس ومحمّد ابن الحنفية خاصة لأنّ كثيراً من المسلمين انحازوا إليهما ، خصوصاً الخوارج الّذين صار بعضهم يأخذون العلم من ابن عباس.

هدم ابن الزبير للكعبة وموقف ابن عباس منه :

قال اليعقوبي : « وهدم ابن الزبير الكعبة في جمادى الآخرة سنة ٦٤ حتى ألصقها بالأرض ، وذلك أنّ الحصين بن نمير لمّا أراد ابن الزبير هدمها امتنع

____________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٢ ط مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة ١٣٧٣ و ٧ / ٣١ بتحـ محمود شاكر وأخيه أحمد.

(٢) أخبار مكة ٢ / ١١١.

(٣) أنساب الأشراف ١ ق ٤ / ٣٥٢.

٢٨٣

وامتنع الناس من الهدم ، فعلا عبد الله بن الزبير على البيت فهدم ، فلمّا رآه الناس يهدم هدموا ، فلمّا ألصقها بالأرض خرج ابن عباس من مكة ـ إلى الطائف ـ إعظاماً للمقام بها وقد هدمت الكعبة وقال له : اضرب حوالي الكعبة الخشب لا تبق الناس بغير قبلة » (١).

وقال الأزرقي في أخبار مكة : « دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم وشاورهم في هدم الكعبة فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها ، وأبى أكثر الناس هدمها ، وكان أشدهم عليه إباءً عبد الله بن عباس وقال له : دعها على ما أقرّها عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فإنّي أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها فلا تزال تهدم وتبنى ، فيتهاون الناس في حرقها ولكن أرقعها » (٢).

وقال : « ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة حتى فرغ منها ، وأرسل إلى ابن الزبير : لا تدع الناس بغير قبلة وأنصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل عليها الستور ، حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها ، ففعل ذلك ابن الزبير » (٣).

وقال الفاسي في شفاء الغرام : « رأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيها فوافقه على ذلك نفر قليل وكره ذلك نفر كثير منهم ابن عباس ( رضي الله عنهما ). وكان هدم ابن الزبير لها يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة ٦٤ ... » (٤).

وقال : « فقال له ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : إنّي أرى أن تصلح ما وهى منها ، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه ، وحجارة أسلم الناس عليها وبعث عليها النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ... » (٥).

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٣ / ٦ ط الغري.

(٢) أخبار مكة ١ / ط الماجدية بمكة المكرمة سنة ١٣٥٢.

(٣) نفس المصدر / ١٣٤ ، وراجع نفس المصدر / ١٤٢ ـ ١٤٣ فثمة نحو ذلك بأسانيد أخرى.

(٤) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ١ / ٩٧ ط دار إحياء الكتب العربية سنة ١٩٥٦.

(٥) نفس المصدر / ٩٨ ، وقارن تفسير ابن كثير ١ / ١٨٣ ط دار الفكر بيروت.

٢٨٤

أقول : ولا يبعد أن يكون نظر ابن عباس إلى كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهي قاعدة مشهورة ومعتمدة ، ولمّا خالفه ابن الزبير فهدمها فقد خرج إلى الطائف ، وهذه الخرجة هي أوّل مرة خرج فيها أيام ابن الزبير ، وكان خروجه باختياره إعظاماً لهدم الكعبة ، بخلاف المرة الثانية فإنّها كانت تحت ضغط ابن الزبير المتعسّف ، فخرج هو ومحمّد بن الحنفية ومن معهما بحماية جند المختار الّذين أرسلهم بقيادة أبي عبد الله الجدلي. ثمّ عاد منها إلى مكة.

كما أنّ المرة الثالثة هي الّتي أخرجه ابن الزبير إخراجاً قبيحاً ـ كما يقول اليعقوبي في تاريخه (١) وهي بعد مقتل المختار فأقام بها حتى مات كما سيأتي الحديث عنها.

وفيما أحسب أنّ ما رواه الشعراني من استنكار تركه مكة وسكناه الطائف ، قد كان في المرة الأولى لما في جوابه ولو كان بضغط ابن الزبير لذكره ، لكنه ذكر في كتابه لواقح الأنوار القدسية : « وقالوا لابن عباس لمّا سكن الطائف لم لا تقيم بمكة؟ فقال : لا أقدر على حفظ خاطري من إرادة ظلمي للناس ، أو ظلمي لنفسي ، فكيف لو وقعت في الفعل؟ فإنّ الله تعالى لم يتوعد أحداً على مجرّد إرادته السوء دون الفعل له إلاّ بمكة » (٢).

أقول : يشير بذلك إلى قوله تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٣) ، وقد روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٣ / ٩.

(٢) لواقح الأنوار القدسية للشعراني / ٥٩ ط الأولى نشر البابي الحلبي سنة ١٣٨٠.

(٣) الحج / ٢٥.

٢٨٥

زيد ، فقد قالوا انّ هذه الآية تدل على أنّ الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله (١).

ولهم في ذلك حجة شرعية من الكتاب المجيد قوله تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) فقد جعل إرادة الفعل سبباً للعذاب. كما أنّ قوله تعالى في سورة القلم ( ١٧ ـ ٢٠ ) دالة على ذلك ، قال تعالى : ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ).

فقد عوقبوا بمجرّد العزم على أن يفعلوا وهم بعدُ لم يفعلوا ، وسيأتي مزيد بيان حول ذلك في الحلقة الثالثة في تفسيره إن شاء الله تعالى. فابن عباس إنّما خرج من مكة خشية أن يرى من ابن الزبير مزيداً من التهاون بأمر الكعبة ، فهو لا يقدر على حفظ خاطره من إرادة ظلمه للناس أو ظلمه لنفسه ، فكيف لو وقع في الفعل من مشادة ابن الزبير وكثير من الناس يَرون رأيه ، فربّما أدّى ذلك الجدال إلى الجلاد ، وهذا ما حمل ابن عباس إلى سكنى الطائف تلك الفترة. وبقي هناك كما يبدو من نص في كتاب المناسك وأماكن طريق الحج جاء فيه : « عن مجاهد قال ابن عباس : أفرغوا منها؟ ـ يعني الكعبة ـ قلت : نعم ، قال : كأني أنظر إليها كرجل أبيض ، أما إنّهم لو تركوها كما كانت على عهد محمّد صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم كان خيراً » (٢).

____________________

(١) راجع تفسير القرطبي ١٢ / ٣٥ ط دار احياء التراث العربي.

(٢) المناسك وأماكن طريق الحج ومعالم الجزيرة / ٤٩٠ تح حمد الجاسر ط دار اليمامة ـ الرياض.

٢٨٦

وإذا عرفنا أنّ الراوي هو مجاهد وهو من المكيين وكان من تلامذة ابن عباس المبرزّين ، فكان يأتي الطائف لزيارة استاذه فيسأله هو عن بناء الكعبة ، وأحسبه رجع إلى مكة بعد هذا الحديث.

وقد استغل عبد الملك بن مروان الموقف بالشام ، فمنع أهل الشام من الحج وذلك ان ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة ، فلمّا رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة ، فضجّ الناس وقالوا : تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا.

فقال لهم : هذا ابن شهاب الزهري يحدّثكم أنّ رسول الله قال : ( لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس ) ، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام ، وهذه الصخرة الّتي يروي أنّ رسول الله وضع قدمه عليها لمّا صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة ، فبنى على الصخرة قبة وعلّق عليها ستور الديباج ، وأقام لها سدنة ، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وأقام أهل الشام يأتون بذلك أيام بني أمية (١).

مواقف ابن الزبير العدائية لبني هاشم :

لقد مرّ بنا قول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للزبير حين تواقفا في يوم الجمل : « قد كنّا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرّق بيننا وبينك » (٢).

____________________

(١) أنظر تاريخ اليعقوبي ٣ / ٧ ـ ٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٢٠٤ حوادث ٣٦ ط الحسينية بمصر.

٢٨٧

واشتهر عنه ( عليه السلام ) قوله : « ما زال الزبير منا حتى نشأ ابنه المشؤم عبد الله » (١).

وقال أيضاً فيه : « خبّ ضبّ يروم أمراً لا يدركه ، نصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا ، وهو بعدُ مصلوب قريش » (٢).

وهذا من بعض ما كان يخبر به قبل وقوعه من الحوادث ، وهو ممّا علّمه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من لدن عليم حكيم.

روى الذهبي عن الواقدي قال : « حدثنا ربيعة بن عثمان وابن أبي سبرة وغيرهما قالوا : جاء نعي يزيد في ربيع الآخر سنة أربع وستين فقام ابن الزبير فدعا إلى نفسه ، وبايعه الناس ، فدعا ابن عباس وابن الحنفية إلى بيعته ، فامتنعا ، وقالا : حتى يجتمع لك الناس ، فداراهما سنتين ثمّ أنّه أغلظ لهما ودعاهما فأبيا » (٣).

وقد ذكر المؤرخون له مواقف عدائية تنمّ عن كامنٍ حقد ونُصب بغيض.

وإلى القارئ بعض ما ذكروه فقد روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عطية العوفي قال : « فلمّا جاء نعي يزيد بن معاوية وبايع ابن الزبير لنفسه ودعا الناس إليه ، دعا ابن عباس ومحمّد بن الحنفية إلى البيعة فأبيا يبايعان له ، وقالا حتى يجتمع لك البلاد ويتسق لك الناس ، فأقاما على ذلك ما أقاما ، فمرة

____________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٤ / ٤٨٠ ط الأولى بمصر ، وشرح النهج محمّد عبده ٣ / ٢٦٠ حكمة ٣٥٤ ط الاستقامة ، وقد روى أبو عمر في الاستيعاب هذه الكلمة في ترجمة ابن الزبير بدون لفظ المشؤم ، وأحسب أنها ثقلت عليه فحذفها.

ورواها ابن الأثير في أسد الغابة ٣ / ١٦٢ في ترجمة ابن الزبير. كما ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد ٥ / ٧٢ ط لجنة التأليف والترجمة والنشر ، وفي ٣ / ٩٦ طبعة أخرى ، وذكرها المفيد في الجمل / ١٩٢ ، وهي في نهج البلاغة نسخة جديدة محققة وموثقة ، تحقيق وتوثيق دكتور صبري إبراهيم السيّد ، جامعة عين شمس وجامعة قطر.

(٢) أنظر سفينة البحار ٣ / ٣٣.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٦٥ ط دار الفكر ، مختصر تاريخ دمشق ١٢ / ١٩٠ هامش المصدر.

٢٨٨

يكاشرهما ومرة يلين لهما ، ومرة يباديهما ، ثمّ غلظ عليهما ، فوقع بينهم كلام وشرّ ، فلم يزل الأمر يغلظ حتى خافا منه خوفاً شديداً ، ومعهما النساء والذرية ، فأساء جوارهم وحصرهم وآذاهم ، وقصد لمحمد بن الحنفية فأظهر شتمه وعيّبه ، وأمره وبني هاشم أن يلزموا شعبهم بمكة ، وجعل عليهم الرقباء ، وقال لهم فيما يقول : لتبايعُنّ أو لأحرقنّكم بالنار ، فخافوا على أنفسهم » (١).

وروى ذلك أيضاً وفيه : « حتى إذا كانت سنة ست وستين غلظ عليهما ودعاهما إلى البيعة فأبيا » (٢). وسيأتي خبر عطية بأوسع ممّا ذكرنا في حبس ابن الزبير لبني هاشم.

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي : « قطع عبد الله بن الزبير في الخطبة ذكر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جُمعاً كثيرة ، فاستعظم الناس ذلك فقال : إنّي لا أرغب عن ذكره ، ولكن له أهيل سوء إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم ، فأنا أحبّ أن أكبتهم.

وقال : لمّا كاشف عبد الله بن الزبير بني هاشم وأظهر بُغضهم وعابهم ، وهمّ بما همّ به في أمرهم ، ولم يذكر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في خطبته ، لا يوم جمعة ولا غيرها ، عاتبه على ذلك قوم من خاصته ، وتشاءموا بذلك منه ، وخافوا عاقبته ، فقال : والله ما تركت ذلك علانية إلاّ وأنا أقوله سرّاً وأكثر منه ، لكنّي رأيت بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبّوا واحمرّت ألوانهم ، وطالت رقابهم ، والله ما كنتُ لآتي لهم سُروراً وأنا أقدر عليه ، والله لقد هممت أن أحظر لهم حظيرة ثمّ أضرمها عليهم ناراً ، فإنّي لا أقتل منهم إلاّ آثماً كفّاراً سحّاراً ، لا أنماهم الله ولا بارك عليهم ، بيت سوء لا أوّل لهم ولا آخر. والله ما ترك نبيّ الله فيهم خيراً ، استفرع نبيّ الله صدقهم فهم أكذب الناس.

____________________

(١) الطبقات ٥ / ٧٣ ـ٧٤ ط أفست ليدن.

(٢) نفس المصدر / ١٨٤ تح ـ السُلمي ط الطائف.

٢٨٩

فقام إليه محمّد بن سعد بن أبي وقاص فقال : وفّقك الله يا أمير المؤمنين أنا أوّل من أعانك في أمرهم. فقام عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي فقال : والله ما قلت صواباً ، ولا هممت برشد ، أرهط رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تعيب! وإياهم تقتل! والعرب من حولك ، والله لو قتلت عِدّتهم أهل البيت من الترك مسلمين ما سوّغه الله لك ، والله لو لم ينصرهم الناس منك لنصرهم الله بنصره.

فقال : أجلس أبا صفوان فلست بناموس (١) » (٢).

هذا بعضٌ من مواقفه الّتي أصحر فيها بعداوته من على المنبر في المسجد الحرام. ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى أنّ الّذي بادر فأعلن مناصرته هو أخ عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الحسين ( عليه السلام ) ، فلا غرابة بالخبث إذا خرج من معدنه ، ولم ينكر عليه في ذلك الموقف العدائي سوى عبد الله بن صفوان الجمحي ، وهذا الرجل فيما يقول الذهبي : « وكان سيّد أهل مكة في زمانه لحلمه وسخائه وعقله » (٣). غير أنّ ابن الزبير وصفه بما لا يليق به فقال له : « فلست بناموس » أي لست الحاذق المطلّع على بواطن الأمور ولا صاحب السرّ ، ومع هذه الإهانة ، فقد بقي معه حتى قتل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وقد حملوا رأسه مع رأس ابن الزبير ورأس عبد الله بن مطيع إلى المدينة المنورة (٤) وسيأتي له حديث آخر مع ابن الزبير ممّا يتعلق بابني العباس عبد الله حبر الأمة وأخيه عبيد الله حين رأى الناس عكوفاً عليهما هذا للفقه وهذا لبذل الطعام ، فأساء القول كلّ منهما في الآخر مع أنّه من أصحابه حتى انّه قتل معه ، لكن الرجل لم يمنعه ذلك من قول كلمة حقّ

____________________

(١) الناموس : الحاذق وصاحب السرّ المطلع على باطن الامور.

(٢) شرح النهج ٤ / ٤٨٩ ط الأولى بمصر و ٢ / ١٢٧ تح ـ محمّد أبو الفضل إبراهيم.

(٣) سير أعلام النبلاء للذهبي ٥ / ١٦٧ ط دار الفكر.

(٤) نفس المصدر.

٢٩٠

عند سلطان جائر ، وإن لم ينفعه ذلك إذ لم يغيّر شيئاً من طبع ابن الزبير ، لأنّه لا يرعوي لنصح ، وأنّى له أن يقبل كلمة النصيحة وهو قد اشتمل في مكنونه على حقد دفين يغلي مرجله في صدره باعترافه منذ أربعين سنة ، لذلك نصب العداوة لأهل البيت ، وقد اعترف هو بذلك مصحراً أمام حاضريه حين دخل عليه ابن عباس فقال بكلّ وقاحة وصلف : ( إنّي لأكتم بغضكم منذ أربعين سنة ).

روى المسعودي في مروج الذهب فقال : « وذكر سعيد بن جبير أنّ عبد الله ابن عباس دخل على ابن الزبير فقال له ابن الزبير : أنت الّذي تؤنّبني وتبخلني؟

قال ابن عباس : نعم ، سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ليس المسلم الّذي يشبع ويجوع جاره.

فقال ابن الزبير : إنّي لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة ، وجرى بينهما خطب طويل ، فخرج ابن عباس من مكة خوفاً على نفسه ، فنزل الطائف فتوفى هنالك ».

ثمّ قال المسعودي : « ذكر هذا الخبر عمر بن شَبّة النميري عن سويد بن سعيد يرفعه إلى سعيد بن جبير ، فيما حدّثنا به المهراني بمصر ، والكلابي بالبصرة وغيرهما عن عمر بن شبّة » (١).

أقول : ليت المسعودي ذكر لنا تمام ما جرى بينهما من الخطب الطويل ( ليت وهل تنفع شيئاً ليت؟ ).

وهذا الخبر رواه الجاحظ في رسالة الحاسد والمحسود فقال : « حُدثنا عن عليّ بن مسهر عن الأعمش عن طلح بن حباب عن سعيد بن جبير أنّه قال : قدت ابن عباس حتى أدخلته على ابن الزبير فقال له ابن الزبير : أنت الّذي تؤنّبني؟ قال :

____________________

(١) مروج الذهب ٢ / ١٠٢ ط مصر و ٣ / ٨٩ تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد بمصر.

٢٩١

نعم لأنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ليس بمؤمن من بات شبعانَ وجاره طاو ، فقال له ابن الزبير : قلت ذاك وأتبعه بقول يدل على حسد كان ابن عباس من شره معصوماً ، وكان ذاك بما في قلبه لبني هاشم مهزوماً ، وكانت وخزة ثقيلة فلم يبدها له وفروع بني هاشم حول الحرم باسقة ، وعروق دوحاتهم بين أطباقها راسية ، ومجالس بني هاشم من أعاليها غامرة ( عامرة ظ ) ، وبحورها بأرزاق العباد زاخرة ، وأنجمها بالهدى زاهرة ، فلمّا تجلت ( تخلت ظ ) البطحاء من صناديدها استقبله بما أكمن في نفسه ، والحاسد لا يغفل عن فرصته ، إلى أن يأتي الموت على رمّته ، وما استقبل ابنَ عباس بذلك إلاّ لمّا رأى عمر قدّمه على أهل القِدم ، ونظر إليه وقد أطاف به الحرم ، فأوسعهم حكما ، وتعقبوا منه رأياً وفهماً ، وأشبعهم علماً ولحماً.

ويروي عن ابن سيرين انّه قال : ما رأيت أكثر علماً ولحماً من منزل ابن عباس » (١).

ويؤيد ما قاله الجاحظ ما قاله صاحب مشكاة الأدب : « إنّ ابن عباس أوّل من وضع موائد الطعام في الطرقات للناس ، ولم يكن يعود إلى رفعه. وانّه كان ما يصرفه في اليوم خمسمائة دينار ، وهذا ما ذكره الوطواط في غرر الخصائص أيضاً » (٢).

وفي محاضرات الراغب : « كان يسمى معلّم الجود لسخائه ، وحثّه على ذلك قولاً وفعلاً » (٣).

____________________

(١) أنظر مجموعة رسائل الجاحظ ٧ ـ ٨ ط نشر الساسي بمصر بمطبعة التقدم.

(٢) مشكاة الأدب / ٩١٥.

(٣) محاضرات الراغب ١ / ٢٧٨.

٢٩٢

فهذه الأقوال مهما شككنا في صحتها فإنّها لم تنشأ من فراغ ، بل فيما سيأتي من الشواهد على بواعث حسد ابن الزبير ما يدل على صحتها ، وحسبنا منها أن نقرأ الأوّل والثاني والثالث منها. وفيها وفي غيرها ما يؤجج نيران الحسد والحقد في نفس ابن الزبير البخيل ويسرّ بغضهم ، وهو يقرَ بذلك معترفاً على نفسه.

قال ابن عبد ربه : « ولمّا توطد لابن الزبير أمرُه وملك الحرمين والعراقين ، أظهر بَعض بني هاشم الطعن عليه ، وذلك بعد موت الحسن والحسين ، فدعا عبد الله بن عباس ومحمّد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم إلى بيعته ، فأبوا عليه ، فجعل يشتمهم ويتناولهم على المنبر ، وأسقط ذكر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من خطبته ، فعوتب على ذلك فقال : والله ما يمنعني أنّي لا أذكره علانية من ذكره سراً وأصلي عليه ، ولكن رأيت هذا الحيّ من بني هاشم إذا سمعوا ذكره أشرأبت أعناقهم ، وأبغض الأشياء إليّ ما يسرّهم » (١).

ألا ترون من حقّ ابن عباس أن يثأر لنفسه ولقومه فيجابهه راداً عليه افتراءه ، بما يزيد حنقه وبغضاءه. لذلك كان يتمثل بأبيات عنترة بن الأخرس المعنيّ من طيء :

أطل حمل الشناءة لي وبغضي

بجهدك وانظرن من ذا تضير

فما بيديك خير أرتجيه

وغير صدودك الخطب الكبير

إذا أبصرتني أعرضت عني

كأنّ الشمس من قبلي تدور (٢)

____________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٤١٣ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

(٢) الأبيات من أربعة في شرح حماسة أبي تمام للتبريزي ١ / ٢١٩ مطبعة حجازي بالقاهرة تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد ، ومن خمسة أبيات في المؤتلف والمختلف للآمدي / ٢٢٥ بتحقيق عبد الستار أحمد فراج.

٢٩٣

وقد تحاشى كثير من المحدّثين والمؤرخين ذكر كلمة ابن الزبير « إنّي لأكتم بغضكم منذ أربعين سنة »!! ومن الطبيعي أن لا يذكروها لأنّها تكشف عن سوء طويّة أنفوا منها ، وأحسبهم على أحسن تقدير أنّهم استفظعوا وقع الكلمة ، فاستعظموا ذكرها لفظاعتها ، فألقوها في سلة المهملات في غيابة الجبّ ، ولا ضير ما دام الجاحظ قد نمّ بها على استحياء ، وذكرها المسعودي بدون خفاء ، ونقلها أيضاً ابن أبي الحديد في شرح النهج ، والسيّد عليّ خان المدني الشيرازي في الدرجات الرفيعة وغيرهما ، وأخال هؤلاء نقلوها عن المسعودي الّذي هو أيضاً تكتّم على ما جرى بين ابن عباس وابن الزبير من خطب طويل. ولكنه لم يسعه كتمان تلك الكلمة الّتي كبرت أن تخرج من أفواههم ، والّتي هي حالقة الإيمان.

فإنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال في خطبة له رواها جابر بن عبد الله : « ( أيّها الناس من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهودياً ) ، قال جابر : فقلت : يا رسول الله وإن صام وصلّى؟ قال : ( وإن صام وصلّى وزعم انّه مسلم ، احتجر بذلك من سفك دمه ، وأن يؤدّى الجزية عن يد وهم صاغرون ... ) » (١).

وفي حديث ثان رواه ابن عباس قال : « قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ... فلو أنّ رجلاً صفن ـ أي وقف ـ بين الركن والمقام وصلّى وصام ثمّ مات وهو مبغض لآل بيت محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دخل النار ) » (٢).

____________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٧٢ عن الطبراني في الأوسط.

(٢) نفس المصدر ٩ / ١٧١ ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم ٢ / ٦٤٢ برقم ١٥٤٦ ط المكتب الإسلامي تح ـ الألباني وفيه تصحيف كلمة ( يبغض ) بـ ( ينقص ) ، والحاكم في المستدرك / ١٤٩ وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

٢٩٤

وفي حديث ثالث رواه أبو سعيد الخدري عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « قال : ( والّذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلاّ أدخله الله النار ) » (١).

إلى غير ذلك من الأحاديث الّتي جعلت بغض بني هاشم من الكفر (٢).

لك الله يا بن عباس ماذا لقيت من حسد ابن الزبير وحقده ، وعنت بني أمية وبغضهم ، وما ذلك إلاّ أنّك بلغت دونهم الذرى في مجدك ، وسموت إلى العلياء في محتدك ، وقديماً قالوا :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلنَ لوجهها

حسداً وبغياً إنّه لذميم

ولأنت كما قال الآخر :

ان يحسدوك على علاك فإنّما

متسافل الدرجات يحسد من علا

( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (٣) ، ( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (٤).

وقفة تحقيق لا ترفاً ولا سرفاً :

لقد قرأنا رواية المسعودي الّتي وثّقها بسماعه لها بمصر من المهراني وبالبصرة من الكلابي وغيرهما ، وهي بدلالتها الواضحة الصريحة دلّت على مدى الانفصام والتنافر بين ابن عباس وبين ابن الزبير ، كما كشفت عن نُصب مستحكم

____________________

(١) أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم ٢٢٤٦.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ١١ / ١١٨ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٧٢.

(٣) النساء / ٥٤.

(٤) آل عمران / ٧٣ ـ ٧٤.

٢٩٥

في نفس ابن الزبير لأهل البيت أقرّ به على نفسه. وعرفنا منها أيضاً شدة وصرامة ابن عباس في قولة الحقّ ودحر الباطل.

كما قرأنا مقالة الجاحظ وهو على عثمانيته لم يستسغ في المقام الإغضاء عن ابن الزبير وكلمته ، ولكنه قصّر في صراحته إلاّ أنّه لم يتخلّ عن أدبه الجاحظي حين كنّى ، والكناية أبلغ من التصريح ، فأشار بابن عم الكلام عمّا يقتضيه المقام ، فنمّ على كلمة ابن الزبير النابية « إنّي لأكتم بغضكم » على استحياء ، بعكس المسعودي الّذي ذكرها بدون خشية أو خفاء. وقد وردت الكلمة عند أصحاب مصادر متأخرين عن الجاحظ والمسعودي ، وكلّهم أدوا أمانة النقل فلا تثريب عليهم. لكن هلمّ الخطب فيمن تولوا كبر حذفها وهم على أحسن تقدير استفظعوها فاستعظموا ذكرها لفظاعتها فألقوها في سلة المهملات وفي غيابة الجبّ ، ولكني لم أدر لماذا تخاذلوا عن ذكر كلمة ابن الزبير الأخرى الّتي واجه بها ابن عباس حين دخل عليه فقال له : « أنت الّذي تؤنّبني وتبخّلي »؟! وما بالهم سرت عدوى دائهم إلى خبر آخر صنو ما سبق؟ رواه عبد الله بن مساور قال : « سمعت ابن عباس ( وهو يبخّل ابن الزبير ) » فحذف الجملة ( بعضهم ) وصحّفها آخرون تصحيفاً سخيفاً؟ فلا بد إذن من وقفة تحقيق دقيق تحذيراً للقارئ من مغبّة الاغترار ببهرجة ألقاب المحدثين الّذين جعلوا الحديث عضين ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض ـ كما قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (١).

وبين يدي ذلك عرضاً بأصحاب المصادر الّتي روت كلمة عبد الله بن المساور أو ما في معناها :

____________________

(١) الحجر / ٩١.

٢٩٦

١ ـ الحافظ عبد بن حُميد ( ت ٢٤٩ هـ ) روى الحديث في مسنده بسنده عن عبد الله بن مساور : « سمعت ابن عباس ذكر ابن الزبير فبخّله ... » (١) ثمّ ساق الحديث إلى آخره ، وأحسبه أوّل محدّث ذكر الكلمة بمعناها.

٢ ـ البخاري ( ت ٢٥٦ هـ ) في تاريخه قال : « فقال عبد الله بن مساور : إنّ ابن عباس بخّل ابن الزبير وقال : ليس المؤمن الّذي يأكل وجاره جائع ، قاله أبو نعيم ومعاوية بن هشام ... » (٢) ثمّ ساق ثلاثة أسانيد لهذا الخبر جاء في ثالثها عبد الله بن أبي مساور.

٣ ـ أبو عبد الله محمّد بن نصر بن الحجاج المروزي ( ت ٢٩٤ هـ ) روى في كتابه تعظيم قدر الصلاة بسنده عن سعيد بن جبير قال : « دخل ابن عباس على ابن الزبير فقال له ابن الزبير : أنت الّذي تؤنّبني وتبخّلني؟ قال ابن عباس : نعم ، إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( إنّ المسلم الّذي يشبع ويجوع جاره ليس بمؤمن ) ». ثمّ ذكر بعده بسند آخر عن عبد الله بن المساور : « انّه سمع ابن عباس وهو يبخّل ابن الزبير يقول : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : ( ليس المسلم من شبع وجاره جائع إلى جنبه ) » (٣).

٤ ـ ابن أبي الدنيا القرشي ( ت ٢٨١ هـ ) روى في كتابه مكارم الأخلاق نشر مكتبة الفرات بالقاهرة سنة ١٤١١ بسنده حديث ابن المساور وفيه : « سمعت ابن عباس ( وهو يبخّل ) ابن الزبير يقول سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ليس المؤمن ... ) » (٤).

____________________

(١) أنظر منتخب مسند ابن حميد تح ـ صبحي البدري السامرائي ومحمود خليل الصعيدي نشر مكتبة السنة القاهرة سنه ١٤١١.

(٢) التاريخ الكبير ( ترجمة عبد الله بن مساور ) ٣ ق ١ / ١٩٥ ط أفست المكتبة الإسلامية ديار بكر تركيا وكذا في ط دار الفكر بيروت في ترجمة عبد الله بن مساور.

(٣) تعظيم قدر الصلاة ٢ / ٥٩٣ ط الأولى نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة.

(٤) مكارم الأخلاق نشر مكتبة الفرات بالقاهرة سنة ١٤١١.

٢٩٧

٥ ـ الحاكم النيسابوري ( ت ٤٠٥ هـ ) روى الحديث كسابقه في المستدرك على الصحيحين وقال : « هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرّجاه » (١).

٦ ـ البيهقي ( ت ٤٥٨ هـ ) روى في سننه الخبر كما في سابقه (٢).

٧ ـ الخطيب البغدادي ( ت ٤٦١ هـ ) روى الحديث في تاريخ بغداد في ترجمة عبد الملك بن أبي بشير كسابقه (٣).

٨ ـ الحافظ المزي ( ت ٧٤٢ هـ ) روى الحديث في تهذيب الكمال في ترجمة عبد الله بن المساور وقال : « في أصل القطان : ابن أبي المساور قال : سمعت ابن عباس ( وهو يبخّل ابن الزبير ) » (٤).

٩ ـ الحافظ الذهبي ( ت ٧٤٨ هـ ) روى الحديث في تلخيص المستدرك على الصحيحين للحاكم ، ووافق على تصحيح الحاكم ، كما رواه أيضاً في سير أعلام النبلاء فقال : « عيب ابن الزبير بشحّ فروى الثوري ـ ثمّ ساق السند إلى عبد الله بن مساور ـ سمع ابن عباس يعاتب ابن الزبير في البخل ويقول : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ليس المؤمن الّذي يبيت شبعان وجاره جائع ) ـ ثمّ قال : ـ وروى عبيد الله بن عمر عن ليث قال : كان ابن عباس يكثر أن يعنف ابن الزبير بالبخل فقال : كم تعيرني؟ » (٥).

١٠ ـ الحافظ ابن كثير ( ت ٧٧٤ هـ ) روى الحديث في تاريخه (٦) ، وكأنّه استثقل الكلمة فصنع كما صنع الذهبي في سير أعلام النبلاء وقال كقوله.

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٤ / ١٦٧.

(٢) السنن الكبرى ١٠ / ٣ ط مكتبة دار الباز بمكة المكرمة سنة ١٤١٤.

(٣) تاريخ بغداد ١٠ / ٣٩١.

(٤) تهذيب الكمال ( ترجمة عبد الله بن المساور ) ١٦ / ١٢٠ تح ـ بشار عواد ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة ١٤٠٠ هـ.

(٥) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة ١٤١٣.

(٦) البداية والنهاية ٨ / ٣٣٩ ط السعادة بمصر.

٢٩٨

١١ ـ الطحاوي ذكر الخبر بسنده عن عبد الله بن المساور ـ او ابن أبي المساور ـ : « قال سمعت ابن عباس يعاتب ابن الزبير في البخل ويقول : ليس المؤمن الّذي يبيت شبعانَ وجاره إلى جنبه جائع ». ثمّ قال الطحاوي : « فلم يرد بذلك انّه ليس بمؤمن إيماناً خرج بتركه إياه إلى الكفر ، ولكنه أراد به انّه ليس في أعلى مراتب الإيمان » (١).

١٢ ـ ناصر الدين الألباني في الأحاديث الصحيحة (٢) ، وقد أفاض القول بذكر مصادر الحديث النبوي وعقب عليها بما اقتضاه المقام وختم كلامه مندّداً بالبخلاء الّذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله.

فهؤلاء اثنا عشر حافظاً من مشاهير الحفّاظ من المحدّثين كلّهم ذكروا جملة ( وهو يبخّل ابن الزبير ) أو ما في معناها كما مر عن عبد بن حميد والبخاري والذهبي وابن كثير والطحاوي ولا تثريب عليهم.

إنّما التثريب بل والتتريب على أولئك الّذين لم يستمرؤا الحقّ فعافوه وحذفوا الكلمة نصاً ومعنى ، وهم :

١ ـ هنّاد ابن السري الكوفي ( ت ٢٤٣ هـ ) في كتابه الزهد (٣) ، وأخاله أوّل من تولى كبر ذلك.

٢ ـ الحافظ أبو يعلى الموصلي ( ت ٣٠٧ هـ ) روى الحديث في مسنده (٤) ، ولم يذكر الكلمة.

____________________

(١) شرح معاني الآثار ١ / ٢٨ ط بيروت دار الكتب العلمية سنة ١٣٩٩ بتحـ محمّد زهري النجار.

(٢) سلسلة الأحاديث الصحيحة ١ / ٢٢٩ برقم ١٤٩ ط ١٤ نشر المكتب الإسلامي سنة ١٤٠٥.

(٣) الزهد ٢ / ٥٠٧ ط الأولى نشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي الكويت.

(٤) مسند أبي يعلى ٢ / ٥٤٩ نشر دار الكتب العلمية.

٢٩٩

٣ ـ ابن أبي حاتم الرازي ( ت ٣٢٧ هـ ) في كتابه العلل ، فقد ساق الحديث بدون كلمة ابن المساور سمعت ابن عباس ( وهو يبخل ابن الزبير ) ، ثمّ أبدى إهتماماً بالغاً بتفاوت النقلة في اسم ( المساور ) أو ( المسور ) أو ( أبي المساور ) فقال : « سئل أبو زرعة عن حديث رواه قبيصة وثابت بن محمّد ووكيع وأبو نعيم عن الثوري فاختلفوا. فقال قبيصة عن الثوري عن عبد الملك بن أبي بشير عن عبد الله بن أبي المساور عن ابن عباس عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( ليس المؤمن الّذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه ).

وقال ثابت عن الثوري عن عبد الملك عن عبد الله المسور عن ابن عباس ...

وقال وكيع عن سفيان عن عبد الملك عن عبد الله بن مساور عن ابن عباس ...

قال أبو زرعة : وَهِمَ ثابت فيما قال ، وأبو نعيم أثبت في هذا الحديث من وكيع كأنّه حكم لأبي نعيم » (١).

أقول : ليت بعض هذا الإهتمام بتحقيق أبي المساور ـ المسور ـ مساور ـ كان من أبي حاتم لتحقيق المتن.

ومن الطريف قوله وكأنّه حكم لأبي نعيم مع أنّه لم يذكر سنداً لأبي نعيم فلاحظ!

٤ ـ تمام بن محمّد الرازي ( ت ٤١٤ هـ ) في كتابه الفوائد (٢).

٥ ـ البيهقي الشافعي ( ت ٤٥٨ هـ ) في شعب الإيمان ، مع أنّه ذكر الكلمة في سننه الكبرى صحيحة ، ووردت في شعب الإيمان مصحفة (٣) كما سيأتي.

____________________

(١) علل الحديث ٢ / ٣٢٩ ط السلفية بمصر.

(٢) الفوائد٢ / ١٠٥ تح ـ حمدي عبد المجيد السلفي ط مكتبة الرشد بالرياض سنة ١٤١٢ هـ.

(٣) الترغيب والترهيب ٣ / ٢٤٣ نشر دار الكتب العلمية بيروت سنة ١٤١٧ و ٥ / ٤٢ ط السعادة بمصر سنة ١٣٨١ بتحـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

٣٠٠