موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

وراجع أيضاً أوّل هذه الفصلة لماذا الإصرار وحوار بعد حوار ، فستجد أنّ ابن عباس يشارك الحسين ( عليه السلام ) في رأيه في جهاد يزيد وسماه الجبّار ، وحسبك أن تقرأ ما رواه المسعودي في المروج قال : « فلمّا همّ الحسين بالخروج إلى العراق أتاه ابن العباس فقال له : يا بن عم قد بلغني أنّك تريد العراق ، وإنّهم أهل غدر ، وإنّما يدعونك للحرب ، فلا تعجل ، وإن أبيت إلاّ محاربة هذا الجبّار وكرهت المقام بمكة فاشخص إلى اليمن ... » (١).

فمن يسمي يزيد بالجبّار ، ويصوّب محاربة الحسين له كيف يُقبل أو يعقل أنّه يشير عليه بمصالحته؟

٣ ـ وممّا ورد أيضاً والعهدة على راويه ، وهو لا يخلو من مناقشة ما رواه الحافظ ابن شهر اشوب نقلاً عن كتاب التخريج (؟) عن العامري بالاسناد عن هبيرة بن يريم عن ابن عباس قال : « رأيت الحسين قبل أن يتوجه إلى العراق على باب الكعبة وكف جبرئيل في كفه ، وجبرئيل ينادي : هلموا إلى بيعة الله. وعنّف ابن عباس على تركه الحسين فقال : إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً ، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم » (٢).

فإنّ هذا الخبر ممّا لا يمكن قبوله بوجه ما لم تسدّ ثغرات سنده ومتنه. ففي إسناده :

أوّلاً : جهالة مؤلف كتاب التخريج (؟) ونقل ابن شهر اشوب عنه لا يضفي الوثاقة عليه.

ثانياً : جهالة رواته وانقطاع سنده بين العامري وهبيرة.

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٦٤ تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ٣ / ٢١١ ط الحيدرية.

٢٤١

ثالثاً : جهالة حال العامري وهبيرة عندنا. وقد ذكر ابن حجر (١) هبيرة وذكر أقوالاً مختلفة فيه فليراجع.

أمّا ما في متنه من ثغرات فهي :

أوّلاً : كيف رأى ابن عباس الحسين بباب الكعبة وكف جبرئيل في كفه ، وهو يومئذ كان مكفوف البصر؟

ثانياً : لو أغمضنا عن الرؤية البصرية فمن أين علم أنّ المرئي كان جبرئيل ولعله ملك آخر؟

ثالثاً : لو سلّمنا بأنه جبرئيل لإخبار المعصوم له بذلك ، فلماذا لم يبادر هو إلى بيعة الله ويستجب لندائه.

رابعاً : إنّه أجاب لمّا عنّف على تركه نصرة الحسين ( عليه السلام ) : بأنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً ، فهذا الجواب لا يرفع عنه إصر العتاب بل وحتى العقاب ، إذ لا فائدة من نداء جبرئيل ودعوته الناس إلى بيعة الله؟ وهو يرويه.

خامساً : إنّ ذلك ينافي القول بالبداء والمحو والإثبات ، ولقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إعملوا فكلٌ ميسّر لما خلق له ) ، وسيأتي مزيد بيان عن هذا في الحلقة الرابعة إن شاء الله تعالى.

والآن إلى بعضه.

سؤال يتبعه سؤال :

لماذا تخلف ابن عباس عن الخروج مع الحسين؟ ولماذا لم يرسل معه بعض أولاده؟ سؤالان مترتبان أوّلاً وثانياً منشأهما واحد ويصعب تجنّبهما ، ولكن

____________________

(١) تهذيب التهذيب ١١ / ٢٣ ـ ٢٤.

٢٤٢

لا تستعصي الإجابة على الأوّل منهما بقدر ما تستعصي الإجابة على الثاني منهما. وكلاهما سؤال وجيه ويفرض نفسه ، وقد طرحا ـ وخصوصاً الأوّل ـ قديماً ، وأجيب عنه بجوابات مختلفة جلّها تحمل طابع التعذير فترفع إصر التقصير.

ومهما يكن الأمر فإنّ بعض أعلام المتأخرين قد اتخذ من تخلف ابن عباس ذريعة للنيل منه ، ووسيلة طعن فيه بل في بقية بني هاشم بما فيهم محمّد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر وأضاف إليهم ابن عمر وابن الزبير وآخرين ، وقد ذكرت مقالته وأجبت عن بعض مؤاخذاته على ابن عباس وابن الحنفية وابن جعفر ، وسوف يأتي ذلك في الحلقة الرابعة من الموسوعة ( عبد الله بن عباس في الميزان ) ولربّما استعجلنا القارئ بالجواب ولو باختصار :

فنقول له في جواب السؤال الأوّل : لماذا تخلف ابن عباس عن الخروج مع الحسين ( عليه السلام )؟

إعلم إنّ ابن عباس كان يومئذ مكفوف البصر ، وعن مثله يسقط التكليف بالجهاد ، على أنّه قد مرّ بنا في أولى محاوراته قوله للحسين ( عليه السلام ) بعد كلام جرى بينهما : « جعلت فداك يا بن بنت رسول الله كأنك تنعى الي نفسك وتريد مني أن أنصرك فوالله الّذي لا إله إلاّ هو لو ضربت بين يديك بسيفي حتى ينقطع وتنخلع يداي جميعاً من كتفي لما كنت ممّن أوفى من حقك عشر العشير ، وها أنا بين يديك فمرني بأمرك.

فقال ابن عمر ـ وكان حاضراً ـ : مهلاً ذرنا من هذا يا بن عباس ».

وأحسبه إنّما قال ذلك خشية أن يحرج هو ليقول مثل مقالة ابن عباس ، بينما هو ممّن يرى مسالمة يزيد بالبيعة ، بل ودعا الحسين إلى المصالحة معه. كما أنّي لا أستبعد أن يكون غرض ابن عباس من كلامه كان استدراج ابن عمر إلى بذل

٢٤٣

نصرته ولو باللسان ، ولكن ابن عمر أخطأ حظه وقد واتته الفرصة ، ولا غرابة منه فهو هو منذ اعتزاله بيعة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالخلافة ثمّ مبايعته لمعاوية ولابنه يزيد واستمر على وتيرته حتى بايع الحجاج لعبد الملك بن مروان.

ويشمّ ذلك من عدم تعقيب للإمام الحسين ( عليه السلام ) على ذلك بشيء ، كما أنّه مرّ في آخر تلك المحاورة من جملة كلام الإمام الحسين ( عليه السلام ) مع ابن عباس قوله له : « فامض إلى المدينة في حفظ الله ، ولا تخفي عليّ شيئاً من أخبارك ... ».

فهذا إذن بالإنصراف لكنه قبل التصميم والعزم على التوجه إلى العراق ، ولكن المحاورات اللاحقة بعد ذلك كانت بعد التصميم والعزم ، وهنا كان محورها نصيحة ابن عباس بعدم التوجه إلى العراق والتحذير من خيانة أهله ، والتذكير بأفعالهم وغدرهم. وفي جميعها لم يرد من الحسين ( عليه السلام ) أي دعوة لنصرته لا من ابن عباس ولا من غيره من بني هاشم.

نعم وردت دعوة ترغيب صريحة في كتابه الّذي كتبه من مكة إلى أخيه محمّد بن الحنفية وإلى من كان قبله بالمدينة من بني هاشم ، وهو مروي بسند صحيح في كامل الزيارات وإليك نصه : قال ابن قولويه مؤلف الكتاب : « وحدّثني أبي رحمه الله وجماعة مشايخي عن سعد بن عبد الله عن عليّ بن إسماعيل بن عيسى ومحمّد بن الحسين ابن أبي الخطاب عن محمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : كتب الحسين بن عليّ من مكة إلى محمّد بن عليّ : بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبلَه من بني هاشم : أمّا بعد فإنّ من لحق بي استشهد ، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام » (١).

____________________

(١) كامل الزيارات / ٧٥.

٢٤٤

وعلى هذا النحو من الترغيب والترهيب كان كتابه الآخر الّذي رواه ابن قولويه بعد الكتاب السابق وبنفس السند إلى محمّد بن عمرو ، وهو سند صحيح ، ورواه محمّد بن عمرو عن كرام عبد الكريم بن عمرو عن ميسر بن عبد العزيز عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « كتب الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ من كربلا : من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبلَه من بني هاشم : أمّا بعد فكأنّ الدنيا لم تكن وكأنّ الآخرة لم تزل والسلام » (١).

فهذان الكتابان لا تشمل دعوتهما الترغيبية والترهيبية لابن عباس ، لأنّه أوّلاً كما قلنا كان مكفوف البصر ، وثانياً فان عنوانهما إلى محمّد بن عليّ ومَن قبله من بني هاشم ، وهو يومئذ كان بالمدينة ، وابن عباس حين كتابة الأوّل كان مع الحسين بمكة وهو غير مشمول بالدعوة.

أمّا جواب السؤال الثاني لماذا لم يرسل بعض أولاده مع الحسين ( عليه السلام )؟ فهو يشارك الأوّل في صعوبة تجنبه ، وتستعصي الإجابة عنه بالتعذير ، فإنّ الكتاب الّذي ذكرنا أنّ الحسين ( عليه السلام ) أرسله من مكة إلى محمّد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم الّذين كانوا بالمدينة ، لا شك في انّه دعوة ترغيبية للإلتحاق بركبه الحسيني ، والتخلف عنه بغير عذر شرعي غير فائز بعظيم الأجر ، لأنّه لم يبلغ مبلغ الفتح ، وعلى هذا فإنّ بني هاشم الّذين كانوا بالمدينة ولم يلحقوا بالحسين ( عليه السلام ) هم أولى بالتقصير منهم بالتعذير ، وأولاد ابن عباس الّذين كانوا بالمدينة من جملة أولئك غير المعذّرين.

ويبقى اللوم ـ إن صح التعبير ـ متوجهاً إلى أبيهم ـ فهو إن كان معذوراً لأنّه مكفوف البصر ، أما كان الأجدر به أن يصنع مثل صنع ابن جعفر حين أرسل ابنين من ولده مع الحسين لنصرته؟

____________________

(١) نفس المصدر.

٢٤٥

وأمّا اعتذار بعض الباحثين ممّن أجلّه معذّراً بأنّهم ربما كانوا صغاراً ، قول تعوزه الدقة في المعرفة التاريخية ، فإنّ في أبناء ابن عباس من ناهز العشرين سنة بل جاوزها. كابنه العباس الأعنق وبه كان يكنى وهو أكبرهم ، أمّا أصغرهم فابنه عليّ ـ والد العباسيين ـ فإنّه ولد قبل شهادة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبارك الإمام لأبيه ولادته وهو الّذي سماه عليّاً ، وله بينهما محمّد والفضل وعبيد الله وزاد المسعودي عبد الرحمن (١) ، فهم كلّهم له قابلية حمل السلاح ويتوجه عليه التكليف ، وقد شملتهم دعوة الحسين ( عليه السلام ) في كتابه الآنف الذكر. هذا كلّه إذا احتملنا أنّهم كانوا بالمدينة ، ولم يكونوا بمكة مع أبيهم ، خصوصاً وإنّ أباهم كان إليه أمر السقاية وهم في موسم الحج وهو بحاجة إلى بعض ولده ممّن يساعده في الإشراف على إدارة شؤون السقاية وتدبير أمرها خصوصاً بعدما كفّ بصره.

ولو تنزلنا عن هذا أيضاً وعدنا إليهم في المدينة ، أما كان عليه أن يرسل عليهم فيحضرهم ليذهبوا مع الحسين فينالوا شرف المفاداة؟ وهكذا يبقى السؤال ناقص الإجابة ، عصيّ التعذير ، وحيّ التقصير ، والله العالم بحقائق الأمور.

وكان ابن عباس على جانب من المودة والمصافاة مع الحسين ( عليه السلام ) ما يبعد عنه سوء الظن والتقصير ، وكذلك كان الحسين ( عليه السلام ) يوليه عطفاً لطفاً ويسديه نصيحة ، حتى روى ابن عباس قال لي الحسين بن عليّ ( عليه السلام ) : « يا بن عباس ، لا تتكلمنّ بما لا يعنيك فإنّي أخاف عليك الوزر ، ولا تتكلمن بما يعنيك حتى ترى له موضعاً ، فربّ متكلم قد تكلم بحقّ فعيب ، ولا تمارين حليماً ولا سفيهاً ، فإنّ الحليم يقليك ، والسفيه يرديك ، ولا تقولنّ خلف أحد إذا توارى عنك إلاّ مثل ما تحب أن يقول

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ١٠٩.

٢٤٦

عنك إذا تواريت عنه ، واعمل عمل عبد يعلم أنّه مأخوذ بالإجرام مجزي بالإحسان ، والسلام » (١).

وسوف يأتي في الحلقة الرابعة من الموسوعة ( عبد الله بن عباس في الميزان ) مزيد إيضاح وبيان.

واحسيناه :

ندبة المتفجّع لفقده ، قالها ابن عباس ، بعد أن يأس من بقاء الحسين بمكة ، ورأى من تصميمه وعزمه ما تيقّن معه أنّ الحسين سائر في طريقه إلى الشهادة ، وأن لا تلاقي بينهما بعد اليوم في الحياة ، وسوف يضمر في نفسه بصيص الأمل بصلاحها ، وقد صح في غياب الأمل يزداد الخوف والوجل ، وسوف تبقى النفوس حائرة خائرة ، تجتاحها الهواجس وتنتابها الوساوس. فصار ابن عباس يترقب المحذور وقد بدت علائمه ، ولم لا يترقب فهو أسير العاطفة الإنسانية ، وهو رهين الرحم القريبة ، وهو قبل ذلك وفوقه يتملكه الدين بشرعية الحفاظ على حياة إمامه ، فتصاعد وجيب قلبه فيما أحسب حين سمع صوت الركائب والنجائب ترغو لتحمل ركب الحسين الميمون المحزون. وهو يسمع أصوات الناس يهللون وهم يخرجون إلى منى يوم التروية ، بينما الركب يتوجه صوب العراق ، فلم يتمالك على نفسه فخرج مغضباً محزوناً وهو يقول واحسيناه (٢) ندبة المفجوع المكروب.

____________________

(١) كنز الفوائد / ١٩٤ ، وأعلام الدين للديلمي / ١٤٥.

(٢) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي / ٢١٦ ط الشريف الرضي بقم والملهوف لابن طاووس / ٢٦ ـ ٢٧.

٢٤٧

وسارت القافلة وكلّما ابتعدت في سيرها عن مكة اقتربت من موطن الخطر الّذي يخشى ابن عباس فيه نزول البلاء ، فيزداد وجله ووجيب قلبه ، وبقي يتطلع الأخبار عمّا حلّ بالركب الميمون المحزون ، وبلغه نزولهم بأرض الطف ـ فيما أحسب ـ من كتاب الحسين ( عليه السلام ) إلى أخيه محمّد بن عليّ ومَن قبله من بني هاشم الّذي بعثه من كربلا وفيه : « أمّا بعد فكأنّ الدنيا لم تكن وكأنّ الآخرة لم تزل والسلام » وهذا كتاب رواه ابن قولويه (١). وعلم ابن عباس أنّه قد حُمّ القضاء ، وهذا ما حاول دفعه من قبل وقوعه. ولكن لا راد لأمر الله تعالى.

وروى الرواة : أنّه لمّا أحاط العدو بأهل البيت ومنعوهم الماء وخطبهم الحسين ( عليه السلام ) وتعالت صيحات الأطفال والنساء وسمعهم الحسين ( عليه السلام ) قال الرواة : إنّه قال : لا يبعد الله ابن عباس (٢). وقالوا : فظننا أنّه إنّما قالها حين سمع بكائهن ، لأنّه قد كان نهاه أن يخرج بهن.

وإنّي على شك من صحة هذا الخبر! لأنّه مقولة إنسان حائر خائر ، كمن يعضّ بضرس الندم ، وهذا يبعده عن الحقيقة الّتي كان الحسين ( عليه السلام ) يعلمها وقد صمم على بلوغها : ( شاء الله أن يراني قتيلاً. شاء الله أن يراهنّ سبايا ).

نبأ الفاجعة في الرؤيا المحزنة :

لقد كانت رؤيا ابن عباس للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في منامه وسط النهار بمثابة نذير شر مستطير سيحيق بالأمة من جراء حكم يزيد ، وهذا ما حدث فعلاً ـ كما سيأتي بيانه.

____________________

(١) كامل الزيارات / ٧٥ وسنده صحيح.

(٢) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٧٩ ط السعادة بمصر.

٢٤٨

ولمّا كانت الرؤى ـ كما في الحديث الشريف ـ على ثلاثة أنواع : ( بشرى من الله ، وتحزين من الشيطان ، والّذي يحدّث به الإنسان نفسه فيراه في منامه ) (١) ، فرؤيا ابن عباس للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في المنام يخبره بقتل الحسين ( عليه السلام ) ليست هي من البشرى قطعاً ، وليست هي من تحزين الشيطان أيضاً ، بل هي من القسم الثالث وهو الّذي يحدّث به الإنسان نفسه فيراه في منامه ، فإنّه لم يكن تبارح فكره قضية الحسين ( عليه السلام ) ، فهي تعيش في نفسه ليله ونهاره ويقظته ومنامه ، فلا غرابة لو رأى تلك الرؤيا ، والّتي لم تكن نهاية لذلك القلق الّذي كان يعيشه بقدر ما هي بداية لحزن مستديم ، ووهن في القوى وخيبة في الآمال يعفيه عن أيّ نشاط سياسي بعد اليوم. وهي أيضاً رؤيا حقّ لأن الشيطان لا يتشبّه بصورة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) (٢) وقد روى لنا الرواة خبر الرؤيا بأسانيد متعددة لا تدع مجالاً للشك في صحتها ، وقد أخرج حديثها أكثر من عشرين محدّثاً ومؤرخاً حسبك منهم ابن سعد وأحمد بن حنبل والطبراني والحاكم والخطيب وغيرهم (٣).

____________________

(١) الدر المنثور للسيوطي ٣ / ٣١٣ ، والبحار ٦١ / ١٩١ نقلاً عن التبصرة لعليّ بن بابويه.

(٢) اخرج الخطيب في تاريخه ٨ / ٣٣٤ و ١٠ / ٣٥ / ٢٨٤ و ٤٥٤ والدولابي في الكنى والأسماء ١ / ١٠١ ط حيدر آباد واللفظ له : عن البراء بن عازب ان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( من رآني في المنام فقد رآني فان الشيطان لا يتشبه بصورتي ).

(٣) أنظر طبقات ابن سعد ترجمة الإمام الحسين ( عليه السلام ) / ٤٢٧ تح ـ السُلمي ط الطائف ، فضائل الصحابة أحمد بن حنبل برقم / ١٣٨٠ ، مسند أحمد بن حنبل ١ / ٢٤٢ ، مستدرك الحاكم ٤ / ٣٩٧ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، تلخيص المستدرك بهامشه للذهبي ، معجم الطبراني الكبير ٣ / ١١٠ ط الموصل ، تاريخ بغداد ١ / ١٤٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٩٤ وقال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح ، كفاية الطالب للكنجي الشافعي / ٢٨١ ، مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٩٤ ، الاستيعاب بهامش الإصابة ١ / ٣٨١ ، الإصابة ١ / ٣٣٥ ، تاريخ ابن الأثير ٤ / ٣٨ ط بولاق ، تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٠٠ نقلاً عن ابن أبي الدنيا ، تاريخ ابن عساكر في ترجمة الحسين / ٢٦١ تح ـ المحمودي ، تاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٣٩ ، ذخائر العقبى للمحب الطبري / ١٤٨ نقلاً عن الحافظ أبي عمرو السلفي وابن بنت منيع ، نظم درر السمطين للزرندي / مخطوط ، كشف الغمة للإربلي

٢٤٩

وهي كما في طبقات ابن سعد بسنده عن عمّار بن أبي عمّار ـ والسند إليه حسن ـ عن ابن عباس قال : « رأيت النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم فيما يرى النائم بنصف النهار ، وهو قائم أشعث أغبر ، بيده قارورة فيها دم ، فقلت بأبي وأمي ما هذا؟ قال : دم الحسين وأصحابه ، أنا منذ اليوم التقطته. قال ـ والقائل هو عمّار ابن أبي عمّار ـ فأحصي ذلك اليوم فوجدوه قتل في ذلك اليوم ».

وفي لفظ الإربلي وكشف الغمة : « معه قارورتان فيهما دم ... » (١).

وفي نص آخر : « فما لبثوا إلاّ أربعة وعشرين يوماً حتى جاءهم الخبر بالمدينة : أنّه قتل في ذلك اليوم وتلك الساعة » (٢).

ولمّا انتبه ابن عباس من نومه فزعاً مرعوباً أخذ يسترجع مكرراً ، فسئل عن سبب استرجاعه فحدّثهم بالرؤيا المحزنة ، وقد فزع ابن عباس إلى ما اختزنه من أبعار الظباء الّتي كان قد صرّها في طرف كمّه محافظاً عليها أشد الحفظ ، فرآها قد انبجست هي الأخرى بدم سال منها ، فعظم حزنه وكثر بكاؤه.

ولقد حدّث سليم بن قيس التابعي الجليل عن حال ابن عباس وبكائه بعد شهادة الحسين ( عليه السلام ) وما سمعه منه ممّا يعبّر عن مشاعره وسخطه ، وبالتالي فهو حديث يمكن أن نعتبره مشعل ثورة ، كما هو بثّ فكرة عن طريق العَبرة في رثاء العترة.

قال سليم بن قيس : « لمّا قتل الحسين بن عليّ ( عليه السلام ) بكى ابن عباس بكاءً شديداً ثمّ قال : ما لقيت هذه الأمة بعد نبيها ، اللّهمّ إنّي أشهدك أنّي لعليّ بن أبي

____________________

/ ١٩٢ ط حجرية ، مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٤ ، الملاحم والفتن لابن طاووس / ١٢٧ ط الحيدرية.

(١) كشف الغمة ١ / ٥٩٧ ط الشريف الرضي بقم.

(٢) نفس المصدر.

٢٥٠

طالب ولولده وليّ ، ومن عدوّه وعدوّهم بريء ، وإنّي سلم لأمرهم لقد دخلت على عليّ ( عليه السلام ) ( ابن عم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم » بذي قار فأخرج إليّ صحيفة وقال لي : يا بن عباس هذه صحيفة أملاها عليَّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وخطي بيدي ، فقلت : يا أمير المؤمنين اقرأها عليَّ فقرأها ، فإذا فيها كلّ شيء منذ قبض رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى مقتل الحسين ( عليه السلام ) وكيف يقتل ومَن يقتله ، ومَن ينصره ومَن يستشهد معه. فبكى بكاءً شديداً وأبكاني.

... حتى انتهى إلى قتل الحسين فسمعت ذلك ، ثمّ كان كما قرأ لم يزد ولم ينقص ، فرأيت خطه أعرفه في صحيفة لم تتغير ولم تصفرّ ، فلمّا أدرج الصحيفة قلت : يا أمير المؤمنين لو كنتَ قرأت عليَّ بقية الصحيفة.

قال ( عليه السلام ) : لا ، ولكني محدّثك ، ما يمنعني فيها ما نلقى من أهل بيتك وولدك ، وهو أمر فظيع من قتلهم لنا وعداوتهم إيانا وسوء ملكهم وشوم قدرتهم ، فأكره أن تسمعه فتغتم ويحزنك ولكني أحدّثك ...

يا بن عباس إنّ ملك بني أمية إذا زال كان أوّل ما يملك من بني هاشم وُلدك فيفعلون الأفاعيل.

فقال ابن عباس : لأن يكون نسخت ذلك الكتاب فإنّه أحب إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس » (١).

وكان يقول : « لا يمهل الله يزيد بعد قتله الحسين وأنّه قال : سبب زوال الدولة عن يزيد بن معاوية والله قتله الحسين ( عليه السلام ) » (٢).

____________________

(١) سليم بن قيس / ٩١٥ نشر دار الهادي ، وفضائل شاذان بن جبرئيل / ١٤١ والروضة وعنهما في البحار ٢٨ / ٧٣ ط الإسلامية.

(٢) تاريخ السلامي البيهقي بتوسط مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ١٨٣ ط الزهراء.

٢٥١

سبع سنيّ عجاف :

تلك هي السبع العجاف الّتي عاشها ابن عباس بعد مقتل أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) ، فقد رأى فيها من أذى يزيد ما لم يتوقع أن يراه مَن هو في سنّه وهو ينيف على الستين من عمره ، وهو هو في شأنه وفضله مع فقده بصره ، لكن بني أمية لم يتركوا حرمة مسلم إلاّ انتهكوها ، وزاد عليهم في ابتلاء ابن عباس مضايقة ابن الزبير له حيث أراده على مبايعته فامتنع ، فصار ابن الزبير يشهّر به حتى على المنبر كما سيجيء بيان ذلك ، وهو مع ذلك الحال لم يترك كلمة الحقّ ينطق بها سرّاً وإعلاناً ، تحريراً وبياناً ، وكان أشدّ ما يزعجه شماتة الأعداء كابن الزبير وأشباهه ، لذلك فيما يبدو كان يكتم خبر شهادة الحسين ( عليه السلام ) بمكة وقد وافاها قبل بلوغ الخبر إلى أهلها.

شماتة الأعداء :

وروى ابن سعد بسنده عن ابن أبي مليكة ـ وسنده فيه ضعيف ـ قال : « بينما ابن عباس جالس في المسجد الحرام وهو يتوقع خبر الحسين بن عليّ إلى أن أتاه آتٍ فسارّه بشيء فأظهر الإسترجاع فقلنا : ما حدث يا أبا العباس؟ قال : مصيبة عظيمة نحتسبها أخبرني مولاي أنّه سمع ابن الزبير يقول : قتل الحسين بن عليّ. فلم يبرح حتى جاءه ابن الزبير فعزّاه ثمّ انصرف.

فقام ابن عباس فدخل منزله ودخل عليه الناس يعزّونه. فقال : إنّه ليعدل عندي مصيبة حسين شماتة ابن الزبير أترون مشي ابن الزبير إليّ يعزّيني ، إنّ ذلك منه إلاّ شماتة » (١).

____________________

(١) طبقات ابن سعد في ترجمة الحسين ( عليه السلام ) / ٤٩٣ تح ـ السُلمي ، وتاريخ ابن عساكر ترجمة الحسين / ٢٦٤ تح ـ المحمودي.

٢٥٢

ولم يكن ابن عباس متجنياً على ابن الزبير في قوله فيه ، بل قد روى ابن سعد أيضاً بسنده عن ابن جريج قال : « كان المسور بن مخرمة بمكة حين جاء نعي الحسين بن عليّ ، فلقي ابن الزبير ، فقال له : جاءك ما كنت تمنّى موت حسين ابن عليّ ، فقال ابن الزبير : يا أبا عبد الرحمن تقول لي هذا؟ فوالله ليته بقي ما بقي بالجمّاء حجر ، والله ما تمنيت ذلك له. قال المسور : أنت أشرت عليه بالخروج إلى غير وجه. قال : نعم أشرت به عليه ولم أدر أنّه يقتل ، ولم يكن بيدي أجله ، ولقد جئت ابن عباس فعزّيته ، فعرفت أنّ ذلك يثقل عليه مني ، ولو أنّي تركت تعزيته قال : مثلي يترك لا يعزيني بحسين فما أصنع؟ أخوالي وغرة (١) الصدور عليّ ، وما أدري على أي شيء ذلك؟ فقال المسور : ما حاجتك إلى ذكر ما مضى ونثه (٢) دع الأمور تمضي وبرّ أخوالك ، فأبوك أحمد عندهم منك » (٣).

ولم يكن ابن عباس يخفي كراهيته لابن الزبير لشماتته بموت الحسين ( عليه السلام ) على حد قوله ، كما قال ذلك لابن صفوان الجمحي.

فقد روى ابن سعد في خبره : « أنّ ابن صفوان كان عند ابن عباس وعنده محمّد بن الحنفية لمّا كان الناس يعزونهم بالحسين ( عليه السلام ) فقال ابن صفوان : إنّا لله وإنّا إليه راجعون أي مصيبة ، رحم الله أبا عبد الله وآجركم الله في مصيبتكم.

فقال ابن عباس : يا أبا القاسم ـ يخاطب محمّد بن الحنفية ـ ما هو إلاّ أن خرج من مكة فكنت أتوقع ما أصابه.

قال ابن الحنفية : وأنا والله ، فعند الله نحتسبه ونسأله الأجر وحسن الخلف.

____________________

(١) أي ممتلئة غيظاً وحنقاً ( لسان العرب : وغر ).

(٢) نثّ الحديث نشر ما كان كتمه أحق من نشره ( اللسان : نثث ).

(٣) طبقات ابن سعد في ترجمة الحسين ( عليه السلام ) / ٤٩٤ ، وكذا في تاريخ ابن عساكر / ٢٦٥ ترجمة الحسين تح ـ المحمودي.

٢٥٣

قال ابن عباس : يا أبا صفوان أما والله لا يخلد بعدُ صاحبُك الشامت بموته.

فقال ابن صفوان : يا أبا العباس والله ما رأيت ذلك منه ، ولقد رأيته محزوناً بمقتله ، كثير الترحّم عليه.

قال : يريك ذلك لما يعلم من مودّتك لنا ، فوصل الله رحمك ، لا يحبّنا ابن الزبير أبداً.

قال ابن صفوان : فخذ بالفضل فأنت أولى به منه » (١).

وقعة الحرة :

لقد عاشت الأمة الإسلامية في الحرمين الشريفين في المدينة المنورة ومكة المكرمة من بعد شهادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) حالة من التفكك والانقسام لحد الإنفصام ، فالولاة والحاكمون من الأمويين يشعرون بغضب إسلامي عارم عام لمقتل سيّد الشهداء ، فذرّ بينهم وبين المسلمين قرن الخلاف وشعروا بالمهانة والكراهية ، وزاد الطين بلة تشهير ابن الزبير بهم ، وقد التفّ حوله جمهورٌ من الحرمين فبايعوه وخلعوا بيعة يزيد ، وبين هؤلاء وهؤلاء مَن هم على الحياد ـ لو صح التعبير ـ كابن عباس وبقية بني هاشم ، وبعد أولئك وأولا رهط الأنصار ومَن شايعهم من أبناء المهاجرين الّذين خلعوا بيعة يزيد وأمّروا عليهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة وعبد الله بن مطيع على قريش ، وفي خضم الإنقسامات لابدّ من التدافع حتى ولو أشهرت السيوف اللوامع ، وهكذا بقي بنو هاشم بمنأى عن ذلك التنازع ، وكأنّهم يعيشون خارج الزمن وإن كانوا بعد أحياء ، ومع ذلك الاعتزال فلا يزالون

____________________

(١) نفس المصدر / ٤٩٤.

٢٥٤

طرفاً مستهدفاً لكل من الأمويين وابن الزبير ، كلٌ يبتغي جرّهم إلى صفّه ، ويصانعهم الودّ حيناً ، ويراوغهم أحياناً ، ويكاشفهم العداء بالتالي ، ولكنهم لم يستجيبوا لرغبة ولم ينساقوا لرهبة ، فقد اتخذ ابن عباس ومعه ابن الحنفية موقفاً صلباً في الحياد ، وإن بلغ تشنّج الحاكمين حدّ الوعيد ، فسكنى ابن عباس بمكة يسّرت له الإشراف على شؤون السقاية الّتي كانت تهمه كثيراً ، لما يرى من فضل زمزم حتى انّه كان إذا أراد أن يتحف رجلاً بتحفة سقاه من زمزم (١) والرفادة عن قرب ، وله في المدينة بقية أهله ، ولمّا بلغته أخبار المدينة في تحالف الأنصار وقريش في وقعة الحرة لم يكن متفائلاً بنجاح أهلها لأنّهم أمّروا عليهم أميرين : عبد الله بن مطيع العدوي على قريش وعبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة على الأنصار. ولمّا وقعت الواقعة « وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس ومن بني هاشم وسائر قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس ، فممّن قتل من آل أبي طالب ابنان لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب (٢) ولجعفر بن محمّد بن عليّ بن أبي طالب ، ومن

____________________

(١) ذكر أخبار أصبهان ١ / ٣٣٣.

(٢) لم يذكر المؤرخون اسمهما إلاّ ان الفسوي في المعرفة والتاريخ ذكر بسنده خبراً عن واهب بن عبد الله المعافري قال : قدمت المدينة فأتيت منزل زينب بنت فاطمة بنت عليّ لأسلّم عليها ، فدخلت عليها الدار فإذا عندها جماعة عظيمة واذا هي جالسة مسفرة ، واذا امرأة ليست بالحليلة ولم تطعن بالسنّ ، فاحتملتني الحمية والعفّة لها فقلت : سبحانك الله ، قدركِ قدركِ وموضعكِ موضعكِ وأنت تجلسين للناس كما أرى مسفرة؟

فقالت : إن لي قصة ، قال قلت وما تلك القصة؟

فقالت : لمّا كان ايام الحرة ووفد أهل الشام المدينة وفعلوا فيها ما فعلوا ، وكان لي يومئذ أبن قد ناهز الاحتلام ، قالت : فلم أشعر به يوماً وأنا جالسة في منزلي إلاّ وهو يسعى وبسر بن أبي أرطاة خلفه حتى دخل عليّ ّ ، فألقى نفسه عليّ وهو يبكي يكاد البكاء أن يفلق كبده ، فقال لي بسر : إدفعيه إليّ فأنا خير له قالت : فقلت له اذهب مع عمك ، قالت :

٢٥٥

بني هاشم من غير آل أبي طالب : الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب ، وبضع وتسعون رجلاً من سائر قريش ، ومثلهم من الأنصار ، وأربعة آلاف من سائر الناس ممّن أدركه الإحصاء دون من لم يعرف » (١).

ومن أعجب العجب بعد ما مرّ ذكره وغيره من جرائم جيش الأمويين في المدينة المنوّرة ، نقرأ موقفاً عن ابن عمر ، متهالكاً في طاعتهم ، يرويه البخاري في صحيحه في ( باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج خلافه ) من كتاب التوحيد ، بسنده عن نافع ، قال : « لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ، جمع ابن عمر حشمه وولده ، فقال : إنّي سمعت النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : ( ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة ) ، وإّنا قد أيدنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ، وإنّي لا أعلم غدراً أعظم

____________________

فقال : لا والله لا أذهب معه يا أمّه هو والله قاتلي. قالت : فقلت أترى عمك يقتلك؟ لا ، إذهب معه ، قالت : قال لا والله يا أمه لا أذهب معه هو والله قاتلي. قالت : وهو يبكي يكاد البكاء أن يفلق كبده قالت : فلم أزل أترفق به وأسكّنه حتى سكن.

قالت : ثمّ قال لي بسر إدفعيه إلي فأنا خير له ، قالت : فقلت اذهب مع عمك ، قالت فقام فذهب معه. قالت : فلمّا خرج من باب الدار قال للغلام امشي بين يدي ، قالت فإذا بسر قد اشتمل على السيف فيما بينه وبين ثيابه ، قالت فلمّا ظهر إلى السكّة رفع بسر ثيابه عن عاتقه وشهر عليه السيف من خلفه ثمّ علاه من خلفه ، فلم يزل يضربه به حتى يرد ، قالت : فجاءتني الصيحة ادركي ابنك فقد قطّع ، قالت فقمت أتعثر في ثيابي ما معي عقلي.

قالت : فإذا جماعة قد أطافوا به فإذا هو قتيل قد قُطّع.

قالت : فألقيت نفسي عليه وأمرت به فحُمل.

قالت : فجعلت على نفسي من يومئذ لله أن لا أستتر من أحد ، لأن بُسراً هو أوّل من هتك ستري وأخرجني للناس فالله حسيبه.

أقول : والخبر رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ١٠ / ١٣ ـ ١٤.

(١) مروج الذهب ٣ / ٧٩ تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

٢٥٦

من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثمّ ينصب له القتال ، وإنّي لا أعلم أحداً منكم خلعه ، ولا بايع في هذا الأمر إلاّ كانت الفيصل بيني وبينه » (١).

وقد مرّ بنا آنفاً أنّه أشار على الحسين بمبايعة يزيد ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : ( هيهات يا بن عمر ... فاتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي ، فوالذي بعث جدي محمداً بشيراً ونذيراً لو أنّه أباك عمر بن الخطاب أدرك زماني لنصرتي ... ).

ولو لم يجد يزيد في ابن عمر وأمثاله أنصاراً له على جرائمه في المدينة وغيرها ، لما ارتكب موبقاته فيها فأباحها لجيشه ثلاثة أيام ، ارتكبوا فيها كلّ قبيح.

وكان ابن عباس يقول : جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة ( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا ) (٢) قال : لأعطوها ، يعني ادخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة (٣).

وهذا ما حذّر منه الإمام الحسين سلام الله عليه أمة جدّه ممّن زاغ عن الحقّ وراغ مع الباطل فقال في يوم عاشوراء في إحدى خطبه : ( يا أمة السوء بئسما خلفتم محمّداً في عترته ، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله الصالحين فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي ).

فكلّ إناء بالّذي فيه ينضح :

روى أبو الفرج الاصبهاني بسنده عن ابن أبي مليكة قال : « رأيتهم ـ يعني بني أمية ـ يتتايعون (٤) نحو ابن عباس حين نفر ابن الزبير بني أمية عن الحجاز ، فذهبت معهم وأنا غلام ، فلقينا رجلاً خارجاً من عنده ، ودخلنا عليه فقال له عُبيد

____________________

(١) صحيح البخاري ٩ / ٥٧ ط بولاق سنة ١٣١٣ هـ.

(٢) الأحزاب / ١٤.

(٣) المعرفة والتاريخ للبسوي ٣ / ٣٢٧ ط أوقاف بغداد.

(٤) التتايع : التتابع في الشر والتهافت والاسراع إليه ، ويرمي بنفسه من غير تثبّت.

٢٥٧

ابن عُمير ، ما لي أراك تذرف عيناك؟ فقال له : إن هذا ـ يعني عبد الرحمن بن الحكم ـ قال بيتاً أبكاني وهو :

وعبد مناف لم تغلها الغوائل

وما كنت أخشى أن ترى الذل نسوتي

فذكر قرابةً بيننا وبين بني عمنا بني أمية ، وإنّا إنّما كنا أهل بيت واحد في الجاهلية ، حتى جاء الإسلام فدخل الشيطان بيننا أيّما دخل » (١).

وروى الطبري في تاريخه ، وابن الأثير في الكامل : « أنّ مروان بن الحكم كلّم ابن عمر لمّا أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية في أن يغيّب أهله عنده فلم يفعل ، وكلّم عليّ بن الحسين وقال : يا أبا الحسن إنّ لي رحَماً وحُرمي تكون مع حُرمك ، فقال : أفعل ، فبعث بحُرمه إلى عليّ بن الحسين ، فخرج بحُرمه وحُرَمِ مروان حتى وضعهم بينبع » (٢).

قال أبو مخنف كما في الطبري : « وخرجت عائشة بنت عثمان بن عفان إلى الطائف فتمرّ بعلي بن حسين وهو بمال له إلى جنب المدينة قد اعتزلها ، كراهية أن يشهد شيئاً من أمرهم ، فقال لها احملي ابني عبد الله معك إلى الطائف ، فحملته إلى الطائف حتى انفضّت أمور أهل المدينة » (٣).

هذه بعض أيادي أهل البيت على الأمويين في محنتهم مع ما كان منهم من شرّ صدمة أوقعوها بهم بقتلهم الحسين وأهل بيته وسبي عياله و و.

فلم يمنعهم ذلك من إسداء المعروف إليهم والتعاطف معهم في المحنة ، فهلم الآن لنقرأ بعض صور الجزاء المخزي المفزع ، لتؤمنوا بأنّ الّذي خبث لا يخرج إلاّ نكدا.

____________________

(١) الأغاني ١٣ / ٢٦٤ ط دار الكتب.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٤٨٥ ط دار المعارف ، الكامل في التاريخ٤ / ٤٩ ط بولاق.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٤٨٥.

٢٥٨

قال ابن أعثم ـ في حديثه عن مسلم بن عقبة المري قائد الحملة التدميرية على المدينة المنورة ، وما سفكه من دماء الأبرياء ، وأخذه البيعة من الناس على أنّهم عبيد خول ليزيد.

قال : « ثمّ أتي بعليّ بن عبد الله بن عباس ، فلمّا قدم إليه قامت قبائل كندة من كلّ ناحية فقالوا : أيها الأمير إنّ هذا الّذي قَدم عليك منا وإلينا ، وذلك أنّ عبد الله بن العباس خطب إلينا ، فزوجناه بنت عم لنا يقال لها زرعة بنت مشوح ، فأولدها هذا الفتى ابن اختنا فخلّ سبيله ، فقال : يا معشر كندة خلعتم أيديكم من الطاعة ، فقالوا : ما خلعنا أيدينا من الطاعة ، ولكنا لا نمكنك من ابن اختنا تقتله ، فقال لهم : إذاً فيبايع أمير المؤمنين يزيد فقالوا : أمّا البيعة فانه يبايع ، على أنّه والله أشرف من يزيد وأكرم منه أباً وأماً.

قال : فبايع عليّ بن عبد الله بن عباس يزيد بن معاوية ، وتنحى ناحية من بين يدي مسلم بن عقبة » (١).

وقال : « وسمع مسلم بن عقبة صياحاً وصراخاً فقال : ما هذا؟ فقيل : إنّه قد أتي بعلي بن الحسين بين يديه وهؤلاء أقاربه يصيحون ، فقال أعلموه انّه لا بأس عليه.

قال : فلمّا أتي بعليّ بن الحسين ، وثب مسلم بن عقبة فصافحه وقبّل بين عينيه وأقعده معه على سريره ثمّ قال له : لا بأس عليك وأمير المؤمنين يزيد يقرأ عليك السلام ويقول لك : لا تلمني على حبس عطائي لك ، إنّما شغلني عنك عبد الله بن الزبير ، وأنا موجّه إليك بعطائك موفراً. قال : ثمّ أمر له مسلم بن عقبة بألف درهم ، وقال : احملوه إلى منزله » (٢).

____________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٩٩ ط دار الندوة.

(٢) نفس المصدر / ٣٠٠.

٢٥٩

وقال المسعودي : « ونظر الناس إلى عليّ بن الحسين السجاد وقد لاذ بالقبر وهو يدعو ، فأتي به إلى مسرف وهو مغتاظ عليه ، فتبرأ منه ومن آبائه فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له ، وأقعده إلى جانبه ، وقال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحد ممّن قدّم إلى السيف الا شفّعه فيه ، ثمّ انصرف عنه ، فقيل لعلي : رأيناك تحرّك شفتيك فما الّذي قلت؟ قال : قلت : اللّهمّ ربّ السموات السبع وما أظللن ، والأرضين السبع وما أقللن ، ربّ العرش العظيم ربّ محمّد وآله الطاهرين ، أعوذ بك من شره ، وأدرأ بك في نحره ، أسألك أن تؤتيني خيره ، وتكفيني شرّه.

وقيل لمسلم : رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه ، فلمّا أتي به إليك رفعت منزلته ، فقال : ما كان ذلك لرأي مني ، لقد مليء قلبي منه رعباً » (١).

وقال المسعودي أيضاً : وأمّا عليّ بن عبد الله بن العباس فإن أخواله من كندة منعوه وأناس من ربيعة كانوا في جيشه فقال عليّ في ذلك :

أبي العباس قرم بني لؤي

وأخوالي الملوك بنو وليعه

هم منعوا ذماري يوم جاءت

كتائب مسرف وبني اللكيعه

أراد بي الّتي لا عزّ فيها

فحالت دونه أيدي ربيعه

لقد همّ يزيد بقتل ابن عباس؟

قال سبط ابن الجوزي : « ذكر الواقدي وهشام وابن إسحاق وغيرهم قالوا : لمّا قتل الحسين ( عليه السلام ) بعث عبد الله بن الزبير إلى عبد الله بن عباس ليبايعه وقال : أنا أولى من يزيد الفاسق الفاجر وقد علمت سيرتي وسيرته ، وسوابق أبي الزبير مع

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٨٠.

٢٦٠