موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

الموروث عن النبيّ المصطفى وابن عمه المرتضى من أخبار وإخبار بما ستلاقي عترته من بعده في عهد يزيد ، فهو في حال اضطراب شديد لما سيحلّ بالمسلمين من الفوادح. ولات حين مناص من مزيد ترقّب ، لتتابع الأحداث سراعاً منذرة بالخطر.

فمع الأحداث المتتابعة :

كتاب يزيد الى ابن عباس :

لعل أوّل حدَث غامت به نفس ابن عباس كتاب يزيد إليه بمبايعته ، وقد مرّ جواب ابن عباس عليه. وأحسب أنّه كان في المدينة بعد رجوعه من مكة عمرة رجب ، وقد مرّ بنا كتاب يزيد إلى واليه الوليد بن عتبة بأخذ البيعة من الحسين وابن الزبير وابن عمر نقلاً عن الطبري وقلنا إنّه لم يرد لابن عباس ذكر معهم ، وربما لأن ابن عباس لم يكن يومئذ بالمدينة وكان بمكة معتمراً عمرة رجب وكان موت معاوية في رجب ، فلمّا عاد إلى المدينة أتاه كتاب يزيد بأمره فيه بالخروج إلى الوليد بن عتبة ومبايعته له ... ولم يذكر أنّه ذهب إلى الوليد ، كما لم يذكر أنّ الوليد أرسل عليه ، كما أرسل على الحسين وابن الزبير ، قال الدينوري : « وأمّا عبد الله بن عباس فقد كان خرج قبل ذلك بأيام إلى مكة » (١) ، وقد روى ابن الأثير (٢) وابن كثير (٣) في تاريخهما وغيرهما أنّه وابن عمر لقيا الحسين وابن الزبير في الأبواء منصرفهما من العمرة ـ وكان الحسين وابن الزبير قد خرجا من المدينة بعد طلب الوليد منهما مبايعتهما ليزيد ـ فسألاهما عمّا وراءهما فقالا :

____________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٢٨.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٤ / ٧ ط بولاق.

(٣) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٤٨ نقلاً عن الواقدي.

٢٢١

موت معاوية والبيعة ليزيد ، فقال ابن عمر : لا تفرقا جماعة المسلمين (١) وقدم هو وابن عباس المدينة (٢).

قال ابن الأثير : « فلمّا بايع الناس بايعا ».

إلاّ أنّ ابن كثير قال : « فلمّا جاءت البيعة من الأنصار بايع ابن عمر مع الناس ». ولم يذكر في هذا المقام (٣) عن ابن عباس شيئاً فهو أدق من ابن الأثير في تعبيره ، لذلك قلت وأحسب ان كتاب يزيد المشار إليه آنفاً اتى ابن عباس في ذلك الظرف لأنّه لم يبايع ليزيد.

خروج الحسين من المدينة إلى مكة وإقامته بها :

قال الدينوري في الأخبار الطوال : « ومضى ـ الحسين حتى وافى مكة ، فنزل شعب عليّ (٤) » (٥).

وقال ابن كثير في تاريخه : « فنزل الحسين دار العباس (٦) » (٧).

وحكى الخوارزمي في مقتل الحسين عن الإمام أحمد بن أعثم الكوفي قوله : « ولمّا دخل الحسين مكة فرح به أهلها فرحاً شديداً وجعلوا يختلفون إليه

____________________

(١) ومن هنا قلنا ان ابن عمر انّه راغب فيما زهد فيه غيره من المعارضة.

(٢) في طبقات ابن سعد ذكر عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة هو الّذي كان مع ابن عمر حين التقيا الحسين وابن الزبير بالابواء ، لكن في تاريخ دمشق وسير أعلام النبلاء وتاريخ ابن الأثير وابن كثير انّه ابن عباس ولعله تصحيف توارد عليه النسّاخ.

(٣) احترازاً عمّا ذكره في / ١٥١ من قوله : بايع ابن عمرو ابن عباس.

(٤) هو شعب أبي طالب ، ولا يزال يعرف حتى اليوم بشعب عليّ وبجانبه سوق الليل قارن أخبار مكة للأزرقي ٢ / ٢٣٣ تح ـ رشدي الصالح محسن ط الثانية سنة ١٣٨٥ هـ مطابع دار الثقافة مكة المكرمة.

(٥) الأخبار الطوال / ٢٢٩.

(٦) هي بالقرب من مولد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وصارت لخالصة والدة الخيزران قارن / ن م.

(٧) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٦٢.

٢٢٢

غدوة وعشية ( وكان قد نزل بأعلى مكة وضرب هناك فسطاطاً ضخماً ... ثمّ تحول الحسين إلى دار العباس حوّله إليها عبد الله بن عباس ) (١) » (٢).

قال ابن أعثم في تاريخه : « وأقام الحسين بمكة في شهر شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة.

قال : وبمكة يومئذ ـ أحسب مراده في ذي القعدة ـ عبد الله بن عباس ( رضي الله عنه ) وعبد الله بن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) فأقبلا جميعاً حتى دخلا على الحسين وقد عزما على أن ينصرفا إلى المدينة ، فقال له ابن عمر : أبا عبد الله رحمك الله اتق الله الّذي إليه معادك فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم وظلمهم إياكم ، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية ، ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلونك ويهلك فيك بشر كثير ، فإني قد سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو يقول : حسين مقتول ، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة ، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس ، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل ، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين.

فقال له الحسين أبا عبد الرحمن أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه ، وقد قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيه وفي أبيه ما قال؟

فقال ابن عباس : صدقت أبا عبد الله ، قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حياته : ما لي وليزيد ، لا بارك الله في يزيد ، وانّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين ( رضي الله عنه ) والّذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه الا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم ، ثمّ

____________________

(١) ما بين القوسين لم نجده في تاريخ ابن أعثم ط دار الندوة ، فظن خيراً ، وازدد خُبراً بمطبوعات العصر الحديث. ودار العباس كانت بين الصفا والمروة ، منقوشة عندها العَلَم الّذي يسعى منه من جاء من المروة إلى الصفا قارن نفس المصدر في المتن.

(٢) مقتل الحسين ١ / ١٩٠ ط الزهراء في النجف.

٢٢٣

بكى ابن عباس وبكى معه الحسين وقال : يا بن عباس تعلم أني بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )؟

فقال ابن عباس : اللّهمّ نعم نعلم ونعرف أنّ ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) غيرك ، وأن نصرك لفرضٌ على هذه الأمة كفريضة الصلاة والزكاة الّتي لا يقدر أن يقبل إحداهما دون الأخرى.

قال الحسين : يا بن عباس فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من داره وقراره ومولده وحرم رسوله ومجاورة قبره ومولده ومسجده وموضع مهاجره ، فتركوه خائفاً مرعوباً ، لا يستقر في قراره ولا يأوي في موطن ، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه ، وهو لم يشرك بالله شيئاً ، ولا اتخذ من دونه ولياً ، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والخلفاء من بعده؟

فقال ابن عباس : ما أقول فيهم إلاّ أنّهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلاّ وهم ( كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) (١) وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى ، واما أنت يا بن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فإنّك رأس الفخار برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وابن نظيره البتول ، فلا تظن يا بن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) انّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون. وأنا أشهد أنّ من رغَب عن مجاورتك وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فما له من خلاق.

فقال الحسين : اللّهمّ اشهد.

فقال ابن عباس : جعلت فداك يا بن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كأنك تنعى إليّ نفسك وتريد مني أن أنصرك؟ والله الّذي لا إله إلاّ هو أن لو ضربت بين يديك

____________________

(١) النساء / ١٤٢ ـ ١٤٣.

٢٢٤

بسيفي حتى ينقطع وتنخلع يداي جميعاً من كتفي لما كنت ممّن أوفى من حقك عشر العشير ، وها أنا بين يديك مرني بأمرك.

فقال ابن عمر : مهلاً ذرنا من هذا يا بن عباس.

قال : ثمّ أقبل ابن عمر على الحسين فقال : أبا عبد الله مهلاً عمّا قد عزمت عليه ، وارجع من هنا إلى المدينة وادخل في صلح القوم ، ولا تغب عن وطنك وحرم جدّك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولا تجعل لهؤلاء الّذي لا خلاق لهم على نفسك حجة وسبيلاً ، وإن أحببت أن لا تبايع فأنت متروك حتى ترى برأيك ، فإنّ يزيد ابن معاوية ـ لعنه الله ـ عسى أن لا يعيش الا قليلاً فيكفيك الله أمره.

فقال الحسين : أفّ لهذا الكلام أبداً ، ما دامت السماوات والأرض ، أسألك بالله يا عبد الله أنا عندك على خطأ من أمري هذا؟ فإن كنت عندك على خطأ فردني فإنّي أخضع وأسمع وأطيع.

فقال ابن عمر : اللّهمّ لا ، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ ، وليس مثلك من طهارته وموضعه من الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يسلم على مثل يزيد ابن معاوية ـ لعنه الله ـ باسم الخلافة ، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف ، وترى من هذه الأمة ما لا تحب ، فارجع معنا إلى المدينة ، وان شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبداً ، واقعد في منزلك.

فقال له الحسين : هيهات يا بن عمر إن القوم لا يتركوني ، إن أصابوني وان لم يصيبوني ، فإنّهم يطلبوني أبداً حتى أبايع وأنا كاره أو يقتلوني ، ألا تعلم أبا عبد الرحمن أنّ من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ، والرأس ينطق بالحجة عليهم ، فلم يضر ذلك يحيى بن زكريا ، بل سارو الشهداء فهو سيدهم يوم القيامة؟ ألا تعلم أبا عبد الرحمن ان

٢٢٥

بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يصنعوا شيئاً ، فلم يعجل الله عليهم ، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام؟ فاتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي ، واذكرني في صلاتك ، فوالذي بعث جدي محمداً بشيراً ونذيراً لو أنّ أباك عمر بن الخطاب أدرك زماني نصرني كما نصر جدي ، ولقام من دوني كقيامه من دون جدي.

يا بن عمر فإن كان الخروج معي يصعب عليك ويثقل فأنت في أوسع العذر ، ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دبر كلّ صلاة. ثمّ أقبل على عبد الله بن عباس.

وقال له : وأنت يا بن عباس ابن عم أبي ، ولم تزل تأمر بالخير مذ عرفتك ، وكنت مع أبي تشير عليه بما فيه الرشاد والسداد ، وقد كان أبي يستصحبك ويستنصحك ويستشيرك وتشير عليه بالصواب ، فامض إلى المدينة في حفظ الله ، فلا تخفي عليَّ شيئاً من أخبارك ، فإنّي مستوطن هذا الحرم ومقيم به ، ما رأيت أهله يحبونني وينصرونني ، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم ، واستعصمت بالكلمة الّتي قالها إبراهيم يوم ألقي في النار ، حسبي الله ونعم الوكيل ، فكانت النار عليه برداً وسلاماً.

فبكى ابن عباس وابن عمر ذلك الوقت بكاء شديداً ، وبكى الحسين معهما ، ثمّ ودّعهما فصار ابن عباس وابن عمر إلى المدينة » (١).

____________________

(١) تاريخ ابن أعثم ٥ / ٣٨ ـ ٤٤ ط دار الندوة.

وهذا الخبر بطوله رواه الخوارزمي في مقتل الحسين ١ / ١٩٠ ـ ١٩٣ نقلاً عن أبن اعثم وما حكاه عنه أصح من المطبوع من فتوحه ط دار الندوة بيروت.

٢٢٦

كتاب يزيد إلى ابن عباس في أمر الحسين ( عليه السلام ) :

روى السبط ابن الجوزي في التذكرة : « وقال الواقدي : ولمّا نزل الحسين مكة كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس : أمّا بعد فإنّ ابن عمك حسيناً وعدو الله ابن الزبير التويا ببيعتي ولحقا بمكة مرصدَين للفتنة ، معرّضين أنفسهما للهلكة. فأمّا ابن الزبير فإنّه صريع الفناء وقتيل السيف غداً ، وأمّا الحسين فقد أحببت الإعذار اليكم أهل البيت ممّا كان منه ، وقد بلغني انّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ، ويمنّونه الخلافة ، ويمنّيهم الإمرة ، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام ، وقد قطع ذلك الحسين وبتّه ، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك فالقه فاردده عن السعي في الفرقة ، وردّ هذه عن الفتنة ، فإن قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة ، وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه ، وإن طلب الزيادة فاضمن له ما أراك الله أنفذ ضمانك ، وأقوم له بذلك ، وله عليَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليه ، عجّل بجواب كتابي وبكل حاجة لك إليَّ وقبلي والسلام.

قال هشام بن محمّد : وكتب يزيد في أسفل الكتاب :

يا أيها الراكب الغادي لطيته ... (١) » (٢).

جواب ابن عباس إلى يزيد :

قال السبط في التذكرة : « فكتب إليه ابن عباس أمّا بعد : فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكة ، فأما ابن الزبير فرجل منقطع عنا برأيه

____________________

(١) الابيات الآتية.

(٢) تذكرة الخواص ط حجرية و ٢١٥ ط منشورات الشريف الرضي بقم.

٢٢٧

وهواه ، يكاتمنا مع ذلك أضغانا يسرّها في صدره يوري علينا وري الزناد ، لا فكّ الله أسيرها فارء في أمره ما أتيت رأيه.

وأمّا الحسين فإنه لما نزل مكة وترك حرم جده ومنازل آبائه ، سألته عن مقدمه فأخبرني أنّ عمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش ، فاقبل إلى حرم الله مستجيراً به ، وسألقاه فيما أشرت إليه ، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ، ويطفئ به الثائرة ، ويخمد به الفتنة ، ويحقن به دماء الأمة ، فاتق الله في السر والعلن ، ولا تبيتنّ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة ، ولا ترصده بمظلمة ، ولا تحفر له مهواة ، فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه ، وكم من مؤمّل أملاً لم يؤتَ أمله ، وخذ بحظك من تلاوة القرآن ونشر السنّة ، وعليك بالصيام والقيام ، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها ، فإنّ كلّ ما شغلت به عن الله يضرّ ويفنى ، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى والسلام » (١).

هذه صورة الكتابين ، وقد رواهما السبط عن الواقدي وعن الكلبي كما ذكرهما ، وروايته أتم ممّا رواه ابن سعد والطبري فضلاً عن المتأخرين الّذين أخذوا عنهما. ويبدو أنّ السبط حصل على بعض كتب الواقدي وهشام بن محمّد الكلبي ، كما يبدو أنّ اختزالاً متعمداً عند ابن سعد والطبري ، وإلى القارئ صورة ما ذكره ابن سعد في طبقاته.

قال ابن سعد في الطبقات : « وكتب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن عباس يخبره بخروج الحسين إلى مكة : ونحسبه جاءه رجال من أهل هذا المشرق فمنّوه الخلافة ، وعندك علم منهم خبرة وتجربة ، فإنّ كان فعل فقد قطع واشج القرابة ، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه ، فاكففه عن السعي في الفُرقة.

____________________

(١) التذكرة / ٢١٦.

٢٢٨

وكتب بهذه الأبيات إليه والى من بمكة والمدينة من قريش :

يا أيها الراكب الغادي لطيّته (١)

على عذافرة (٢) في سيرها قحم (٣)

أبلغ قريشاً على نأي (٤) المزار بها

بيني وبين حسين الله والرحم

وموقف بفناء البيت أنشده

عهد الإله وما توفى به الذمم (٥)

عنّيتم (٦) قومكم فخراً بأمّكمُ

أمّ لعمري حَصانٌ عفةٌ (٧) كرم

هي الّتي لا يداني فضلها أحدٌ

بنت الرسول وخير الناس قد علموا (٨)

وفضلها لكم فضلٌ وغيركمُ

من قومكم لهمُ في فضلها قِسَمُ

____________________

(١) طيّته : حاجته.

(٢) العذافرة : الناقة الشديدة العظيمة ( اللسان ٤ / ٥٥٥ ).

(٣) قحم : أي سريعة تطوي المنازل وتتقحمها منزلاً بعد منزل ( نفس المصدر ١٢ / ٤٦٤ ).

(٤) تاريخ الطبري ٨ / ٢٠٢ ط دار المعارف على شحط المزار.

(٥) تاريخ الطبري : وما ترعى له الذمم.

(٦) وفيه : عنّفتم وببالي في بعض المصادر هُنّيتم.

(٧) في الطبري وتاريخ دمشق وتاريخ ابن كثير ( بَرّة ) ، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢١٨ ط الزهراء : ( عمّها الكرم ).

(٨) في مقتل الخوارزمي ( وكلّ الناس قد علموا ).

٢٢٩

إنّي لأعلم أو ظناً كعالمه

والظن يصدق أحياناً فينتظم

أن سوف يترككم ما تدعون به (١)

قتلى تهاداكمُ العِقبان والرَخَم

يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ سكنت (٢)

ومسّكوا بحبال السلم واعتصموا (٣)

قد غرَت الحرب (٤) من قد كان قبلكم

من القرون وقد بادت بها الأمم

فانصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً (٥)

فربّ ذي بذخٍ زلّت به القدم (٦)

قال : فكتب إليه عبد الله بن عباس : إنّي لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه ، ولست أدع النصيحة له فيما يجمع الله به الإلفة ، ويطفي به النائرة.

____________________

(١) في الطبري ( ما تطلبون بها ).

(٢) في الطبري ( إذ خمدت ).

(٣) في الطبري بعد هذا البيت :

وإن شارب كأس البغي يتخّم

لا تركبوا البغي ان البغي مَصرَعةٌ

(٤) في الطبري ( قد جرت الحرب ) ، وفي مقتل الخوارزمي ( قد عضّت الحرب ).

(٥) في مقتل الخوارزمي ( لا تشمخوا بذخاً ).

(٦) في كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ومقتل الخوارزمي ، واحسبه نقله من الأوّل قال :

فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات ثمّ وجهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّ ( رضي الله عنه ) فلمّا نظر فيه علم انّه كتاب يزيد بن معاوية فكتب الحسين الجواب.

بسم الله الرحمن الرحيم(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) والسلام. والآية في سورة يونس / ٤١ ( وَإِنْ كَذَّبُوكَ ... ) فاقتبس الإمام معنى الآية.

٢٣٠

ودخل عبد الله بن عباس على الحسين فكلّمه ليلاً طويلاً ، وقال : أنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة ، لا تأتي العراق ، وإن كنت لابدّ فاعلاً فأقم حتى ينقضي الموسم ، وتلقى الناس وتعلم على ما يصدرون ثمّ ترى رأيك ـ وذلك في عشر ذي الحجة سنة ستين. فأبى الحسين الا أن يمضي إلى العراق. فقال له ابن عباس : والله إنّي لأظنك ستقتل غداً بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان بين نسائه وبناته ، والله إنّي لأخاف أن تكون الّذي يقاد به عثمان ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فقال الحسين : أبا العباس إنّك شيخ قد كبرت.

فقال ابن عباس : لولا أن يزُري ذلك بي أو بك لنشبّت يديّ في رأسك ، ولو أعلم أنا إذا تناصينا أقمتَ لفعلت ، ولكن لا أخال ذلك نافعي.

فقال له الحسين : لئن أقتل بمكان كذا وكذا أحبّ أن تستحل بي ـ يعني مكة ـ قال : فبكى ابن عباس وقال : أقررت عين ابن الزبير ، فذلك الّذي سلا بنفسي عنه.

ثمّ خرج عبد الله بن عباس من عنده وهو مغضب وابن الزبير على الباب ، فلمّا رآه قال : يا بن الزبير قد أتى ما أحببت ، قرّت عينك هذا أبو عبد الله يخرج ويتركك والحجاز.

يا لك من قنبرة بمعمر

خلالك الجو فبيضي واصفري

ونـقـرّي مـا شـئـت أن تـنـقـري » (١)

____________________

(١) الطبقات في ترجمة الإمام الحسين ( عليه السلام ) تح ـ د محمّد بن صامل السُلمي ط الطائف ، والحسين والسنّة تح ـ الطباطبائي.

٢٣١

لماذا الإصرار وحوار بعد حوار :

لقد مرّ بنا قريباً أنّ ابن عباس قد كلّم الحسين ( عليه السلام ) ليلاً طويلاً ، ولم تكن تلك هي المرّة الأولى والأخيرة ، بل لقد تكررت الزيارات ، وتتابعت النصائح والمحاولات والمحاورات. وفي جميعها كان ابن عباس يبذل جهداً متواصلاً في صرف نظر الحسين ( عليه السلام ) عن التوجه إلى العراق ، لأن أهله قوم غدر ، قتلوا أباه وخذلوا أخاه ، ويخشى أن يسلموه عند الوثبة.

وقد قرأت له أكثر من محاورة تشابهت لغتها ، ولم تخرج في بيانها عن المحور الأساس هو الحيلولة دون خروج الحسين ( عليه السلام ) إلى العراق ، ولم يرد في شيء منها صدّه عن القيام ضد حكومة يزيد ، بل كان هو من رأيه القيام ضد حكومة يزيد ذلك الجبّار كما سيأتي نعته له بذلك في احدى محاولاته ومحاوراته.

ولا أستغرب منه ذلك الإصرار ، لأنّه كان على علم يقين بأن الحسين ( عليه السلام ) سيقتل في كربلاء بالعراق ، أخذ ذلك من حديث النبيّ المصطفى ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فهو أحد رواة حديث التربة الّتي أتى بها الروح الأمين إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

فقد روى ابن كثير قال : « أخرج البزار في مسنده عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال : كان الحسين جالساً في حجر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال جبريل : أتحبه؟ فقال : وكيف لا أحبّه وهو ثمرة فؤادي : فقال : إنّ أمتك ستقتله ، ألا أريك من موضع قبره؟ فقبض قبضة ، فإذا تربة حمراء » (١).

وهو الّذي روى عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ما سمعه من خطبته عند رجوعه من سفر له وهو متغير اللون محمرّ الوجه ، فخطب خطبة بليغة موجزة وعيناه تهملان دموعاً

____________________

(١) البداية والنهاية ٦ / ٢٣٠.

٢٣٢

قال فيها : ( أيّها الناس إنّي خلفت فيكم الثقلين (١) : كتاب الله وعترتي وأرومتي ، ومزاج مائي وثمرتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ألا وإنّي لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي أن أسألكم به المودة في القربى ، فانظروا لا تلقوني على الحوض وقد أبغضتم عترتي وظلمتموهم ، ألا وإنّه سترد عليَّ في القيامة ثلاث رايات من هذه الأمة :

راية سوداء ... ثمّ ترد عليّ راية أخرى أشد سواداً من الأولى ... ثمّ ترد عليَّ راية أخرى تلمع نوراً ... ألا وإنّ جبرئيل قد أخبرني بأنّ أمتي تقتل ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء ، ألا فلعنة الله على قاتله وخاذله آخر الدهر ). قال ابن عباس : « ثمّ نزل عن المنبر ، ولم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ وتيقن بأن الحسين مقتول ... » (٢).

ولقد ازداد علماً على علم ويقيناً على يقين حين مرّ وهو مع الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكربلاء في طريقه إلى صفين ، وحديثه كما رواه الشيخ الصدوق في إكمال الدين بسنده عن مجاهد ـ وكلّ رواته من العامة ـ عن ابن عباس قال : « كنت مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خرجته إلى صفين ، فلمّا نزل نينوى وهو شط الفرات صاح بأعلا صوته : يا بن عباس أتعرف هذا الموضع؟ قال : قلت : ما أعرفه يا أمير المؤمنين. قال : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي. قال : فبكى طويلاً حتى اخضلت لحيته ، وسالت على خديه ـ وبكينا معه ـ وهو يقول :

____________________

(١) من الأحاديث المتواترة قد رواه أكثر من أربعين صحابياً ، وقد قاله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في أكثر من موقف وخطبة وقد أحصيت المناسبات في رسالتي عن الحديث المذكور فكانت ستاً ، أولها يوم الطائف ثمّ يوم عرفة في حجة الوداع ثمّ في مسجد الخيف بمنى ، ثمّ يوم الغدير ثمّ في المدينة قبل موته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأيام يسيرة ، وآخرها في حجرته وقد غصت بأصحابه.

(٢) تاريخ ابن أعثم الكوفي ٤ / ٢١٧ ـ ٢١٨ ط دار الندوة ، وعنه الخوارزمي في مقتل الحسين ١ / ١٦٢ ط الزهراء في النجف الأشرف.

٢٣٣

أوه أوه ، ما لي ولآل أبي سفيان ، ما لي ولآل حزب الشيطان وأولياء الكفر ، صبراً يا أبا عبد الله ، فقد لقي أبوك مثل الّذي تلقى منهم ـ ثمّ ذكر ابن عباس كلاماً طويلاً قاله الإمام إلى أن قال :

ـ والّذي نفسي بيده لقد حدّثني الصادق المصدّق أبو القاسم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا ، وهذه أرض كرب وبلاء ، يدفن فيها تسعة عشر رجلاً كلّهم من ولدي وولد فاطمة ( عليها السلام ) ، وإنّها لفي السماوات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس.

ثمّ قال : يا بن عباس أطلب لي حولها بعر الظباء ، فوالله ما كذبت ولا كذبني قط ، وهي مصفرة لونها لون الزعفران.

فقال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة ، فناديته يا أمير المؤمنين قد أصبتها على الصفة الّتي وصفتها لي.

فقال ( عليه السلام ) : صدق الله ورسوله ، ثمّ قام يهرول إليها ، فحملها وشمها ، وقال : هي هي بعينها ، أتعلم يا بن عباس ما هذه البعر؟ ـ ثمّ حدثه بحديثها إلى أن قال ابن عباس : ثمّ بكى بكاءً طويلاً ، وبكينا معه ، حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلاً ، ثمّ أفاق فأخذ البعر فصرّها في ردائه ، وأمرني أن أصرّها كذلك ثمّ قال : يا بن عباس إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ، فاعلم أنّ أبا عبد الله قد قتل بها ودفن.

قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشد حفظي ، لما افترض الله عليَّ ...

والله ما كذبني عليّ قط في حديث حدثني ، ولا أخبرني بشيء قط أنّه يكون إلاّ كان كذلك ، لأنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره ... » (١).

____________________

(١) اكمال الدين وإتمام النعمة في المجلس / ٨٧ بتقديمي ط الحيدرية ، وقارن ص٢٨٤ الخرايج والجرايح للراوندي المطبوع منضماً إلى الأربعين للمجلسي وكفاية الأثر للخزاز ط حجرية ، والدر النظيم في باب مقتل الحسين ( عليه السلام ) ( مخطوط ).

٢٣٤

فبعد هذا كلّه كيف يستغرب من ابن عباس إصراره على صرف نظر الحسين ( عليه السلام ) عن التوجه إلى العراق. فهو حين يصرّ كان مستبصراً بالمصير المحتوم ، ومتشائماً ممّا ستنتهي إليه تلك الرحلة ، ومتيقناً إن ذلك اليوم سيكون آخر العهد بأبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ). وليست المسألة قضية غلبة العاطفة فحسب وإن كان لها دورها ، ولكن ابن عباس كان يخشى وقوع المحذور ، ويترجى بلعل وعسى تأخير المقدور ، ومهما يكن فها هو الحسين قد شاع في الناس خبر عزمه على الخروج ، فاهتزت لذلك النبأ المشاعر الصادقة منها والكاذبة حتى وصف ابن عباس حالهم بالإرجاف ، وهو وصف دقيق في التعبير وبليغ في التصوير. فالناس إذا خاضوا في أخبار الفتن ونحوها قيل أرجفوا ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ) (١) ، والإرجاف كالزلزال يعمّ الصديق والعدو ، والمؤمن والمنافق ، والذكر والأنثى.

روايات في المحاورات :

لقد وردت عدة روايات عدا ما تقدم من حوار بين ابن عباس وبين الحسين حول عزم الحسين على الخروج إلى العراق :

أ ـ فمنها ما روى ابن جرير الطبري العامي وابن أعثم الكوفي والخوارزمي وغيرهم بتفاوت وألفاظ متقاربة ، واللفظ للأوّل :

قال أبو مخنف : « وحدّثني الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة بن سمعان أنّ حسيناً لمّا أجمع المسير إلى الكوفة ، أتاه عبد الله بن عباس فقال : يا بن عم إنّك قد أرجف الناس أنّك سائر إلى العراق فبيّن لي ما أنت صانع؟

____________________

(١) الأحزاب / ٦٠.

٢٣٥

قال : إنّي قد أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين إن شاء الله تعالى.

فقال له ابن عباس : فإنّي أعيذك بالله من ذلك. أخبرني رحمك الله أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم؛ فإن كانوا قد فعلوا فسر إليهم ، وإن كانوا إنّما دعوك اليهم وأميرهم عليهم ، قاهر لهم ، وعماله تجبي بلادهم ، فإنّهم دعوك إلى الحرب والقتال ، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ، وأن يُستَنفروا إليك ، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال له حسين : وإنّي أستخير الله وانظر ما يكون.

قال : فخرج ابن عباس من عنده ...

قال : فلمّا كان من العشي أو من الغد أتى الحسين عبد الله بن العباس فقال : يا بن عم إنّي أتصبّر ولا أصبر ، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ، إنّ أهل العراق قوم غُدر ، فلا تقربنّهم ، أقم بهذا البلد فإنك سيّد أهل الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا ، فاكتب اليهم : فلينفوا عدوهم ثمّ أقدم عليهم ، فإن أبيت إلاّ أن تخرج ، فسر إلى اليمن ، فإنّ بها حصوناً وشعاباً ، وهي أرض عريضة طويلة ، ولأبيك بها شيعة ، وأنت عن الناس في عزلة ، فتكتب إلى الناس ، وترحل فتبث دعاتك ، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الّذي تحب في عافية.

فقال له الحسين ( عليه السلام ) : يا بن عم إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مشفق ، ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير.

فقال ابن عباس : فإن كنت سائراً ، فلا تسر بنسائك وصبيتك ، فوالله إنّي لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه. ثمّ قال ابن عباس : لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها ، وهو اليوم لا

٢٣٦

ينظر إليه أحد معك ، والله الّذي لا إله إلاّ هو لو أعلم انّك ـ إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليّ وعليك الناس ـ أطعتني لفعلت ذلك.

قال : ثمّ خرج ابن عباس من عنده فمرّ بعبد الله بن الزبير ، فقال : قرّت عينك يا بن الزبير ثمّ قال :

يا لك من قنبرة بمعمر

خلالك الجو فبيضي واصفري

ونـقـرّي مـا شـئـت أن تـنـقـري » (١)

هذا حسين يخرج بالعراق وعليك بالحجاز » (٢).

ب ـ ومنها ما روي ابن جرير الطبري الإمامي بسنده عن أبي مخنف لوط ابن يحيى قال : « حدّثنا عباس بن عبد الله عن عبد الله بن عباس قال : أتيت الحسين وهو يخرج إلى العراق فقلت له يا بن رسول الله لا تخرج ، فقال يا بن عباس : أما علمت إن منعتني من هناك فإنّ مصارع أصحابي هناك. قلت له فأنى لك ذلك؟ قال : بسرّ سُرّ لي وعلم أعطيته » (٣).

ج ـ ومنها ما روى المجلسي عن الشهيد الثاني باسناده عن ابن قولويه وهو بسنده عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) جاء فيه قول الصادق ( عليه السلام ) : « لمّا تجهز الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة أتاه ابن عباس فناشده الله والرحم أن يكون هو المقتول بالطف ، فقال : أنا أعرف بمصرعي منك ، وما وكدي من الدنيا إلاّ فراقها.

____________________

(١) الرجز لطرفة بن العبد قاله وهو صغير بصطاد القنبر وهو ضرب من الطير قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء / ١٤٠ انّه أوّل شعر قال طرفة وقال ابن بري : هو لكليب بن ربيعة التغلبي وليس لطرفة. اللسان ( قنبر ) وانظر الحيوان للجاحظ ٣ / ٦٦ و ٥ / ٢٢٧.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٢٩٣ ط الحسينية بمصر ، والفتوح لابن أعثم ٥ / ١١١ ، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٣) دلائل الإمامة / ٧٤ ط الحيدرية سنة ١٣٦٩.

٢٣٧

ألا أخبرك يا بن عباس بحديث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والدنيا فقال له : بلى لعمري إنّي لأحبّ أن تحدّثني بأمرها ... » ثمّ ذكر الحديث (١).

د ـ ومنها ما ورد في ناسخ التواريخ ما تعريبه : « إنّ ابن عباس لمّا أكثر في إلحاحه على الحسين في منعه من التوجّه إلى العراق ، تفاءل بالقرآن فكانت الآية الكريمة ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (٢) » (٣).

وأحسب أنّ هذه كانت آخر المحاولات والمحاورات ، وقد وردت روايات أخرى على بعض ما فيها بعض التحفظّات نذكر منها :

١ ـ ما ورد في قول ابن عباس في محاورة ذكرها ابن أعثم : « وإنّك تعلم أنّه ـ العراق ـ بلد قد قتل فيه أبوك ، واغتيل فيه أخوك ، وقتل فيه ابن عمك (!؟) وبويع يزيد بن معاوية ، وعبيد الله بن زياد في البلد يُعطي ويفرض ، والناس اليوم إنّما هم عبيد الدينار والدرهم ولا آمن عليك أن تقتل ، فاتق الله والزم هذا الحرم.

فقال له الحسين ، والله إن أقتل بالعراق أحبّ إليَّ من أن أقتل بمكة ، وما قضى الله فهو كائن ، وانا مع ذلك استخير الله وأنظر ما يكون ... » (٤).

ففي قوله : « وقتل فيه ابن عمك » ـ وفي بعض الروايات زيادة قوله : « وقد بايعه أهله » ـ دلالة على وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل إلى الحسين وهو بمكة ، بينما دلّت روايات أخرى هي الأشهر والأظهر أنّه علم بذلك في الطريق إمّا في زرود أو فيما بعدها.

____________________

(١) بحار الأنوار ٨ / ٢٧٣.

(٢) آل عمران / ١٨٥.

(٣) ناسخ التواريخ ٢ / ١٢٢.

(٤) الفتوح ٥ / ١١٢.

٢٣٨

٢ ـ وممّا ورد أيضاً كذلك ممّا لا يقبل ، بل ولا يعقل ممّا ورد عن الفوادح الحسينية ، وكما في أسرار الشهادة قال : « فالتفت الحسين ( عليه السلام ) إلى ابن عباس فقال له : ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت نبيّه من وطنه وداره وقراره وحرم جده ، وتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقر في قرار ، ولا يأوي إلى جوار ، يريدون بذلك قتله وسفك دمائه ، لم يشرك بالله شيئاً قال له ابن عباس : جعلت فداك يا حسين إن كان لا بدّ من السير إلى الكوفة فلا تسر بأهلك ونسائك.

فقال : يا بن العم إنّي رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في منامي وقد أمر بأمر لا أقدر على خلافه ، وإنّه أمرني بأخذهم معي.

وقال : يا بن العم إنّهنّ ودائع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولا آمن عليهنّ أحداً ، وهنّ أيضاً لا يفارقنني.

فسمع ابن عباس بكاء من ورائه وقائلة تقول يا بن عباس تشير على شيخنا وسيدنا أن يخلفنا ها هنا ويمضي وحده ، لا والله بل نحيى معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره. فبكى ابن عباس بكاءً شديداً وجعل يقول : يعزّ والله عليَّ فراقك يا بن العم ، ثمّ أقبل على الحسين وأشار عليه بالرجوع إلى مكة والدخول في صلح بني أمية (!؟!؟!؟)

فقال الحسين : هيهات هيهات يا بن عباس إنّ القوم لن يتركوني وانهم يطلبونني أين كنت حتى أبايعهم كرهاً ويقتلونني ، والله لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني ، والله إنّهم ليعتدون عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت وإنّي ماض في أمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حيث أمرني ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون » (١).

____________________

(١) أسرار الشهادة / ٢٢٧ ط حجرية سنة ١٣١٩ هـ.

٢٣٩

فإنّ الأمر الّذي قلنا إنّه غير مقبول ولا معقول هو مشورة ابن عباس على الإمام الحسين بالرجوع إلى مكة والدخول في صلح بني أمية. وهو ما عقبته بعلامات التعجب والاستفهام استنكاراً له ، إذ لم يرد في أي مصدر مقبول أنّ ابن عباس أشار بمثل ذلك ، وإنّ في الخبر : « وأشار عليه بالرجوع إلى مكة » فذلك يعني أنّ الحوار جرى في الطريق بعد مغادرة الحسين مكة فلحقه ابن عباس وجرى بينهما ما تقدم. وهذا أيضاً لم يرد في أيّ مصدر مقبول فلاحظ!

وأظن ـ وظن الألمعي يقين ـ أنّ وهماً من وقع الراوي فخلط بين ابن عباس وبين ابن عمر ، فإنّ المشير بالصلح هو ابن عمر كما في الملهوف ، قال السيّد ابن طاووس : « وجاءه عبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير فأشارا عليه بالإمساك فقال لهما : إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه ، قال : فخرج ابن العباس وهو يقول : واحسيناه ، ثمّ جاء عبد الله بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال وحذّره من القتل والقتال.

فقال : يا أبا عبد الرحمن أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله تعالى أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إلي بغيّ من بغايا بني اسرائيل؟ أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الشمس سبعين نبياً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً؟ فلم يعجّل الله عليهم ، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام. اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدع نصرتي » (١).

أقول : وقد تقدم هذا بصورة أوسع عن الفتوح لابن أعثم فراجع خروج الحسين من المدينة إلى مكة وإقامته بها.

____________________

(١) الملهوف لابن طاووس / ٢٦ ـ ٢٧.

٢٤٠