موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

واضطرب معاوية في روايته أضطراباً فاحشاً حتى كان الناس ينكرون ذلك عليه ، فمن شواهد اضطرابه : قال في رواية عند أبي داود في صحيحه والطبراني في المعجم : « في حجته » (١) وهذا ما أربك شرّاح الصحيحين ، حيث أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان في حجة الوداع قارناً فلم يحل هو إلاّ بالحلق؟ بعد أداء مناسك الحج في منى. بينما أمر من كان معه ممّن لم يسق معه الهدي أن يحل ، وكان منهم الزبير فأحل وسطع المجمر بينه وبين زوجته أسماء ، وهو أوّل مجمر سطع يومئذ ، وبذلك كان رد ابن عباس على عبد الله بن الزبير في أيامه حين أنكر على ابن عباس فتياه بالمتعة فقال له : « سل أمك عن بردي عوسجة » ، وستأتي المحاورة بطولها في الحلقة الثانية إن شاء الله. فكيف يزعم معاوية أنّه قصّر من شعر رأس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عند المروة في حجته؟ إن هذا إلاّ اختلاق.

ولرفع الإصر عنه فقد تمحّل غير واحد في توجيه ذلك ، فقال الألباني في ضعيف أبي داود : « إنّ ذلك ـ يعني ( في حجته ) ـ ضعيف » (٢) ، وهذا منه دفع بالصدر من دون بيان حجة.

وقال النووي والطيبي : « إنّ ذلك ـ يعني تقصير معاوية لشعر رأس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ كان في عمرة الجعرانة » (٣). لأنّ عمرات النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كانت أربعاً معدودات معلومات وهي : عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء وعمرة الجعرانة ، وعمرة التمتع إلى الحج مع حجة الوداع ، ولمّا كان معاوية لم يسلم في العمرتين الأوليين ، وإنّما أدرك العمرتين الأخيرتين لأنّه من مسلمة الفتح ، لذلك رأى النووي والطيبي أنّ خبر معاوية إنّما هو في عمرة الجعرانة ، وهذا لو صح لما كان معنى

____________________

(١) المعجم الكبير ١٩ / ٢٦٧ ط الثانية.

(٢) ضعيف سنن أبي داود / ١٤٢ مكتبة المعارف الرياض.

(٣) أنظر فتح الباري ٤ / ٣١٣ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده سنة ١٣٧٨.

٢٠١

لإنكار ابن عباس عليه وقوله : « هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة وقد تمتع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) » كما مرّ.

ومن شواهد اضطرابه الدالة على كذبه ـ إذ ليس لكذوب حافظة ـ تعيين صاحب المشقص الّذي زعم أنّه استخدمه في التقصير. ففي رواية عند أبي داود والنسائي (١) وغيرهما ( بمشقص اعرابي ) ، وفي رواية عند النسائي : « قال معاوية : أخذت من أطراف شعر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بمشقص كان معي بعدما طاف بالبيت وبالصفا والمروة في أيام العشر » (؟).

وفي رواية ثالثة عند الطبراني : « بمشقص من كنانته » (٢) يعني كنانة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

ولذلك الاضطراب فقد اضطر المحدثون ستراً على معاوية فرووا ( بمشقص ) ولم يعيّنوا لمن هو (٣)! وما بال المحدثين لم يذكروا عن المشقص في عُمرُات النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الأخرى هل كان تقصيره بمشقص أو بجَلَم ـ مقص ـ؟ وهل أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان أعدّ لنفسه من يقصّر له وما يقصّر به ، أو أنّه كان تاركاً ذلك لمن يتيحه الله كما أتاح لمعاوية؟

ومن شواهد اضطرابه الدال على كذبه : انّه روى صريحاً أنّه المتولي للتقصير كما هو في البخاري ومسلم وغيرهما. بينما روى أحمد وأبو داود قوله : « أو رأيته يُقصر عنه بمشقص على المروة » (٤) وهذا يعني أنّه لم يكن هو الّذي تولى التقصير.

____________________

(١) سنن النسائي ٥ / ٢٤٥.

(٢) المعجم الكبير / ١٩ / ٢٦٨ ط / الثانية بالموصل.

(٣) راجع صحيح البخاري آخر باب الحلق والتقصير عند الإحلال.

(٤) أنظر مسند أحمد ٤ / ٩٦ ط الأولى.

٢٠٢

وأحسب أنّ قول قيس بن سعد الراوي عن عطاء عن معاوية الخبر عند النسائي : « والناس ينكرون هذا على معاوية » (١) قول صحيح لا مرية فيه.

والآن هلم الخطب في تفسير المشقص ، فإنّه سهم فيه نصل عريض ( يرمى به الوحش كما في القاموس ) وليس يستعمل في تقصير الشعر ، ولم يسمع أنّه استعمل إلاّ من معاوية ، وهذا أيضاً زاد في إرباك بعضهم ، لذلك قال الملا عليّ القاري في مرقاته : « وقيل : المراد به المقص وهو الأشبه في هذا المحل » (٢) (؟!) وهذا تكلف زائد بارد.

والآن وقد عرفت جانباً من التهالك على اثبات خبر معاوية ، أتدري لماذا كان ذلك؟

إنّهم يريدون تصحيح ما رووه عن معاوية عند حضور أجله أوصى أن يكفّن في ثوب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الّذي زعموا إنّه كساه إياه ، وكان مدّخراً عنده لهذا اليوم ، وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه (٣).

وروى لنا الذهبي : « قال معاوية ليزيد : إنّ أخوف ما أخاف شيئاً عملته في أمرك ، وإنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قلّم أظفاره وأخذ من شعره ، فجمعت ذلك ، فإذا مت فاحش به فمي وأنفي ... » (٤). وهذا أيضاً لم يحصل لأنّ معاوية مات وابنه يزيد بحوارين ، وتولى كفنه ودفنه الضحاك بن قيس.

فقد روى الطبري عن رجاله أنّ معاوية لمّا مات خرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه تلوح فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

____________________

(١) سنن النسائي ٥ / ٢٤٥ المطبعة المصرية بالأزهر.

(٢) مرقاة المفاتيح ٥ / ٥٥٢ ط دار الكتب العلمية بيروت.

(٣) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٤٣.

(٤) تاريخ الإسلام ٢ / ٣٢٣ ط القدسي بمصر.

٢٠٣

« إنّ معاوية .... فهذه أكفانه فنحن مدرجوه ومدخلوه قبره ومخلّون بينه وبين عمله ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة ، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى ـ يعني الظهر ـ وبعث البريد إلى يزيد ... » (١). فلو كان لأصل القضية المزعومة أساس ثابت لأعلنه الضحاك ، ولا أقل من الإشارة والإشادة بأنّ في أكفانه هذه ثوب كساه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأدخره لهذا اليوم ، ونحن مكفنوه فيه ، وأنّ ثمة شعر وقلامة ظفر (؟) ولكن القضية كلّها من نسج الهوى فلا قميص ولا شعر ولا قلامة ظفر ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ) (٢).

وجاءت سكرة الموت بالحق :

لقد مرّ بنا تهديد ووعيد لمن لم يبايع يزيد ، ومرّ بنا إقامة معاوية الحرس بالسيوف على رؤوس الأربعة ممّن أبى مبايعته ، وخادع الناس وضلّلهم بأنّ أولئك النفر قد بايعوا ، ومرّ بنا حرمان بني هاشم من جوائزهم أسوة ببقية قريش كوسيلة ضغط على الحسين ( عليه السلام ) ولا أقل من بذر الخلاف بين بني هاشم لتفتيت مجتمعهم وتشتيت تضامنهم. ومرّ بنا لحوق ابن عباس له فادركه بالروحاء ـ موضع على خمسة أو ستة وثلاثين ميلاً من المدينة وبه آبار كثيرة معروفة (٣) وهدده إن لم يخرج جوائز بني هاشم ليلحقنّ بساحل من سواحل الشام ويقول ما يعلم وليتركنّهم عليه خوارج ، فأحسّ معاوية بخطر ذلك التهديد فانصاع وقال : بل أعطيكم جوائزكم وكان هذا الموقف آخر لقاء بين ابن عباس وبين معاوية ، وآخر ما سمعه معاوية من تهديد ينذر بنجوم خطر عليه ما لم يعط بني هاشم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٢٨.

(٢) آل عمران / ٦٢.

(٣) المناسك تحقيق محمّد الجاسر / ٤٤٥.

٢٠٤

جوائزهم فبعث بها من الروحاء ، ومضى راجعاً إلى الشام وقد أصابته اللقوة ـ داء يكون في الوجه يعوّج منه الشدق ـ لأنّه لمّا مرّ بالأبواء ـ وهو موضع منه إلى الجحفة ثلاثة وعشرون ميلاً ، وبالابواء بئر تعرف بعثمان بن عفان وآبار غير ذلك (١) اطّلع في بئر عادية (٢) فضربته اللقوة.

« قال الشعبي : لمّا أصاب معاوية اللقوة بكى ، فقال له مروان : ما يبكيك؟ قال : راجعت ما كنت عزوفاً ، كبرت سنّي ودق عظمي ، وكثر دمعي ، ورُميت في أحسني وما يبدو مني ، ولولا هوي في يزيد لأبصرت قصدي » (٣) ، وفي أنساب الأشراف ، والبصائر والذخائر ، ومختصر تاريخ دمشق ، ومحاضرات الراغب : « ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي » (٤) ، وفي مجمع الزوائد : « ولولا هواي في يزيد أبصرت قصدي » (٥) ، ومثله في تطهير الجنان واللسان (٦) ، وفي معجم الطبراني : « ولولا هوىً مني في يزيد أبصرت قصدي » (٧).

وفي فتوح ابن أعثم الكوفي : « فأخاف أن يكون عقوبة عجّلت لي لما كان مني من دفعي بحق عليّ بن أبي طالب ، وما فعلت بحجر بن عدي وأصحابه ، ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي وعرفت قصدي » (٨).

____________________

(١) نفس المصدر / ٤٥٤.

(٢) أي قديمة ، نسبة إلى عاد بن شداد من العرب البائدة.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ / ٣١٠ دار الفكر.

(٤) أنساب الأشراف ١ / ٢٨ ق ٤ ، والبصائر والذخائر لأبي حيان ١ / ١٩ ، والفاضل للمبرّد / ١٢٣ ، ومختصر تاريخ دمشق ٢٥ / ٧٨ ، ومحاضرات الراغب ١ / ١٥٥ و ٢ / ٢٢.

(٥) مجمع الزوائد ٣ / ٣٥٥.

(٦) تطهير الجنان واللسان لابن حجر الهيثمي المكي / ٢٥ ط محققة.

(٧) المعجم الكبير للطبراني ١٩ / ٢٦٩ ط الثانية.

(٨) الفتوح ٤ / ٢٥٠.

٢٠٥

قال ابن حجر المكي : « وقوله : ولولا هواي ... الخ ، فيه غاية التسجيل على نفسه بأن مزيد محبته ليزيد أعمت عليه طريق الهدى ، وأوقعت الناس بعده مع ذلك الفاسق المارق في الردى ، لكنه قضاء انحتم ، وقدر انبرم ، فسلب عقله الكامل ، وعلمه الشامل ، ودهاءه الّذي كان يضرب به المثل ، وزيّن له من يزيد حسن العمل وعدم الانحراف والخلل ، كلّ ذلك لما أشار إليه الصادق المصدوق ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من أنّه إذا أراد الله انفاذ أمره سلب ذوي العقول عقولهم حتى ينفذ ما أراده تعالى ، فمعاوية معذور فيما وقع منه ليزيد ، لأنّه لم يثبت عنده نقص فيه. بل كان يزيد يدس على أبيه من يحسّن له حاله حتى اعتقد انّه أولى من أبناء بقية أولاد الصحابة كلّهم ، فقدّمه مصرّحاً بتلك الأولوية الّتي تخيلها ممّن سلّط عليه ليحسّنها له واختياره للناس على ذلك ، إنّما هو لظن أنّهم إنّما كرهوا توليته لغير فسقه من حسد أو نحوه ، ولو ثبت عنده أدنى ذرة ممّا يقتضي فسقه بل واثمه لم يقع منه ما وقع ، وكلّ ذلك دلّت عليه هذه الكلمة الجامعة المانعة وهي قوله : ولولا هواي في يزيد أبصرت قصدي ... » (١).

أقول : اللّهمّ احفظ على أمة محمّد نبيّك عقولها ليميّزوا بين الحقّ والباطل ، ولا تجعله عليهم متشابهاً فيهرفوا مثل ابن حجر الهيتمي دفاعاً عن معاوية وبوائقه ، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه المنزل على نبيّه المرسل : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) (٢) ، وابن حجر محبّر يقول بالجبرية كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا

____________________

(١) تطهير الجنان واللسان / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٢) الإنسان / ٣.

٢٠٦

بِهَا ) (١) ، وقد رد في محكم التنزيل تلك المقولة فقال : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) (٢) ، وقال : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (٣) ، ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يقول : ( انّ الله لم يسترع عبداً برعيته الا وهو سائله عنها ) (٤) ، أمّا ابن حجر فهو يبرر استخلاف معاوية لابنه حيث اعتقد أنّه أولى من أبناء بقية أولاد الصحابة كلّهم (؟!) يعني بما فيهم الحسين وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأضرابهم من الصحابة فضلاً عن أبنائهم ممّن لا يساوي يزيد شسع نعل واحد منهم في هديه وسمته.

ومع اصرار ابن حجر على تصحيح الاستخلاف حيث قال : « ولو ثبت عنده أدنى ذرة ممّا يقتضي فسقه بل وإثمه لم يقع منه ما وقع ». كيف يصح هذا ومعاوية يعترف بأن استخلافه إنّما هو لهواه فيه على ما هو فيه؟ ولذلك لمّا حاق به ما كان عزوفاً عنه في مرضه عند موته فقال الكثير ممّا يُدين به نفسَه ، حتى ظهر منه ما تخيلوه من الهجر والهذيان وما هو إلاّ سوء الخاتمة حيث كانت تتراءى له جرائم أعماله فيفزع ويقول ما يقول.

فقد روى البلاذري عن أبي الهيثم الرحبي قال : « قال معاوية ليزيد : ما ألقى الله بشيء أعظم في نفسي من استخلافك » (٥) ، فلو كان معتقداً صلاحه كما يقول ابن حجر فلماذا هذا التهويل والتسويل.

____________________

(١) الأعراف / ٢٨.

(٢) الأعراف / ٢٨.

(٣) ص / ٢٧ ـ ٢٨.

(٤) تطهير الجنان / ٦٠.

(٥) أنساب الأشراف ١ / ٦٠ ق ٤.

٢٠٧

وروى ابن قتيبة ـ في حديث معاوية ويزيد ـ : « قال معاوية : وقد علمت أني تخطأت الناس كلّهم في تقديمك ونزلتهم لتوليتي إياك ، ونصبتك إماماً على أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفيهم من عرَفت ، وحاولت منهم ما علمت » (١).

وحسب القارئ في تكذيب ابن حجر نفسه ما ذكره هو في كتابه تطهير الجنان واللسان من وصية معاوية لابنه لمّا حضره الموت قال ليزيد : « قد وطأتُ لك البلاد وفرشتُ لك الناس ، ولست أخاف عليك إلاّ أهل الحجاز فإن رابك منهم ريب فوجّه اليهم مسلم بن عقبة المرّي فإني جرّبته » (٢).

وروى البلاذري في أنسابه (٣) ، وابن الأثير في الكامل (٤) عن الوليد بن مسلم انّه قال : « معاوية يهذي في مرضه ويقول كم بيننا وبين الغوطة؟ فقالت ابنته : واحزناه فأفاق وقال : إن تنفري فقد رأيتُِ منفَرا ».

وروى البلاذري أيضاً : « إنّ معاوية لمّا احتضر جعلوا يقلّبونه فيقول أيّ جسد يقلّبون إن نجا من ابن عدي ـ يعني حجر بن عدي ـ » (٥).

وفي رواية ابن كثير قال : « إن نجاه الله من عذاب النار غداً » (٦).

وفي رواية الطبري عن ابن سيرين قال : « فبلغنا أنّه لمّا حضرته الوفاة جعل يُغرغر بالصوت ويقول : يومي منك يا حجر طويل » (٧).

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٦٠ مط الأمة بمصر سنة ١٣٢٨ هـ.

(٢) تطهير الجنان واللسان / ٦٠.

(٣) أنساب الأشراف ١ / ١٥٢ ق ٤.

(٤) الكامل في التاريخ ٤ / ٣ ط بولاق.

(٥) أنساب الأشراف ١ / ٢٦٦ ق ٤.

(٦) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٤٢.

(٧) تاريخ الطبري ٥ / ٢٥٧ ط دار المعارف.

٢٠٨

وفي رواية ابن أعثم الكوفي قال : « وكان في مرضه يرى أشياء لا تسرّه كأنّه يهذي هذيان المدنف ، وهو يقول اسقوني اسقوني ، فكان يشرب بالماء الكثير فلا يروى ، وكان ربما غشي عليه اليوم واليومين ، فإذا أفاق من غشوته ينادي بأعلا صوته : ما لي ولك يا حجر بن عدي ، ما لي وما لك يا عمرو بن الحمق ، ما لي وما لك يا بن أبي طالب. إن تعاقب فبذنوبي وإن تغفر فإنك غفور رحيم » (١).

( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (٢) ، ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (٣) ، ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (٤) ، ( وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) (٥).

ومع هذه الخاتمة السيئة واعترافه ببعض جرائمه يطالعنا الذهبي في سير أعلام النبلاء فيقول : « ومعاوية من خيار الملوك الّذين غلب عدلهم على ظلمهم ، وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه » (٦).

____________________

(١) الفتوح ٤ / ٢٥١.

(٢) ق / ١٩.

(٣) الملك / ١١.

(٤) النساء / ١٧ ـ ١٨.

(٥) الأنعام / ٩٣.

(٦) سير أعلام النبلاء ٤ / ٣١٢ ط دار الفكر بيروت.

٢٠٩

( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) (١). ألم يقرأ الذهبي قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ) (٢)؟ وهل يسع الذهبي ومن على مذهبه وذهبه إحصاء من أزهقت نفوسهم ظلماً وعدواناً أيام حكم معاوية؟ فكم هي الدماء الطاهرة الزكية الّتي أريقت على رمال صفين مع عمار وابن التيهان والمرقال وبقية المؤمنين؟

وكم هم شهداء بلاد المسلمين الّتي جاست خيول الضلالة بأمر معاوية ديارهم فنهبت أموالهم وأزهقت أرواحهم وحتى سبيت نساؤهم؟ من المدينة المنورة إلى اليمن جنوباً ومن هيت وعانة إلى القادسية وعين التمر شرقاً سوى من قتلوا بمصر مع محمّد بن أبي بكر غرباً ودع عنك جرائم زياد وسمرة ، في الكوفة والبصرة ، وكم لهذين المسخَين من نظائر ، ومع هذه الجرائم كلّها يسميها الذهبي هنات : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٣).

وبموت معاوية تفاقم الخطب والخطر على النفر الّذين كانوا يمثّلون المعارضة وفي مقدمتهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) وعبد الله بن عباس وبقية العبادلة.

أمّا كيف استقبل أولئك النفر نبأ موت معاوية فليس يعنينا فعلاً إلاّ معرفة موقف ابن عباس ، ولا شك أنّه قد تسرّب إلى نفسه اليأس من استصلاح الحال بعد موت معاوية ، وقد رويت عنه رواية تمسّك بها بعض الباحثين في بيعته ليزيد وهي لا تصح سنداً ولا دلالة.

____________________

(١) الكهف / ٥.

(٢) النساء / ٩٣.

(٣) القصص / ٥٠.

٢١٠

فقد روى البلاذري عن المدائني عن عبد الرحمن بن معاوية قال : « قال عامر بن مسعود الجحمي : إنّا لبمكة إذ مرّ بنا بريدٌ ينعى معاوية ، فنهضنا إلى ابن عباس وهو بمكة وعنده جماعة وقد وضعت المائدة ولم يؤتَ بالطعام فقلنا له : يا أبا العباس ، جاء البريد بموت معاوية ، فوجم طويلاً ثمّ قال : اللّهمّ أوسع لمعاوية ، أما والله ما كان مِثل مَن قبله ، ولا يأتي بعده مثله ، وإنّ ابنه يزيد لمَن صالحي أهله ، فالزموا مجالسكم واعطوا طاعتكم وبيعتكم ، هات طعامك يا غلام ، قال : فبينا نحن كذلك إذ جاء رسول خالد بن العاص وهو على مكة يدعوه للبيعة ، فقال : قل له اقض حاجتك فيما بينك وبين مَن حضرك ، فإذا أمسينا جئتك ، فرجع الرسول فقال : لابدّ من حضورك فمضى فبايع » (١).

وسند هذا الخبر فيه ما يسقطه عن الاعتبار :

فعامر بن مسعود راوي هذا الخبر كان عامل ابن الزبير على الكوفة فهو وإن ذكره ابن حبان في ثقات التابعين إلاّ أنّه قال : « يروي المراسيل ، ومن زعم أنّ له صحبة فقد وهم » (٢) فهو غير مأمون في حديثه على ابن عباس للخلاف مع ولي نعمته ابن الزبير.

والراوي عنه عبد الرحمن بن معاوية هو ابن الحويرث الانصاري الزرقي أبو الحويرث المدني الّذي قال فيه مالك : ليس بثقة ، قال ابن عدي : ليس له كثير حديث ومالك أعلم به لأنّه مدني ولم يرو عنه شيئاً. وقال أبو حاتم : ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به ، وعن ابن معين : ليس يحتج بحديثه. وقال مالك : قدم علينا سفيان فكتب عن قوم يذمون بالتخنيث يعني أبا الحويرث منهم ، قال أبو

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ٢٨٩ ق ٤ تح ـ احسان عباس.

(٢) أنظر تهذيب التهذيب ٥ / ٩١.

٢١١

داود : وكان يخضب رجليه وكان من مرجيء أهل المدينة ، وقال النسائي : ليس بذاك (١).

وذكر ابن قتيبة هذا الخبر مرسلاً ، وبتفصيل أوسع وفيه أكثر من مؤاخذة سنذكرها بعد ايراد الخبر بروايته.

قال في الإمامة والسياسة ( وفاة معاوية رحمه الله ) : « وذكروا أنّ عتبة بن مسعود قال : مرّ بنا نعي معاوية بن أبي سفيان ونحن بالمسجد الحرام ، قال : فقمنا فأتينا ابن عباس فوجدناه جالساً قد وضع له الخوان وعنده نفر ، فقلنا : أما علمت بهذا الخبر يا بن عباس؟ قال : وما هو؟ قلنا : هلك معاوية ، فقال : ارفع الخوان يا غلام ، وسكت ساعة ثمّ قال : جبل تزعزع ثمّ مال بكلكله ، أما والله ما كان كمن قبله ولما يكن بعده مثله ، اللّهمّ أنت أوسع لمعاوية فينا وفي بني عمنا هؤلاء الّذين لبّ معتبر ، اشتجرنا بيننا فقتل صاحبَهم غيرُنا ، وقتل صاحبَنا غيرُهم ، وما أغراهم بنا الا أنّهم لا يجدون مثلنا ، وما أغرانا بهم إلاّ أنّا لا نجد مثلهم ، كما قال القائل : ما لك تظلمني؟ قال : لا أجد من أظلم غيرك ، ووالله ان ابنه لخير أهله ، أعد طعامك يا غلام.

قال : فما رفع الخوان حتى جاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عباس أن انطلق فبايع ، فقال للرسول : أقرئ الأمير السلام وقل له : والله ما بقي فيّ ما تخافون ، فاقض من أمرك ما أنت قاض ، فإذا سهل الممشى وذهبت حطمة الناس جئتك ففعلت ما أحببت.

قال : ثمّ أقبل علينا فقال : مهلاً معشر قريش أن تقولوا عند موت معاوية ذهب جد بني معاوية وانقطع ملكهم ، ذهب لعمر الله جدّهم وبقي ملكهم وشرّها بقية هي أطول ممّا مضى ، إلزموا مجالسكم وأعطوا بيعتكم.

____________________

(١) نفس المصدر ٦ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٢١٢

قال : فما برحنا حتى جاء رسول خالد فقال : يقول لك الأمير لابدّ لك أن تأتينا.

قال : فإن كان ل بدّ فلا بدّ ممّا لابدّ منه ، يا نوار هلمي ثيابي ، ثمّ قال : وما ينفعكم إتيان رجل إن جلس لم يضرّكم.

قال : فقلت له أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش؟

قال : مه فأين ما قلت لكم ، وكم بعده من آت ممّن يشرب الخمر أو هو شرّ من شاربها أنتم إلى بيعته سراع ، أما والله إنّي لأنهاكم وأنا أعلم أنكم فاعلون ما أنتم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكة يعني عبد الله بن الزبير » (١).

فأوّل ما في هذا الخبر : أنّ ابن قتيبة رواه مرسلاً.

وثانياً : رواه عن عتبة بن مسعود ، وهذا الرجل أخو عبد الله بن مسعود ، وقد ذكره ابن قتيبة نفسه في كتابه المعارف وقال : « إنّه مات في خلافة عمر » (٢).

وثالثاً : ذكر اسم الوالي بمكة الّذي أرسل إلى ابن عباس بانّه خالد بن الحكم ، وهذا غلط فاضح فليس بين ولاة معاوية عند موته ولا ولاة يزيد من اسمه خالد بن الحكم ، على أنّه كرر ذكره في ولاية المدينة حين دعا الحسين ( عليه السلام ) وابن الزبير إلى البيعة ، وهذا ممّا يوهّن الخبر ، وقد مرّ بنا في رواية البلاذري للخبر أنّ عامل مكة اسمه خالد بن العاص ، وهو أيضاً غلط فإنّ عامل مكة يومئذ عمرو بن سعيد بن العاص كما عن ابن خلدون (٣) ، وهو كذلك عند

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٦٧ مط الأمة سنة ١٣٢٨ هـ و ١ / ١٩٣ ط مصطفى محمّد.

(٢) كتاب المعارف / ١١٠.

(٣) تاريخ ابن خلدون ٣ / ١٩.

٢١٣

البلاذري وفيه : « وقيل الحرث بن خالد بن العاص » (١) ـ فمهما يكن فهو ليس الّذي ورد ذكره في الخبر.

رابعاً : إنّ ابن عباس لم يبايع ليزيد مطلقاً. فقد ورد ما يؤيد هذا ما سنقرأ من تاريخ حياته في عهد يزيد.

ومن الغريب العجيب أن يُستنَد إلى هذا الخبر في مبايعته ليزيد دون تمحيص وفحص عن السند وفي الدلالة!!

والآن إلى خبر ثالث رواه الزبيدي في أتحاف السادة المتقين ، وإليك ما لفظه : « قال محمود بن محمّد بن الفضل ، حدّثنا أحمد بن عبد الرحمن الكزبراني ، حدّثنا الحسن بن محمّد بن أعين حدّثنا عد بن عبد الرحمن بن محمّد بن مروان عن أبيه قال قال عامر بن مسعود الجمحي كنا جلوساً في مجلس عند الكعبة إذ مرّ بريد ينعى معاوية ، فقلت لأصحابي : قوموا بنا إلى ابن عباس ـ وهو يومئذ بمكة وقد كفّ بصره ـ فنكون أوّل من نخبره ونسمع ما يقول ، فأتيناه فاستأذنا عليه فدخلنا فإذا بين يديه خوان عليه الكفري (٢) ولم يوضع الخبر فسلّمنا وقلنا : هل أتاك الخبر يا بن عباس؟ قال : وما هو؟ قلنا بريد ينعى معاوية ، فقال : ارفع خوانك يا غلام ، ثمّ ظل واجماً كئيباً مطأطئاً رأسه لا يتكلم طويلاً ثمّ رفع رأسه وقال :

جبل تزعزع ثمّ مال بركنه

في البحر لا ارتفعت عليه الأبحر

ثمّ قال : اللّهمّ فإنّك أوسع لمعاوية ... » (٣) إلى آخر ما مرّ عن ابن قتيبة بتفاوت وزيادات يسيرة لا يعنينا أمرها.

____________________

(١) أنساب الأشراف ٤ / ١٢.

(٢) وعاء طلع النخل.

(٣) أتحاف السادة المتقين ١٤ / ١٩٣.

٢١٤

وسند هذا الخبر فيه ينتهي إلى عامر بن مسعود وقد مرّ حاله في خبر البلاذري ، غير أنّ الراوي عنه هنا غير الّذي مرّ في خبر البلاذري ، فلا بدّ من بيان حال رجاله من أوّل السند :

١ ـ محمود بن محمّد بن الفضل صاحب كتاب المتفجعين الّذي نقل عنه الزبيدي هذا الخبر ولم أعرف عنه شيئاً بالرغم من البحث عنه في مظانه فهو مجهول عندي.

٢ ـ أحمد بن عبد الرحمن الكزبراني مجهول كسابقه.

٣ ـ الحسن بن محمّد بن أعين مولى أم عبد الملك : بنت محمّد بن مروان ، قال أبو حاتم : « أدركته ولم أكتب عنه » (١).

٤ ـ محمّد بن عبد الرحمن بن محمّد بن مروان مجهول الحال.

٥ ـ عبد الرحمن بن محمّد بن مروان مجهول الحال.

ويكفي في سقوط الخبر وجوده وابنه ثمّ مولاهم الأموي وكلّهم متهمون في روايتهم لأنّهم يجرون نفعاً بتصحيح خلافة يزيد ومبايعة ابن عباس لواليه.

وثمة خبر يرويه أبو الفرج في الأغاني فيه جملة ممّا مرّ في خبري ابن قتيبة والزبيدي من قول ابن عباس في القرابة بين بني عبد مناف ، غير أنّ ذلك كان في أيام ابن الزبير حين نفى بني أمية عن الحجاز ، فلعل الأمويون ركّبوا من ذلك وما أضافوه إليه الخبر الّذي رواه الزبيدي ، واليك خبر أبي الفرج بسنده عن ابن أبي مليكة : « قال : رأيتهم ـ يعني بني أمية ـ يتتايعون (٢) نحو ابن عباس حين نفى ابن الزبير بني أمية عن الحجاز ، فذهبت معهم وأنا

____________________

(١) أنظر تهذيب التهذيب ٢ / ٣١٧.

(٢) والتتايع : التتابع في الشر والتهافت من غير رويّة.

٢١٥

غلام فلقينا رجلاً خارجاً من عنده فدخلنا عليه ، فقال له عبيد بن عمير ما لي أراك تذرف عيناك؟

فقال له : إنّ هذا ـ يعني عبد الرحمن بن الحكم ـ قال بيتاً أبكاني وهو :

وما كنت أخشى أن ترى الذل نسوتي

وعبد مناف لم تغلها الغوائل

فذكر قرابة ما بيننا وبين بني عمّنا بني أمية ، وإنا إنّما كنا أهل بيت واحد في الجاهلية حتى جاء الإسلام فدخل الشيطان بيننا أيّما دخل » (١).

ومهما يكن نصيب تلك الأخبار من الصحة لدى من رواها من المصنفين فليس لها عندي أيّ وزن.

____________________

(١) الأغاني ١٣ / ٢٦٤ ط دار الكتب.

٢١٦

الفصل الثاني :

حبر الأمة أيام حكومة يزيد

٢١٧

٢١٨

في عهد يزيد :

( وإذ بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد فعلى الإسلام السلام ) هكذا قال سيّد الشهداء أبيّ الضيم ، وهكذا كانت النتيجة المتوقعة ، فقد طرق المدينة شر عظيم ، حين أتى كتاب يزيد إلى الوالي ، وكان هو ابن عمه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وفي آخر الكتاب :

« فبايع لنا قومنا ومَن قِبلك من رجالنا بيعة منشرحة بها صدوركم ، طيّبة عليها أنفسكم ، وليكن أوّل من يبايعك من قومنا وأهلنا الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر ، ويحلفون على ذلك بجميع الأيمان اللازمة ، ويحلفون بصدقة أموالهم غير عشرها ، وحرية رقيقهم ، وطلاق نسائهم بالثبات على الوفاء بما يعطون من بيعتهم ، ولا قوّة إلاّ بالله والسلام ». هكذا روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة (١).

غير أنّ البلاذري (٢) والطبري (٣) وابن الاثير (٤) ذكروا : « أنّه كتب إليه في صحيفة كأنّها أذن فارة : أمّا بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة ولا هوادة حتى يبايعوا والسلام » ، فلم يرد

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٦٨ ط سنة ١٣٢٨ هـ بمصر.

(٢) أنساب الأشراف ١ق ٤ / ٢٩٩.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٣٣٨ ط دار المعارف.

(٤) تاريخ ابن كثير ٤ / ٦ ط بولاق.

٢١٩

ذكر ابن عباس مع النفر المذكورين. إلاّ أنّ البلاذري قال : « وكتب يزيد إليه ـ إلى ابن عباس ـ كتاباً يأمره فيه بالخروج إلى الوليد بن عتبة ومبايعته له وينسبه إلى قتل عثمان والممالأة عليه ، فكتب ابن عباس إليه أيضاً كتاباً يقول فيه : إنّي كنت بمعزل عن عثمان ، ولكن أباك تربّص به وأبطأ عنه بنصره ، وحبس مَن قَبلَه عنه حين استصرخه واستغاث به ، ثمّ بعث إليه الرجال معذّراً حين علم أنّهم لا يدركونه حتى يهلك » (١).

ويبدو من هذا الجواب الّذي صح عندي أنّه لم يبايع ليزيد إلى حين الكتاب ، ولو أنّ البلاذري قد ذكر لنا كتاب يزيد وتمام جواب ابن عباس لتبيّن ما هو أفصح وأصرح وإن كان فيما ذكره ما كشف عن زيف ما تقدّم منّا ذكره نقلاً عن البلاذري وابن قتيبة من خبر مبايعته وبيّنا أنّه لم يصح سنداً ولا دلالة ، وأنّه تمسك به بعض الباحثين ورأى مبايعته ليزيد ، ولعل ما أغراه به ذكر ابن قتيبة له من دون التفات إلى ما في خبره من هنات ومهما يكن فقد توجّس ابن عباس الشر كلّ الشر في حكومة يزيد ، وزاد في قلقه مواقف بقية رجال المعارضة الّتي اختلفت أهدافُهم ، فبين راغب كابن عمر وراهب كابن الزبير ، ومستنكرٍ رافض لكل العروض والمغريات كالإمام الحسين ( عليه السلام ) فهو ابن أبيه في إنكار المنكر ودحض الباطل ، لا تأخذه في الحقّ لومة لائم. وابن عباس كان ـ مع انّه اليائس المتشائم ـ يقارب الحسين ( عليه السلام ) في موقفه الهادف لتحقيق العدالة ، ولكن يأسه من الناس أضمَر من عزيمته ، وفقدانه لبصره أوهى من شكيمته ، فصار إمّا أن يصول بيد جذّاء أو يصبر على طخية عمياء ، كحال ابن عمه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيما سلف من الأيام. وعنده في خزين علمه

____________________

(١) أنساب الأشراف ١ق ٤ / ٣٠٦ تح ـ احسان عباس.

٢٢٠