موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٥

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-505-8
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢١

موافقته في تعيين مكان اللقاء لما ورد في الخبر الأوّل ، لكنا بيّنا أنّ صيغة التعجب من معاوية لا تدل على بداية اللقاء بعد موت الإمام الحسن ( عليه السلام ).

على أنّ ابن سعد ذكر في كتابه الطبقات الكبير في ترجمة الإمام الحسن ( عليه السلام ) أربعة أخبار في لقاء ابن عباس مع معاوية بعد موت الإمام الحسن ( عليه السلام ) نذكرها بحذافيرها كما هي :

« ٣٢٧ ـ قال : أخبرنا محمّد بن عمر ، قال حدثنا عبد العزيز بن محمّد ، عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال : لمّا جاء نعي الحسن ابن عليّ ، استأذن ابن عباس على معاوية ـ وكان ابن عباس قد ذهب بصره ، فكان يقول لقائده : إذا دخلت بي على معاوية فلا تقدني فان معاوية يشمت بي ـ فلمّا جلس قال معاوية : لأخبرنّه بما هو أشدّ عليه من أن أشمت به ، فلمّا دخل قال : يا أبا العباس هلك الحسن بن عليّ ، فقال ابن عباس إنّا لله وإنّا إليه راجعون ـ وعرف ابن عباس أنّه شامت به ـ فقال : أما والله يا معاوية لا يُسدّ حفرتك ، ولا تُخَلّد بعده ، ولقد أصبنا بأعظم منه ، فجبرنا الله بعده ، ثمّ قام.

فقال معاوية : لا والله ما كلّمت أحداً قط أعدّ جواباً ولا أعقل من ابن عباس.

٣٢٨ ـ قال : أخبرنا عفّان بن مسلم قال : حدّثنا سلاّم أبو المنذر قال قال معاوية لابن عباس مات الحسن بن عليّ يبكّته بذلك ، قال : فقال : لئن كان مات فإنّه لا يسدّ بجسده حفرتك ، ولا يزيد موته في عمرك ، ولقد أصبنا بمن هو أشدّ علينا فقداً منه ، فجبر الله مصيبته.

٣٢٩ ـ قال : أخبرنا عليّ بن محمّد عن مسلمة بن محارب ، عن حرب بن خالد قال : قال معاوية لابن عباس : يا عجباً من وفاة الحسن شرب عسلة بماء رومة

١٢١

فقضى نحبه ، لا يحزنك الله ولا يسوءك في الحسن فقال : لا يسوءني ما أبقاك الله ، فأمر له بمائة ألف وكسوة.

قال : ويقال إنّ معاوية قال لابن عباس يوماً : أصبحت سيّد قومك ، قال : ما بقي أبو عبد الله فلا.

٣٣٠ ـ قال : أخبرنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا أبو هلال عن قتادة قال قال معاوية : واعجباً للحسن شرب شربة من عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه ، ثمّ قال لابن عباس : لا يسوؤك الله ولا يحزنك في الحسن ، فقال : أمّا ما بقى الله لي أمير المؤمنين فلن يسؤني ولن يحزنني قال : فأعطاه ألف ألف من بين عرض وعين فقال : أقسم هذه في أهلك » (١).

فهذه الأخبار على ما في أسانيدها من ضعف كما ذكر المحقق في الهامش ـ فهي لا تذكر مكان اللقاء ، ولا تحديد زمانه سوى أنّه كان بعد موت الحسن ( عليه السلام ) وذلك يمكن أن يكون اللقاء بعد حضور ابن عباس وصية الحسن لأخيه ، ثمّ حضوره تجهيزه ودفنه وحتى بعد كلامه مع عائشة ومروان كما مرّ موثقاً بأسانيد متعددة ، وحينئذ لا تعارض بين حضوره بالمدينة تلك المراسيم والمواقف وبين حضوره بمكة على تقدير صحة روايات البلاذري فهناك كان أوّل اللقاء بينه وبين معاوية.

إذن فمن أين أتى الإشكال في تعارض حضوره بالشام مع حضوره بالمدينة؟

والجواب : إنّما أتى من روايات مسندة ومرسلة أوردها بعض المؤرخين ذكرت انّ معاوية ابتدأ إخبار ابن عباس بموت الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وكان ذلك بالشام فلابدّ لنا من عرض تلك الروايات والوقوف عندها.

____________________

(١) الطبقات الكبرى ١ / ٣٦١ ـ ٣٦٣ تح ـ د محمّد بن صامل السُلمي ط الطائف سنة ١٤١٤ هـ.

١٢٢

مواقف متضاربة :

إنّ الباحث المحقق يستلفت نظره اختلاف روايات المؤرخين في حضور ابن عباس في الشام عندما أتى معاوية خبر موت الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وإظهاره الشماتة بذلك ، حتى أنّه كبّر وسجد وسجد معه كما سيأتي خبر ذلك. وعلى ذلك الاختلاف تضاربت مواقف المؤرخين في هذه القضية ، فمنهم من صرّح بأنّه كان بالشام كالزبير بن بكار في الموفقيات كما حكاه عنه الإربلي في كشف الغمة ، ويظهر من ابن قتيبة واليعقوبي مثل ذلك وربما من آخرين مثلهم.

ومنهم من صرّح بأنه كان بالشام ولكن ليس حين أتى النعي بموت الإمام ( عليه السلام ) ، بل كان بعد ذلك بأيام كما عن ابن أعثم الكوفي وسيأتي خبره.

ومنهم من ارتأى أنّ الّذي كان بالشام هو قثم بن العباس وليس عبد الله كما في الدر النظيم ويأتي خبره.

فالآن إلى عرض النصوص :

أوّلاً : ما رواه الزبير بن بكّار ( ت ٢٥٦ هـ ) في الأخبار الموفقيات كما حكاه الإربلي ( ت ٦٩٢ هـ ) في كشف الغمة ، ولولاه لضاع هذا مع ما ضاع من نصوص الأخبار الموفقيات ، إذ لم يوجد في المطبوع منها بتحقيق الدكتور سليم النعيمي كما فاته أن يذكره مع الضائع من الموفقيات ، وقد استدركته عليه فيما استدركت من الموارد وقد بلغت خمسة عشر نصاً. وإليك ذلك بتوسط كشف الغمة :

قال الإربلي : « وحدّث الزبير عن رجاله قال : قدم ابن عباس على معاوية ، وكان يلبس أدنى ثيابه ويخفض من شأنه لمعرفته أنّ معاوية كان يكره إظهاره لشأنه ، وجاء الخبر إلى معاوية بموت الحسن بن عليّ ( عليه السلام ) ، فسجد شكراً لله تعالى ،

١٢٣

وبان السرور في وجهه ـ في حديث طويل ذكره الزبير وذكرت منه موضع الحاجة إليه ـ وأذن للناس وأذن لابن عباس بعدهم ، فدخل فاستدناه وكان قد عرف بسجدته.

فقال له : أتدري ما حدث بأهلك؟ قال : لا.

قال : فإنّ أبا محمّد توفي ( رحمه الله ) فعظّم الله لك الأجر.

فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، عند الله نحتسب المصيبة برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وعند الله نحتسب مصيبتنا بالحسن بن عليّ ( رحمه الله ) ، انّه قد بلغتني سجدتك ، فلا أظن ذلك إلاّ لوفاته ، والله لا يسدّ جسده حفرتك ، ولا يزيد انقضاء أجله في عمرك ، ولطال ما رزينا بأعظم من الحسن ثمّ جبر الله.

قال معاوية : كم كان أتى له من العمر؟ قال : شأنه أعظم من أن يجهل مولده.

قال : أحسبه ترك صبية صغاراً ، قال : كلنا كان صغيراً فكبر.

قال : أصبحت سيّد أهلك. قال : أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن عليّ فلا ، ثمّ قام وعينه تدمع فقال معاوية : لله درّه لا والله ما هيّجناه قط إلاّ وجدناه سيّداً.

ودخل على معاوية بعد انقضاء العزاء فقال : يا أبا العباس أما تدري ما حدث في أهلك؟ قال : لا.

قال : هلك أسامة بن زيد فعظّم الله لك الأجر. قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، رحم الله أسامة وخرج.

١٢٤

وأتاه بعد أيام وقد عزم على محاقته (١) فصلّى في الجامع يوم الجمعة ، واجتمع الناس عليه يسألونه عن الحلال والحرام والفقه والتفسير واحوال الإسلام والجاهلية وهو يجيب ، وافتقد معاوية الناس فقيل : إنّهم مشغولون بابن عباس ، ولو شاء أن يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل.

فقال : نحن أظلم منه حبسناه عن أهله ، ومنعناه حاجته ، ونعينا إليه أحبّته ، انطلقوا فادعوه ، فأتاه الحاجب فدعاه. فقال : إنا بني عبد مناف إذا حضرت الصلاة لم نقم حتى نصلي ، أصلي إن شاء الله وآتيه. فرجع ، وصلّى العصر وأتاه فقال : ما حاجتك؟ فما سأله حاجة إلاّ قضاها وقال : أقسمت عليك لما دخلت بيت المال فأخذت حاجتك ـ وإنّما أراد أن يعرف أهل الشام ميل ابن عباس إلى الدنيا فعرف ما يريده ـ فقال : انّ ذلك ليس لي ولا لك ، فإن أذنت أن أعطي كلّ ذي حقّ حقّه فعلت.

قال : أقسمت عليك إلاّ دخلت فأخذت حاجتك. فدخل فأخذ برنس (٢) خزّ أحمر يقال انّه كان لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ثمّ خرج ، فقال : يا أمير المؤمنين بقيت لي حاجة؟ فقال : ما هي؟ قال : عليّ بن أبي طالب قد عرفت فضله وسابقته وقرابته ، وقد كفاكه الموت ، أحبّ أن لا يشتم على منابركم. قال : هيهات يا بن عباس هذا أمر دَين أليس أليس؟ وفعل وفعل؟ فعدّد ما بينه وبين عليّ كرّم الله وجهه.

فقال ابن عباس : أولى لك يا معاوية والموعد القيامة ، ولكل نبأ مستقرّ وسوف تعلمون. وتوجه إلى المدينة ... اهـ » (٣).

____________________

(١) المحاقّة : المخاصمة واثبات حقه وانه أولى به.

(٢) البرنس ثوب يغطي الرأس والبدن كما هو لباس المغاربة في عصرنا.

(٣) كشف الغمة / ١٢٧ ط حجرية سنة ١٢٩٤ و ١ / ٤٠٣ منشورات الشريف الرضي.

١٢٥

فهذا الخبر الّذي رواه الزبير بن بكار عن رجاله كان أفادنا كثيراً لو أنّ الإربلي نقله عنه برمّته ، ولكنه اختصره فحذف ذكر السند ـ وهذا أمر بالغ الأهمية في تعمية السند. ثمّ لم يكتف بذلك حتى حذف من المتن كثيراً حيث قال : في حديث طويل ذكره الزبير وذكرت منه موضع الحاجة إليه. فرحم الله الإربلي فهو بقدر ما أحسن إلينا من حفظ هذا النص الّذي لولاه لضاع فيما ضاع من نصوص الموفقيات ، فقد فوّت أيضاً كبير فائدة بتركه ذكر السند ، وحذفه من المتن الطويل ما لو ذكره ربّما أفادنا كثيراً في جلاء بعض الغموض الّذي اكتنف حضور الشام ، ومهما يكن فجزاه الله خيراً.

ثانياً : ما رواه إنسان معاصر للإربلي ، فقد روى لنا النص بتفاوت وطوى ذكر الاسناد كما صنع الإربلي وذلك هو الفقيه حُميد الشهيد المتوفى سنة ٦٥٢ ذكر في كتابه الحدائق الوردية في أحوال الأئمّة الزيدية. وإلى القارئ ما ذكره كما في نسخة مكتبة الإمام كاشف الغطاء مخطوطة (١) :

جاء فيه ( ذكر خبر دخول ابن عباس على معاوية وإخباره له بموت الحسن ( عليه السلام » فقال : « ولمّا نُعي الحسن ( عليه السلام ) إلى معاوية وعبد الله بن العباس بباب معاوية فحُجب ابن عباس حتى أخذ الناس مجالسهم ، ثمّ أذن له ، فقال : أعظم أجرك يا بن عباس ، قال : فيمن؟ قال في الحسن بن عليّ.

قال : إذن لا يزيد موته في عمرك ، ولا يدخل عمله عليك في قبرك ، فقد فقدنا من هو أعظم منه قدراً ، وأجل منه أمراً ، فاعقب الله عقبى صالحة ، فخرج ابن عباس وهو يقول أربع أبيات في ذلك وهي :

____________________

(١) طبع الكتاب أخيراً بتحقيق د. المرتضى بن زيد المحظوري الحسني ١٤٢٣ مطبوعات مكتبة مركز بدر العلمي الثقافي صنعاء والخبر فيه في١ / ١٨٤ ـ ١٨٦ بتفاوت يسير.

١٢٦

 

أصبح اليوم ابن هندآمنا ( شامتا خ ل )

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

ولقد كان عليه عمره

مثل رضوى وثبير وحضن

فارتع اليوم ابن هند قامصاً ( آمناًخ ل )

إنّما يقمص بالعير السَمَن (١)

فاتق الله وأظهر توبة

إنّما كان كشيء لم يكن »

ثمّ قال المؤلف : « وروينا عن الزهري من طريق السيّد الامام المرشد بالله يحيى بن الإمام الموفق بالله أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل الحسين الجرجاني رواه بإسناده مع ما تقدم آنفاً قال : قدم ابن عباس على معاوية ، فمكث أياماً لا يؤذن له ، ثمّ أذن له ذات يوم ، فدخل فإذا معاوية مستبشر ومن يطيف به. فقال : يا بن عباس أتدري ما حدث في أهل بيتك؟

قال : أما والله ما أدري ما حدث في أهل بيتي غير أني أراك مستبشراً ومَن يطيف بك.

قال : الحسن بن عليّ مات ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون يكرّرها مراراً. ثمّ قال : أما والله يا معاوية لا يزيد موته في عمرك ، ولا تسد حفرته حفرتك ، ولقد أصبنا بمن كان أعظم منه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فكفانا الله ، ثمّ خرج من عنده. قال : ثمّ مكث أياماً لا يصل إليه ، ثمّ وصل إليه ذات يوم ، فقال معاوية : يا بن عباس أتدري ما حدث في أهل بيتك؟ قال : وما حدث في أهل بيتي؟ قال : مات أسامة بن زيد.

قال ابن عباس : إنا لله وإنا إليه راجعون رحم الله أسامة بن زيد ، ثمّ خرج من عنده ، وقد كان ابن عباس تقشّف وكره أن يتزيا بزيّه فيشّهره أهل الشام فيضرّ به

____________________

(١) ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار ٤ / ١٩٧ ط الأوقاف البيت الأوّل الثالث ونسبهما لعبد الله بن عباس في موت الحسن بن عليّ.

١٢٧

ذلك عند معاوية. فلمّا رجع إلى منزله قال : يا غلام هات ثيابي فوالله لئن جلست لهذا المنافق ينعى الي أهلي واحداً واحدا إنّي اذن أحمق ، قال : فقال : عليّ بالمقطّعات فلبسها ، قال : ثمّ قال : عليّ بعمامة له اسمها الحوبية فلبسها ، وكان من أجمل الناس ، أمدّهم جسماً ، وأحسنهم شَعرا ، وأحسنهم وجها.

قال : ثمّ أتى مسجد دمشق فدخل ، فلمّا نظر إليه أهل الشام قالوا : من هذا؟ ما يشبه هذا إلاّ الملائكة ، ما رأينا مثل هذا. قالوا : هذا ابن عباس ، هذا ابن عم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فجلس إلى سارية وتقوّض إليه الخلق ، فما سئل عن شيء إلاّ أجابهم من تفسير كتاب الله ، ولا حلال ولا حرام ، ولا وقعة كانت في جاهلية ولا إسلام ، ولا شعر كان في جاهلية ولا إسلام إلاّ أجابهم به. قال : ومعاوية لا يشعر بشيء من هذا فانتبه ، فقال للآذن : أئذن لمن بالباب ، قال : أو بالباب أحد؟ قال : فأين الناس؟ قال : ذهبوا إلى ابن عباس. قال : هاه قد فعلوها! نحن والله أظلم منه وأقطع للرحم ، اذهب يا غلام فقل له أجب أمير المؤمنين ، فأتاه الرسول ، قال : فقال ابن عباس : انا بنو عبد مناف لا نقوم من عند جليسنا حتى يكون هو الّذي يقوم ، ولكن قد تقاربت الصلاة ، فإذا صلينا أتينا أمير المؤمنين.

قال : فأتاه الرسول فأخبره ، فقال : صدق دعه حتى يصلي.

قال : فلمّا صلّى جاء ابن عباس حتى دخل عليه ، فقال له معاوية : ما حاجتك يا بن عباس؟ قال : دينٌ عليّ قال : قد أداه الله عنك ، قال : وما استعين به على الزمان ، قال : وذلك لك ، أو بقيت لك حاجة؟ قال : لا ، قال : ادخل بيت المال فاحمل ما بدا لك ، قال : انا بنو عبد المطلب لا نأخذ من مال المسلمين إلاّ ما احتجنا إليه ، قال : عزمت عليك إلاّ ما فعلت. قال : فدخل ابن عباس بيت المال فتلفّت يميناً وشمالاً فرأى برنساً من خزّ أدكن ، فتدرّعه ثمّ خرج به ، قال : أخذت

١٢٨

حاجتك؟ قال : نعم ، قال : الحقّ ببلادك ، قال : يا أمير المؤمنين إنّك حيث نعيت إلى الحسن بن عليّ آليت أن لا أسكن المدينة بعد ما بدا ولا أجد مكاناً أجمل من جوار أمير المؤمنين. قال : هيهات ليس إلى ذلك سبيل ، قال : فبقيت لي حاجة هي أهم الحوايج إليّ وهي لك دوني ، قال : فأي حاجة هي لنا دونَك ، إنا نخاف أن نسارع إليها؟ قال : عليّ بن أبي طالب قد كفاك الله مؤنته ومضى لسبيله ، وقد عرفت منزلته وقرابته فكفّ عن شتمه على المنابر. قال : هيهات ليس إلى ذلك سبيل يا ابن عباس هذا موضع دين ، إنّه غشّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وسمّ أبا بكر وذم عمر وقتل عثمان ، فليس إلى الكفّ عنه سبيل.

فقال له ابن عباس : الله حسبك فيما قلت ، ثمّ خرج فلم يلتقيا » (١).

ثالثاً : ما رواه ابن قتيبة ( ت ٢٧٠ هـ ) في كتابه الإمام والسياسة ، قال :

« فلمّا كانت سنة احدى وخمسين مرض الحسن بن عليّ مرضه الّذي مات فيه ، فكتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن ، فكتب إليه معاوية : إن استطعت أن لا يمضي يوم بي يمر إلاّ يأتيني فيه خبره فافعل. فلم يزل يكتب إليه بحاله حتى توفي. فكتب إليه بذلك ، فلمّا أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد من كان معه فبلغ ذلك عبد الله بن عباس وكان بالشام يومئذ ، فدخل على معاوية فلمّا جلس قال معاوية : يا بن عباس هلك الحسن بن عليّ ، فقال ابن عباس : نعم هلك إنّا لله وإنّا إليه راجعون ترجيعاً مكرراً ـ وقد بلغني الّذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته ، أما والله ما سدّ جسده حفرتك ، ولا زاد نقصان أجله عمرك ، ولقد مات وهو خير منك ، ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيراً منه جده رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، فجبر الله مصيبته ، وخلف علينا من

____________________

(١) الحدائق الوردية / ١٠٩ ـ ١١١ ( مخطوط ).

١٢٩

بعده أحسن الخلافة ، ثمّ شهق ابن عباس وبكى وبكى من حضر في المجلس وبكى معاوية ، فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم.

فقال معاوية : بلغني أنّه ترك بنين صغاراً؟ فقال ابن عباس : كلنا كان صغيراً فكبر.

قال معاوية : كم أتى له من العمر؟ فقال ابن عباس : أمر الحسن أعظم من أن يجهل أحد مولده.

قال : فسكت معاوية يسيراً ثمّ قال : يا بن العباس أصبحت سيّد قومك من بعده.

فقال ابن عباس : أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا.

قال معاوية : لله أبوك يا بن عباس ، ما استنبأتك إلاّ وجدتك معدّاً » (١).

رابعاً : ما رواه أبو حنيفة الدينوري ( ت ٢٨٢ هـ ) في الأخبار الطوال ، قال :

« وانتهى خبر وفاة الحسن إلى معاوية ـ كتب به إليه عامله على المدينة مروان ـ فأرسل إلى ابن عباس وكان عنده بالشام ـ قدم عليه وافداً ـ فدخل عليه فعزّاه وأظهر الشماتة بموته فقال له ابن عباس : لا تشمتن بموته لا تلبث بعده إلاّ قليلاً » (٢).

خامساً : ما رواه اليعقوبي ( ت بعد ٢٩٢ هـ ) في تاريخه ، قال :

« وتوفي الحسن بن عليّ وابن عباس عند معاوية ، فدخل عليه لمّا أتاه نعي الحسن فقال له يا بن عباس إن حسناً مات.

قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب ، أما والله يا معاوية لئن كان الحسن مات فما ينسئ موتُه في أجلك ، ولا يسد جسمه حفرتك ، ولقد مضى إلى خير ، وبقيت على شر.

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ط الأمة سنة ١٣٢٨.

(٢) الأخبار الطوال / ٢٢٢ ط تراثنا بمصر.

١٣٠

قال : لا أحسبه قد خلّف إلاّ صبية صغاراً؟ قال : كلنا كان صغيراً فكبر.

قال : بخٍ بخ يا بن عباس أصبحت سيّد قومك؟ قال : إما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين ابن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فلا » (١).

سادساً : ما رواه ابن عبد ربه الأندلسي ( ت ٣٢٨ هـ ) في العقد الفريد ، قال :

« ولمّا بلغ معاوية موت الحسن بن عليّ خرّ ساجداً لله ، ثمّ أرسل إلى ابن عباس ـ وكان معه في الشام ـ فعزّاه وهو مستبشر وقال له : ابن كم سنة مات أبو محمّد؟ فقال له : سِنّه كان يُسمع في قريش ، فالعجب من أن يجهله مثلك. قال : بلغني إنّه ترك أطفالاً صغاراً؟ قال : كلّ ما كان صغيراً يكبر ، وإنّ طفلنا لكهل ، وإنّ صغيرنا لكبير.

ثمّ قال : ما لي أراك يا معاوية مستبشراً بموت الحسن بن عليّ؟ فوالله لا يُنسأ في أجلك ، ولا يسد حفرتك ، وما أقل بقاءك وبقاءنا بعده ، ثمّ خرج ابن عباس ، فبعث إليه معاوية ابنه يزيد ، فقعد بين يديه فعزّاه واستعبرَ لموت الحسن ، فلمّا ذهب اتبعه ابن عباس بصره وقال : إذا ذهب آل حرب ذهب الحلم من الناس (؟) » (٢).

سابعاً : ما رواه الزمخشري ( ت ٥٣٨ هـ ) في ربيع الأبرار ، قال :

« لمّا بلغ معاوية موت الحسن بن عليّ ( رضي الله عنه ) سجد معاوية وسجد من حوله شكراً ، فدخل عليه ابن عباس فقال له : يا بن عباس أمات أبو محمّد؟ قال : نعم ، وبلغني سجودك ، والله يا بن آكلة الكبود لا يسدّن حسدك إياه حفرتك ولا يزيد انقضاء أجله في عمرك » (٣).

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٠ ط النجف.

(٢) العقد الفريد ٢ / ٣٦١ ـ ٣٦٢ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

(٣) ربيع الأبرار ٤ / ١٨٦ ط الأوقاف ببغداد.

١٣١

وقال : « وكان ابن عباس بالشام فدخل عليه ـ معاوية ـ وقال له : يا بن عباس هل تدري ما حدث في أهل بيتك؟ قال : لا أدري ما حدث إلاّ أنّي اراك مستبشراً ومن يطيف بك ، وقد بلغني تكبيرك وسجودك. قال : مات الحسن. قال : إنّا لله رحم الله أبا محمّد ـ ثلاثاً ـ ثمّ قال : والله يا معاوية إنّه لا يسد جسده حفرتك ولا يزيد يومه في عمرك ، ولئن كنّا أصبنا بالحسن لقد أصبنا بإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، فسكن الله تلك العبرة ، وجبر تلك المصيبة ، وكان الله الخلف علينا من بعده » (١).

ثامناً : ما رواه الموفق بن أحمد المكي اخطب خوارزم ( ت ٥٦٨ هـ ) في كتابه مقتل الحسين ، قال :

« ( وقيل ) لمّا أتى معاوية نعيه الحسن ـ بعث إلى ابن عباس وهو لا يعلم الخبر ، فقال له هل عندك خبر من بالمدينة؟ قال : لا. قال معاوية : أتاني نعي الحسن وأظهر سروراً ، فقال ابن عباس : إذن لا يُنسأ في أجلك ، ولا يسدّ حفرتك.

قال : أحسبه ترك صبية صغاراً؟ قال : كلنا كان صغيراً فكبُر.

قال : وأحسبَه بلغ الستين؟ قال : أبمثل مولده يجهل.

قال معاوية : لو قال قائل انك أصبحت سيّد قومك؟ قال : أما وأبو عبد الله الحسين حيّ فلا.

فلمّا كان من غد أتى يزيد بن معاوية ابن عباس وهو في المسجد يُعزّى فجلس بين يديه جلسة المعزي وأظهر حزنه ، فلمّا نهض اتبعه ابن عباس بصره وقال : إذا ذهب آل حرب ذهب حلم قريش (؟).

____________________

(١) نفس المصدر / ٢٠٩.

١٣٢

وروي : أنّه لمّا أتى نعي الحسن عزى معاوية ابن عباس ، فاسترجع ابن عباس ثلاثاً ، ثمّ قال : انّه والله يا معاوية لم يمهل من أجلك ، ولم يدفن في حفرتك ، ولقد رزئنا بمن كان خيراً منه فكفانا الله فقده ، ولم يضيّعنا بعده ، يعني النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ثمّ قال : والله لا أقيم ببلدة يُشمت فيها بموت ابن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

أخبرنا صدر الحفاظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني بها إجازة ، أخبرنا عبد القادر بن محمّد البغدادي ، أخبرنا الحسن بن عليّ الجوهري ، أخبرنا محمّد بن العباس ، أخبرنا أحمد بن معروف ، حدثنا حسين بن محمّد ، أخبرنا محمّد بن سعد ، أخبرنا محمّد بن عمر ، حدثنا عبد العزيز بن محمّد عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال : لمّا جاء معاوية نعي الحسن بن عليّ استأذن ابن عباس على معاوية وكان ابن عباس قد ذهب بصره ، وكان يقول لقائده إذا دخلت بي على معاوية فلا تقدني ، فان معاوية يشمت بي ـ فلمّا جلس ابن عباس ، قال معاوية لأخبرنه بما هو أشدّ عليه من أن أشمت به ثمّ قال : يا بن عباس هلك الحسن بن عليّ ، فقال ابن عباس : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وعرف ابن عباس انّه شامت به فقال : أم والله يا معاوية لا يسدّ حفرتك ، ولا تخلد ، ولقد أصبنا بأعظم منه فجبرنا الله بعده ، ثمّ قام.

قال معاوية : لا والله ما كلمت أحداً قط أعدّ جواباً ولا أعقل من ابن عباس.

فقال الفضل بن العباس :

أصبح اليوم ابن هند شامتا

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

رحمة الله عليه إنّما

طالما أشجى ابن هند وأرن

استراح اليوم منه بعده

إذ ثوى رهناً لأحداث الزمن

١٣٣

 

فارتع اليوم ابن هند آمناً

إنّما يقمص بالعير السَمَن

لست بالباقي فلا تشمت

به كلّ حي بالمنايا مرتهن

يا بن هند إن تذق كأس الردى

تك في الدهركشيء لم يكن » (١)

تاسعاً : ما رواه الحافظ رشيد الدين ابن شهر اشوب ( ت ٥٨٨ هـ ) في المناقب (٢) ، وقد نقل النص عن الزمخشري وصاحب العقد الفريد ، فليس عنده من جديد.

عاشراً : ما رواه المجلسي ( ت ١١١١ هـ ) في البحار نقلاً عن كتاب المناقب لابن شهر آشوب (٣). وحيث عرفنا كما مرّ أنّ ما فيه هو ما عند الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبد ربه في العقد الفريد ، وكذلك ما رواه محمّد مير خواند ( ت ٩٠٣ هـ ) (٤) وليس فيه مزيد على ما مرّ.

هذه هي النصوص الّتي وقفتُ عليها حسب تتبعي ، وقد سقتها حسب سنّي وفيات أصحابها. ولم يكن في المصادر الثلاثة الأخيرة ما يستدعي ذكرها ، لولا أنّ مؤلفيها نقلوا نصوص من سبقهم ، لكن بالمقارنة وجدت التفاوت ممّا أظن فيهم النقل بالمعنى على أحسن الظنون.

ونعود إلى أوّل النصوص وهو رواية الزبير بن بكار ، فهو أقدم من وصلت إلينا روايته في حضور ابن عباس بالشام حين أتى نعي الإمام الحسن ( عليه السلام ) إلى

____________________

(١) مقتل الحسين ١ / ١٤٠ ـ ١٤١ ط الزهراء في النجف.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ١٢٤ ط حجرية.

(٣) بحار الأنوار ٨ / ٥٧٩ ط حجرية و ٤٤ / ١٥٩ ط الإسلامية.

(٤) روضة الصفا ١ ـ ٢ / ١٩ ط بمبئ.

١٣٤

معاوية ، وروايته كما حكاها لنا الأربلي وصلت إلينا مبتورة السند مع نقص في المتن ـ لأنّه حديث طويل ـ أخذ منه الأربلي موضع الحاجة ، ومع ذلك كلّه فهي ـ الرواية ـ ذات فائدة كبيرة ، ويكفي ما ورد فيها من خبر المحاقة إلى آخر الرواية.

أمّا رواية حُميد الشهيد في الحدائق الوردية فقد شاركت الأولى في عدم ذكر الاسناد إلاّ انها تميّزت بذكر الأبيات الأربعة الّتي قالها ابن عباس في رثاء الإمام الحسن ( عليه السلام ). وبقية الرواية تساوق رواية الزبير بن بكار وتقاربها في تفاصيلها ، بل تتفق معها في جل نصوص المحاورة.

أمّا ما ذكره ابن قتيبة واليعقوبي وابن عبد ربه والزمخشري فهؤلاء كلّهم ذكروا ما عندهم مرسلاً وباختصار ، سوى ابن عبد ربه فقد تزيّد في روايته ذكر تعزية يزيد بن معاوية وقول ابن عباس وقد اتبعه بصره : إذا ذهب آل حرب ذهب الحلم من الناس (؟) وهذه شنشنة أموية تميّز بها ابن عبد ربه الأموي الهوى والولاء فهو صاحب الأرجوزة الّتي ذكر فيها الخلفاء ولم يذكر معهم الإمام أمير المؤمنين ولا ابنه الإمام الحسن ( عليهما السلام ) ، مع ذكره للمروانيين والساقطين. فلا غرابة منه ، لكن الغرابة من الخوارزمي روى ذلك في كتابه مقتل الحسين ( عليه السلام ) وان ذكره مرسلاً وأشعر بتمريضه حيث قال : ( وقيل ). بينما ذكر بعده في الخبر الثاني من مروياته مرسلاً قول ابن عباس : والله لا أقيم ببلدة يُشمت فيها بموت ابن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وهذا ما لم أقف عليه عند غيره من قبل ، بل قرأنا ما ذكره حُميد الشهيد بعكس ذلك حيث أراد سكنى الشام ومجاورة معاوية فأبى عليه ، وإذا صحّ ذلك فقد أراد أن يقيم ليفسد أهل الشام على معاوية ، وقد مرّ شاهد ذلك في روايتي الزبير بن بكار

١٣٥

وحُميد الشهيد. أمّا ما رواه الخوارزمي مسنداً فهو مختصر لما مرّ في روايتي الزبير وحُميد ، وليس عنده من مزيد ، سوى ذكره ستة أبيات نسبها للفضل بن العباس ، وقد تقدم منها أربعة أبيات بتفاوت يسير منسوبة إلى عبد الله بن عباس كما في رواية حُميد الشهيد ، ولعل الّذي يؤكد أنّها له تصريح الزمخشري في ربيع الأبرار قال : « عبد الله بن عباس في موت الحسن :

أصبح اليوم ابن هند آمناً

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

ارتع اليوم ابن هند قامصاً

إنّما يقمص بالعير السَمَن » (١)

وجميع ما مرّ من النصوص دل على حضور ابن عباس بالشام حين أتى نعي الحسن ( عليه السلام ) إلى معاوية ، وانّه فاجأ ابن عباس بالخبر ، ولمّا كنا قد ذكرنا ما رواه الشيخ الطوسي وغيره بأسانيدهم من حضوره بالمدينة عند الوفاة ومشاركته في التجهيز إلى آخر ما مرّ ، فأربك ذلك غير واحد ممّن ذكر ابن عباس في تلك الفترة أصالة أو تبعاً ، لظهور التعارض بين الحضورين وتعذر الجمع عندهم ، خصوصاً وقد رأوا مثل الإربلي ذكر الإشكال عليه ولم يحلّ عقال ، أمّا غيره كالشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي ـ من رجال القرن السابع (٢) فقد ذكر في كتابه الدر النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم في باب وفاة الحسن ( عليه السلام ) : « أنّ الداخل على معاوية والمحاور له في تلك الواقعة هو قثم بن العباس لا عبد الله ، وعنده بهذا يحلّ الإشكال ، لكن هذا غير مستقيم لتصريح ابن قتيبة من أصحاب النصوص بأن المحاور كان عبد الله مصرحاً باسمه ، فضلاً عن الآخرين الّذين

____________________

(١) ربيع الأبرار باب الموت وما يتصل به ٤ / ١٩٧ ط أوقاف بغداد.

(٢) هو تلميذ المحقق الحلي ( ت ٦٧٦ هـ ) ومجاز من السيّد رضي الدين ابن طاووس ( ت ٦٦٤ هـ ).

١٣٦

ذكروه بكنيته ( ابن عباس ) الّتي لم يعرف بها أحد سواه من أخوانه. ورأى بعض الباحثين احتمال رواية حضور المدينة لعبيد الله ، وحضور الشام لعبد الله ، لتشابه الاسمين خطاً ، وفاته تفاوتهما حظاً ممّا يستبعد ذلك الإحتمال فاين الصغير من الكبير ، وأين الرعديد الفطير من الصنديد الخبير ، ولغة الحوار في كلّ من الحضورين سواء في المدينة وما جرى له مع عائشة ومع مروان أو في الشام وما جرى له مع معاوية تأبى أن تكون لغير عبد الله بن عباس حبر الأمة. إذن كيف التوفيق بين الحضورين في آن واحد تقريباً؟

وعندي إنّ خير علاج لرفع التعارض هو ما ذكره ابن أعثم الكوفي ( ت ٣١٤ هـ ) في كتابه الفتوح (١) ، حيث ذكر اغراء معاوية لجعدة بسم الإمام ووعدها مبلغاً من المال كما وعدها بتزويجها من يزيد فوفى بالمال ولم يفِ بالزواج وانها تزوجت من آل طلحة فولدت فكان ابنها يعيّر ويقال له يا بن مسمة الأزواج وهذا ما ذكره غير واحد من المؤرخين ثمّ قال ما ترجمته :

« وأتى ابن عباس في يوم مجلس معاوية فقال له معاوية شامتاً : يا أبا العباس سمعت ان الحسن هلك ، فاسترجع عبد الله ثمّ قال : لا يسد موته حفرتك ، ولست بباق بعده طويلاً ، ونحن أهل بيت النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أصبنا باعظم من ذلك فجبر الله مصابنا ، ثمّ نهض وخرج ، فقال معاوية متعجباً من سرعة الجواب على وجه الصواب : لم أر في عمري أحضر جواباً ولا أعقل من عبد الله بن عباس » (٢).

____________________

(١) الفتوح الترجمة الفارسية / ٣٣٩ ط بمبئ.

(٢) ولقد أشار محقق الطبعة العربية لكتاب الفتوح ط دار المعارف بحيدر آباد وعنها افست ط دار الندوة الجديدة بيروت إلى سقوط النص من النسخة العربية فأكمله بالنص الفارسي في الهامش راجع ٤ / ٢٠٨ فما بعدها.

١٣٧

وهذا لا يعني حضوره بالشام حين الوفاة ، بل ظاهر في غيره ، على أنّ في رواية حُميد الشهيد المتقدمة ما يشعر أنّ ابن عباس قدم الشام فمكث أياماً لا يصل إلى معاوية ثمّ وصل إليه ذات يوم ثمّ ذكر الحوار ، ولا يبعد عندي أنّ ابن عباس بعد أن حضر في المدينة موت الإمام وتجهيزه بادر بالخروج إلى الشام لإكمال رسالته في نصرة إمامه الجديد الحسين بن عليّ ( عليه السلام ) حيث سبق لمعاوية تمهيده البيعة لابنه يزيد ، ولا مانع من أن يكون دخل الشام مع دخول رسول مروان بخبر النعي إلى معاوية وتجاهل ابن عباس لمسائل معاوية هل تدري؟ هل تدري؟ لا يلزم منه عدم سبقه وعلمه بموت الإمام الحسن ( عليه السلام ). ولما ذكر له ذلك شامتاً انفجر مسترجعاً وموبّخاً إلى آخر ما جرى. على أنا لو أعملنا الوسائل عند التعارض لرجح حضور المدينة كما قدّمناه آنفاً.

ولا يفوتني التنبيه على ما مرّ من طلب ابن عباس رفع السبّ عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لأنّه يراه جزءاً من رسالته.

كيف لا وهو الّذي قال : بعثني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى عليّ بن أبي طالب فقال له : ( أنت سيّد في الدنيا وسيّد في الآخرة ، من أحبك فقد أحبني ، وحبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو الله ، والويل لمن أبغضك ) (١).

وهو الّذي يروي لقد سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : ( من سبّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله ( عزّ وجلّ ) أكبّه الله على منخره ) (٢) فأراد أن يثبت عداوة معاوية لله ولرسوله بعداوته للإمام عليّ ( عليه السلام ).

____________________

(١) أخرجه أحمد في المناقب كما في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، للملا عليّ القاري ١١ / ٢٥٦ ط دار الكتب العلمية بيروت.

(٢) أخرجه أبو عبد الله الجلالي كما في مرقاة المفاتيح ١١ / ٢٥٦ واحسب ( الخلال ) هو الصواب.

١٣٨

أوّل ذل دخل العرب :

كان ابن عباس بفضل ذهنه الوقاد يستطلع المستقبل الموبوء الّذي سيواجهه العرب بعد موت الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ولا غرابة منه بعد أن مرّت بنا كلمة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيه وأنّه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق (١) ، وتعني أنّه كان مخترقاً زمان المستقبل بوعيه العميق للواقع ، ولمّا كان موت الإمام الحسن ( عليه السلام ) فضلاً عن المأساة هو نذير شر للعرب بكارثة سوف تحلّ قريباً بهم وبديارهم ، تضربهم بذل شامل.

لذلك قال ـ وهو يعيش مرارة المأساة والشعور بالإحباط ـ : « أوّل ذل دخل العرب موت الحسن بن عليّ ( عليهما السلام ) ».

روى ابن أبي الحديد عن أمالي أبي جعفر محمّد بن حبيب ( ت ٢٤٥ هـ ) قال ابن عباس : « أوّل ذل دخل على العرب موت الحسن بن عليّ ( عليهما السلام ) » (٢).

وروى ابن سعد ( ت ٢٣١ هـ ) هذه الكلمة لعمرو بن بعجة (٣).

ولدى التحقيق لمعرفة مَن هو قائل تلك الكلمة الّتي تنذر العرب بذلٍ شامل ، راجعنا ترجمة عمرو بن بعجة ، فوجدنا الذهبي يزنه في ميزانه بقوله : « لايعرف » ومن كان لا يُعرف كيف له أن يَعرف مدى تأثير موت الحسن ( عليه السلام ) على الأمة العربية (٤)؟

وعندي رواية ابن حبيب الّتي ذكرها ابن أبي الحديد أولى بالقبول ، لأنّ قائل الكلمة هو ابن عباس الّذي لا يعرف أثر فقد الإمام الحسن ( عليه السلام ) على العرب

____________________

(١) العقد الفريد ٢ / ١٨١.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٤ ط مصر الأولى.

(٣) طبقات ابن سعد ( ترجمة الإمام الحسن ( عليه السلام » ط الطائف.

(٤) طبقات ابن سعد ( ترجمة الإمام الحسن ( عليه السلام » ط الطائف.

١٣٩

بل على المسلمين جميعاً غيره ، حيث تجمعه والإمام قربى النسب ، ومشاركة في الحكم أيام خلافته ، ومجاهدة عدو مشترك على ارض الواقع ، فهو قد كان يرجو الخير للأمة بعد هلاك معاوية والإمام الحسن حيّ ، إذ سوف تعود الأمور إلى نصابها الصحيح ، ويتولى أمر الخلافة صاحبُها الشرعي ـ كما نصت عليه وثيقة الصلح ـ أما وقد ارتكب معاوية جريمته الشنعاء ، فقد ضرب الأمة بذلّ شامل سيبقي لها العار والشنار ، وستبتلي براعٍ مثل يزيد. وإذا ابتليت بذلك فعلى الإسلام السلام كما قال سيّد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ ( عليه السلام ).

وستحيى فكرة تلاقف الكرة الّتي أوصاهم بها أبو سفيان. فهذا هو الذلّ أشار إليه ابن عباس في كلمته ، لأنّه أدرك أنّ الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام سيرافقه بوائق الحكم الغاشم فيشيع الظلم والنفاق ، ويسلب الأمة محاسن الأخلاق ، وتحل المداهنة والتملق السياسي محل الكرامة والصرامة ، لرواج سوق الشرور عند الحاكمين والناس على دين ملوكهم ، وهذا الذل حقيقة حتمية أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى : ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) (١).

وتوالت المحن على شيعة الإمام فقتل حجر بن عدي وسبعة نفر آخرين معه بمرج عذراء وهم الّذين أخبر عنهم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كما روت ذلك عائشة حين قالت لمعاوية وقد دخل عليها حين أتى المدينة : « يا معاوية أقتلت حجراً وأصحابه ، فأين عزب حلمك عنهم؟ أما إنّي سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السماوات » (٢).

____________________

(١) النمل / ٣٤.

(٢) أنظر تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٦.

١٤٠