موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

الصعود ، إمّا بتفسير آيٍ من الذكر الحكيم ، أو حديث عن النبيّ الكريم ، وللتدليل على ذلك بشاهد فلنقرأ :

٨ ـ ما رواه ابن سعد في ترجمة ابن عباس بسنده عن الحسن البصري قال : « أوّل من عرّف بالبصرة عبد الله بن عباس. قال : وكان مثجة كثير العلم ، قال : فقرأ سورة البقرة ففسّرها آية آية.

فمن غيره من الولاة الذين كانوا قبله صنع مثل ذلك؟ » (١).

وكان يعلّمهم الدعاء كما يعلّمهم السورة من القرآن ـ كما يقول طاووس ـ : « يقول ابن عباس قولوا : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات » (٢). وعلى نمط هذا.

٩ ـ ما رواه أحمد في مسنده بسنده عن أبي نضرة قال : « كان ابن عباس على منبر أهل البصرة فسمعته يقول : إنّ نبيّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يتعوّذ في دُبر صلاته من أربع يقول : أعوذ بالله من عذاب القبر ، وأعوذ بالله من عذاب النار ، وأعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأعوذ بالله من فتنة الأعور الكذاب » (٣).

١٠ ـ ومن خطبه في ولايته بالبصرة الّتي أمات فيها باطلاً وأحيى بها حقاً كما أمره الإمام في كتابه إليه كما تقدم ، ما أخرجه الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن عبد الوارث قال : « بينا ابن عباس (رحمه الله) يخطب عندنا على منبر البصرة

____________

(١) طبقات ابن سعد / ١٥٨ تح ـ السُلمي ط الطائف.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٢٧ برقم ٢١٦٨ تح ـ أحمد محمّد شاكر.

(٣) نفس المصدر ٤ / ٢٣١ وأخرجه ثانيه في / ٢٧٥ برقم ٢٧٧٩ واسناده في المرتين صحيح.

٦١

إذ أقبل على الناس بوجهه ثمّ قال : أيتها الأمة المتحيّرة في دينها أم والله لو قدّمتم من قدّم الله ، وأخّرتم من أخّر الله ، وجعلتم الوراثة والولاية حيث جعلها الله ما عال سهم من فرائض الله ، ولا عال ولي الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، فذوقوا وبال ما فرّطتم فيه بما قدّمت أيديكم : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون ) (١).

١١ ـ ومن تكريمه لأهل العلم ، صنيعه مع أبي العالية رُفيع بن مهران ، قال : « دخلت على ابن عباس وهو أمير البصرة فناولني يده حتى استويت معه على السرير ، فقال رجل من بني تميم انّه مولى ، قال : وعليَّ قميص ورداء وعمامة بخمسة عشر درهماً » (٢).

وعند الذهبي : « فتغامزت بي قريش ، فقال ابن عباس : هكذا العلم يزيد الشريف شرفاً ، ويجلس المملوك على الأسرّة » (٣). وستأتي ترجمة أبي العالية وفيها شواهد عن ولائه لأهل البيت (عليهم السلام) في الحلقة الثالثة إن شاء الله.

١٢ ـ أتاه رجل بسعاية فقال له : « يا هذا إن كنت صادقاً مقتناك ، وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن شئت أقلناك. فقال : أقلني » (٤).

وهذا مأخوذ من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قولاً وفعلاً ، فقد أتاه رجل يسعى إليه برجل فقال : « يا هذا نحن نسأل عمّا قلت ، فإن كنت صادقاَ مقتناك ، وإن كنت كاذباً عاقبناك ، وإن شئت أن نقيلك. فقال : أقلني يا أمير المؤمنين » (٥).

____________

(١) أمالي الطوسي ١ / ٦٢ و ٩٧ مط النعمان والآية من سورة الشعراء / ٢٢٧.

(٢) انظر طبقات ابن سعد ٧ / ٨٠ ـ ٨٥.

(٣) سير أعلام النبلاء ٥ / ٢٠٨.

(٤) إحياء العلوم للغزالي بشرح اتحاف السادة المتقين ٩ / ٣٥٢.

(٥) نفس المصدر.

٦٢

١٣ ـ ومن خطبه الترغيبية في البصرة ما أخرجه أحمد أيضاً في روايتين واللفظ بينهما وكلاهما بسند ـ صحيح ـ عن أبي نضرة قال : « خطبنا ابن عباس على هذا المنبر منبر البصرة فقال : قال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : إنّه لم يكن نبيّ إلاّ له دعوة قد تنجزّها في الدنيا ، وإنّي قد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي ، وأنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، آدمُ فمن دونه تحت لوائي ولا فخر ، قال ويطول يوم القيامة على الناس ، فيقول بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر ، فليشفع لنا إلى ربّنا (عزّ وجلّ) فليقض بيننا ، فيأتون آدم صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ، فيقولون : يا آدم أنت الّذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، اشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا ، فيقول : إنّي لست هُناكمُ ، إنّي قد أخرجت من الجنة بخطيئتي ، وانّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي ، ولكن ائتوا نوحاً رأس النبيين ، فيأتون نوحاً فيقولون يا نوح اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا فيقول : إنّي لست هُناكم ، إنّي دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض ، وإنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ، ولكن إئتوا إبراهيم خليل الله (عليه السلام) ، فيأتون إبراهيم (عليه السلام) فيقولون يا إبراهيم اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا ، فيقول : إنّي لست هُناكمُ ، إنّي كذبت في الإسلام ثلاث كذبات (!؟) فإنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ـ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : إن حاوَلَ بهن إلاّ عن دين الله ، قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (١) وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (٢) وقوله لامرأته : إنّها أختي ، ولكن ائتوا موسى (عليه السلام) الّذي اصطفاه برسالته

____________

(١) الصافات / ٨٩.

(٢) الأنبياء / ٦٣.

٦٣

وكلامه ، فيأتون موسى ، فيقولون : يا موسى أنت الّذي اصطفاك الله برسالته وكلّمك ، فاشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا ، فيقول : إنّي لست هُناكم ، إنّي قتلت نفساً بغير نفس ، وإنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ، ولكن إئتوا عيسى روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى أنت روح الله وكلمته ، فاشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا ، فيقول : إنّي لست هُناكم قد أُتخِذّت إلهاً من دون الله ، وإنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ثمّ قال : أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه ، أكان يُقدَر على ما في الوعاء حتى يفضّ الخاتم؟ فيقولون : لا فيقولون انّ محمّداً صلّى الله عليه (وآله) وسلّم خاتم النبيين قد حضر اليوم ، وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر. قال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : فيأتوني فيقولون : يا محمّد اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا ، فأقول : نعم ، أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذا أراد الله (عزّ وجلّ) أن يصدع بين خلقه نادى منادٍ : أين أحمد وأمتُه؟ فنحن الآخرون الأولون ، فنحن آخر الأمم وأوّل من يحاسَب ، فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرّاً محجلّين من أثر الطهور ، وتقول الأمم : كادت هذه الأمة أن تكون أنبياءً كلّها.

قال : ثمّ آتي باب الجنة فأخذ بحلقة باب الجنة فأقرع الباب ، فيقال : من أنت؟ فأقول : محمّد ، فيُفتح لي ، فأرى (نور) ربّي (عزّ وجلّ) وهو على كرسّيه أو سريره ، فأخرّ له ساجداً ، وأحمده بمحامد لم يحمده

٦٤

بها أحد كان قبلي ، ولا يحمده بها أحد بعدي ، فيقال : إرفع رأسك ، وقل تُسمع ، وسل تُعطه ، واشفع تشفّع ، قال : فارفع رأسي فأقول : أي ربّ أمتي أمتي ، فيقال لي : أخرِج من النار مَن كان في قلبه مثقال كذا وكذا ، فأخرجهم ، ثمّ أعود فأخرّ ساجداً ، وأحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ، ولا يحمده بها أحد بعدي ، فيقال لي : ارفع رأسك ، وقل يُسمع لك ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفّع ، فأرفع رأسي فأقول : أي ربّ أمتي أمتي ، فيقال : أخرج من النار من كان في قلبه مثقال كذا وكذا ، فأخرجهم قال : وقال في الثالثة مثل هذا أيضاً » (١).

وختاماً لحديثنا عن جهود ابن عباس في حقل التوجيه الديني والعلمي نختم بما جاء في أخبار الدولة العباسية بالسند عن أبي عرابة الهجيمي قال : « كان ابن عباس يفطّر الناس في شهر رمضان بالبصرة ، فكانوا لا ينقلبون في كلّ ليلة أن يسمعوا فائدة في دين أو دنيا ، فكانوا إذا فرغوا من العشاء تكلّم فأقل وأوجز ، فقال لهم ليلة : ملاك أمركم الدين ، وزينكم العلم ، وحصون أعراضكم الأدب ، وعزّكم الحلم ، وصلتكم الوفاء ، وطَولكم في الدنيا والآخرة المعروف ، فاتقوا الله يجعل لكم من أمركم يُسرا.

فقال رجل : يا أبا العباس من أشعر الناس؟ فإنا قد تمارينا في ذلك منذ اليوم فكان كلّ قوم يقول شاعرنا. وأقبل عبد الله على أبي الأسود فقال : يا أبا الأسود من أشعر الناس؟ فقال أبو الأسود الّذي يقول :

ولقد اغتدى يدافع ركني

أجوليٌ ذو ميعة إضريجُ

مخلطٌ مزيلٌ مِعَنٌ مِغَنٌ

مِنفحٌ مِطرَحٌ سبوحٌ خَروجُ

سَلهبٌ شرجَبٌ كأنّ رَماحاً

حملته وفي السراة دُموجُ

تتعادى به قوائم لأمٍ

وحوامٍ صُمّ الحوافر عُوجُ

____________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٨٧ برقم ٢٥٤٦ و ٤ / ٢٤١ برقم ٢٦٩٢ تح ـ أحمد محمّد شاكر.

٦٥

مقبلاتٌ في الجري أو مدبراتٌ

بهوى طائعٍ بهن يهيج (١)

هذا الشعر لأبي داود الأيادي وكان أبو الأسود يفضله.

فقال ابن عباس : إنّ شعراءكم قد قالوا فبلغ كلّ رجل منهم بعض ما أراد ، ولو كانت لهم غاية يستبقون إليها يجمعهم فيها طريق واحد ، لعلمنا أيهم أسبق إلى تلك الغاية ، فإن يك قال ولم يقل عن رغبة ولا رهبة فامرؤ القيس بن حجر » (٢).

وقد روي هذا الخبر برواية راو آخر في نفس المصدر قال : « كان ابن عباس مثجاً ينحدر غَرَبا ، وكان أمير البصرة يعشّي الناس في شهر رمضان ، فلا ينقضي الشهر حتى يفقههم ، وكان إذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان يعظهم ، ويتكلم بكلام يردعهم ويقول : ملاك أمركم الدين ، وصلتكم الوفاء ، وزينتكم العلم ، وسلامتكم الحلم ، وطَولكم المعروف ، إن الله كلّفكم الوسعَ فاتقوا الله ما استطعتم.

قال : فقام أعرابي فقال : من أشعر الناس أيها الأمير؟

قال : أفي أثر العظة؟ قل يا أبا الأسود ، قال فقال أبو الأسود الدؤلي : أشعر الناس الّذي يقول :

فإنك كالليل الّذي هو مدركي

وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسع

قال : نابغة بني ذبيان » (٣).

____________

(١) الأبيات في الأغاني ١٦ / ٣٧٦ بتفاوت في اللفظ.

(٢) أخبار الدولة العباسية / ٢٩.

(٣) نفس المصدر / ٣٣ ـ ٣٤.

٦٦

والّذي أراه في إحالة ابن عباس على أبي الأسود والسؤال منه من أشعر الناس؟ لأنّه لم يستسغ لنفسه الخوض في ذلك على أثر العظة وقد استنكر سؤال الأعرابي لذلك السبب ، وإلاّ فابن عباس أعلم الناس بذلك كما في محاورة له مرت في أيام عمر وقد سأله نفس السؤال فأجابه بأنّ ذلك زهير بن أبي سُلمى المزني لقوله يمدح قوماً من غطفان يقال لهم بنو سنان واستنشده من شعره فيهم فأنشده :

لو كان يخلد أقوام بمجدهم

أو ما تقدّم من أيامهم خلدوا

أو كان يقعد فوق الشمس من

كَرَمٍ قومٌ بأولهم أو مجدهم قعدوا

قوم أبوهم سنان حين تنسبهم

طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

إلى آخر ما أنشده.

فجثا عمر على ركبتيه ثمّ قال : ما لهذا الشاعر قاتله الله ، لقد قال كلاماً حسناً ما كان ينبغي أن يقال إلاّ في أهل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما خصّهم الله به من النبوة والكرامة. إلى آخر ما جرى بين ابن عباس وعمر حول صرف قريش الخلافة عن أهل البيت ، وأنتهت المحاورة بقول عمر لجلسائه : « لله در ابن عباس ، واهاً لابن عباس والله ما رأيته لاحى أحداً قط إلاّ خصمه ».

وهذه المحاورة مع أمثالها ستأتي في الحلقة الثانية من الموسوعة إن شاء الله تعالى.

وحسبنا ما ذكرنا من شواهد دلّت على جهوده وجهاده في نشر الوعي الديني في المجتمع البصري الّذي كان متخلّفاً كثيراً في هذا الجانب ، ولا شك في أنّ الولاة قبل ابن عباس يتحملون نصيباً كبيراً من وزر ذلك التخلّف ، ومن

٦٧

شك في ذلك فليقرأ تاريخ ولايتهم فهل يجد فيهم من كان مشابهاً لابن عباس ، ولولا الاطناب لعرضت نماذج من سير أولئك للمقارنة.

ومع ما كان عليه ابن عباس من فهم وعلم ، إذا استعصى عليه أمر كتب إلى الإمام فيه فيكتب الإمام إليه بالجواب كما في مسألة ميراث الجد مع ستة أخوة ، فكتب إليه : « إجعله كأحدهم وامح كتابي » كما في المصنف (١) ، ويبدو لي وقوع تصحيف في آخره ، وأنّ الصواب كما في كتاب ذكر أخبار اصبهان ، فقد ذكر أبو نعيم الاصبهاني في ترجمة محمّد بن الحارث الصيداوي الأسدي حديثاً رواه عن قيس بن الربيع عن سليمان وفراس المكتب : « كتب ابن عباس إلى عليّ في سبعة أخوة وجدة فكتب إليه أقسم المال بينهم ، وانسخ كتابي ولا تجلّده » (٢) ، وهذا النصّ يدلنا على أنّ ابن عباس كان ينسخ كتاب الإمام وأنّه كان يجلّد الكتب الّتي ترده من الإمام (عليه السلام) ، وعليه فيمكن عدّ ابن عباس من الأوائل الذين جمعوا كلام الإمام في مجلد. وإن لم يشر إلى ذلك دارسو نهج البلاغة ، وهذا نص له دلالته الإيجابية.

ثمّ إنّه قد وردت عن ابن عباس مرويات في شتى فنون المعرفة رواها عنه رواة بصريون يعدّون بالعشرات ، ستأتي تراجمهم في الحلقة الثالثة من الموسوعة إن شاء الله تعالى ، وهؤلاء كانوا امتداداً لمدرسته في البصرة.

٣ ـ السلوك الشخصي :

أمّا عن سلوكه الشخصي في البصرة ، فهو جزء متشابك مع النشاط الإداري والسياسي والتوجيه الديني والعلمي ولما كانت البصرة مهبط إبليس ـ كما مر

____________

(١) مصنف أبي شيبة ١١ / ٢٩٣ ط باكستان.

(٢) أخبار اصبهان ٢ / ١١٣ط أفست إسماعيليان عن ط ليدن.

٦٨

وصفها عن الإمام ـ فإنّ جند الشيطان بها كثير ، ولا ريب أنّهم يطمعون في التسلل إلى مراكز القوة لنيل أمانيهم ، وهل مطمع فوق مركز رأس السلطة ، فمتى نفذوا إليه واستحوذوا عليه ، تمّ لهم ما أرادوا ونالوا مبتغاهم ، ولا يضيق السبيل على ابليس وجنده ، ولهم في النميمة خير وسيلة لاختداع الوالي والتقرب منه ، وتلك سيرتهم مع الولاة والحاكمين في كلّ زمان ومكان ، فإن وجدوا أذناً صاغية لقد نجحوا في مسعاهم ونالوا مبتغاهم ، وإن لم يجدوا وكان الوالي له أذن عن الفحشاء صمّاء مثل ابن عباس ، فليس أبور من سلعتهم ، إذ لا نَفَاق للنِفَاق ، وقد ابتلي ابن عباس في ولايته بنماذج من يريدون أن يأكلوا المال بالباطل ، فمنهم النمامّون ، ومنهم الشعراء الهجّاؤن الذين يثلبون أعراض الناس ، وأضراب أو لا وأولئك كثيرون.

غير أنّه بما أتاه الله من قوة الشخصية مع حدّة الفهم وبُعد النظر ما ينفذ به إلى بواطن الأمور ، وكان على حدّ قول الإمام فيه ، وهو مربّيه ومولّيه : (كأنّما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق) (١) ، ثمّ هو على حدّ وصفه له في خطبة ولايته بالفقه والتقوى والورع ، فلمّا كان كذلك كان من الطبيعي أن لا يفسح المجال أمام الإنتهازيين ، فكان شديداً بلا عُنف ، وليّناً بلا ضعف.

وإلى القارئ نموذجَين من مواقفه : أحدهما مع نمّام ، وآخر مع هجّاء.

فقد روي أنّ رجلاً أتاه بنميمة ، فقال له : يا هذا إن شئت سألنا عما جئت به ، فإن كنت صادقاً مقتناك ، وإن كنت كاذباً عاقبناك ، وإن شئت أقلناك ، فاستعفى الرجل ، ومن الطبيعي أن يعرف ذلك المتزلّفون إلى الحكّام بالنميمة ، فقد

____________

(١) جاء في فيض القدير للمناوي ١ / ٦٠ قال فيه ـ ابن عباس ـ عليّ كرّم الله وجهه (كأنّما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق).

٦٩

قطع عليهم الطريق ، فلا يعرَضوا أنفسهم إلى حساب ابن عباس وربّما أدّى إلى العقاب.

أمّا عن شريحة الشعراء الهجّائين فيكفي ما صنعه ابن عباس مع عيينة بن مرداس ـ وحديثه : « قالوا : أتى عيينة بن مرداس ـ وهو ابن فسوة ـ عبد الله بن العباس (عليهما السلام) ، وهو عامل لعليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه على البصرة ـ وتحته يومئذ شميلة بنت جنادة ابن بنت أبي أزهر الزهرانية ، وكانت قبله تحت مجاشع بن مسعود السُلمي ـ فاستأذن عليه فأذن له ـ وكان لا يزال يأتي أمراء البصرة فيمدحهم فيعطونه ويخافون لسانه ـ فلمّا دخل على ابن عباس قال له ما جاء بك إليَّ يا بن فسوة؟ فقال له : وهل عنك مقصراً ، ووراءك معدَى ، جئتك لتعينني على مرؤتي وتصل قرابتي.

فقال له ابن عباس : وما مرؤة من يعصي الرحمن ويقول البهتان ، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل ، والله لئن أعطيتك لأعيننك على الكفر والعصيان ، انطلق فأنا أقسم بالله لئن بلغني أنّك هجوت أحداً من العرب لأقطعنّ لسانك.

فأراد الكلام فمنعه مَن حضر ، وحبسه يومه ذلك ، ثمّ أخرجه من البصرة ، فوفد إلى المدينة بعد مقتل عليّ (عليه السلام) ، فلقي الحسن بن عليّ (عليه السلام) وعبد الله بن جعفر (عليهما السلام) فسألاه عن خبره مع ابن عباس (عليه السلام) فأخبرهما ، فاشتريا عِرضه بما أرضاه ، فقال يمدح الحسن وابن جعفر (عليهما السلام) ويلوم ابن عباس (رضي الله عنهما) :

أتيت ابن عباس فلم يقض حاجتي

ولم يرج معروفي ولم يخش منكري

حبست فلم أنطق بعذر لحاجة

وشُدّ خِصاص البيت من كلّ منظر

وجئت وأصوات الخصوم وراءه

كصوت الحمام في القليب المغوّر

٧٠

وما أنا إذ زاحمت مصراع بابه

بذي صولة باقٍ ولا بحزوّر

فلو كنت من زهران لم ينس حاجتي

ولكنني مولى جميل بن معمر (١)

وباتت لعبد الله من دون حاجتي

شميلة تلهو بالحديث المقتّر

ولم يقترب من ضور نار تحتَها

سُميلة إلاّ أن تصلي بمجمر

تطالع أهل السوق والباب دونها

بمستفلك الذفرى أسيل المدثّر

إذا هي همت بالخروج يردّها

عن الباب مصراعاً منيف محبّر (٢)

فليت قلوصي عريت أو رحلتها

إلى حسن في داره وابن جعفر

إلى ابن رسول الله يأمر بالتقى

وللدين يدعو والكتاب المطهّر

إلى معشر لا يخصفون نعالهم

ولا يلبسون السَبت ما لم يخصّر

فلما عرفت اليأس منه وقد بدت

أيادي سبا الحاجات للمتذكر

تسنّمت حرجوجاً كأن بغامها

أحيح ابن ماء في يراع مفجّر

فما زلت في التسيار حتى أنختها

إلى ابن رسول الأمة المتخيّر

فلا تدعني إذ رحلتُ اليكم

بني هاشم أن تصدروني لمصدر

وهي قصيدة طويلة هذا ذكر في الخبر منها ... اهـ. » (٣).

فهذا الّذي رواه صاحب الأغاني رواه أيضاً غيره ، فالبلاذري روى ذلك بأخصر ممّا رواه الاصفهاني ، وجاء عنده : « فقال له ابن جعفر : أنا أعطيك ما

____________

(١) وكان حليفاًَ لجميل بن معمر القرشي.

(٢) وجدت بخط إسحاق الموصلي : محيّر.

(٣) الأغاني ١٩ / ١٤٣.

٧١

تريد على أن تمسك عن ابن عباس فلا تذكره بعد هذه الكلمة فأعطاه وأرضاه ...

وقال : إنّ عبد الله بن عباس دعا على ابن فسوة فخرس وأصابه خبل مات فيه ... » (١). وروى الخبر ابن قتيبة (٢).

وقد يساور الشك بعض القراء فيتخيل البخل في ابن عباس حيث لم يتق شر لسان ابن فسوة ، فيسد فمه بلهوة ، ولكن سرعان ما يتبدد ذلك الخيال حين يقرأ نماذج من أقوال معاصريه في سخائه.

كقول عطاء : « ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر علماً وأعظم جفنة » (٣).

وقول مجاهد : « كان ابن عباس أمدّهم قامة ، وأعظمهم جفنة ، وأوسعهم علماً » (٤).

وقول الضحاك : « ما رأيت بيتاً أكثر خبزاً ولحماً من بيت ابن عباس » (٥).

فمن كان كذلك في بذله الطعام ، وإكرام الكرام ، لا يذهب الوهم بالقارئ أنّه منع ابن فسوة بخلاً ، وإنّما رأى في إعطائه معونة على الكفر والعصيان فلا يحلّ له إكرامه ، وهو يعصي الرحمن ويقول البهتان.

وحسبنا دليلاً على وضعه الكرم موضعه حديث وفادة أبي أيوب الأنصاري على ابن عباس بالبصرة وإكرامه ، حتى خرج عن داره فأنزله فيها ـ كما أنزل

____________

(١) أنساب الأشراف (ترجمة ابن جعفر) ٢ / ٤٩ تح ـ المحمودي.

(٢) الشعر والشعراء / ١٣٧.

(٣) أنظر تاريخ بغداد ١ / ١٧٤.

(٤) أنظر طبقات ابن سعد ترجمة ابن عباس تح ـ السُلمي ص٢٠٣.

(٥) أنظر سير أعلام النبلاء للذهبي ٤ / ٤٥١ ط دار الفكر.

٧٢

رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في داره ، وملّكه كلّ ما أغلق عليها بابها ، إلى غير ذلك ممّا يأتي حديثه مفصلاً في أخريات أيام ولايته.

وكذلك ما روي في أخبار الدولة العباسية قال : وقدم ركب من بني عبد الله بن بلال ـ كذا والصواب : هلال ـ بن عامر البصرة ، فبلغ ذلك عبد الله بن العباس وهو يومئذ عامل عليّ بن أبي طالب على البصرة فأرسل إليهم فأتوه فقال : ما منعكم من النزول على ابن اختكم ـ وكانوا أخواله ـ فقالوا : نزلنا في بني هلال ، وكرهنا جماعة الناس وغمّ الأزقة ، وأحببنا فسحة هذا الظهر نسرح فيه.

قال : إذن لا تبعدوا من أن يأتيكم القرى ، فكانت الجفان تغدو عليهم وتروح بألوان الطعام ، فقال ابن المنتخب الهلالي :

انّ ابن عباس وجود يمينه

كفى كلّ معتلّ قراناً وباخل

وأرحلنا عنه ولم ينأ خيرُه

ولا غاله عن برّنا أم غافل

تروح وتغدو كلّ يوم جفانُهُ

بكل سديف النيّ للجوع قاتل (١)

وروى الغزالي (٢) ، والقاضي التنوخي في المستجاد (٣) ، والفيض الكاشاني (٤) ، وعبد الحفيظ أبو السعود (٥) ، وغيرهم : « انّه اجتمع قرّاء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل بالبصرة ، فقالوا : لنا جارٌ صوّام قوّّام يتمنى كلّ واحد منّا

____________

(١) أخبار الدولة العباسية / ١٢٤ تح ـ الدوري والمطلبي.

(٢) إحياء العلوم ٣ / ٢١٥.

(٣) المستجاد من فعلات الأجواد / ٣٤ تح ـ محمّد عليّ كرد علي ّط الترقي بدمشق سنة ١٣٦٥.

(٤) المحجة البيضاء ٦ / ٦٧.

(٥) محمّد وصحبه ط دار الكتاب العربي بمصر سنة ١٣٦٧.

٧٣

أن يكون مثله ، وقد زوّج ابنة له من ابن أخيه وهو فقير ، وليس عنده ما يجهزها به. فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم فأدخلهم داره ففتح صندوقاً فأخرج منه ست بُدرٌ ثمّ قال : احملوا فحملوا. فقال ابن عباس : ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن صيامه وقيامه ، ارجعوا نكن أعوانه على تجهيزها ، فليس للدنيا من القدر ما يشغل به مؤمناً عن عبادة ربّه تعالى ، وما بنا من التكبّر ما لا نخدم معه أولياء الله تعالى ، ففعل وفعلوا ».

وروى البلاذري : « إنّ ابن عباس كان يعشّي الناس بالبصرة في شهر رمضان ويحدّثهم ويفقههم فإذا كانت آخر ليلة من الشهر ودّعهم ثمّ قال : ملاك أمركم الدين ، ووصلتكم الوفاء ، وزينتكم العلم ، وسلامتكم في الحاكم ، وطَولكم في المعروف ، إنّ الله كلّفكم الوسع فاتقوه ما استطعتم » (١).

هذه نبذة مقتطفة من تاريخ حياته في البصرة. ولم أقف على أصدق واصف له في أيام ولايته من صعصعة بن صوحان العبدي (رحمه الله) ، وذلك عندما قدم إلى الكوفة فسأله الإمام عنه فقال : « يا أمير المؤمنين ، إنّه آخذ بثلاث وتارك لثلاث :

آخذ بقلوب الناس إذا حَدّثَ ، وبحسن الاستماع إذا حُدِّث ، وبأيسر الأمر إذا خولف. وتارك المراء ، ومقارنة اللئيم ، وما يعتذرَ منه » (٢).

ولم يخطيء صعصعة في وصفه ، كما أنّه لم يبالغ ، فقد كان ابن عباس كذلك منذ كان فتى لم تستو شؤون رأسه كما قال عمر في حقه ، ولقد رآه

____________

(١) أنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس) برقم ١١٧ نسخة مخطوطة بقلمي.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١٢ / ٣١٣.

٧٤

الحطيئة الشاعر في مجلس عمر وقد علا القوم بلسانه ونزل عنهم بسنّه فسأل عنه فقيل له هذا ابن عباس حبر الأمة ولسان قريش فأنشأ يمدحه بأبيات منها :

إنّي وجدت بيان المرء نافلة

تُهدى له ووجدت العيّ كالصمم

والمرء يبلى ويبقى الكلم سائرة

وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم (١)

وصدق وصف القائل فيه :

صموت إذا ما زين الصمت أهله

وفتّاق أبكار الكلام المختّم

وعن ماحوى القرآن من كلّ حكمة

وسيطت له الآراء باللحم والدم (٢)

حل مشكلة في التاريخ :

نقرأ أحياناً في التاريخ أحداثاً لفّها الغموض الزماني بضبابية تكاد تخفي حقائقها ، وإذا دققنا النظر فيها ملاحظين البُعد الزماني والمكاني ، نجد ما حَدَث من تشويش إنّما هو من فعل المؤرخين ، حين يذكرون النصوص المختلفة وأحياناً متضادة ومتنافرة ، ثمّ لا يتحمّلون عناء معالجتها ، مكتفين بسياقها مسندة ـ كما فعل الطبري وابن اعثم ـ أو نسبتها إلى القيل ، وبذلك يحسبون أنهم رفعوا عن أنفسهم إصر التبعة ، غافلين عن حساب البُعد الزماني والمكاني في تكوين الحَدَث ، ومهما كان عذرهم ، فإنّ المشكلة الّتي تواجهنا فعلاً ، هي تحديد الفترة الّتي أقامها الإمام في الكوفة بدءاً من دخوله إليها في ١٢ رجب سنة ٣٦ إلى أن

____________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ / ٢٢٩ ط دار الكتب ، والإصابة ٢ / ٣٥٢ ، والاستيعاب بهامش الإصابة ٢ / ٣٤٦ ط مصطفى محمّد.

(٢) الروض الأنف للسهيلي ٢ / ٣١٣ ط مصر.

٧٥

غادرها إلى حرب معاوية بصفين ، فإنّ تحديد الفترة بدقة إنّما ينفعنا فعلاً وفي المستقبل لترتيب الأحداث فيما بعدها ، وما ولّدته من تداعيات أفرزت مفاهيم خاطئة وجسيمة ، ومع ذلك فإنّما علينا الأناة ، ولابدّ لنا من الاستهداء بما ذكره المؤرخون على علاّته ، ثمّ علينا الموائمة بين أقوالهم ورواياتهم المتضاربة ما وسع التوفيق لذلك.

ولنأخذ نموذجاً منهم المسعودي المتوفى سنة ٣٤٦ هـ ، فقد قال : « وولى على البصرة عبد الله بن عباس وسار إلى الكوفة ، فكان دخوله لأثنتي عشرة ليلة مضت من رجب ... وصرف عن همدان جرير بن عبد الله البجلي وكان عاملاً لعثمان ... ووجّه بجرير بن عبد الله إلى معاوية ، فلمّا قدم عليه جرير دافعه وساءله أن ينتظره وكتب إلى عمرو بن العاص ... فقدم جرير على عليّ فأخبره خبرهم ... » (١).

وقال : « وكان سير عليّ من الكوفة إلى صفين لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين ... » (٢).

وقال : « ولمّا كان أوّل يوم من ذي الحجة بعد نزول عليّ على هذا الموضع ـ يعني شريعة الماء بصفين ـ بعث إلى معاوية يدعوه إلى اتحاد الكلمة ، فاتفقوا على الموادعة إلى آخر المحرم سنة سبع وثلاثين ... » (٣).

فهذا نموذج واحد ولم يبعد عنه الآخرون في ضبط الأحداث باليوم والشهر والسنة ، وهذا ما يبعث على العجب! وأعجب منه ما رواه أبو هلال

____________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٨١ تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(٢) نفس المصدر / ٣٤٨.

(٣) نفس المصدر / ٣٨٧.

٧٦

العسكري بسنده عن الزهري قال : « ورد عليّ الكوفة بعد الجمل في شهر رمضان سنة ست وثلاثين » (١)!!

فإنّ الزمن الّذي حددوه ـ ومنهم المسعودي ـ من دخول الإمام إلى الكوفة في ١٢ رجب سنة ٣٦ هـ وبين خروجه منها إلى صفين في ٥ شوال سنة ٣٦ هـ لم يبلغ ثلاثة أشهر ، مع أنّ المسعودي بالذات ذكر في كتابه قولاً : « أن كان بين دخول الإمام الكوفة وبين التقائه معاوية للقتال بصفين ستة أشهر وثلاثة عشر يوماً » (٢) ولم يعقب على ذلك القول بشيء ، ممّا دل على رضاه به. وهذا التحديد على ما فيه أحسبه أقرب إلى الواقع إذا ما جعلناه ستة عشر شهراً وثلاثة عشر يوماًَ ، واحتملنا سقوط (عشر) من بعد الستة من الناسخ. وحينئذ يتفق مع قول الشعبي الّذي رواه نصر بن مزاحم : « إنّ عليّاً قدم من البصرة مستهل رجب وأقام بها سبعة عشر شهراً يجري الكتب فيما بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص ... » (٣).

فإنّا إذا اعتمدنا هذا القول في تحديد الفترة تكشفت بعض الجوانب من الضبابية ، لأنّها ـ الفترة ـ حينئذٍ تسع لتلك الأحداث المذكورة.

وللتوضيح وعلى سبيل المثال ، فلنأخذ حدثاً له أبعاد زمانية ومكانية تنير الدرب أمامنا. ذلك هو كتاب الإمام إلى جرير بن عبد الله وكان عاملاً لعثمان على همدان وإرساله إلى معاوية ولنرجع في حكايته على طولها إلى أقدم مصدر بين أيدينا هو كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم المتوفى سنة ٢١٢ هـ.

____________

(١) جمهرة الأمثال ٢ / ١٥٨.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣٦٠.

(٣) وقعة صفين / ٨٩ ـ ٩٠.

٧٧

قال : « فكتب إليه مع زحر بن قيس الجعفي : أمّا بعد فإنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال ، وإنّي أخبرك عن نبأ من سرنا إليه من جموع طلحة والزبير عند نكثهم بيعتهم ، وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف. إني هبطت من المدينة بالمهاجرين والأنصار ، حتى إذا كنت بالعُذيب بعثت إلى أهل الكوفة بالحسن بن عليّ وعبد الله بن عباس وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد بن عُبادة ، فاستنفروهم فأجابوا ، فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة فأعذرت في الدعاء ، وأقلت العثرة ، وناشدتهم عقد بيعتهم ، فأبوا إلاّ قتالي ، فاستعنت بالله عليهم فقُتل من قُتل وولوا مدبرين إلى مصرهم ، فسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء ، فقبلت العافية ، ورفعت السيف ، واستعملت عليهم عبد الله بن عباس ، وسرت إلى الكوفة ، وقد بعثت اليكم زحر بن قيس فاسأل عما بدا لك » (١).

ثمّ ذكر نصر : خطبة جرير في الناس وخطبة زحر بن قيس وذكر من الشعر لابن أخت جرير ولجرير ولغيرهما ممّا لا يعنينا ولا يغنينا ذكره ، سوى أنّ الّذي يعنينا قول الراوي : « فأجاب جرير وكتب جواب كتابه بالطاعة » (٢) ، وهذا الّذي جرى كلّه يحتاج إلى زمان لا يقل عن الشهر.

وقال أيضاً : « ثمّ أقبل جرير سائراً من ثغر هَمَدان حتى ورد على عليّ (عليه السلام) بالكوفة فبايعه ودخل فيما دخل فيه الناس من طاعة عليّ واللزوم لأمره » (٣).

____________

(١) نفس المصدر / ١٩ فما بعدها.

(٢) نفس المصدر / ٢٠.

(٣) نفس المصدر / ٢٤.

٧٨

وقال أيضاً : « عن عامر الشعبي انّ عليّاً (عليه السلام) حين قدم من البصرة نزع جريراً عن هَمَدان فجاء حتى نزل الكوفة ، فأراد عليّ أن يبعث إلى معاوية رسولاً فقال له جرير : ابعثني إلى معاوية فإنّه لم يزل لي مستنصحاً ووُدّا ، آتيه فأدعوه على أن يسلّم لك هذا الأمر ، ويجامعك على الحقّ ، على أن يكون أميراً من أمرائك ، وعاملاً من عمّالك ما عمل بطاعة الله ، واتبع في كتاب الله ، وأدع أهل الشام إلى طاعتك وولايتك ، وجلّهم قومي وأهل بلادي وقد رجوت ألاّ يعصوني.

فقال له الأشتر : لا تبعثه ودعه ، ولا تصدّقه ، فوالله إنّي لأظن هواه هواهم ، ونيّته نيّتهم.

فقال له عليّ : دعه حتى ننظر ما يرجع به الينا ، فبعثه عليّ (عليه السلام) ... وهذا أيضاً يجب أن يحسب له مقدار من الزمان ولا أقل من شهر » (١).

وقال أيضاً : « فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية فدخل عليه ... » (٢).ثمّ ذكر كلام جرير في الإمام وبيعة أهل الإسلام له إلاّ الشام ودفع إليه كتاب الإمام (عليه السلام) ـ وذكر نسخة الكتاب.

ثمّ ذكر خطبة جرير وهي خطبة بليغة : « ثمّ قعد فقال معاوية : أنظِر وننظُر واستطلعُ رأي أهل الشام ثمّ خطب معاوية فيهم ودعاهم إلى أنّه ولي دم عثمان فأجابوه إلى الطلب بدمه ... » (٣).

وقال أيضاً : « واستحثه جرير بالبيعة فقال يا جرير إنّها ليست بخلسة ، وإنه أمر له ما بعده ، فأبلعني ريقي حتى أنظر ، ودعا ثقاته فقال له عتبة بن أبي سفيان ـ

____________

(١) نفس المصدر / ٣٢.

(٢) نفس المصدر / ٣٣.

(٣) نفس المصدر / ٣٤ ـ ٣٦.

٧٩

وكان نظيره ـ إجتمعنّ على هذا الأمر بعمرو بن العاص وأثمن له بدينه ، فإنّه من قد عرفت ، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته وهو لأمرك أشدّ اعتزالاً إلاّ أن ير فرصة » (١).

وقال أيضاً : « وكتب معاوية إلى عمرو وهو بالسبع من فلسطين ... فلمّا قرأ الكتاب على عمرو استشار ابنيه ... فاشار عليه عبد الله بما هو خير له في دينه ، واشار عليه محمّد بما هو خير له في دنياه ـ وأخيراً ذكر تردده حتى قطع عليه ذلك غلامه وردان ـ فسار حتى قدم على معاوية ، وعرف حاجته إليه ، فكايد كلّ منهما صاحبه حتى تمت الصفقة فاعطى معاوية مصر طعمة لعمرو وكتبا بذلك كتاباً » (٢).

وذكر بعد ذلك : « قال ـ معاوية لعمرو ـ ما ترى في عليّ؟ فأشار عليه بأن يرسل إلى شرحبيل بن السمط الكندي وهو عدو لجرير المرسَل إليك ، فأرسل إليه ووطّن له ثقاتك فليفشوا في الناس عليّاً قتل عثمان ...

فكتب ـ معاوية ـ إلى شرحبيل أن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند عليّ ابن أبي طالب بأمر فظيع فأقدم.

ودعا معاوية رؤوس قحطان واليمن وكانوا ثقات معاوية وخاصته وبني عم شرحبيل ، فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليّاً قتل عثمان ، واستشار شرحبيل أهل اليمن ، فنهاه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معإذ بن جبل وختنه وكان أفقه أهل الشام ... وبعث إليه عياض الثمالي وكان ناسكاً بشعر ينصحه فيه ،

____________

(١) نفس المصدر / ٣٨.

(٢) نفس المصدر / ٣٩ ـ ٤٢.

٨٠