موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

ويزيدنا اطمئناناً بصحة ما ذهبنا إليه ما رواه الطبرسي ٥٤٨ هـ في أعلام الورى فقال : « فقد روى جماعة من أهل التاريخ أنّه ـ الإمام الحسن (عليه السلام) ـ خطب صبيحة ... ثمّ جلس فقام عبد الله بن العباس بين يديه فقال ... » (١).

فقول الطبرسي : « فقد روى جماعة من أهل التاريخ » يدل على ثبوت ذلك عند من رواه من أولئك الجماعة الّذين اعتمد روايتهم ، وهو وإن لم يسمّهم لنا بأسمائهم ، إلاّ أنّا عرفنا أنّهم جماعة ، فهم يوثّقون لنا ما تقدم من رواية أبي مخنف ورواية المدائني.

ولم يكن الطبرسي وحده الّذي نقل ذلك عن جماعة من أهل التاريخ ، بل إنّ الاربلي ٦٩٢ هـ في كشف الغمة أورد نحو ذلك فقال : « وقد روى جماعة ... فقام عبد الله بن العباس بين يديه فقال ... » (٢). ثمّ كرر مرة أخرى ذكر الخبر برواية أبي مخنف نقلاً عن الإرشاد للمفيد وهذا يدلنا على أنّ ما رواه أوّلاً من رواية غير أبي مخنف.

وإلى هنا عرفنا جواب السؤال الأوّل (من الّذي خرج إلى الناس قبل خروج الإمام الحسن (عليه السلام » ، وأنّه عبد الله كما مرّ في رواية أبي مخنف عند المفيد ، لا عبيد الله كما في نسخة أنساب الأشراف للبلاذري.

كما عرفنا أيضاً جواب السؤال الثاني (مَن الّذي قام بين يدي الإمام الحسن (عليه السلام) ودعا الناس إلى بيعته) ، وأنّه عبد الله كما في رواية أبي مخنف عند المفيد ، ورواية المدائني عند ابن أبي الحديد لا عبيد الله كما في نسخة ابن أبي الحديد ط الأولى نقلاً عن أبي الفرج وبيّنا أنّ ذلك من غلط النسخة.

____________

(١) أعلام الورى / ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ط الحيدرية.

(٢) كشف الغمة ٢ / ٥٠٠ ـ ٥٠١ ط مكتبة الشريف الرضي بقم.

٣٤١

وعرفنا أيضاً جواب السؤال الثالث (من الّذي أنفذه الإمام الحسن (عليه السلام) إلى البصرة) ، وأنّه عبد الله كما في رواية أبي مخنف عند المفيد ، لا عبيد الله كما عن بعض المحدّثين (١).

أمّا جواب السؤال الرابع (مَن هو الّذي أرسله الإمام الحسن (عليه السلام) قائداً ومعه قيس بن سعد بن عبادة في مقدمة جيشه) : فقد ذكر ابن أبي الحديد نقلاً عن المدائني قوله : « ثمّ وجه عبد الله بن عباس ومعه قيس بن سعد ... وجعل أصحاب الحسن الّذين وجههم مع عبد الله يتسللون إلى معاوية ، الوجوه وأهل البيوتات. فكتب عبد الله بن العباس بذلك إلى الحسن (عليه السلام) فخطب الناس ووبخهم » (٢). وهنا أيضاً من سهو النساخ كما لا يخفى ، فإنّ عبد الله لم يكن هو الّذي معه في الجيش ، بل ذاك هو عبيد الله أخوه.

وقد وقع مثل هذا الوهم أيضاً في تاريخ الطبري في حديث الزهري ، وقد وجدت التفاوت في النسخ المطبوعة منه. ففي الطبعة الأوروبية ورد في المتن : « وعرف الحسن أنّ قيس بن سعد لا يوافقه على رأيه فنزعه وأمّر عبد الله بن عباس ، فلمّا علم عبد الله بن عباس بالذي يريد الحسن ... » ، وورد في الهامش رقم (١) و (٢) اسم (عبيد الله) بدل عبد الله (٣). أمّا الطبعة المصرية بالحسينية فقد ورد المتن كما في الأوروبية ولم يذكر في الهامش شيء (٤). وأمّا الطبعة المحققة

____________

(١) عبد القادر أحمد اليوسف في كتابه الحسن بن عليّ (عليه السلام) ، عام الجماعة ط مطبعة الهلال بغداد سنة ١٩٤٨.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٨ و ١٦ / ٢٢ تح ـ أبو الفضل إبراهيم.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ١ ـ ٢ ط الأوربية.

(٤) نفس المصدر ٦ / ٩١ ط المصرية بالحسينية.

٣٤٢

بتحقيق محمّد أبو الفضل فقد ذكر المتن والهامش بعكس ما في الأوروبية ، إذ جعل المتن عبيد الله والهامش عبد الله (١).

ويبدو أنّ ابن الأثير تخيل أنّه قد احتاط لنفسه حين قال في الكامل : « وقيل بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد الله بن عباس ، فجعل عبد الله على مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة ... » (٢). ولكن الأمر كما بيناه.

أمّا جواب السؤال الخامس (مَن هو الّذي كتب إلى الإمام الحسن (عليه السلام) مشيراً عليه في شأن مداراة الناس) فنقرؤه في :

عودة إلى البصرة :

لقد فارقنا النص « فأنفذ عبد الله بن عباس إلى البصرة » ولمّا كانت دلالة لفظ الفعل (أنفذ) تحمل السرعة قياساً على نفاذ السهم ، وربما استبطن النص أيضاً في دلالته إعادة أمير البصرة إلى بلد إمارته ، ليقوم بدوره هناك في إحكام الأمر كما قام به في الكوفة ، فهو كان والي البلاد الّتي مرّ بنا شيء من حياته فيها ، فهو الأحرى أن ينفذه الإمام الحسن (عليه السلام) إليها لسابق معرفته بطبائع مجتمعها ونزوات أهلها ، فسار ابن عباس مجدّاً ووصلها فوجد خليفته عليها أبا الأسود الدؤلي قد بادر بحزمه فأخذ البيعة للإمام الجديد حين بلغه نعي الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ..

روى أبو طالب الهاروني ٤٢٤ هـ بسنده عن أبي بكر الهذلي قال : « أتى أبا الأسود الدؤلي نعيُ أميرالمؤمنين (عليه السلام) وبيعة الحسن (عليه السلام) فصعد المنبر فخطب ونعى عليّاً (عليه السلام) وقال في خطبته : إنّ رجلاً من أعداء الله المرّاقة في دينه اغتال أمير

____________

(١) نفس المصدر ٥ / ١٦٠ تح محمّد أبو الفضل إبراهيم.

(٢) الكامل ٣ / ١٧٥ ط بولاق.

٣٤٣

المؤمنين (عليه السلام) في مسجده ، وهو خارج لتهجّده في ليلة يرجى فيها مصادفة ليلة القدر فقتله ، فيا لله من قتيل ، واكرم به وبروحه من روح عرجت إلى الله بالبر والتقوى والإيمان والهدى والإحسان ، ولقد انطفأ به نوراً لله في أرضه ، لا يرضى (كذا) بعده ، وهدم ركناً من أركان الإسلام لا يشاد مثله ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ورحمه الله يوم ولد ويوم قتل ويوم يبعث حيّا ـ ثمّ بكى حتى اختلجت أضلاعه. ثمّ قال : ـ وقد أوصى بالإمامة إلى ابن رسول الله وابنه وسليله ، وشبيهه في خُلقه وهديه ، وإنّي لأرجو أن يجبر الله به ما وهى ، ويسدّ به ما انثلم ، ويجمع الشمل ، ويطفي به نيران الفتنة ، فبايعوه ترشدوا.

فبايعت الشيعة كلّها ، وهرب قوم فلحقوا بمعاوية » (١).

وأخذ ابن عباس يواصل جهوده في استتاب الأمر والأمن في عهد الخلافة الجديدة ، وقد أشار عليه زياد برأي فيه حيفٌ على الناس فلم يقبله ابن عباس. ونحن قد مرّ بنا أنّ زياداً كان عامله على فارس أرسله بأمر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين اضطرب أمر فارس فولاه عليها فضبطها غير أنّه يبدو ممّا رواه الحافظ نعيم بن حمّاد في كتاب الفتن (٢) أنّه قد أتى البصرة فاجتمع بابن عباس ـ ولعله أتاه معزياً بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وجرى حديث خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) فقال له : أتريد أن يستقيم لكم الأمر؟ قال ـ ابن عباس ـ : نعم ، قال : فاقتل فلاناً وفلاناً ثلاثة من أصحابه ، فقال له ابن عباس : أصلّوا الغداة اليوم؟ قال : نعم ، قال : فلا سبيل إليهم أراهم في ذمة الله ـ وفي رواية : (فلا والله ما إلى ذلك

____________

(١) تيسير المطالب / ١٩٦ ط بيروت سنة ١٣٩٥.

(٢) كتاب الفتن / ٩٤ و ٩٨ تح ـ سهيل زكار ط بيروت. و ١٣٩ برقم ٤٤٣ تح ـ عرفة ط المكتبة الحيدرية قم و ١٤٦ أيضاًً.

٣٤٤

سبيل) ـ فلمّا بلغ ابن عباس ما صنع زياد بعدُ. قال : ما أراه إلاّ قد كان أشار علينا بالذي هو رآه.

ولم يكن ابن عباس ممّن يقتل على الظنّة والتهمة أناساً من أهل القبلة ، لكن زياداً يرى ذلك في سبيل استقامة الأمور وإن خالف الشرع. ولا يعني ذلك أنّ ابن عباس كان غافلاً عن سبل الوصولية المقيتة ولكن دونها حاجز من تقوى الله. وهو في حزمه وعزمه لم تزل تساوره الشكوك في استقامة الأمور ما دام العدو اللدود يتربّص الدوائر ويتحيّن الفرص وقد وافته ، وزاد في قلق ابن عباس ما بلغه من اختراق معاوية لمجتمع المصرَين ـ الكوفة والبصرة ـ فأرسل إليهما جاسوسين ، رجلاً من حمير إلى الكوفة ، ورجلاً من بني القين إلى البصرة ، يكتبان له بالأخبار ، ويفسدان الرجال ، فدُلّ الإمام الحسن (عليه السلام) على الحميري عند لحام بن جرير ، فأخذه وقتله. ودُلّ ابن عباس على القيني وكان نازلاً في بني سليم بالبصرة فأخذه وقتله ، وكتب إلى معاوية :

أمّا بعد ، فإنك ودسّك أخا بني قين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الّذي ظفرت به من يمانيّتك لكما قال أمية بن الأسكر (١) :

لعمرك إنّي والخزاعيّ طارقاً

كنعجة عاد حتفها تتحفّر

أثارت عليها شفرة بكراعها

فظلّت بها من آخر الليل تنحر

شمتّ بقوم من صديقك أهلكوا

أصابهم يوم من الدهر أصفر

____________

(١) الأغاني ١٨ / ١٦٢ ط دار الكتب ، مقاتل الطالبين / ٥٣ ـ ٥٤ ط مصر وشرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ١٢ ط مصر الأولى و ١٦ / ٣٢ ط محققة.

٣٤٥

فأجابه معاوية : أمّا بعد ، فإنّ الحسن بن عليّ قد كتب إليَّ بنحو ممّا كتبت به ، وأنبأني بما لم أجز ظناً وسوء رأي وإنّك لم تصب مثلكم ومثلي ، ولكن مثلنا ما قاله طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر :

فوالله ما أدري وإنّي لصادق

إلى أيٍّ من يظنّني أتعذّر

أعنّف أن كانت زبينة أهلكت

ونال بني لحيان شرُّ فأنفروا

ولا أحسب أنّ أحابيل معاوية وأباطيله وصلت هذا الحد من إرسال جواسيسه يكتبون له بالأخبار كما يقول الرواة فما أحسبه بحاجة لأن يرسل من الشام مَن يتجسّس له بالكوفة والبصرة ، وله فيهما من عيون الجواسيس مَن يكفيه ما يبتغيه بدون حساب ، منذ أيام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهم في تزايد مستمر ، ولم ننس خبر ابن الحضرمي الّذي أرسله إلى البصرة ليفسد أهلها على أميرهم وإمامهم ، فلقي مصيره بنار الدنيا قبل نار الآخرة.

والّذي أراه أنّه أراد منهما مساومة الأذناب بإشاعة الإرهاب ، وحسبنا شاهداً على ذلك ما فعله بالكوفة وهي عاصمة الخلافة في محاولته اغتيال الإمام الحسن (عليه السلام) ، فما الّذي يمنعه من فعل ذلك في البصرة وهي ولاية تابعة للكوفة ، وفيها ابن عباس فهو وإن كان دون الإمام الحسن مقاماً ، لكنه ممثله في ثاني العراقين أكبر الأمصار التابعة لحكمه ، فإن تم اغتياله من قبل أذناب معاوية فقد تم له فتحٌ ليس دون فتح مصر من قبل.

روى الشيخ الصدوق ابن بابويه في كتابه علل الشرائع فقال : « دسّ معاوية إلى عمرو بن حريّث ، والأشعث بن قيس ، وإلى حجر بن الحجر (عمرو) وشبث بن ربعي ، دسيساً أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه : إنّك إن قتلت الحسن بن عليّ فلك مائتا ألف درهم ، وجند من أجناد الشام ، وبنت من بناتي ، فبلغ الحسن (عليه السلام) ذلك ،

٣٤٦

فاستلأم ولبس درعاً وكفرها (١) وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم إلاّ كذلك ، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة » (٢).

وإذا لم نقف على مثل خطته تلك في البصرة لاغتيال ابن عباس ، فلا يعني عدم محاولته لأنّه لم يصل الينا خبرها ، كيف وهو كان يحسب لابن عباس أيضاً حسابه كثاني عنصر يأتي بعد الإمام الحسن (عليه السلام) عليه أن يتخلص منه ، وحسبنا محاولته اختراق حدود ولايته في تهديده زياد ابن أبيه عامل ابن عباس على فارس.

فقد روى الطبري في تاريخه عن عمر بن شبة بسنده عن الشعبي قال : « كتب معاوية حين قتل عليّ (عليه السلام) إلى زياد يتهدّده فقام خطيباً فقال : العجب من ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق ورئيس الأحزاب كتب إليّ يتهددني وبيني وبينه ابنا عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ يعني ابن عباس والحسن بن عليّ ـ في تسعين ألفاً واضعي سيوفهم على عواتقهم ، لا ينثنون ، لئن خلص إليّ الأمر ليجدني أحمَز ضرّاباً بالسيف ... » (٣).

كتاب ابن عباس إلى الإمام الحسن (عليه السلام) :

ونتيجة لتمادي الأمور سوءاً حين كثرت تجاوزات معاوية ، كتب ابن عباس إلى الإمام الحسن (عليه السلام) كتاباً يُعتبر بحق من خيرة كتبه بياناً وتبياناً ، يحرّضه على إنتهاج سياسة الترغيب مع الأولياء ، والترهيب مع الأعداء ، ولنقرأ نصه كما ذكره المؤرخون لنتملّى معانيه ، ونتفهّم مبانيه ، ونتعامل معه كوثيقة تاريخية ذات دلالة عالية ، فهو خلاصة تجاربه في الحياة ، ونتيجة دربته وحنكته السياسية ، عاشها في السلم وفي الحرب.

____________

(١) كفر عليه يكفر غطّاه والشيء ستره (قاموس).

(٢) علل الشرائع للصدوق ١ / ٢٨٣ منشورات مكتبة الشريف الرضي بقم.

(٣) تاريخ الطبري ٧ / ١٤ افست ليدن ، و ٦ / ٩٧ ط الحسينية ، و ٥ / ١٧٠ ط دار المعارف.

٣٤٧

وأقدم من وقفت على رواته من المؤرخين هو شيخهم أبو مخنف المتوفى سنة ١٥٧ هـ ، وعوانة بن الحكم ١٥٨ هـ (١) ، كما أشار إلى ذلك البلاذري ٢٧٩ هـ فقال : « ثمّ مكث ـ الحسن (عليه السلام) ـ أياماً ذات عدد يقال : خمسين ليلة ويقال : أكثر منها ـ وهو لا يذكر حرباً ولا مسيراً إلى الشام. وكتب إليه عبد الله بن عباس كتاباً يعلمه فيه أنّ عليّاً لم يجب إلى الحكومة إلاّ وهو يرى في أنّه إذا حكم بالكتاب يردّ الأمر إليه ، فلمّا مال القوم إلى الهوى فحكموا به ونبذوا حكم الكتاب ، رجع إلى أمره الأوّل ، فشمّر للحرب ودعا إليها أهل طاعته ، فكان رأيه الّذي فارق الدنيا عليه جهاد هؤلاء القوم ، ويشير عليه أن ينهد إليهم وينصب لهم ولا يعجز ولا يهن » (٢). هذه إشارة البلاذري.

ولكنه في ترجمة ابن عباس ذكره مختصراً بسنده عن عوانة قال : « كتب ابن عباس إلى الحسن بن عليّ : إن المسلمين قد ولّوك أمورهم بعد عليّ ، فشمّر لحربك ، وجاهد عدوك ، ودار أصحابك ، واشتر من الظنين دينه ولا تسلم دينك ، ووال أهل البيوتات والشرف تستصلح عشائرهم ، واعلم أنّك تحارب من حادّ الله ورسوله ، فلا تخرجن من حقّ أنت أولى به ، وإن حال الموت دون ما تحبّ » (٣). وبنحو هذا رواه ابن قتيبة ٢٧٦ (٤) ، وبأخصر من ذلك رواه ابن عبد ربه (٥) ، ولم أعرف مغزى اختصارهم جميعاً وإعراضهم عن ذكر جميعه.

____________

(١) نكت الهميان للصفدي / ٢٢٢.

(٢) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) رقم / ٤٣.

(٣) أنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس) رقم / ١٠٧.

(٤) عيون الأخبار ١ / ١٤ ط دار الكتب.

(٥) العقد الفريد ١ / ٣٠ و ٤ / ٣٦١ تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.

٣٤٨

ولكن أوفى من رواه هو المدائني ٢٢٥ هـ ، وعنه ابن أبي الحديد ٦٥٥ هـ في شرح النهج ، وروايته تكاد تكون مطابقة لما رواه ابن أعثم ٣١٤ ، وها نحن نذكر الكتاب نقلاً عنه بإضافة ما في رواية المدائني نقلاً عن شرح النهج لابن أبي الحديد (١) جاعلين ذلك بين قوسين للتمييز.

« ذكر كتاب عبد الله بن عباس من البصرة إلى الحسن بن عليّ (رضي الله عنهما)

قال : فلمّا مضى عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى سبيل الله اجتمع الناس إلى ابنه الحسن ، فبايعوه ورضوا به وبأخيه الحسين من بعده.

قال : فنادى الحسن في الناس فجمعهم في مسجد الكوفة ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أيها الناس إنّ الدنيا دار بلاء وفتنة ، وكلّ ما فيها فائل إلى زوال واضمحلال ، وقد نبأنا الله عنها لكي نعتبه وتقدم إلينا فيها بالوعيد لكي نزدجر ، فلا يكون له علينا حجة بعد الإعذار والإنذار ، فازهدوا فيما يفنى ، وارغبوا فيما يبقى ، وخافوا الله في السر والعلانية ، ألا وقد علمتم أنّ أمير المؤمنين عليّاً (رحمه الله) حياً وميتاً عاش بقدر ومات بأجل ، وإنّي أبايعكم على أن تحاربوا من حاربت وتسالموا من سالمت.

فقال الناس : سمعنا وأطعنا ، فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين.

قال : فأقام الحسن بالكوفة بعد أبيه شهرين كاملين لا يُنفّذ إلى معاوية أحداً ، ولا ذكر المسير إلى الشام.

قال : وإذا بكتاب عبد الله بن عباس قد ورد عليه من البصرة فإذا فيه :

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد٤ / ٨ ط مصر الأولى و ١٦ / ٢٣ ط محققة.

٣٤٩

لعبد الله الحسن أمير المؤمنين من عبد الله بن عباس ، أمّا بعد يا بن رسول الله فإنّ المسلمين ولّوك أمرهم بعد أبيك (رضي الله عنه) (عليّ (عليه السلام » وقد أنكروا أمر قعودك عن معاوية ، وطلبك لحقك ، فشمّر للحرب ، وجاهد عدوّك ، ودار (وقارب) أصحابك ، (واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك ديناً) وولّ (ووال) أهل البيوتات والشرف ما تريد من الأعمال ، فإنك تشتري بذلك قلوبهم (وتستصلح به عشائرهم ، حتى يكون الناس جماعة ، فإنّ بعض ما يكره الناس ـ ما لم يتعدّ الحقّ وكانت عواقبه تؤدي إلى ظهور العدل وعز الدين ـ خير من كثير ممّا يحبّه الناس ، إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور وذلّ المؤمنين ، وعز الفاجرين) واقتد بما جاء عن أئمّة العدل من تأليف القلوب والاصلاح بين الناس (فقد جاء عنهم أنّه لا يصلح الكذب إلاّ في حرب أو إصلاح بين الناس) واعلم بأنّ الحرب خدعة ، ولك في ذلك سعة (إذا) ما كنت محارباً ما لم تبطل حقاً) ما لم ينتقص مسلماً حقاً هو له.

(واعلم) وقد علمت أن اباك عليّاً إنما رغب الناس عنه (وصاروا) إلى معاوية ، لأنّه واسى بينهم في الفيء ، وسوّى بينهم في العطاء ، فثقل ذلك عليهم.

واعلم أنك تحاربُ من قد حارب الله ورسوله (في ابتداء الإسلام) حتى أظهره الله أمره ، فلمّا أسلموا ووحدّوا الربّ ، ومحق الله الشرك ، وأعزّ الدين ، وأظهروا الإيمان ، وقرؤا القرآن وهم بآياته مستهزؤن ، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى ، وأدّوا الفرائض وهم لها كارهون ، فلمّا رأوا أنّه لا يعزّ في هذا الدين إلاّ الأتقياء الأبرار ، والعلماء الأخيار ، توسّموا أنفسهم بسيماء الصالحين ، ليظن بهم المسلمون خيراً ، وهم عن آيات الله معرضون) فما زالوا بذلك حتى شركوهم في

٣٥٠

أماناتهم وقالوا : حسابهم على الله ، فإن كانوا صادقين فإخواننا في الدين ، وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين) وقد مُنيت أبا محمّد بأولئك القوم وأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمر إلاّ غيّا ، ولا زادهم في ذلك لاهل الدين إلاّ غشا (مقتا) فجاهدهم رحمك الله ، ولا ترضى منهم بالدنية (ولا تقبل خسفا) فإن أباك عليّاً (رضي الله عنه) لم يجب إلى الحكومة في حقه حتى غُلب على أمره فأجاب ، وهو يعلم (وانهم يعلمون) أنّه أولى بالأمر ان حكم القول بالعدل ، فلمّا حكموا بالهوى رجع إلى ما كان عليه ، وعزم على حرب القوم ، حتى أتى عليه (وافاه) أجله ، فمضى إلى ربه (رحمه الله) ، فانظر رحمك الله أبا محمّد ولا تخرجن من حقّ أنت أولى به من غيرك (حتى يحول الموت) إن أتاك دون ذلك.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

قال ابن أعثم : فلمّا ورد كتاب عبد الله بن عباس وقرأه سرّه ذلك ، وعلم أنّه قد بايعه (؟) وأنّه قد أمره بما يجب عليه في حقّ الله. دعا بكاتبه وأمره أن يكتب إلى معاوية ـ وذكر الكتاب بطوله » (١).

وقال الخطي : « لمّا وصل كتاب عبد الله بن عباس إلى الإمام الحسن (عليه السلام) وقرأه قال : لقد نصح ابن عباس فيما يراه ، ولكن هيهات أن أخالف سنّة سنّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمير المؤمنين بعدهما طلباً لالتماس دنيا ، فإنّ في الحقّ سعة عن الباطل » (٢).

وأنا على تحفظ من رواية الخطي الّتي لم يسندها إلى مصدر لنرى مدى صحته ، ومع ذلك لو أغمضنا عنه لم نر في كتاب ابن عباس أيّ مخالفة لسنّة

____________

(١) الفتوح ٤ / ١٤٨ ـ ١٥٠ ط دار الندوة الجديدة أفست حيدر آباد ط الأولى.

(٢) المقتل للخطي / ٩٩ ط بمبىء.

٣٥١

رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تعامله مع أعدائه الّذين حاربوه في ابتداء الإسلام كأبي سفيان وابنه معاوية وبقية المشركين ممّن حاربوا الله ورسوله ، ولمّا ظهر أمر الله وهم له كارهون دخلوا في حظيرة الإسلام طوعاً وكرهاً ، فعاملهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمنتهى التلطف وتألّفهم بالعطاء ، وفاضل بينهم فيه ، وغض عينه عن مساويهم وسوابقهم السيئة ، حتى فرض لهم سهماً في الزكاة ، سوى ما كان يمنحهم من الغنائم ، وقصة غنائم هوازن خير شاهد على ذلك ، وقد أثارت سخط الأنصار ، فلم يتراجع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن موقفه غير انّه استرضى الأنصار بحضوره عندهم وسلّ السخيمة من صدورهم فرضوا.

فابن عباس في كتابه يطلب من الإمام الحسن (عليه السلام) أن ينهج ذلك النهج ، وضربه المثل بما جاء عن أئمّة العدل جده وأبيه فيما تفرضه ظروف الحرب ، وأنّ الحرب خدعة ، وله فيها سعة ما لم يبطل حقاً ، وينتقص مسلماً حقاً هو له.

ولمّا كان الإمام الحسن (عليه السلام) في حالة حرب مع معاوية منذ أيام أبيه ، ولم يتغيّر الحال ، فله أن يستعمل أساليب الغلبة ما وسعه ذلك ، وحتى التفاضل في العطاء الّذي رآه ابن عباس ناجحاً في ذلك الظرف لاستمالة قلوب الزعماء لم يخرج عن حدود تألف القلوب الّذي سنّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع المؤلفة قلوبهم بذلك ، فأنا من رواية الخطى على تحفظ.

ومهما يكن فقد سبق السيف العذل وجاوز الحزام الطبيَين ، فإنّ المجتمع الكوفي لم يكن في هواه على وتيرة واحدة ، وشرائحه المختلفة والمتباينة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كما قلناه آنفاً تكفي لزعزعة الثقة بهم. فكيف للإمام الحسن (عليه السلام) أن يجمع كلّ أولئك تحت خيمة واحدة على ما بينهم من

٣٥٢

التنافر والعداء بالرغم من انتمائهم البلدي ولكن ليس بالعقدي ، ومع ذلك فقد بذل جهداً كبيراً في سبيل لمّ الشمل وجمع الكلمة ، وقد كتب إلى معاوية يدعوه إلى مبايعته ، وردّ عليه معاوية بمثل ذلك ، وأعلمه الرسل باستعداد معاوية لغزو العراق ، ثمّ خروجه في ستين ألفاً يريد العراق. فعندها كتب الإمام الحسن (عليه السلام) إلى عمّاله يأمرهم بالإحتراس ثمّ ندب الناس إلى حرب معاوية (١).

ولنترك الحديث عن بقية المأساة فإنّها بالغة الأسى فمن تخاذل وتقاعس عن الخروج إلى خيانة بعد خيانة ، وجناية بعد جناية حتى الّذين أرسلهم الإمام الحسن (عليه السلام) مقدمة لجيشه مع ابن عمه عبيد الله بن العباس وقيس بن سعد فقد صار الأشراف يتسللون لواذاً إلى معاوية وهو قريب منهم في عسكره ، فكتب قيس إلى الإمام الحسن وهو بالمدائن بذلك فخطب الناس وقال : (يا أهل العراق ما أصنع بجماعتكم معي ، هذا كتاب قيس بن سعد يخبرني بأن أهل الشرف منكم قد صاروا إلى معاوية ، أما والله ما هذا بمنكر منكم ، لأنكم أنتم الّذين أكرهتم أبي يوم صفين على الحكمين ، فلمّا أمضى الحكومة وقبل منكم اختلفتم ، ثمّ دعاكم إلى قتال معاوية ثانية فتوانيتم ، ثمّ صار إلى ما صار إليه من كرامة الله إياه ، ثمّ إنكم بايعتموني طائعين غير مكرهين ، فأخذت بيعتكم وخرجت في وجهي هذا والله يعلم ما نويت فيه ، فكان منكم إليَّ ما كان ، يا أهل العراق فحسبي منكم لا تعزوني في ديني فإني مسلّم هذا الإمر إلى معاوية) (٢).

____________

(١) أنظر الفتوح لابن أعثم ٤ / ١٥٣ ط دار الندوة افست عن طبعة حيدر اباد.

(٢) نفس المصدر ٤ / ١٥٧.

٣٥٣

قال اليعقوبي : « وكان معاوية يدسّ إلى معسكر الحسن من يتحدّث أنّ قيس ابن سعد قد صالح معاوية وصار معه ، ووجّه إلى عسكر قيس من يتحدّث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه ، ووجّه معاوية إلى الحسن المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمن بن اُم الحكم وأتوه وهو بالمدائن نازل مضاربه ثمّ خرجوا من عنده وهم يقولون ويُسمعون الناس : إنّ الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكّن به الفتنة وأجاب إلى الصلح. فأضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم ، فوثبوا بالحسن وانتهبوا مضاربه وما فيها ، فركب الحسن (عليه السلام) فرساً له ومضى في مظلم ساباط وقد كمن له الجراح بن سنان الأسدي فجرحه بمغول في فخذه ، وقبض على لحية الجراح ثمّ لواها فدقّ عنقه ، وحُمل الحسن (عليه السلام) إلى المدائن وقد نزف نزفاً شديداً ، واشتدت به العلة فافترق عنه الناس ، وقدم معاوية العراق فغلب على الأمر والحسن عليل شديد العلة. فلمّا رأى الحسن أن لا قوة به وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له ، صالح معاوية وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : (أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وقد سالمت معاوية ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (١) » (٢).

أمر الخلافة في وثيقة الصلح :

لقد كانت وثيقة الصلح الّتي أمضاها معاوية وأشهد عليها ، قد نصت صراحة على إرجاع الأمر من بعده إلى الإمام الحسن (عليه السلام). ، وجاء في جملة من المصادر : « وليس لمعاوية أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده ، والأمر بعده

____________

(١) الأنبياء / ١١١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١ ط الحيدرية.

٣٥٤

للحسن » (١). وقال ابن عبد البر : « واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده ، فالتزم بذلك كلّه معاوية » (٢).

ولكن معاوية قد استهان بهذا الشرط اُسوة بجميع بقية الشروط ، ولم يتحرّج من إعلانه ذلك في خطبته على ملأ من المسلمين فقال : « ألا وإنّ كلّ شيء أعطيت الحسن بن عليّ تحت قدميَّ هاتين لا أفي به » (٣).

ونحن إذا أردنا أن نحاسب رجال الإسلام السني على المعنى الّذي صاروا ينادون به تبريراً لحكومة الحاكمين ، وذلك هو مبدأ الشورى ، نجدهم عاجزين عن إثباته ولو لمرة واحدة. وفي يوم من الأيام في تاريخ حكومات الإسلام ، إذ أنّ معنى (الشورى) هو حقّ اختيار الحكام متروك للمسلمين ، وذلك فيه أيضاً من الفراغات ما يعجزون عن سدها ، إذ تبقى أساليب الاختيار مجهولة ، ويبقى اختلاف الرأي في جواز الثورة على الظالمين وعدمه يشكل عائقاً عن تطبيق مبدأ الشورى كما ينبغي أن يكون ، لأن من أكبر العوائق الطرح الّذي أحاطوه بأطار من قداسة الحديث النبوي الشريف : (أطعه وإن ضرب رأسك) (٤) وهو طرح زائف لاكته ألسنة وعاظ السلاطين كاستهلاك محلي بحجة اتقاء الفتنة وتبريراً لأعمال الحاكمين الظالمين ، لذلك رفض الشيعة طرح الفكر السياسي السني في مسألة الخلافة ، والتزموا بمبدأ النص الّذي طرحه القرآن وبلّغه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث

____________

(١) أنظر الاصابة ١ / ٣٢٩ ، وذخائر العقبى / ١٣٩ ، وتهذيب الأسماء واللغات ١ / ١٩٩.

(٢) الاستيعاب ١ / ٣٧٠.

(٣) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد (رواية السبيعي).

(٤) في صحيح مسلم كتاب الامارة ، باب الأمر بلزوم الجماعة ... في حديث حذيفة قال صلى الله عليه (وآله) وسلّم : تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ٦ / ٢٠ ط محمّد عليّ صبيح.

٣٥٥

قال الله سبحانه وتعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١) ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٣) ، إلى غير ذلك من آي القرآن المجيد. مضافاً إلى أحاديث الرسول الكريم وبياناته القولية والعملية في تعيين الإمام والخليفة من بعده.

موقف ابن عباس من الصلح :

مع المسيرة المتأنية بين نصوص السير والأخبار التاريخية في فترة خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) ، والّتي استدام حكمه فيها طيلة ستة أشهر قبل وقوع الصلح ، نجد أنفسنا كقرّاء واعين ، أو باحثين متتبعين ، لم تخطئنا العين المدققة ، إدراك الأسباب الّتي حملت الإمام الحسن (عليه السلام) على الصلح والمسالمة ، كما لم تخطئ العين معرفة الراضين من أصحابه بذلك ومعرفة الساخطين. مع أنّه (عليه السلام) في منظورهم جميعاً كان هو الإمام الّذي تجب طاعته سواء حارب أو سالم ، كما أنّه (عليه السلام) في منظور هؤلاء وهؤلاء بل ومنظور الأمة الّتي بايعته وخرجت معه لحرب معاوية ، كان القائد العسكري المحنّك ، الّذي يجب إتباعه عند خوض المعركة ، بعد أن كان قد خطط لها التخطيط السليم الدقيق. أو عدم خوضها ما دامت النتيجة محكومة بالفشل سلفاً. كما حدث فعلاً ذلك عند مباغتة عنصر

____________

(١) الأحزاب / ٣٦.

(٢) المائدة / ٩٢.

(٣) المائدة / ٥٩.

٣٥٦

المفاجأة في تسلّل الأشراف إلى معاوية! كما مرت الإشارة إلى ذلك ، ثمّ مكاشفة الباقين في هزال ولائهم! كما وقد مرّ الدليل على ذلك ، ومن قبل ومن بعد ونشاط الإعلام المعادي المعاوي في خلخلة المعنويات المهزوزة! وقرأنا بعض الشواهد عليه فماذا كان يجب أن يكون الموقف من أولئك الراضين وأولئك الساخطين؟ غير التسليم ، أليس فيما تقدم ما يكفي لإمام معصوم عند من يدين له بالطاعة بالإمامة؟ وما يكفي له حتى عند من يراه قائداً عسكرياً فيجب عليه الطاعة أيضاً؟ فله إذن ومن حقه أن يتخذ ـ وهو الإمام وهو القائد ـ ما يمليه عليه الموقف المتأزم ، من قرار حرب أو سلم ، وبعد أن أصبح واضحاً عنده خسارة الحرب مهما بذل من جهد هو والمخلصون من شيعته ، وأن الشرّ قد دنا فتدلى ، وبانت النذُر في الشعارات الّتي أطلقها الخوارج الّذين كانوا في جيشه ، والبيانات الّتي تلقفها الرواة فحفلت بها السير ارادة القبض عليه وتسليمه إلى معاوية.

فهل بعد ذلك كلّه من فرصة لخوض حرب مع معاوية محكوم عليها سلفاً بالفشل؟ إذن لا بدّ من المسالمة حقناً للدماء وبقياً على الصفوة الباقية ، هكذا فقد تمّ الصلح على شروط ، لكن لم يف معاوية بواحد منها.

ولنعد إلى البصرة حيث كان ابن عباس لا يزال مقيماً بها وأميراً عليها. وعلى توابعها من بلاد فارس وكور الأهواز الخمس ومنها فساوداربجرد الّتي ورد ذكرها في وثيقة الصلح على أن يُحمل خراجها للإمام الحسن (عليه السلام) ، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك.

٣٥٧

أمّا عن موقفه من الصلح فلم أقف على ما يمكن الإستناد إليه ، إلاّ أنّ في دسائس معاوية الّتي طالت الكوفة والبصرة فدسّ إليها رجلين رجلاً من حمير إلى من الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة فدُلّ عليهما وقتلا. كما مرت الإشارة إلى ذلك وفوق هذا ما يشير إلى أنّ معاوية قد استطالت ذراعه فأراد أن يتناول بها زياد بن أبيه وهو عامل ابن عباس على فارس فكتب إليه يتهدّده فقام زياد خطيباً فقال : « العجب من ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق ، ورئيس الأحزاب كتب إليّ يتهددني وبيني وبينه ابنا عم رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ـ يعني ابن عباس والحسن بن عليّ ـ في تسعين ألفاً واضعي سيوفهم على عواتقهم لا ينثنون ، لئن خلص إلي الأمر ليجدني أحمز ضراباً بالسيف » (١).

قال الشعبي في حديثه : « فلم يزل زياد بفارس حتى صالح الحسن (عليه السلام) معاوية ، وقدم معاوية الكوفة فتحصّن زياد في القلعة الّتي يقال لها قلعة زياد » (٢).

ومن المتيقن أنّ زياداً لم يكن ليردّ على تهديد معاوية له من فراغ ، بل كانت بينه وبين معاوية حاميتان ـ الكوفة والبصرة ـ وفيها تسعون ألفاً ، واضعي سيوفهم على عواتقهم لا ينثنون. وانا أحسب أنّ ذلك من طفح الكيل عند زياد ، وإلا فأين هم في الدفاع عن إمامهم الحسن (عليه السلام) ، أوليس حامية الكوفة هي الّتي خانته وغدرت به وانتهبت رحله وسلبته حتى مطرفه؟ ولم تكتف بذلك حتى طعنته في فخذه ، أو ليس أشرافها الّذين كاتبوا معاوية ان شاء قبضوا على الحسن

____________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٩٧ ط الحسينية.

(٢) نفس المصدر.

٣٥٨

وسلموه إليه مكتوفاً؟ فحمله ذلك كلّه على الموادعة والصلح ، أمّا حامية البصرة فلم يذكر عنها شيء في ذلك الحدث ، لذلك لم نستطع أن ندينهم بشيء من إصر الخذلان ، لكن سيأتي لهم مع ابن عباس موقف لا يخلو من إدانة.

أمّا عن موقف ابن عباس من الصلح فلم أقف على ما يشير إليه كما قلنا ، ومن الغرابة انا لم نجد خبراً يشير إلى أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كتب إليه في ذلك ، وهذا من الغرابة بمكان ، وأغرب من ذلك كلّه أنا لم نقف على خبر يثبت استدعاء الإمام الحسن (عليه السلام) مقاتلة أهل البصرة للإشتراك مع الكوفيين في حرب معاوية ، كما كان الشأن في ذلك أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب صفين وحرب النهروان كما مرّ. وهذه نقطة لم يبحثها من كتب عن الإمام الحسن (عليه السلام) وهي حريّة بالبحث ، وليس من الدقة تجاهلها. وقد حاولت كثيراً أن أجد سنداً تاريخياً يصح الاعتماد عليه في المقام فلم أجده. ويبقى المجال للتخمين والظن ، وهذا لا يغني عن الواقع والحقّ شيئاً.

ولا ينقضي العجب من إغفال التاريخ وصمته المطبق إذ لم يذكر شيئاً كان بين الإمام الحسن (عليه السلام) وعامله عبد الله بن عباس بعد كتاب ابن عباس إليه في الحضّ على مداراة أهل البيوتات والشرف وعلى محاربة معاوية ، ولم يذكر التاريخ جواباً من الإمام الحسن (عليه السلام) على ذلك الكتاب ، فهل يعقل أن لا يكون لذلك الكتاب من جواب؟! وهكذا يستمر الصمت المطبق فلا نقف على كلمة تدلّنا على نحو اتصال أو مراجعة في شأن بين ابن عباس وبين الإمام الحسن (عليه السلام).

٣٥٩

وأغرب ما رأيت في المقام ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وعنه الهيثمي عن عيسى بن زيد قال : « استأذن الأشعث بن قيس على معاوية بالكوفة فحجبه مليّاً وعنده ابن عباس والحسن بن عليّ فقال : أعن هذين حجبتني يا أمير المؤمنين ، تعلم أنّ صاحبهم جاءنا فملأنا كذباً يعني عليّاً.

فقال ابن عباس : والله عنده مهرة جدك وطعن في أست أبيك.

فقال : ألا تسمع يا أمير المؤمنين ما يقول؟

قال : أنت بدأت.

قال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم » (١).

أقول : لقد كفانا قول الهيثمي مؤنة الرد والمناقشة في هذا الخبر. مضافاً إلى ما حكاه ابن حجر في الإصابة (٢) ( عن خليفة وأبي نعيم وغير واحد انّ الأشعث مات بعد قتل عليّ بأربعين ليلة و ... ).

إذن فما دمنا لم نجد نصاً يشير إلى حضور قول أو عمل من ابن عباس في مسألة الصلح؟ وما دمنا نفتقد الحجة في ذلك ، فعلينا التريّث في تصنيف ابن عباس مع الراضين ، هو أو مع الساخطين. لكنا قد نتبين جواب ذلك التساؤل من خلال كتاب معاوية إليه وجوابه على ذلك الكتاب ، وهو كتاب له دلالته في أنّ ابن عباس لم يكن ـ في رأي معاوية على الأقل ـ ممّن تشمله وثيقة الصلح لتعصم دمه.

قال ابن أبي الحديد : « وكتب معاوية إلى ابن عباس عند صلح الحسن (عليه السلام) له كتاباً يدعوه فيه إلى بيعته ويقول له فيه : ولعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن

____________

(١) مجمع الزوائد ٧ / ٢٤٧.

(٢) الإصابة ١ / ١٦.

٣٦٠