موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

فإن علمتَ أحداً هو خير من أبناء الطلقاء فأتني به ، فخرج الأشتر وقد زال ما في نفسه ... اهـ » (١).

هذه هي الرواية المجهولة الهوية راوياً ومصدراً من قبل ابن أبي الحديد ، ولم أقف عليها عند المؤرخين قبله بهذا اللفظ ، وصار هو المصدر لمن رواها بعده ، كالمجلسي في البحار (٢)؟ ولم يعقّب على الرواية بشيء ، مع أنّها تستبطن بطلانها ـ فيما أرى ـ بأدنى التفات ومن دون عناء كبير ، وذلك في مساواة الإمام بين بني العباس من ولاته وبين أبناء الطلقاء ، فقد ورد وصفهم بذلك مرتين ، مع أن لفظ الطلقاء إنّما أطلقه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم فتح مكة على مشركي قريش حين قال لهم منّاً منه عليهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، وكان عمه العباس ممّن هاجر إليه قبل الفتح فلقيه بالسقيا أو بالجحفة ثمّ عاد معه ، فهو ليس من هؤلاء الطلقاء قطعاً وباتفاق المؤرخين ، فكيف نصدّق الرواية في وصف الإمام لبني عمّه بالطلقاء؟

نعم إذا أخذنا معنى الطلقاء بمفهومه العام كما فسّره ابن أبي الحديد في شرح النهج في شرح قول الإمام (عليه السلام) في كتابه إلى معاوية : (ولا المهاجر كالطليق) حيث قال : « فإن قلت فهل معاوية من الطلقاء؟ قلت نعم ، كلّ من دخل عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكة عنوة بالسيف فملكه ثمّ منّ عليه عن إسلام او غير إسلام فهو من الطلقاء ممّن لم يسلم كصفوان بن أمية ومن أسلم كمعاوية بن أبي سفيان ، وكذلك كلّ من أسر في حرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ امتنّ عليه بفداء أو بغير فداء فهو طليق فمن امتن عليه بفداء كسهيل بن عمرو ،

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٤١٦ ط مصر الاُولى.

(٢) بحار الأنوار ٩ / ٧٢٧ ط تبريز.

٢١

وممّن امتنّ عليه بغير فداء أبو عزة الجمحي وممّن امتن عليه معاوضة أي اطلق لأنّه بأزاء أسير من المسلمين عمرو بن أبي سفيان بن حرب كلّ هؤلاء معدودون من الطلقاء ... اهـ » (١).

فعلى ما ذهب إليه المعتزلي يمكن عدّ العباس من الطلقاء باعتبار أسره في حرب بدر هو وعقيل ونوفل بن الحارث وحليف لهم وقد أمره رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأن يفدي نفسه وهؤلاء ففداهم.

لكن لم نسمع ولم نقرأ أنّ أحداً زعم أنّ عقيلاً من الطلقاء أو نوفلاً منهم ، وهذا يكشف أنّ يد السياسة لعبت دوراً في دمغ أبناء العباس بأنّهم من أبناء الطلقاء. هذا أوّلاً.

وثانياً : سيأتي في مكاتبات جرت بين ابن عباس ومعاوية في صفين ومحاورات بعدها في أيام تولي معاوية للسلطة ، دمغ معاوية بوصفه من الطلقاء وأبناء الطلقاء ولم يردّ معاوية في شيء منهما الحجر على ابن عباس بأنّك أيضاً من أبناء الطلقاء.

وثالثاً : هل كان الإمام ملزماً بتولية أبناء الطلقاء فقط دون غيرهم من الأكفاء من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، حتى يقول للأشتر فإن علمتَ أحداً هو خير من أبناء الطلقاء منهم فإتني به (؟؟).

ورابعاً : نعود إلى الدلالة اللفظية في كلمة (والعراق) فهل كانت ولاية البصرة هي ولاية كلّ العراق؟

ثمّ في قول مالك : « فلماذا قتلنا الشيخ بالأمس » هل أن مالكاً كان من قتلة عثمان؟ فهو كيف يعترف الآن بذلك بعد أن كان بالأمس يدين الناكثين بدمه؟

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٤٢٢.

٢٢

ولو سلّمنا أنّه كان مع الثوار وممّن أجلب على عثمان ، فهل صار الآن يسمّيه بالشيخ؟ وهو تعبير محفوف بالاحترام ـ بعد أن كانت تسمية الثوّار له بنعثل!

إنّها تناقضات تنفي الركون إلى الرواية جملة وتفصيلاً.

ومن الغريب أن أقرّ بعض المحدثين في كتاباتهم عن مالك فذكر المقولة وكأنّها ثابتة ثمّ صار إلى انتزاع العذر له بوجه وآخر ، مع أنّه لا يخفى خبث الراوي المجهول حين ضرب بحجر واحد ثلاثة حقول عصافير! فقائد كالأشتر ناقم على إمامه تولية ابن عمه ، وإمام يعتذر منه ويتلطف معه ، ووالٍ كابن عباس صار من أبناء الطلقاء بشهادة ابن عمه؟ فماذا يريد زعانفة الأمويين بعد هذا؟

نعم ليس من دخان إلاّ ووراءه نار ـ كما يقولون ـ وأحسب أنّ منشأ انتزاع ما ذكره ابن أبي الحديد هو ما أخرجه ابن سعد في الطبقات ، قال ـ ابن سعد ـ : « أخبرنا أبو عبيد عن مجالد عن الشعبي وغيره قال : أقام عليّ بعد وقعة الجمل بالبصرة خمسين ليلة ، ثمّ أقبل إلى الكوفة واستخلف عبد الله بن عباس على البصرة ، ووجّه الأشتر على مقدمته إلى الكوفة ، فلحقه رجل. فقال : من استخلف أمير المؤمنين على البصرة؟ قال : عبد الله بن عباس ، قال : ففيم قتلنا الشيخ بالمدينة أمس ، قال : فلم يزل ابن عباس على البصرة ...

وقد علّق السُلمي على الخبر فقال : إسناده ضعيف. مجالد بن سعيد ليس بالقوي ... الشعبي ... ثقة مشهور » (١).

____________

(١) طبقات ابن سعد ١ / ١٧٥ تح ـ د. محمّد صادق السٌلمي.

٢٣

أقول : فإن كان مجالد بن سعيد ليس بالقوي ـ فيما يرى ـ فانّ الشعبي ـ فيما أرى ـ ناصبي كذاب تالف ، ولا أتجنّ عليه في تكذيبه فإنّه قال : « من زعم أنّه شهد الجمل من أهل بدر إلاّ أربعة فكذّبه ، كان عليّ وعمّار في ناحية وطلحة والزبير في ناحية » (١) مع أنّه قد روى الذهبي وغيره قول المطلّب بن زياد عن السُدي : « شهد مع عليّ يوم الجمل مائة وثلاثون بدرياً وسبعمائة من أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) » (٢) فمن هو الكذّاب الأشر؟!

ومع ذلك فلم يروَ لنا اعتذار الإمام وملاطفته وما جرى بينه وبين الأشتر من كلام كما مر عن ابن أبي الحديد في الرواية المجهولة الهويّة!!

وذكرها الطبري في تاريخه في خبر عن كليب الجرمي قال فيه : « واستعمل ـ عليّ ـ عبد الله بن عباس وهو يريد أن يقيم حتى يُحكم أمرها ، فأمرني الأشتر أن اشتري له أثمن بعير بالبصرة ففعلت فقال إئت به عائشة واقرئها مني السلام ففعلت فدعت عليه وقالت : اردده عليه ، فأبلغته فقال : تلومني عائشة ان أفلتّ ابن اختها. وأتاه الخبر باستعمال عليّ ابن عباس فغضب وقال : على ما قتلنا الشيخ إذاً ، اليمن لعبيد الله ، والحجاز لقثم ، والبصرة لعبد الله ، والكوفة لعليّ ، ثمّ دعا بدابته فركب راجعاً ، وبلغ ذلك عليّاً فنادى الرحيل ، ثمّ أجدّ السير فلحق به ، فلم يُره أنّه قد بلغه عنه ، وقال : ما هذا السير سبقتنا ، وخشي إن تُرك والخروج أن يوقع في أنفس الناس شراً » (٣).

____________

(١) العقد الفريد ٤ / ٣٢٨.

(٢) سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٣٩ ط دار الفكر.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ١٩٤ ط الحسينية.

٢٤

وهذا الّذي ذكره الطبري مضافاً إلى جهالة (شيوخ) في اسناده (١) ، فهو لا يلائم ما ذكره ابن أبي الحديد ، كما لا يتفق وما رواه ابن سعد. ففي رواية ابن أبي الحديد : « أحضره الإمام ولاطفه ... الخ » ، وفي رواية ابن سعد : « ليس من ذلك شيء ، بل أنّ الأشتر كان خرج على مقدمة الإمام وبأمر منه فبلغه خبر تولية ابن عباس فقال ما قال » ، وفي رواية الطبري : « كان الأشتر بعد حاضراً في البصرة فلمّا بلغه خبر التولية خرج مغاضباً فأدركه الإمام ... ».

وهكذا نجد خبر المغاضبة مهلهلاً سنداً ومتناً ، ولعل من أفظع ما قرأت عن الأشتر ما رواه عمر بن شبة في كتابه تاريخ المدينة قال : « حدّثنا معمر بن بكار ابن معمر قال حدّثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان قال : جاءت امرأة الأشتر إلى عليّ (رضي الله عنه) فقالت : يا أمير المؤمنين سمعت من عدو الله مقالة ما وسعني القيام معه عليها.

قال : وماذا سمعتِ؟ قالت سمعته يقول : قتلنا بالأمس خير خلق الله واستعملنا شر خلق الله ، يعنيك يا أمير المؤمنين. قال : فلم يزل في نفسي عليه حتى هاج هيج مصر ، فقال عليّ (رضي الله عنه) : من لها؟ واستشار ابن عباس (رضي الله عنه) فقال : الأشتر ، وكيف به مع ما قد كان.

قال احمل العبد على الفرس ، فإن هلك هلك ، وإن ملك ملك.

قال : فبعثه على ذلك ، فلمّا أتاه مصابه قال : بالانف لا بالفم » (٢).

فهذا الخبر مضافاً إلى وجود مجهول مثل معمر بن بكار ، ومطعون فيه كإبراهيم بن سعد الّذي كان مغنّياً ومولَعاً به فليم في ذلك فانزعج على المحدثين

____________

(١) نفس المصدر / ١٩٢ في أوّل الخبر.

(٢) تاريخ المدينة ٢ / ١٢٣٦ تح ـ فهيم محمّد شلتوت ط قم.

٢٥

وحلف أنّه لا يحدّث حتى يغني قبله (١) ، وشيخه صالح بن كيسان كان مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز وهو تلميذ الزهري الّذي كان على شرطة بني مروان ، مضافاً إلى ذلك حسبنا ما رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة : « قال (عليه السلام) وقد جاءه نعي الأشتر (رحمه الله) : (مالك وما مالك ، والله لو كان جبلاً لكان فندا ، ولو كان حجراً لكان صلداً ، لا يرتقيه الحافر ، ولا يوفى عليه الطاهر). قال الرضي : والفند : المنفرد من الجبال » (٢).

ويبقى علينا أن نذكر تتمة لما سبق أنّ تعيين ابن عباس لولاية البصرة كان بمشورة رجل حيادي من المعتزلين للحرب مع الطرفين ، وذلك هو زياد ابن أبيه فيما رواه الطبري قال : « وكان زياد بن أبي سفيان ممّن اعتزل ولم يشهد المعركة ، قعد ، وكان في بيت نافع بن الحارث ، وجاء عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين مسلّما بعد ما فرغ عليّ من البيعة فقال له عليّ : وعمّك المتربص المقاعد بي! فقال : والله يا أمير المؤمنين ، إنّه لك لوادّ ، وإنه على مسرّتك لحريص ، ولكنه بلغني أنّه يشتكي ، فأعلم لك علمَه ثمّ آتيك. وكتم عليّاً مكانه حتى استأمره ، فأمره أن يعلمه فأعلمه ، فقال عليّ : أمشِ أمامي فاهدني إليه ، ففعل ، فلمّا دخل عليه قال : تقاعدت عنّي وتربّصت ـ ووضع يده على صدره وقال : هذا وجع بيّن ـ فاعتذر إليه زياد ، فقبل عذره واستشاره ، وأراده عليّ على البصرة ، فقال رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس ، فانّه أجدر أن يطمئنوا أو ينقادوا ، وسأكفكيه وأشير عليه ، فافترقا على ابن عباس ، ورجع عليّ إلى منزله.

____________

(١) سير أعلام النبلاء للذهبي ٧ / ٥٥٢ ط دار الفكر.

(٢) نهج البلاغة الحكمة / ٤٤٣.

٢٦

وأمّر ابن عباس على البصرة ، وولى زياداً الخراج وبيت المال ، وامر أبن عباس أن يسمع منه ، فكان ابن عباس يقول : استشرته عند هنة كانت من الناس ، فقال : إن كنت تعلم أنك على الحقّ ، وأن من خالفك على الباطل ، أشرت عليك بما ينبغي ، وإن كنت لا تدري ، أشرتُ عليك بما ينبغي كذلك.

فقلت : إني على الحقّ وإنهم على الباطل ، فقال : إضرب بمن أطاعك من عصاك ، ومن ترك أمرك ، فإن كان أعز للإسلام وأصلح له أن يضرب عنقه فاضرب عنقه. فاستكتبه ، فلمّا ولّى رأيت ما صنع ، وعلمت أنّه قد اجتهد لي رأيه » (١).

هذا ما رواه الطبري إلاّ أنّ ابن الأثير وابن كثير ذكرا في تاريخيهما أنّ المستشار في ذلك هو أبو بكرة أخو زياد لأمه.

قال ابن الأثير : « وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضاً فبايعه ، فقال عليّ : وما عمل المتربص المتقاعد بي أيضاً ـ يعني أباه أبا بكرة ـ فقال : والله إنّه لمريض ، وانّه على مسرّتك لحريص ، فقال عليّ : امش أمامي فمشى معه إلى أبيه فلمّا دخل عليه عليّ قال له : تقاعدت بي وتربّصت بي ووضع يده على صدره وقال : هذا وجع بيّن ، واعتذر إليه ، فقبل عذره ، وأراده على البصرة فامتنع وقال : رجل من أهلك يسكن إليه الناس وسأشير عليه ، فافترقا على ابن عباس ».

قال أبو بكرة : « قدم علينا ابن عباس البصرة وما في العرب مثله حشماً وعلماً وثياباً وجمالاً وكمالاً » (٢).

____________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٥٤٣ ط دار المعارف.

(٢) الإصابة ترجمة ابن عباس ٢ / ٣٢٢ ط مصطفى محمّد بمصر.

٢٧

« وولى زياداً الخراج وبيت المال ، وأمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع ، وكان زياد معتزلاً » (١).

إعلان الولاية :

قال الشيخ المفيد في كتاب الجمل : « وروى أبو مخنف لوط بن يحيى قال : لمّا استعمل أمير المؤمنين عبد الله بن العباس على البصرة ، خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبيّ ثمّ قال : (معاشر الناس قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس فاسمعوا له ، وأطيعوا أمره ما أطاع الله ورسوله ، فإن أحدث فيكم ، أو زاغ عن الحقّ فاعلموا أنّي أعزله عنكم ، فإنّي أرجو أن أجده عفيفاً تقياً ورعا ، وإني لم أولّه عليكم إلاّ وأنا أظن ذلك به ، غفر الله لنا ولكم) » (٢).

وهذه أوّل ولاية في تاريخ الخلافة الإسلامية يقوم فيها الخليفة فيعلن بنفسه أمر الاستخلاف على المسلمين! إذ لم يُعهد مثل ذلك من قبل حتى من الإمام يوم استخلف سهل بن حنيف على المدينة وهو يريد الخروج إلى ملاحقة الناكثين ، كما لم تتكرر ثانية منه (عليه السلام) ، فإنّه حينما استقرّ في الكوفة ، ثمّ أراد الخروج إلى صفين واستعمل على الكوفة أبا مسعود الأنصاري ، لم يذكر لنا التاريخ صعوده المنبر وإعلان استخلاف الوالي بمكانه.

____________

(١) الكامل في التاريخ ٣ / ١١٠ ط بولاق بمصر ، وقارن البداية والنهاية لابن كثير ٧ / ٢٤٥ ط السعادة بمصر.

(٢) كتاب الجمل / ٢٠٨ ط الحيدرية سنة ١٣٦٨ هـ.

٢٨

قال طه حسين : « وأمّر عليّ على البصرة عبد الله بن عباس ، وما نرى أنّه كان يستطيع أن يؤمّر غيره ، فالكثرة في البصرة مضرّية ، وما ينبغي أن يؤمّر عليها بعد الفتنة إلاّ رجل من مضر شديد القرابة من عليّ » (١).

وما ذكره لا يخلو من صحة ، فإنّ القبائل المضرية بالبصرة كانت تفوق التركيبة السكانية كما بيّنت من قبل. ولعل تأكيد المستشار ـ أبي بكرة أو زياد ـ على أن يكون الوالي رجلاً من أهل الإمام يسكن إليه الناس يشير إلى ذلك.

وقد ذكرت فيما مضى حديث حذيفة وفيه خروج عائشة ، فقال : « تقاتل معها مضر مضرّها الله في النار ، وأزد عمان سلت الله أقدامها ، وإنّ قيساً لن تنفك تبغي دين الله شراً حتى يركبها الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعة » (٢). وسيأتي في حادثة مجيء الجاسوس ابن الحضرمي إلى البصرة لإفساد الأمر من قبل معاوية قال له معاوية : « فانزل في مضر ، وتودد الأزد فإنّهم كلّهم معك ، ودع ربيعة ، فلن ينحرف عنك أحد سواهم ، لأنّهم كلّهم ترابية فاحذرهم ... ».

فهذا جميعه يقرّب صحة نظر الدكتور طه حسين في أنّ الإمام ما كان يستطيع أن يؤمّر غير ابن عباس لأنّه مضري وشديد القرابة منه ، مضافاً إلى بقية مؤهلاته الشخصية.

____________

(١) الفتنة الكبرى ٢ / ٦٠ ط دار المعارف.

(٢) ذكره ابن قتيبة في غريب الحديث ٢ / ٢٥٠ ، وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٤١ : وهذا الحديث من أعلام نبوة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لانه إخبار عن غيب تلقاه حذيفة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وحذيفة أجمع أهل السيرة على انّه مات في الأيام الّتي قتل عثمان فيها واتاه نعيه وهو مريض فمات وعليّ (عليه السلام) لم يتكامل بيعة الناس ولم يدرك الجمل.

٢٩

وذكر الشيخ المفيد في كتاب الجمل : « انّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب بعد فتح البصرة إلى أهل الكوفة يخبرهم بالفتح ، وجاء في آخر الكتاب : واخترت لهم عاملاً واستعملته عليهم وهو عبد الله بن عباس وإنّي سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى. وكتب عبيد الله بن أبي رافع في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين » (١).

ويعنينا في المقام تاريخ الكتاب ، فقد تبيّن أنّ استعمال الإمام على أهل البصرة عامله ابن عباس كان في جمادى الأولى. وإذا عرفنا أنّ مغادرة الإمام للبصرة كانت في شهر رجب بعد إقامة خمسين ليلة ، بعد الحرب تبيّن أنّ معايشة العامل الجديد لإمامه وخليفته استدامت قرابة شهرين. وهي فترة كافية للإفادة والاستفادة ، فمباشرة من العامل في عمله وما أنيط به ، ورقابة من الإمام على أعمال وإليه ومن يمتّ إليه وقد كانت في تلك الفترة قضايا شهدها ابن عباس وذكروا له فيها ذاتية نشير إلى بعضها :

ففي تلك الفترة الّتي قضاها الإمام في البصرة وضع أساس علم النحو.

فقد روى أبو القاسم الزجاجي في أماليه بسنده عن أبي الاسود الدؤلي قال : « دخلت على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) فرأيته مطرقاً مفكّراً ، فقلت : فيم تفكّر يا أمير المؤمنين؟

قال : إني سمعت ببلدكم هذا لحناً ، فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية.

فقلت : إن فعلت هذا أحييتَنا وبقيت فينا هذه اللغة.

____________

(١) كتاب الجمل / ١٩٥ و ١٩٧.

٣٠

ثمّ أتيته بعد ثلاث فألقي إليَّ صحيفة فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم : الكلام. كلّه اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل.

ثمّ قال : تتّبعه وزد فيه ما وقع لك ، واعلم يا أبا الأسود : أنّ الأشياء ثلاثة : ظاهر ومضمر ، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر ، وإنّما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر.

قال أبو الأسود : فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت منها : إنّ وأنّ ، وليت ولعل وكأنّ ، ولم أذكر لكن ، فقال لي : لم تركتها؟

فقلت : لم أحسبها منها ، فقال : بلى هي منها فزدها فيها » (١).

وهذا ما تكاد المصادر المعنية تجمع عليه ، ويبدو من ابن جني في الخصائص (باب صدق النقلة وثقة الرواة والحملة) في معرض كلامه عن أوليّة النحو ، أنّ لابن عباس في ذلك أيضاً تحقق في المقام فقد قال : « هذا موضع من هذا الأمر لا يعرف صحته إلاّ من تصوّر أحوال السلف فيه تصوّرهم ورآهم من الوفور والجلالة بأعيانهم ، واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له ، وعلم أنّه لم يوفّق لاختراعه ، وابتداء قوانينه وأوضاعه ، إلاّ البرّ عند الله سبحانه الحظيظ بما نوّه به وأعلى شأنه ، أو لا يعلم أنّ أمير المؤمنين عليّاً ـ (رضي الله عنه) ـ هو البادئ والمنبّه عليه ، والمنشئ والمرشد إليه.

____________

(١) أنظر الأشباه والنظائر للسيوطي ١ / ٧ ط حيدر اباد.

٣١

ثمّ تحقق ابن عباس (رضي الله عنه) به ، واكتفال أبي الاسود ـ (رحمه الله) ـ إياه ، هذا بعد تنبيه رسول الله ـ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ـ عليه وحضّه على الأخذ بالحظ منه. ثمّ تتالى السلف ... » (١).

وفي تلك الفترة أيضاً علّم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كميل بن زياد الدعاء المعروف باسمه ، وهو دعاء الخضر (عليه السلام).

كما روى ذلك السيّد ابن طاووس في كتابه الإقبال : « فقد قال كميل بن زياد : كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين صلوات الله عليه في مسجد البصرة ومعه جماعة من أصحابه ، فقال بعضهم : ما معنى قول الله (عزّ وجلّ) ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (٢)؟

قال (عليه السلام) : هي ليلة النصف من شعبان ، والّذي نفسي بيده إنّه ما من عبد إلاّ وجميع ما يجري عليه من خير وشر مقسوم له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة ، وما من عبد يحييها ويدعو بدعاء الخضر (عليه السلام) إلاّ أجيب له.

فلمّا انصرف طرقته ليلاً فقال (عليه السلام) : ما جاء بك يا كميل؟ قلت : يا أمير المؤمنين دعاء الخضر (عليه السلام).

فقال : اجلس يا كميل إذا حفظت هذا الدعاء فادع به كلّ ليلة جمعة ، أو في الشهر مرة ، أو في السنة مرة ، أو في عمرك مرة ، تكف وتنصر وترزق ، ولن تعدم المغفرة ، يا كميل أوجب لك طول الصحبة لنا أن نجود لك بما سألت.

____________

(١) الخصائص ٣ / ٣٠٩.

(٢) الدخان / ٤.

٣٢

ثمّ قال : اكتب وذكر له الدعاء المعروف بدعاء كميل » (١).

وفي تلك الفترة أيضاً حدثت بالبصرة حادثة الغلاة من الزطّ.

فقد روى الكليني في الكافي بسنده عن الصادق (عليه السلام) : « انّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزطّ فسلّموا عليه وكلّموه بلسانهم فردّ عليهم بلسانهم ، ثمّ قال لهم : إنّي لست كما قلتم أنا عبد الله مخلوق ، فأبوا عليه وقالوا : أنت هو ، فقال لهم : لئن لم تنتهوا وترجعوا عمّا قلتم فيّ وتتوبوا إلى الله (عزّ وجلّ) لأقتلنكم ، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا ، فأمر لهم أن تحفر لهم آبار فحفرت ثمّ خرق بعضها إلى بعض ، ثمّ قذفهم فيها ، ثمّ خمّر رؤوسها ثمّ ألهب النار في بئر منها ليس فيها أحد منهم ، فدخل الدخان عليهم فماتوا » (٢).

وهذه الحادثة الّتي ذكرت العامة أنّ ابن عباس نقد فيها فعل الإمام ، وسيأتي الكلام في ذلك في روايات تافهة ، في آخر خلافة الإمام ، وأوفى من ذلك في الحلقة الثالثة في بحث (مسألة التحريق بين التشريع والتطبيق).

وصية الإمام للوالي :

قال الشيخ المفيد في كتابه الجمل : « وممّا رواه الواقدي عن رجاله قال : لمّا أراد أمير المؤمنين الخروج من البصرة استخلف عليها عبد الله بن العباس ووصّاه ، وكان في وصيته له أن قال : يا بن عباس عليك بتقوى الله والعدل بمن ولّيت عليه ، وأن تبسط للناس وجهك ، وتوسّع عليهم مجلسك وتسعهم بحلمك ، وإياك

____________

(١) راجع الإقبال في أعمال ليلة النصف من شعبان.

(٢) الكافي ٥ / ٢٥٩ ط إسلامية ، والزطّ : جيل من الناس ، الواحد : زطي مثل الزنج وزنجي والروم ورومي (الصحاح / ١١٢٩) ، وفي قطر المحيط ١ / ٨٤٣ : طائفة من أهل الهند ... وهم المعروفون في الشام بالنوَرَ.

٣٣

والغضب فإنّه طيرة الشيطان ، وإياك والهوى فإنّه يصدّك عن سبيل الله ، واعلم أنّ ما قرّبك من الله فهو مباعدك من النار ، وما باعدك من الله فمقرّبك من النار ، واذكر الله كثيراً ولا تكن من الغافلين » (١).

وقد روى ـ ومن قبل المفيد ـ ابن قتيبة في الإمامة والسياسة هذه الوصية بتفاوت في اللفظ يسير (٢) ، كما رواها من بعده الشريف الرضي في نهج البلاغة بعنوان : (ومن وصية له (عليه السلام) لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة) (٣) ، ويبدو من بعض نسخ النهج أنّ الوصية كانت تحريرية وليست شفاهاً لأنّ الشريف الرضي عنونها ومن كتاب له (عليه السلام) (٤) ، ورواها السيّد يحيى بن حمزة الزيدي المتوفى سنة ٧٤٩ في الطراز بتفاوت في اللفظ (٥).

حياته في إمارة البصرة :

لا أريد استعراض جميع جوانب حياة حبر الأمة في أيام امارته بالبصرة. فإنّها حياة أمير دامت إمارته قرابة خمس سنين ـ من شهر ج١ سنة ٣٦ إلى أن خرج من البصرة ـ وقد مرّت به ملابسات ومعاكسات ، وأحداث زادت وغر الصدور له وعليه ، ووسّعت الانقسام في الرأي بين ناصريه ومناوئيه. فما ظنّك بحياة أمير يتولى إمرة أناس فرّقتهم الفروق القبلية الظاهرة البيّنة ، وزادتهم فرقة الإحن فيما بينهم ـ وتلك إحدى مخلّفات الحرب بالأمس ـ وبينهم يعيش كثيرون

____________

(١) كتاب الجمل / ٢٠٧ ط الحيدرية سنة ١٣٦٨ هـ.

(٢) الإمامة والسياسة / ٧٦.

(٣) شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده ٣ / ١٤٩.

(٤) لاحظ مصادر نهج البلاغة ٣ / ٤٧٧.

(٥) الطراز عن وجوه الإعجاز ٢ / ٢٩٣ ط مصر.

٣٤

قلق الضمائر الخفيّ ، فمنهم الراغب الطامع في المال والجاه على استحياء وبدون استحياء ، وبينهم الراهب المستخفى بكراهيته لو يتاح له إعلان الخلاف ، فهو خاضع رَهَبا ليس من الرضا وراحة الضمير بحيث يحبّ ، وقليل ما هم المناصحون له في السر والعلن. فهكذا حياة يصعب تأريخها مستوفىً لكل شاردة وواردة.

إذن لابدّ من جمع الشذرات المتناثرة ، واللمحات الإجتماعية المتباعدة لتكون نواة دراسة قريبة من التكامل تكفي لإعطاء صورة عن حياة ذلك الأمير في ولاية ذلك البلد المترامي الأطراف سعة على اختلاف طبائع أهله من حيث التركيبة السكانية ، وهذا هو النهج الّذي سوف أسير عليه لتأريخ تلك الفترة المليئة بالمفاجآت والمفارقات.

وذلك هو السبيل لمعرفة الحياة العملية الّتي عاشها ابن عباس ، ويتمّ من خلال عرض نماذج من جوانب حياته : النشاط الإداري والسياسي ، والتوجيه العلمي والديني ، والسلوك الشخصي.

١ ـ النشاط الإداري والسياسي :

لقد تولّى مهامّ الولاية العامة بعد مغادرة الإمام إلى الكوفة ، فواجهته الانقسامات الفكرية من مخلّفات الحرب فثمة طبقة القرّاء ، وهؤلاء أقرب إلى العثمانية ، وبعدُ فهم من أصحاب أبي موسى الأشعري يوم كان والياً بالبصرة من أيام عمر حتى عزله عثمان. ويمكن أن نعدّهم نواة للخوارج الذين خرجوا على طاعة الإمام في صفين.

٣٥

وواجهته الإنقسامات القبلية وهي أشدّ عنفاً وشراسة ، فالقبائل المضرية والأزد ـ وتميم منهم ـ إن لم تكن جميعها تبغض الحكم القائم ، فلا شك في أنّ كثيراً منهم خصوصاً بعض قبائل بني تميم كانت تبغضه ، وتنتقد علانية الحكم والنظام القائم المتمثل بشخصية الوالي من دون خوف ولا حياء ، وكلما تسامح معهم ازدادوا غيّاً ، وكلما نصح صمّوا أسماعهم عن نصائحه كأن رغاء (عسكر) لا يزال ملأ أسماعهم ، مصرّين على الخلاف ، واستداموا على ذلك ـ فيما يبدو ـ إلى أمد بعيد وأحسب أنّها ـ كما سمّاها ابن عباس ـ الهناة الّتي كانت من الناس فاستشار فيها زياداً ، وهي أوّل تجربة له في اختباره زياداً وهل بقي في نفسه بعدُ من درن الاعتزال شيء؟

فقال له : إن كنت تعلم أنّك على الحقّ ، وأنّ من خالفك على الباطل أشرت عليك بما ينبغي ، وإن كنت لا تدري أشرت عليك بما ينبغي كذلك.

فقال له ابن عباس : إنّي على الحقّ وإنّهم على الباطل.

فقال : اضرب بمن أطاعك مَن عصاك ومَن ترك أمرك ، فإن كان أعزّ للإسلام وأصلح له أن يضرب عنقه فاضرب عنقه (١).

ومع أنّ زياداً اجتهد له رأيه ، فإنّ ابن عباس لم يكتف بذلك فكان عليه أن يستطلع رأي الإمام ، فكتب إليه فيما ينبغي له عمله في معالجة الأمور. فكان جواب الإمام إليه :

(من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ، أمّا بعد فالحمد لله ربّ العالمين وصلّى على سيّدنا محمّد عبده ورسوله. أمّا بعد فقد قدِم عليَّ

____________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٥٤٣ ط دار المعارف.

٣٦

رسولك (أتاني كتابك) وذكرت ما رأيت (تذكر فيه ما رأيت من أهل البصرة بعد خروجي منهم وإنّما ينقمون لرغبة يرجونها أو عقوبة يخافونها) وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي وسأخبرك عن القوم : هم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو عقوبة يخشاها ، فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والانصاف له ، والاحسان إليه ، وحلّ عقدة الخوف عن قلوبهم ، فإنّه ليس لأمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم إلاّ قليل منهم ، وانته إلى أمري ولا تعدُه ، وأحسن إلى هذا الحي من ربيعة وكلّ من قبلك فأحسن إليهم ما استطعت ان شاء الله والسلام). وكتب عبيد الله بن أبي رافع في ذي القعدة سنة ٣٧ (١).

فانتهى الحبر لأمر الإمام ، إلاّ أنّ من بني تميم من لم يزالوا على تنكّرهم ، حتى كانوا يترصدون عليه أعماله وأقواله لعلهم يصيبوا منه غرّة عن غفلة ، فهيّأوا له ناساً يردّون عليه وهو على المنبر ، وهذا أزرَى ما تقوم به الرعية مع الراعي ، كما حدث أنّه كان يخطب مرة بعد العصر ، فلم يزل يخطب حتى غربت الشمس وبدت النجوم في السماء ، فطفق رجل من بني تميم يقول : الصلاة الصلاة ، ولا شك أنّه قصد استفزاز الناس للنقمة بتلك النغمة. لكن ابن عباس وهو حبر الأمة لم يحفل به ، بل قال له : لا أم لك أنت تعلّمني السنّة ، فقد جمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين الصلاتين بين المغرب والعشاء ، ثمّ أقبل على الناس وأتمّ خطبته ، ثمّ نزل فصلّّّى بالناس (٢).

وإذ تجاوز عتوّ بني تميم حدود الصبر عليه ، تنمّر لهم ابن عباس بإقصائهم عن مجلسه ، وكلّمه بعض الأشراف فيهم فسمّاهم له : شيعة الجمل وأنصار عسكر

____________

(١) نهج السعادة ٤ / ١٢٩ نقلاً عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم ، وشرح ابن أبي الحديد ، وبحار الأنوار ، ونزهة الناظرللحلواني. وما بين القوسين منها.

(٢) سيأتي المصدر مع بيان أكثر حول هذه الواقعة في (التوجيه العلمي والديني).

٣٧

ـ اسم جمل عائشة ـ وحزب الشيطان ، واشتدّ عليهم ، فكبر ذلك على رجال منهم ممّن أخلصوا للإمام في الطاعة وكانوا من شيعته كجارية بن قدامة السعدي الّذي كتب إلى الإمام يخبره بجفاء ابن عباس وإضرار ذلك بهم ، فكتب الإمام إلى ابن عباس يأمره بالعفو عنهم ، وتقريبهم ليتألف بذلك قلوبهم.

(أمّا بعد فخير الناس عند الله غداً أعلمهم بطاعته فيما عليه وله ، وأقواهم بالحقّ وإن كان مرّاً ، ألا وإنّه بالحقّ قامت السموات والأرض فيما بين العباد ، فلتكن سريرتك فعلاً ، وليكن حملك واحداً ، وطريقتك مستقيمة ، واعلم أنّ البصرة مهبط إبليس ومغرس الفتن ، فحادث أهلها بالإحسان إليهم ، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم ، وقد بلغني تنمرّك لبني تيم وغلظتك عليهم ، وإنّ بني تميم لم يغب منهم نجم إلاّ طلع لهم آخر ، وأنّهم لم يسبقوا بوغم (١) في جاهلية ولا إسلام ، وإنّ لهم بنا رحماً ماسّة (٢) ، وقرابة خاصة (٣) ، نحن مأجورون على صلتها ،

____________

(١) الوغم : الحرب ، والحقد ، والثار أي لم يسبقهم أحد في البأس.

(٢) حكى ابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٤٢٥ ط مصر الأولى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ذكر في كتابه التاج : ان لبني تميم مآثر لم يشركهم فيها غيرهم ... وحكى عنه في / ٤٢٧ انّه قال : ولبني عمرو بن تميم خصال تعرفها لهم العرب ولا ينازعهم فيها أحد : فمنها اكرم الناس عماً وعمّة وجداً وجدة ، وهو هند بن أبي هالة واسم أبي هالة نباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم ، كانت خديجة بنت خويلد قبل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت أبي هالة ، فولدت له هنداً ثمّ تزوجها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهند بن أبي هالة غلام صغير فتبناه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ ولدت خديجة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القاسم والطاهر وزينب ورقية وام كلثوم وفاطمة ، فكان هند بن أبي هالة أخاهم لأمهم ، ثمّ أولد هند بن أبي هالة هند بن هند ، فهند الثاني اكرم الناس جداً وجدة يعني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخديجة وأكرم الناس عماً وعمة يعني بني النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبناته.

أقول : ما ذكره أبو عبيدة يثبت لهم الرحم الماسّة الّتي أشار اليها الإمام.

(٣) أمّّا القرابة الخاصة لعل المراد بها مصاهرة الإمام لهم حيث كانت عنده ليلى بنت مسعود الحنظلية من بني تميم وهي أم ولديه عبيد الله وأبي بكر كما في تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٨٩.

٣٨

مأزورون على قطيعتها ، فاربع أبا العباس ـ رحمك الله ـ فيما جرى على يدك ولسانك من خير وشر ، فإنا شريكان في ذلك ، وكن عند صالح ظني بك ، ولا يفيلنّ رأيي فيك والسلام) (١).

ويبدو أنّ تميماً ـ وهم أكبر قطاع عربي في البصرة ـ لم يستطع ابن عباس أن يحوّل العثمانية منهم عن رأيهم وروحهم العدائي ، لذلك فقد تسلل منهم ـ ولنسمّيهم خوارج كما فعل ابن الأثير في تاريخه (٢) حيث ذكر قصد الخوارج ـ إلى سجستان حين نكث أهلها بيعة الإمام.

قال ابن خلدون : « ولمّا فرغ الناس من هذه الوقعة ـ يعني حرب الجمل ـ اجتمع صعاليك من العرب وعليهم جبلة بن عتاب الحنظلي ، وعمران بن الفضل البرجمي وقصدوا سجستان وقد نكث أهلها ، وبعث عليّ اليهم عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتلوه ، فكتب إلى عبد الله بن عباس أن يبعث إلى سجستان والياً ، فبعث ربعي بن كاس العنبري في أربعة آلاف ومعه الحصين بن أبي الحر ، فقتل جبلة وانهزموا وضبط ربعي البلاد واستقامت » (٣).

وأحسب أنّ رواية ابن خلدون غير متكاملة الصحة ، لتحريف في بعض الأسماء ، وبالرجوع إلى رواية البلاذري في فتوح البلدان يتضح الحال.

____________

(١) روي هذا الكتاب في النهج ٣ / ٢٠ من دون المقدمة ، وروي معها في شرح النهج لابن ميثم ٤ / ٣٩٥ وعنه في بحار الأنوار ٨ / ٦٣٤ ط الكمپاني.

وروى أبو هلال العسكري في الصناعتين / ٢٧٠ ط الثانية محمّد عليّ صبيح بمصر فقرات منه ، والباقلاني في اعجاز القرآن ١ / ١٠٣ ، وفي الطراز للسيد يحيى الزيدي طرفاً منه راجع ١ / ٢١٩ و ٤١٦ ط مصر.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١١٣ ط بولاق.

(٣) تاريخ ابن خلدون ٢ / ١٠٩٠ ط التربية ودار الكتاب اللبناني بيروت.

٣٩

قال البلاذري : « ولمّا فرغ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من أمر الجمل خرج حسكة بن عتاب الحبطي وعمران بن الفصيل البرجمي في صعاليك من العرب ، حتى نزلوا (زالِق) (١) وقد نكث أهلها فأصابوا مالاً وأخذوا جد البختري ، الأصم ابن مجاهد مولى شيبان ، ثمّ أتوا (زرنج) (٢) وقد خافهم مرزبانها فصالحهم ودخلوها وقال الراجز :

بشّر سجستان بجوع وحَرَب

بابن الفصيل وصعاليك العرب

لا فضة تغنيهم ولا ذهب

وبعث عليّ بن أبي طالب عبد الرحمن بن جزء الطائي إلى سجستان فقتله حسكة ، فقال عليّ : لأقتلنّ من الحبطات أربعة آلاف ، فقيل له : إنّ الحبطات لا يكونون خمسمائة. فتخيل السامعون أنّه أراد الحبطات نسباً ولم يفقه السامعون معنى كلامه (عليه السلام) ، إنّما أراد مَن كان على رأيهم ومعهم من الخوارج وإلاّ كيف يقتل من الحبطات مَن لم يشترك في الخروج مع حسكة ابن عتاب الحبطي » (٣).

قال البلاذري في فتوح البلدان : « وقال أبو مخنف : وبعث عليّ (رضي الله عنه) عون بن جعدة بن هبيرة المخزومي إلى سجستان فقتله بهدالي اللص الطائي في طريق العراق ، فكتب عليّ إلى عبد الله بن العباس يأمره أن يولي سجستان رجلاً في أربعة آلاف ، فوجّه ربعي بن الكاس العنبري في أربعة آلاف ، وخرج معه

____________

(١) زالِق : لامه مكسورة : رستاق كبير من نواحي سجستان في قصور وحصون.

(٢) زرنج : كسمند قصبة سجستان.

(٣) فتوح البلدان / ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

٤٠