موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

رجع به ، ولا يسمع لهم صياح ولا لفظ (لغط) وأنتم عندي كلّ يوم تظنون الظنون).

فمن مرّت به هكذا تجربة كيف يُعقل تناسيها ، ولا يحتاط بعدم إثارة الفضول والشكوك؟

وأيضاً كيف لم يثر ذلك المشهد فضول الأصحاب وفيهم أمثال الأشعث ابن قيس الّذي كان يدس أنفه في كلّ شيء ، وتفتح شهيته إثارة الفتنة؟

٩ ـ قال : « إنّ عليّاً قال له : ألا تعينني على قتالهم؟ فقال ابن عباس : لا والله لا أقاتل قوماً قد خصموني في الدنيا وإنّهم يوم القيامة لي أخصم وعليّ أقوى ، إن لم أكن معهم لم أكن عليهم ».

أقول : ما دام الحديث كان سراً ونجوى بين الإمام وابن عباس ولم يكن معهم ثالث ، فمن ذا يا ترى أذاع النجوى؟

هل هو الإمام الّذي حرص على عدم معرفة أصحابه بما جاء به ابن عباس؟ وهذا لا يعقل لأنّ إذاعته على خلاف مصلحته.

أو هو ابن عباس لأنّه الطرف الآخر؟ وهنا سؤال يقفز في الذهن : فإذا كان هو ابن عباس فلابدّ أنّه حدّث به لآخر أو آخرين فسُمع منه وروي عنه ، فمن هو الراوي لذلك؟ لماذا لم يذكر اسمه في المحاورة؟

١٠ ـ قال : « واعتزل ابن عباس (رضي الله عنه) ثمّ فارقه ... وكتب إليه عليّ يأنّبه (وهذا غلط إملائي وصوابه : يؤنّبه) بمال أخذه من البصرة من بيت المال : فقال له : قد عرفت وجه أخذي المال ... قد علمت أخذي للمال من قبل قولي في أهل النهروان ».

٢٤١

أقول : وهنا تبدّى الصبح لذي عينين ، وصكّ الحجر العصفورين كما يقول المثل السائر.

فابن عباس اعتزل وفارق ، وأخذ من بيت مال البصرة ، وبرّر أخذه ، وأصرّ مستكبراً بقوله : « ولو كان أخذي المال باطلاً كان أهون من أن أشرك في دم مؤمن فاكفف عن القوم » ، والإمام علم بذلك من قبل قول ابن عباس في أهل النهروان ولم يؤاخذه أو يعاتبه ، وسكت على خيانته ، ليكون شريكاً له في جنايته ، فكلاهما أصابه حظ من ذرو هذا القول في المحاورة.

أليس كذلك؟ وعرفنا منذ الآن أنّ عنصراً رابعاً دسّ أنفه في مسألة مال البصرة ولم أكن قد وقفت عليه من قبل ، فتعاونت تلك العناصر على غير مودّة بينها على تشويه صفحة ابن عباس فهو ضحية : أموية حانقة ، وعباسية بغيضة ، وشيعة موتورة ، وأخيراً خوارج ثائرة.

١١ ـ ولنعد إلى عدم انتظام سياق الكلام في المقام ، فقد قال المؤلف : « وكتب إليه عليّ يأنّبه (؟) » ، وهذا يعني البُعد المكاني ليصح التعبير بقوله : وكتب إليه .. ولا أقل عن مجلسه إن لم يكن عن بلده كما هو المتعارف.

ثمّ قال المؤلف : « فقال له : قد عرفت وجه أخذي المال » ـ وهذا يعني الحضور ليصح التعبير بقوله : فقال له ... فكيف التوافق والاتساق بين (كتب) وبين (فقال (؟ » أليس الجمع بين الغائب والحاضر في آن واحد يعني التنافي كما في المثل المعروف (أكوس عريض اللحية).

١٢ ـ وأخيراً ختم المؤلف تلك المحاورة بقول ابن عباس : « فاكفف عن القوم ».

٢٤٢

ولنا أن نسأل : مَن هم القوم الذين يطلب ابن عباس من الإمام الكف عنهم؟

أهم الخوارج ـ كما هو المتبادر للقرينة المقامية ـ؟ فهؤلاء سبق للإمام أن حاربهم بالنهروان واستأصل شأفتهم ولم ينج منهم إلاّ ثمانية فرّوا كما مرّ ذكر ذلك. وابن عباس على علم بذلك ، فأيّ معنى للكف عن أناس انتهى أمرهم وقضي عليهم بالنهروان؟

وإن كان القوم غيرهم فمن هم؟

والّذي يبدو لي أنّ المحاورة من نسج غبّي لم يحسن الصنعة ولا شك أنّه من أولئك الذين إذا هَووُا أمراً صيّروه ديناً كما مرّت الإشارة إليه آنفاً ، ولكنه من قوم لا يفقهون.

ويبدو أنّ المؤلف الأباضي صاحب العقود الفضية لم يقف على ما ذكره البلاذري في الأنساب : « قالوا : وكتب عليّ إلى عبد الله بن عباس بمقتل محمّد ابن أبي بكر وعبد الله بالبصرة ، قبل أن يكتب أبو الأسود الدئلي إلى عليّ فيه ، وقبل أن يقع بينهما المنافرة ، وكان عبد الله قد نافر عليّاً بالنهروان ولحق بمكة » (١).

قلت : يبدو أنّ الأباضي لم يقف على هذا ، وإلا لجعل منها أساساً يعليّ عليه بنيانه ، ويدعم هذيانه على أنّ ذلك لا يجديه شيئاً ، لأنّ وقعة النهروان ـ فيما رواها البلاذري ـ كانت في ٩ صفر سنة ٣٨ هـ ، وفي قول غيره سنة تسعة وثلاثين ، ومقتل محمّد كان في سنة ٣٩ هـ لكنه لم يكن قبل وقعة النهروان ، فإذا (كان ابن عباس قد نافر عليّاً بالنهروان ولحق بمكة) كيف يصح أنّه كتب إليه بمقتل محمّد وهو بالبصرة ...؟

____________

(١) أنساب الأشراف ٢ / ٤٠٥ تح المحمودي.

٢٤٣

ومهما شككنا في القبلية والبعدية بين النهروان ومقتل محمّد ، فإنّا لا نشك في حضور ابن عباس بالكوفة بعد حرب النهروان وقد أرسله الإمام داعياً بقية الخوارج في النخيلة فأبوا.

والآن لنقرأ ما قاله أبو العباس المبرّد (١) : « وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان ممّن فارق عبد الله بن وهب ، وممّن لجأ إلى راية أبي أيوب ، وممّن كان أقام بالكوفة فقال : لا أقاتل عليّاً ولا أقاتل معه ، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا وتأسّفوا على خذلانهم أصحابَهم ـ ثمّ ذكر قيام المستورد فيهم خاطباً يدعوهم إلى الجهاد ـ فكلٌّ أجاب وبايع.

قال المبرّد : فوجّه إليهم عليّ بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً ، فأبوا ... ثمّ قال ثمّ سار إليهم فطحنهم جميعاً لم يفلت منهم إلاّ خمسة ...

قال المبرّد : وفيهم يقول عمران بن حطان :

إنّي أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الخربِ (٢)

وعاد المبرّد فذكر مناظرة أهل النخيلة لابن عباس ، فقال : وكان أصحاب النخيلة قالوا لابن عباس : إن كان عليّ على حق لم يشكك فيه ، وحَكّم مضطراً فما بالُه حيث ظفر لم يسب ، فقال لهم ابن عباس : قد سمعتم الجواب في التحكيم ، فأمّا قولكم في السباء ، أفكنتم سابين أمكم عائشة! فوضعوا أصابعهم في آذانهم وقالوا : أمسك عنا غَرب لسانك فانّه طلق ذلق ، غواصّ على موضع الحجة » (٣).

____________

(١) الكامل ٣ / ٣٣٦ ط نهضة مصر بتحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

(٢) الجوسق الخرب بظاهر الكوفة عند النخيلة ، والبيت في معجم البلدان ٣ / ١٧٠ من أبيات نسبها إلى قيس بن الأصم الضبي.

(٣) الكامل ٣ / ٢٣٨.

٢٤٤

في مقتل محمّد بن أبي بكر :

لمّا انقضى أمر الحكمين ، وعاد أهل الشام مع عمرو بن العاص سلموا على معاوية بالخلافة ، ولم يكونوا بايعوه من قبل إلاّ على الطلب بدم عثمان ، أمّا الآن فقد تصيّدت الدنيا رجالاً بفخّها ، فمعاوية صار نداً لعليّ في دعوى الخلافة ، وعمرو بن العاص يريد طعمته الّتي شايع معاوية عليها وهي مصر ، ومصر لا تزال تحت حكم الإمام ، إذن لابدّ من التحرّك لافتتاحها وما أيسره إذ لا تزال بمصر عثمانية الهوى ، ومهما كان محمّد بن أبي بكر والي الإمام على درجة عالية من الحنكة السياسية فهو بين عدوين لدودين ، من الداخل والخارج وهما أقوى منه لو أراد المجالدة ، لكنه كان يمكنه أن يكون هو الأقوى منهما لو استعمل المجادلة بالحسنى مع العدو الداخلي كما فعل ذلك قيس بن سعد يوم كان عامل الإمام على مصر ، أمّا محمّد بن أبي بكر فلم يهادن العثمانية ولم يهادن أهل خربتا بل قاتلهم في أوّل ولايته فهم ناصبوه العداء كما ناصبهم فأصبحت مصر فريسة مستساغة لمعاوية ، فأرسل إليها عمرو بن العاص مع ستة آلاف لأخذها وطرد محمّد منها ولكن محمّد لم يكن لين العريكة بل كان أقوى شكيمة وعزيمة فلم يكن يتخلى عن مصر ويسلّم أمانته إلى عمرو بن العاص وداهمه الخطر وأحدق به فاستنصر الإمام يطلب منه المدد ، وفي العدة والعدد ، فأمر الإمام بأن ينادى بالصلاة جامعة فاجتمع الناس فخطبهم وحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ قال : (أمّا بعد فان هذا صريخ محمّد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر قد سار اليهم ابن النابغة عدو الله وولي من عادى الله ، فلا يكونن اهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت أشد اجتماعاً منكم على حقكم هذا فإنّهم قد بدأوكم وإخوانكم بالغزو فأعجلوا اليهم بالمواساة والنصر ، عباد الله

٢٤٥

إنّ مصر أعظم من الشام أكثر خيراً ، وخير أهلاً ، فلا تغلبوا على مصر ، فان بقاء مصر في أيديكم عزّ لكم وكبت لعدوكم ، اخرجوا إلى الجرعة بين الحيرة والكوفة فوافوني بها هناك غداً إن شاء الله).

وبكّر من الغد إلى الجرعة وأقام بها حتى انتصف النهار فلم يوافه من الناس مائة رجل ، وعلى رواية الطبري فلم يوافه منهم رجل واحد ، فرجع وقد ساءه تخاذل أصحابه وتثاقلهم عن نصرة محمّد. فلمّا كان العشي بعث إلى رؤساء الناس وأشرافهم فدخلوا عليه وهو حزين كئيب فلمّا حضروا خطبهم عاتباً وغاضباً فقال : (الحمد لله على ما قضى من أمري ، وقدّر من فعليّ ، وابتلاني بكم أيّتها الفرقة ممّن لا يطيع إذا أمرتُ ، ولا يجيبُ إذا دعوتُ ، لا أباً لغيركم ، ما تنتظرون بصبركم والجهاد على حقكم! الموت والذل لكم في هذه الدنيا على غير الحقّ ، فوالله لئن جاء الموت ـ وليأتينّ ـ ليفرقنّ بيني وبينكم ، وأنا لصحبتكم قالٍ ، وبكم غير ضنين ، لله أنتم ألا دين يجمعكم! ألا حميّة تغضبكم! ألا تسمعون بعدوكم ينتقص بلادكم! ويشن الغارة عليكم ، أو ليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجناة الطغاة الظلمة فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة ويجيبونه في السنة المرة والمرتين والثلاث إلى أيّ وجه شاء ، ثمّ أنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس على المعونة وطائفة منكم على العطاء فتقومون عني وتعصونني ، وتختلفون عليَّ!) (١).

فقام إليه مالك بن كعب الهمداني ثمّ الأرحبي فقال : يا أمير المؤمنين اندب الناس فإنّه لا عطر بعد عروس ، لمثل هذا اليوم كنت أدّخر نفسي ، والأجر لا يأتي

____________

(١) أنظر تاريخ الطبري ٥ / ١٠٧ ط دار المعارف.

٢٤٦

إلاّ بالكرة ، اتقوا الله واجيبوا إمامكم وانصروا دعوته ، وقاتلوا عدوه أنا أسير إليها يا أمير المؤمنين.

فأمر الإمام سعداً ـ مولاه ـ فنادى في الناس : ألا فانتدبوا إلى مصر مع مالك ابن كعب.

ثمّ إنّه خرج وخرج معه عليّ ، فنظر فإذا جميع من خرج نحو ألفي رجل ، فقال : سِر ما أخالك تدرك القوم حتى ينقضي أمرهم.

قال : فخرج بهم فسار خمساً.

ثمّ إنّ الحجاج بن غزية الأنصاري قدم على عليّ من مصر ، وقدم عبد الرحمن بن شبيب الفزاري. فأمّا الفزاري فكان عينه بالشام ، وأمّا الأنصاري فكان مع محمّد بن أبي بكر ، فحدّثه الأنصاري بما رأى وعاين وبهلاك محمّد ، وحدّثه الفزاري أنّه لم يخرج من الشام حتى قدمت البُشراء من قبل عمرو بن العاص تترى ، يتبع بعضها بعضاً بفتح مصر وقتل محمّد بن أبي بكر ، وحتى أذّن بقتله على المنبر ، وقال : يا أمير المؤمنين قلّما رأيت قوماً قط أسرّ ، ولا سروراً قط أظهر من سرور رأيته بالشام حين أتاهم هلاك محمّد بن أبي بكر.

فقال عليّ : حزننا عليه على قدر سرورهم به ، لا بل يزيد أضعافاً (١).

وقد روى الطبري وغيره من المؤرخين كتاب الإمام أمير المؤمنين إلى ابن عباس وهو بالبصرة يخبره بمقتل محمّد بن أبي بكر ويشكو إليه تخاذل أصحابه ، ويبثّه بعض شجونه.

____________

(١) نفس المصدر ٥ / ١٠٨.

٢٤٧

وكان مقتل محمّد من أنكى الرزايا الّتي اقترفها معاوية وأشياعه ، فقد مرّ بنا أن ذكرنا كيفية قتله البشعة ، وذكرنا مدى وقع نبأ الفاجعة على أخته عائشة على ما كان بينهما من نبوة في الرأي حتى صارت تدعو على معاوية وعمرو بن العاص. فما ظنك بمدى حزن الإمام عليه وهو ربيبه ، ومدى حزن ابن عباس عليه وهو ابن خالته وصاحبه ، ولم يكن كتاب الإمام إلى ابن عباس بنبأ الفاجعة لمجرد الإخبار وبث الشكوى فيما أرى ـ بل فيه إيماء إلى اتخإذ ابن عباس الحيطة واليقظة في ضبط البلاد لأنّ البصرة هي ثالث المعسكرات الإسلامية الّتي كانت تضمها حكومة الإمام ، وقد سقطت مصر منها بيد العدو ، فلم يبق إلاّ الكوفة والبصرة ، وهي مطمح نظر معاوية ، لعلمه بأن فيها من العثمانية والموتورين بحرب الجمل ما يكفيه لإثارة الشغب ، وبالتالي الانقضاض عليها ، فهو سوف يتحيّن الفرصة لذلك ، وكما حدث بعدُ في فتنة ابن الحضرمي وسنأتي على ذكرها.

ونعود إلى كتاب الإمام إلى ابن عباس ونذكره برواية الشريف الرضي في نهج البلاغة. قال : « ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمّد ابن أبي بكر : (أمّا بعدُ فإنّ مصر قد افتتحت ومحمّد بن أبي بكر (رحمه الله) قد استُشهد ، فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً ، وعاملاً كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً. وقد كنتُ حثثت الناس على لحاقه ، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة ، ودعوتهم سراً وجهراً وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتي كارهاً ، ومنهم المعتلّ كاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً ، أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجاً عاجلاً ، فوالله لولا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة ، وتوطيني نفسي على المنيّة لأحببتُ أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ، ولا ألتقي بهم أبداً) ».

٢٤٨

وهذا الكتاب كما يفيض أسىً ولوعة ، مع حرارة لها لذعة ، هو آية في الفصاحة والبلاغة ، قال ابن أبي الحديد في تعقيبه عليه : « أنظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها؟ واعجب لهذه الألفاظ المنصوبة ، يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه ، سهلة سلسة ، تتدفق من غير تعسّف ولا تكلّف حتى انتهى إلى آخر الفصل ، فقال : يوماً واحداً ، ولا ألتقي بهم أبداً. وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة ، جاءت القرائن والفصائل تارة مرفوعة ، وتارة مجرورة ، وتارة منصوبة ، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلّف أثر بيّن ، وعلامة واضحة ، وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ، ذكره عبد القاهر قال : « انظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة ، الأولى منصوبة الفواصل ، والثانية ليس فيها منصوب أصلاً ، ولو مزجت احدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا ، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما.ثمّ انّ فواصل كلّ واحدة منهما تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية ».

ثمّ انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل كيف قال : ولداً ناصحاً وعاملاً كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً ، لو قال : ولداً كادحاً ، وعاملاً ناصحاً ، وكذلك ما بعده لما كان صواباً ، ولا في المواقع واقعاً ، فسبحان من منح هذا الرجل بهذه المزايا النفسية ، والخصائص الشريفة ، أن يكون غلام من أبناء مكة ينشأ بين أهله ، لم يخالطه الحكماء وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الآلهية من افلاطون وأرسطو ، ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية ، لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك ، وخرج أعرف بهذا الباب من

٢٤٩

سقراط ، ولم يربّ بين الشجعان لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة ولم يكونوا ذوي حرب ، وخرج أشجع من كلّ بشر مشى على الأرض.

قيل لخلف الأحمر : أيّما أشجع عتيبة وبسطام أم عليّ بن أبي طالب؟ قال : إنّما يذكر عتيبة وبسطام مع البشر والناس ، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة ، فقيل له : فعلى كلّ حال.

قال : والله لو صاح في وجهيهما لماتا قبل أن يحمل عليهما.

وخرج أفصح من سحبان وقسّ ، ولم تكن قريش بأفصح العرب ، كان غيرها أفصح منها. قالوا : أفصح العرب جرهم وإن لم تكن لهم نباهة ، وخرج أزهد الناس ، وأعفّهم مع أنّ قريشاً ذووا حرص ومحبة للدنيا ، ولا غرو فيمن كان محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مربّيه ومخرجّه ، والعناية الآلهية تمدّه وترفده أن يكون منه ما كان » (١).

قال أبو محنف في كتابيه مقتل محمّد بن أبي بكر والأشتر ، وقد ذكر كتاب الإمام إلى ابن عباس بصورة أوسع ممّا مر وهي : « بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس ، سلام عليك فإنّي أحمد الله إليك الّذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد ، فإن مصر قد افتتحت ، ومحمّد بن أبي بكر قد استشهد ، فعند الله نحتسبه وندّخره ، وقد كنت قمت في الناس في بدئه ، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة ، ودعوتهم سراً وجهراً ، وعَوداً وبدءاً ، فمنهم من أتى كارهاً ، ومنهم من اعتل كاذباً ، ومنهم القاعد حالاً (خاذلاً) ، أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجاً ومخرجاً ، وأن يريحني منهم عاجلاً ، والله لولا طمعي عند لقاء

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٥٤ ـ ٥٥.

٢٥٠

عدوي في الشهادة ، لأحببت ألاّ أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ، عزم الله لنا ولك على الرشد ، وعلى تقواه وهداه ، إنّه على كلّ شيء قدير والسلام ».

وهذا الكتاب كما تضمن إعلام ابن عباس بفتح مصر وقتل محمّد بن أبي بكر ، كذلك تضمّن إعلامه بحال الناس معه في عدم استجابتهم حين يدعوهم لما يحييهم ، فهو يبثّ ابن عمه شكواه منهم ، ومن تمنّيه مفارقتهم يُعلم مبلغ حزنه (عليه السلام) ، ولا ريب أنّ ابن عباس أحزنه جميع ذلك ، فبادر بالجواب معزّياً ومواسياً ، ومخفّفاً بعض ما يجده الإمام من الناس بمداراتهم فكتب إليه :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين من عبد الله بن عباس ، سلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، أمّا بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر ، وهلاك محمّد بن أبي بكر ، فالله المستعان على كلّ حال ، ورحم الله محمّد بن أبي بكر ، وآجرك يا أمير المؤمنين ، وقد سألت الله أن يجعل لك من رعيّتك الّتي ابتليت بها فرجاً ومخرجاً ، وأن يُعزّك بالملائكة عاجلاً بالنصرة ، فإن الله صانع لك ذلك ، ومعزّك ومجيب دعوتك ، وكابت عدوك ، أخبرك يا أمير المؤمنين أنّ الناس ربّما تثاقلوا ثمّ ينشطون ، فأرفق بهم يا أمير المؤمنين ، وداجنهم ومنّهم ، واستعن بالله عليهم ، كفاك الله المهمّ والسلام » (١).

ويبدو أنّ حزن الإمام على مقتل محمّد قد ألقى بظلاله الحزينة على ابن عباس من خلال كتابه إليه وجوابه هو الآخر عليه وشقّ على ابن عباس ذلك

____________

(١) أنظر تاريخ الطبري ٥ / ١٠٩ ط دار المعارف.

٢٥١

التشرذم الّذي عرا المجتمع بالكوفة ، فرأى أنّ جوابه على كتاب الإمام وحده لن يخفف من غلواء حزنه ، فصمّم على التوجّه إلى الكوفة بنفسه ليسلّي الإمام عن تلك الفوادح الّتي تضافرت عليه فانتابته غرضاً ، وأورثته حزناً كاد معه أن يكون حَرَضاً.

فقد ذكر الطبري : بسنده عن أبي نعامة قال : « لمّا قتل محمّد بن أبي بكر بمصر ، خرج ابن عباس من البصرة إلى عليّ بالكوفة واستخلف زياداً » (١).

وقال إبراهيم بن محمّد الثقفي : « في حديثه عن فتنة ابن الحضرمي بالبصرة ـ كما سيأتي ـ وإنّ الأمير بالبصرة يومئذ زياد بن عبيد قد استخلفه عبد الله بن عباس وقدم على عليّ (عليه السلام) إلى الكوفة يعزّيه عن محمّد بن أبي بكر ... » (٢).

فتنة ابن الحضرمي بالبصرة :

لقد ذكر المؤرخون أنّ معاوية بعد أن افتتحت له مصر ، صوّب نظره إلى العراق والحجاز واليمن وهي البلاد الّتي كانت تتبع في حكوماتها إلى الإمام ، والّذي لا شك فيه أن كان قد نفذ إلى تلك الولايات من خلال بقايا العثمانية ، فكان همه الأوّل بعد مصر أن يفتح البصرة ، وهي أقرب منالاً لطبيعة تركيبها السكانية ، ففيها قبائل بني تميم وهم من العناصر الّتي لم تخف تذمّرها من الحكم العلوي ، إلاّ أنفار وقليل ما هم ، وقد مرّ بنا تنمّر ابن عباس معهم لولا كتاب الإمام إليه ، ولم تكن بقية مضر دونهم ، وحتى الأزد كانوا كذلك إلاّ قليلاً منهم ، وهذا ما كان يعرفه معاوية معرفة تامة ، وله فيها مَن يوإليه. لذلك صمّم على قطعها عن

____________

(١) نفس المصدر ٥ / ١١٠ ط دار المعارف.

(٢) الغارات / ٣٨٧ تح ـ الأرموي.

٢٥٢

مركز الخلافة بكل حول وطول ، والعقبة الكأداء في طريقه وجود عبد الله بن عباس فيها وهو العامل اليقظ الّذي لم يترك بحزمه وعزمه مجالاً ينفذ فيه معاوية ، فكان عليه أن يتربص خلوّ البلاد منه ، وهذا ما حدث ويترقب ما يأتيه من عيونه ، حتى إذا كتب إليه صحار بن عباس العبدي ـ وهو ممّن كان يرى رأي العثمانية ويخالف قومه في حبهم عليّاً (عليه السلام) ونصرتهم إياه ـ « أمّا بعد : فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر الذين بغوا على امامهم ، وقتلوا خليفتهم ظلماً وبغياً ، فقرّت بذلك العيون ... فإن رأيت أن تبعث إلينا أميراً طيباً ذكياً ذا عفاف ودين يدعو إلى الطلب بدم عثمان فعلت ، فإنّي لا أخال الناس إلاّ مجتمعين عليك ، فإنّ ابن عباس غائب عن الناس (المصر) والسلام.

فلمّا قرأ معاوية كتابه قال : « لا عزمت رأياً سوى ما كتب به إليّ هذا ، وكتب إليه جوابه ... » (١).

قال ابن الأثير : « سيّر معاوية عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة وقال له : إنّ جلّ أهلها يرون رأينا في عثمان ، وقد قتلوا في الطلب بدمه ، فهم لذلك حنقون يودّون أن يأتيهم من يجمعهم وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم ، فانزل في مضر ، وتودّد الأزد فإنّهم كلّهم معك ، ودع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم ، لأنّهم كلّهم ترابية فاحذرهم ».

فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة ، وكان ابن عباس قد خرج إلى عليّ بالكوفة واستخلف زياد بن أبيه على البصرة فلمّا وصل ابن الحضرمي إلى البصرة

____________

(١) الغارات / ٣٨٥ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٣٥٠ ، وجمهرة رسائل العرب / ٥٧٥ ـ ٥٧٦ نقلاً عن شرح النهج.

٢٥٣

نزل في بني تميم ، فأتاه العثمانية مسلّمين عليه ، وحضره غيرهم فخطبهم وقال : إنّ عثمان إمامكم إمام الهدى قتل مظلوماً قتله عليّ فطلبتم بدمه فجزاكم الله خيراً.

فقام الضحاك بن قيس الهلالي ـ وكان على شرطة ابن عباس ـ فقال : قبّح الله ما جئتنا به وما تدعونا إليه ، أتيتنا والله بمثل ما أتانا به طلحة والزبير أتيانا وقد بايعنا عليّاً واستقامت أمورنا فحملانا على الفرقة حتى ضرب بعضنا بعضاً ، ونحن الآن مجتمعون على بيعته ، وقد أقال العثرة وعفا عن المسيء ، أفتأمرنا أن ننتضي أسيافنا ويضرب بعضنا بعضاً ليكون معاوية أميراً ، والله ليوم من أيام عليّ خير من معاوية وآل معاوية.

فقام عبد الله بن خازم الأسدي فقال للضحاك : أسكت فلست بأهل أن تتكلم ، ثمّ أقبل على ابن الحضرمي فقال : نحن أنصارك ويدك والقول قولك فاقرأ كتابك ، فأخرج كتاب معاوية إليهم يذكرهم فيه آثار عثمان فيهم وحبه العافية وسدّه ثغورهم ، ويذكر قتله ويدعوهم إلى الطلب بدمه ، ويضمن أنّه يعمل فيهم بالسنّة ويعطيهم عطاءين في السنّة. فلمّا فرغ من قراءته قام الأحنف بن قيس فقال : لا ناقتي في هذا ولا جملي واعتزل القوم.

وقام عمرو بن مرجوم العبدي فقال : أيها الناس الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا تنكثوا بيعتكم فتقع بكم الواقعة. وكان عباس (١) بن صحار العبدي مخالفاً لقومه في حب عليّ ، فقام وقال : لننصرنك بأيدينا وألسنتنا.

فقال له المثنى بن مخربة العبدي : والله لئن لم ترجع إلى مكانك الّذي جئتنا منه لنجاهدنك بأسيافنا ورماحنا ، ولا يغرنّك هذا الّذي يتكلم ـ يعني ابن صحار ـ

____________

(١) هكذا في تاريخ ابن الأثير وقد مر أن اسمه صحار بن عباس ، ولعل سهواً في أحد النقلين.

٢٥٤

فقال ابن الحضرمي لصبرة بن شيمان : أنت نابٌ من أنياب العرب فانصرني ، فقال : لو نزلت في داري لنصرتك. فلمّا رأى زياد ذلك خاف فاستدعى حضين ابن المنذر ومالك بن مسمع فقال : أنتم يا معشر بكر بن وائل أنصار أمير المؤمنين وثقاته ، وقد كان من ابن الحضرمي ما ترون وأتاه من أتاه فامنعوني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين.

فقال حضين بن المنذر : نعم ، وقال مالك ـ وكان رأيه مائلاً إلى بني أمية ـ هذا أمر لي فيه شركاء استشير فيه وأنظر. فلمّا رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف عليه ربيعة ، فأرسل إلى صبرة بن شيمان الحدّاني الأزدي يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين ، فقال : إن حملته إلى داري أجرتكما ، فنقله إلى داره بالحدّان ، ونقل المنبر أيضاً ، فكان يصلي الجمعة بمسجد الحدّان ويطعم الطعام ... » (١).

قال إبراهيم بن محمّد الثقفي : « وكتب إلى عبد الله بن عباس ...

للأمير عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد سلام عليك أمّا بعد فإنّ عبد الله ابن عامر الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتى نزل في بني تميم ونعى ابن عفان ودعا إلى الحرب ، فبايعه جلّ أهل البصرة ، فلمّا رأيت ذلك استجرت بالأزد بصبرة بن شيمان وقومه ، لنفسي ولبيت مال المسلمين ، فرحلت من قصر الإمارة فنزلت فيهم وإنّ الأزد معي ، وشيعة أمير المؤمنين من سائر القبائل تختلف إليَّ ، وشيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي ، والقصر خالٍ منّا ومنهم ، فارفع ذلك

____________

(١) الكامل ٣ / ١٥٦ ط بولاق.

٢٥٥

إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه واعجّل عليّ بالّذي ترى أن يكون فيه منه والسلام.

قال : فرفع ذلك ابن عباس إلى عليّ (عليه السلام) فشاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك » (١).

قال ابن أبي الحديد : « وروى الواقدي : أنّ عليّاً (عليه السلام) استنفر بني تميم أياماً لينهض منهم إلى البصرة مَن يكفيه أمر ابن الحضرمي ويرد عادية بني تميم الذين أجاروه بها ، فلم يجبه أحد ، فخطبهم وقال : (أليس من العجب أن ينصرني الأزد وتخذلني مضر ، وأعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بي وخلاف تميم البصرة عليَّ وأن استنجد بطائفة منها تشخص إلى إخوانها فيدعوهم إلى الرشاد فإن أجابت وإلاّ فالمنابذة والحرب ، فكأنّي أخاطب صمّاً بكماً لا يفقهون حواراً ولا يجيبون نداءاً ، كلّ هذا جبناً عن البأس وحباً للحياة لقد كنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ... إلى أن قال : وأيم الله لتحتلبنّها دماً ولتتبعنّها ندماً).

قال : فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي فقال : إنّا إن شاء الله أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب ، وأتكفّل لك بقتل ابن الحضرمي أو إخراجه عن البصرة ، فأمره بالتهيّوء للشخوص فشخص حتى قدم البصرة ـ ثمّ ساق حديثه إلى أن ذكر تبييت نفر من المارقة الخارجة له في بيته وقتله (رحمه الله) ، فكتب زياد بذلك إلى الإمام (عليه السلام) ، فدعا جارية بن قدامة السعدي وكلّمه في ذلك ثمّ بعثه إلى البصرة ومعه خمسين رجلاً ، وكتب معه كتاباً إلى أهل البصرة يوبّخهم على النكث

____________

(١) الغارات / ٣٩٠.

٢٥٦

والتخاذل ، ويتوعدهم إن أصروا على ذلك بوقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلاّ كلعقة لاعق. وورد جارية البصرة ونهض معه جماعة من الأزد ، وانتهى أمر ابن الحضرمي إلى أن حصر ومعه جماعة وأبى أن يستسلم فأحرق جارية عليهم البيت ، فهلك ابن الحضرمي وسبعون من أتباعه ، وسمي جارية من ذلك اليوم محرّقا. وانتهت فتنة ابن الحضرمي ، وخاب سعي معاوية ، وبلغ الإمام الخبر فأثنى على جارية ومن ناصره وقال في البصرة : (أوّل القرى خراباً إمّا غرقاً أو حرقاً حتى يبقى مسجدها كجؤجؤ سفينة) » (١).

وهنا نقف قليلاً لنتساءل : لماذا لم يرجع ابن عباس إلى البصرة ـ مقر عمله ـ فيتولى هو معالجة الموقف بنفسه حسب ما يقتضي به الحال ، وهو الخبير به لسابق معرفته مع حنكته وتجربته؟

وهذا سؤال يبدو وجيهاً ، ولابدّ له من جواب.

وإذا تلمسنا الجواب نعرفه من خلال ما مرّ بنا من مجريات الأحداث بدءاً من أوّل أيام ولايته على البصرة وانتهاءً به إلى حادثة فتنة ابن الحضرمي.

فإنّه لا يخفى على من استذكر ما مرّ بنا من تاريخ حياته بالبصرة ، وأعدنا قراءة نشاطه الإداري والسياسي ، وعرفنا كيف كان يتعامل مع أهل البصرة على ضوء التركيبة السكانية ، ولا يهمل جانب الموالاة للحكم ـ بل لم يتسامح ـ مع الذين كانوا في حرب الجمل قد وقفوا ضدّه. فهو قد تنمّر لبني تميم ، وهم أيضاً قد تنمّروا له ، وقد كتب إليه الإمام (عليه السلام) في ذلك ليخفّف من شدّته وتغيير موقفه معهم.

____________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٣٥٢.

٢٥٧

ثمّ لو أعدنا قراءة ما خطب به في الأمس القريب حين استنهضهم إلى الخروج لمعاودة حرب أهل الشام ، فرأى التقاعس والتخاذل فأعاد الخطبة ثانية مع وعيد وتهديد.

أقول : فإذا استذكرنا ذلك كلّه من موقف ابن عباس بالبصرة ، وأضفنا إليه ما جرى أمامه مع إمامه بالكوفة حيث استنفر الإمام تميم الكوفة لرد عادية تميم البصرة في فتنة ابن الحضرمي حين أجاروه وأجابوه وناصروه. فلم يجب الإمام من تميم الكوفة أحد ، وهو يستنهضهم أياماً ولا من مجيب حتى خطبهم بما مرّت روايته عن الواقدي.

فكان هذا كلّه بمرأى ومسمع من ابن عباس ، ولا شك كانت تجري مشاورات بينه وبين الإمام في كيفية معالجة الموقف المتأزم ، وما يدرينا لعل من رأيه كانت العودة وتولي حسم الموقف حسب نظره إلاّ ان الإمام لم يأذن له بذلك. وهذا لئن كان مجرد احتمال من دون استدلال. فإن الّذي لا شك فيه أنّه لو عاد لزاد الموقف حراجة ، فالبصرة حين يغلي مرجلها لا يصلح لها من يزيدها غلياناً ، وربّما تزهق نفسه ، كما زهقت نفس محمّد بن أبي بكر. وتذهب البصرة كما ذهبت مصر بالأمس القريب.

فإنّ ابن عباس وما يجد في نفسه على بني تميم سابقاً قد زاده الموقف الحاضر عليهم حنقاً ، ولا ريب لو رجع إلى البصرة فلسوف يستعمل معهم أقسى العقوبات فيضع السيف أمام السوط ، ولا يبقي ولا يذر ، وهذا ما سيزيد النار أواراً ، ويفسد تميم الكوفة ، ويزيد في حنقهم عليه وعلى الإمام ، ولا تؤمن عاديتهم ، وربّما ثارت ثائرتهم وحينئذ يتسع الخرق ، فلا يرتق الفتق. خصوصاً مع

٢٥٨

تربّص ذوي الإحن والأحقاد لمثل ذلك الإنشقاق ، فيدسّوا آنافهم ، ويزيدوا خلافهم ليصطادوا في الماء العكر ، لأنّ إحن الترات القديم بين القبائل في المجتمع العربي لا تزال آثاره في النفوس.

وإلى القارئ رواية مشهد واحد جرى في الكوفة في تلك القضية أمام الإمام وأمام ابن عباس ، وكادت الفتنة تنغض برأسها ، لولا أن تداركها الإمام بحكمته وحنكته فأخمد جذوتها :

فقد روى أبو الكنود : « أنّ شبث بن ربعي قال لعليّ (عليه السلام) : يا أمير المؤمنين ابعث إلى هذا الحي من تميم فادعهم إلى طاعتك ولزوم بيعتك ، ولا تسلّط عليهم أزد عُمان البُعداء البُغضاء ، فإنّ واحداً من قومك خير لك من عشرة غيرهم.

فقال له مخنف بن سليم الأزدي : إنّ البعيد البغيض من عصى الله وخالف أمير المؤمنين وهم قومك ، وإنّ الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين وهم قومي ، وأحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : مَه تناهوا ، أيّها الناس وليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي ، ولتجتمع كلمتكم والزموا دين الله الّذي لا يقبل من أحد غيره ، وكلمة الإخلاص الّتي هي قوام الدين ، وحجة الله على الكافرين ، واذكروا إذ كنتم قليلاً مشركين متباغضين متفرقين ، فألّف بينكم بالإسلام فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم فلا تفرّقوا بعد إذ اجتمعتم ولا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم ، وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل ، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله وإلى كتابه وسنّة نبيّه.

٢٥٩

فأمّا تلك الحميّة من خطرات الشياطين ، فانتهوا عنها لا أباً لكم تفلحوا وتنجحوا » (١).

فهذا الخبر الّذي نتعامل معه كوثيقة تاريخية له دلالته الحقيقية المؤسفة ، فلا نهدر مدلوله ، فإنّه كما يتسق مع مجرى الأحداث ، فهو يلتقي مع الواقع المرير الّذي يعيشه المجتمع الإسلامي العربي يومئذ ، فإحن الأضغان لا تزال كامنة في النفوس المرضى من تلك القبائل الّتي يتألف منها المجتمع سواء في الكوفة أو البصرة أو غيرهما من البلاد. ومتى أهيجت هاجت ، وثارت الفتنة وماجت.

فإذن لم يكن من المصلحة أن يُرجَع الإمام ابن عمه إلى مقر عمله في ذلك الجو الملتهب الصاخب وهو يعرفه ذلك الحازم الغاضب. ولكنه أعاده بعد إخماد فتنة ابن الحضرمي.

ولم تقف محنة الإمام عند هذا الحد ، بل تجاوزته إلى شرّ منه ، فقد بدأت عشائر الخوارج تنغض إليه رؤوسها ، فيقطعون عليه خطبته ، ويردّون عليه دعوته ، ويثبّطون الناس عن نصرته. ولم يتحرّجوا حتى عن مواجهته ، لأنّهم أمنوا سطوته ، ولا أدل على ذلك من خبر الخريت بن راشد السامي ـ من ولد سامة بن لوي ـ كما سيأتي :

روى الطبري عن عمر بن شبة بسنده عن الشعبي قال : « لمّا قتل عليّ (عليه السلام) أهل النهروان خالفه قوم كثير ، وانقضت عليه أطرافه ، وخالفه بنو ناجية ، وقدم ابن الحضرمي البصرة ، وانتقض أهل الأهواز ، وطمع أهل الخراج في كسره ، ثمّ أخرجوا سهل بن حنيف من فارس ـ وكان عامل عليّ عليها ـ

____________

(١) شرح النهج لابن أ [ ي الحديد ١ / ٣٥٢.

٢٦٠