موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلت الكوفة. وخرج إلى عليّ منهم نحو من مائة. وكانوا أربعة آلاف ، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب منهم الفين وثمانمائة ، وزحفوا إلى عليّ ... ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فوالله ما لبثوهم أن أناموهم » (١).

وفي لفظ آخر عند الدينوري : « وقتلت الخوارج كلها ربضة واحدة » (٢).

وقال ابن خلدون في تاريخه : « فهلكوا كلّهم في ساعة واحدة كأنّما قيل لهم موتوا » (٣).

وقال المبرّد في الكامل : « وقد قال لهم ـ يعني الإمام ـ انّه والله ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منهم عشرة ، فقتل من أصحابه تسعة وأفلت منهم ثمانية » (٤).

قال أبو مخنف في حديثه عن عبد الرحمن بن جندب بن عبد الله : « انّه لم يقتل من أصحاب عليّ إلاّ سبعة » (٥).

وقال في حديثه الآخر قال : « كان عليّ لمّا فرغ من أهل النهروان حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ الله قد أحسن بكم ، وأعزّ نصركم ، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوكم معاوية وأشياعه القاسطين الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون.

____________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٨٦.

(٢) الأخبار الطوال / ٢١٠.

(٣) تاريخ ابن خلدون ٢ / ١١٢٣ ط دار الكتاب اللبناني سنة ١٩٥٦.

(٤) الكامل ٣ / ١٨٧ مطبعة نهضة مصر.

(٥) تاريخ الطبري ٥ / ٨٩.

٢٢١

فقالوا : يا أمير المؤمنين نفذت نبالنا ، وكلّت أذرعنا ، وتقطّعت سيوفنا ، ونصلت أسنّة رماحنا ، فارجع بنا إلى مصرنا فلنستعد بأحسن عدّتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من هلك منا فإنّه أقوى فإنّه أوفى (أقوى) على عدونا » (١).

قال الطبري وغيره : « وكان الّذي تولّى هذا الكلام هو الأشعث بن قيس » (٢). قال البلاذري : « وكان الأشعث طنيناً وسماه عليّ عرف النار » (٣).

فأقبل الإمام راجعاً حتى نزل النخيلة ، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم ، ويوطنّوا على الجهاد أنفسَهم ، وأن يقلّوا زيارة نسائهم وأبنائهم حتى يسيروا إلى عدوّهم ، فأقاموا أياماً ، ثمّ تسللوا من معسكرهم ، فدخلوا إلاّ رجالاً من وجوه الناس قليلاً ، وتُرك المعسكر خالياً ، فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة ، وأنكسر عليه رأيه في المسير.

قال الطبري : « وكان غير أبي مخنف يقول : كانت الوقعة بين عليّ وأهل النهر سنة ثمان وثلاثين ، وهذا القول عليه أكثر أهل السير » (٤). بينما رأى اليعقوبي (٥) ، وابن تغري بردى (٦) أنّها سنة ٣٩ هـ وصحح ذلك.

____________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٨٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) أنساب الأشراف ٢ / ٣٧٩ ، وأحسب تصحيفاً وقع في قوله (طنيناً) وفسره في الهامش أي رفع الصوت فسمع الناس قوله هذا فركنوا إليه. ولعل الصواب (ظنيناً) أي متهماً في دينه. وهذا ما يتناسب مع وصف الإمام له بانه عُرف النار.

(٤) تاريخ الطبري ٥ / ٩١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ه٢ / ١٦٩.

(٦) النجوم الزاهرة ١ / ١١٧.

٢٢٢

وعندي أنّ بداية المسير كان في آخر سنة ثمان وثلاثين ، ولمّا كانت الوقعة في اليوم التاسع من صفر كما في أنساب الأشراف (١) فلابدّ أن تكون سنة تسع وثلاثين. فقد قال اليعقوبي : « وكانت وقعة النهروان سنة تسع وثلاثين » (٢) ، وقال ابن تغري بردى : « فيها ـ سنة تسع وثلاثين ـ أيضاً كانت وقعة الخوارج مع عليّ بن أبي طالب بحروراء ، وبالنخيلة قاتلهم عليّ فكسرهم وقتل رؤوسهم ، وسجد شكراً لمّا أتي بمخدّج اليد مقتولاً ... وكان رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي ، وقد تقدم ذكرها في السنّة الماضية ، والأصح أنّها في هذه السنّة » (٣).

ومهما يكن الإختلاف في تعيين السنّة ، فلا خلاف في أنّ الإمام قاتل أهل النهروان فقتلهم وهم المارقون الذين حذّر منهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّهم شر الخليفة وأخبر عنهم : (يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يقتلهم خير الخلق والخليقة). وهو أمير المؤمنين.

وله (عليه السلام) كلام قاله بعد تلك الوقعة رواه البرقي المتوفى سنة (٢٧٤ هـ أو ٢٨٠ هـ) في كتابه : « قال : (والّذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد شهدنا في هذا الموقف أناس لم يخلق الله آباءهم ولا أجدادهم بعد) ، فقال الرجل : وكيف يشهدنا قوم لم يُخلقوا؟! قال (عليه السلام) : (بلى ، قوم يكونون في آخر الزمان يشركوننا فيما نحن فيه ، ويسلّمون لنا ، فأولئك شركاؤنا فيما كنّا فيه حقّاً حقّا) » (٤).

اللّهمّ فاشهد إنّا على ذلك وأنت خير الشاهدين.

____________

(١) أنساب الأشراف للبلاذري ٢ / ٣٦٢ و ٣٧٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ه٢ / ١٦٩.

(٣) النجوم الزاهرة ١ / ١١٨ ط دار الكتب المصرية.

(٤) المحاسن / ٢٦٣ برقم ٣٢٣ تح ـ السيّد جلال الدين الحسيني ط ايران.

٢٢٣

محض هراء وافتراء من دون حياء (١) :

لقد اتفقت المصادر الحديثية والتاريخية وحتى كتب المقالات والفِرق ، القديمة والحديثة ، على انّ ابن عباس حاور الخوارج سواء في حروراء أو في الكوفة ، أو في النهروان ، واتفقت على غلبته عليهم بالحجة في موقفه معهم في حروراء والكوفة حتى استجاب لنصحه أعداد مر ذكرها عند ذكر المحاورتين مفصلة.

أمّا عن محاورته الثالثة في النهروان ، فقد كان رسولاً إليهم بين يدي الإمام ، ولمّا بلّغهم الرسالة وسألهم عمّا يريدون وطلبوا أن يكون الإمام هو الّذي يتولى جوابهم تقدّم الإمام وحاججهم حتى خصمهم ، فأناب منهم من أناب ، واعتزل من اعتزل ، وأخيراً دخل بعضهم تحت راية الأمان ، وبقي الآخرون الذين حصدتهم السيوف حتى كأنّهم قيل لهم موتوا فماتوا ، ولم يرد في شيء من تلك المصادر عن ابن عباس انقطاع حجة أو عجز عن بيان محجة ، فضلاً عن غلبة الخوارج عليه.

غير أنّ من العجيب الغريب أن أجد كاتباً من الأباضية وأحسبه من المعاصرين كما ورد بخطه في أوّل الكتاب تاريخ سنة ١٣٩٤ هـ يذكر هذا الكاتب ـ واسمه سالم بن حمد بن سليمان بن حميد الحارثي العاني الأباضي في كتابه (العقود الفضية في أصول الأباضية) (٢) ـ صورة محاورة جرت بين ابن عباس وبين الخوارج على خلاف جميع ما مرّ في تلك المصادر القديمة

____________

(١) ممّا استجدّ بحثه وإلحاقه بالكتاب.

(٢) العقود الفضية في أصول الأباضية ط دار اليقظة العربية في سوريا ولبنان.

٢٢٤

والحديثة ، ولم يكتف بانقطاع حجة ابن عباس مخصوماً ، بل تعدى إلى جعله في صفهم خصماً خصوماً ، وبالتالي مفارقاً للإمام عاقاً ظلوماً.

ولم أكن أتوقع أن أقرأ يوماً عند كاتب من البهتان ما يصادم الوجدان بلا أيّ برهان ، لأنّ الناس في هذا الزمان قد تخطّوا في ثقافاتهم حواجز الزمان والمكان ، ولم تعد تنطلي عليهم أساليب الغش والخداع ، ولابدّ لمن يحكي قولاً أو رأياً أو يزعم زعماً ، أن يذكر مصدره ، ليصدّق نقله ، وليبرأ من عهدته. ثمّ يترك الأمر إلى قناعة القارئ تصديقاً أو تكذيباً.

أمّا أن يذكر شيئاً على خلاف ما هو ثابت تاريخياً ثمّ يحكيه مرسلاً عن كتاب هيّان بن بيّان عن كتاب شختي بن بختي فذلك أمرٌ مرفوض جملة وتفصيلا ، ولم أكُن يوماً شاكاً في صحة ما ورد عن بعض الخوارج وأنّهم كانوا إذا هوَوا أمراً صيّروه حديثاً ، كما روى ذلك الخطيب البغدادي في كتابيه (١) ، وكذلك روى القرطبي في تفسيره عن شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب قال : « إنّ هذه الأحاديث دين فانظروا ممّن تأخذون دينكم ، فإنّا كنّا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً » (٢).

فأنا لم أكن شاكاً في صحة ذلك عنهم ، لكني كنت أستغرب تلك المقولة ، مع ما أعطى الله الإنسان من نعمة العقل كيف يتجاهل المرء عقله فينبذه ويتّبع هواه مع ما هم عليه حيث يراؤون الناس من صلاح الظاهر وثفنات السجود.

____________

(١) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ١ / ١٣٧ ط مكتبة المعارف الرياض ، والكفاية في علم الرواية / ١٢٣ ط المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١ / ٧٨ ط دار الشعب.

٢٢٥

لقد صدق الله مولانا العليّ العظيم حيث يقول في سورة البقرة :

( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين َ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) (١). وقال سبحانه وتعالى في سورة القصص : ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (٢).

ولئلا أتجنّى على مؤلف الكتاب وزمرته ، وتنويراً للقارئ بما أشرت إليه في العنوان لابدّ لي من نقل ما ساقه في كتابه بنصّه وفصّه كما يقولون ثمّ التعقيب عليه بعد ذلك.

فقد قال : « وأرسل عليّ ابن عباس ليناظرهم. نقلاً من شرح اللامية للقطب ، وأصله في كتاب السير العُمانية من سيرة شبيب بن عطية من علماء القرن الثاني للهجرة هكذا : طلب ابن عباس اليهم الرجوع ، وقالوا له : انّ صاحبك ترك اسم أمير المؤمنين وطلب الحكومة ، وخلع سربالاً ألبسه الله إياه.

فقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : أما علمتم أنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لمّا عاهد أهل مكة ومشركي العرب ـ ومشركي قريش عام الحديبية حين صدّه

____________

(١) البقرة / ٨ ـ ١٣.

(٢) القصص / ٥٠ ـ ٥١.

٢٢٦

المشـركـون عـن المسجد الحرام إلى مضيّ المـدة الّتـي سماهـا لهـم (من ترك فيها) (؟) القتال والدماء ، وأمّا ما ذكرتم من خلعه نفسه من اسم أمير المؤمنين فقد فعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم حين كتب الكتاب لقريش وأملاها (؟) رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ، هذا ما قاضى به محمّد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قريشاً ، فقال المشركون : لو علمنا أنك رسول الله ما خالفناك ، فكتب من محمّد بن عبد الله.

وأمّا ما ذكرتم من الحكومة وأنّها لا تجوز فقال عز من قائل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) (١) ، وقال عزّ من قائل : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) (٢).

فقالوا : قد سمعنا قولك والّذي أرسلت به واحتجاجك ، فنذكرك الله لما سمعت قولنا وفهمت حجّتنا ثمّ كنت عدلاً بيننا وبين من أرسلك.

قال : اللّهمّ نعم.

قالوا : أخبرنا عمّن قتل الصيد وهو محرم هل يسعه أن يحكّم من يرى استحلال الصيد المحرّم ، ويستحل قتل صيد الحرم؟ قال : لا.

قالوا : وكيف يسع عليّاً أن يحكّم في دين الله مَن يدين باستحلال ما حرّم الله من دماء المسلمين ، ويحرّم ما أحلّ الله من قتال الفئة الباغية ، ومَن يدين

____________

(١) المائدة / ٩٥.

(٢) النساء / ٣٥.

٢٢٧

بولاية من عادى الله ورسوله وبعداوة أولياء الله ، ويدين بخلاف ما عليه المسلمون من الحقّ الّذي هم عليه ، وفارقوهم على خلافه ، فوالله لو كانت الحكومة حقاً لكان عليّ ترك الحقّ بتحكيمه في دين الله مَن يدين بخلاف دين الله فيما استحل من قتل المؤمنين وسفك دمائهم وما حرّم الله من قتال الفئة الباغية مع ما يدين به من ولاية من عادى الله ورسوله وعداوة أولياء الله ، على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والله سبحانه يقول : ( وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) (١).

ثمّ قالوا : نذكرك الله يا بن عباس هل تعلم أنّ أبا موسى كان شاكاً في قتال الفئة الباغية يحرّم ما أحل الله من قتال الفئة الباغية ، ويخذّل الناس عن القتال؟

قال : اللّهمّ نعم.

قالوا : انّ عليّاً حكّم فيمن قتل الصيد وهو محرم من يعتقد أنّه لا يحرم قتل الصيد في الحرم ، ولا يحرم قتل الصيد في الحلّ على المحرم ، أكان بتحكيمه من كان هذا أمره وصفته على هذا الوجه ضلالاً إذ حكّم شاكاً ـ مرتاباً فيما حكم الله به من تحريم قتل الصيد في الحرم إذ كان محرماً لضلّ بتحكيمه مَن هذا أمره وصفته ، ولو كانت الحكومة عدلاً لكان بحكومة مَن يستحل قتل المؤمنين ويعاديهم ويكفر بدينهم ضالاً ، وقد أضل بحكومته من يحرّم ما أحل الله للمؤمنين من قتال من بغى عليهم ، واتبع سبيلاً غير سبيلهم ، وأبى أن يقرّ بحكم القرآن فيما خالفوا فيه ، فنذكرك الله يا بن عباس هل تعلم انّ عمرو بن العاص استحلّ ما حرّم الله من دماء المسلمين ، وحرّم ما أحلّ الله من قتال من بغى على

____________

(١) النساء / ١١٥.

٢٢٨

المسلمين ، وتولى من عادى الله ، وعادى المسلمين ومن دان بدينهم ، وما هم عليه من الحقّ ومن قتال أهل البغي؟

فقال : اللّهمّ نعم قد خصمتم عليّاً بهذا وقولكم الحقّ (؟).

ثمّ قالوا : أمّا ما ذكرت من قول الله ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ـ إلى قوله (عزّ وجلّ) ـ يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) (١) فأخبرنا عن رجل من المسلمين عنده يهودية أو نصرانية وكان بينهما اختلاف ومنازعة هل ينبغي له ولمن حضره من المسلمين أن يدعو اليهود أو النصارى يحكمونهم بما هم به كافرون من أحكام المؤمنين؟

قال : لا.

قالوا : كيف حكّم عليّ عمرو بن العاص وهو يكفر بما حكّمه فيه ويستحل ما حرّم الله من دماء المسلمين ويدين بغير دينهم ، ويوالي من عادوا ويعادي من والوا ، فنذكرك الله هل يسع عليّاً هذا؟

قال : لا يجوز هذا لمن فعله ولا يسعه.

وقالوا : أمّا ما ذكرت من أمر الموادعة والقضية الّتي كانت بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين المشركين ، فإنّها كانت منازل ونقل عنها منزلة منزلة ، وكلّ منزلة نقل الله عنها نبيّه أو أمره بغيرها حرّم عليه الإقامة عليها وحرّم على المسلمين أيضاً أن يقيموا على ما نقل عنه ، من ذلك القبلة الّتي كانت بيت المقدس نقل الله نبيّه والمؤمنين عنها باستقبال البيت الحرام ، ومثل الخمر كانت حلالاً ثمّ نهى الله

____________

(١) النساء / ٣٥.

٢٢٩

عنها أوّلاً تأديباً ثمّ حرّمها بعد ذلك من نعمه وطوله ومنّته على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى المؤمنين ، وكذا مفاداة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل بدر ، ولا أمر ولا نهي ولا وعيد ، وقال تعالى : ( لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١) وقد كان سبق من الله العفو عنهم والمغفرة لهم فيما فعلوا ، (وقيل) (؟) سبق من الله أن لا يعذّب أحداً إلاّ بعد بيان ، (أو سبق) (؟) من الله (جلّ جلاله) أن يحلّ لهذه الأمة ما غنموا من عدوّهم إذا حاربوا ، وأنزل الله (عزّ وجلّ) على نبيّه بعد ذلك تحريم معاهدة المشركين فقال ( بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ـ إلى قوله جلّ وعلا : ـ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ـ وإلى قوله : ـ لا يَعْلَمُونَ ) (٢) (؟) فجاءت براءة بنقض كلّ عهد وتحريم أمان المشركين وقتلهم حيث ما وجدوا وحصرهم والقعود لهم بكل مرصد وتحريم الجنوح اليهم ، ولا يقبل منهم إلاّ الدخول في الإسلام والاقرار به ولاهل الكتاب الجزية ، فما لهم إلاّ الإسلام أو الجزية ولم يحل الله أمان أحد منهم إلاّ من استجار ليسمع كلام الله فان لم يؤمن أبلغه مأمنه. وقال الله (عزّ وجلّ) : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ إلى قوله ـ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) (٣) فلا إقامة لأحد على ما نقل الله نبيّه عنه. فما حجة صاحبك علينا فيما نقل الله نبيّه والمؤمنين عنه ، وحرّم ذلك عنه ، وان جوّز ذلك فليرجع إلى استقبال بيت المقدس وإلى كلّ ما نسخ.

ثمّ قالوا نذكرك الله يا بن عباس هل تعلم أنّ الّذي احتج به صاحبك علينا منتقض غير جائز في الدين؟

____________

(١) الأنفال / ٦٨.

(٢) براءة / ١.

(٣) براءة / ٢٨.

٢٣٠

قال : اللّهمّ نعم.

قالوا : يا بن عباس ألست تعلم أنّ الله (عزّ وجلّ) قال في كتابه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ... ) الآية (١) ، ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ... ) الآية (٢).

(قالوا) (؟) : اللّهمّ نعم.

قالوا : فهل تعلم ان قتال الفئة الباغية حد من حدود الله كالجلد والقطع؟

قال : نعم.

قالوا : فأخبرنا (عمن زنا) (؟) أو سرق فأراد امام المسلمين أن يقيم عليه الحد فامتنع وقامت معه طائفة تمنعه عن إقامة الحد أليس يحل قتالهم؟

قال : بلى.

قالوا : فان المسلمين قاتلوهم حتى قتلوا منهم قتلى ثمّ ابتغوا الحكومة أيسع المسلمين قبولها وتحريم القتال وتعطيله؟

قال : اللّهمّ لا.

قالوا : فكيف يسوغ لنا أن نحكّم في دين الله من يدين بتعطيل الحدود وتحريم ما أحل الله من قتال الفئة الباغية مع انّه حد من حدود الله ، وكلّ ما حكم الله فيه فلا تخيير فيه لعباده قال الله (عزّ وجلّ) : ( وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) ـ إلى قوله (عزّ وجلّ) ـ ( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٣) وقال : ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ... ) الخ (٤) وقال :

____________

(١) النور / ٢.

(٢) المائدة / ٣٨.

(٣) المائدة / ٤٩.

(٤) الأنعام / ١١٤.

٢٣١

( إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ـ إلى قوله ـ لا يَعْلَمُونَ ) (١) وما جعل الله (عزّ وجلّ) الحكم فيه للرجال فليحكم فيه ذوا عدل ولا حكم في غير ذلك للرجال ، قال الله جلّ وعلا : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ ) ـ إلى قوله ـ ( ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا ) (٢) وقال : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ـ إلى قوله (عزّ وجلّ) ـ ( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٣) فكيف يحكّم في دين الله من لم يحكّمه الله ورسوله ، ووجد في نفسه حرجاً ممّا قضى الله ورسوله وأبى أن يسلّم تسليماً ، واستحل قتل من حكّم الله ورسوله وسلّم لحكمه تسليماً ، فان معاوية وعمرو ابن العاص أبيا أن يسلمّا لحكم الله ورسوله؟

قال : اللّهمّ نعم.

ثمّ قالوا : يا بن عباس ان كان معاوية وعمرو بن العاص سلما لحكم الله وما أنزل من القرآن ورجعا عمّا كانا عليه وفاءاً إلى أمر الله ورجعا إلى دين المسلمين فالحق علينا أن نقبل عنهما ونتولاّهما ، لأنّ الله أمر بقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، فإذا فاءوا إلى أمر الله قبل ذلك منهم ، ولم يسع أحداً يردّ ذلك عليهما ، وأمّا أن نحكّم الرجال فيما قد فرغ الله من الحكم فيه ، فإن كان حكموا بنقض ما جاءنا من الله فننتقل عما نحن عليه من البينات إلى الضلال والعمى والترك لحكم الله ، والإيمان الّذي نحن عليه حتى يستحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله ، ونوالي من كنا نعاديه بدين وفريضة ، ونعادي من كنا نوإليه بدين الله

____________

(١) الأنعام / ٥٧.

(٢) الأحزاب / ٣٦.

(٣) النساء / ٦٥.

٢٣٢

وبحكم كتاب الله وما افترض علينا من ولاية من أقر بديننا ، فمعاذ الله أن نفعل ذلك إن شاء الله حتى تذهب أنفسنا أو نظهر على عدونا.

فقال ابن عباس : اللّهمّ هذا هو الحقّ.

وقالوا : ألست تعلم أنّ فيما اشترط عليّ ومعاوية كلّ واحد منهما على صاحبه ، انّه أيّما رجل أحدث حدثاً من أصحاب عليّ ودخل في دين معاوية وحكمه فليس لعليّ إقامة الحد عليه لدخوله في دين معاوية وحكمه ، وأيما رجل أحدث حدثاً من أصحاب معاوية ودخل في دين عليّ وحكمه فليس لمعاوية إقامة الحد عليه لدخوله في دين عليّ وحكمه ، فكيف يدخل في دين قوم قد أقروا على أنفسهم بأنّه من أحدث حدثاً منهم ففر من حكم الله عليه وكره إقامة الحد بأن يقول دخل في دين معاوية زال ذلك الحكم والحد عنه؟ وكيف يدخل في دين عليّ وامره كذلك ، وزاد بأن خلع نفسه من إمرة المؤمنين ولم يرجع ولم يستغفر ممّا قد أتى ممّا وصفناه وذكرناه من أمره فيما سوى ذلك قد استحق من امر الله البراءة والخلع حتى يتوب ويستغفر ربّه ويرجع من ذنبه. ألست تقول انّ عليّاً قاتل طلحة والزبير بكتاب الله وبما افترض الله عليه من قتال الفئة الباغية ، وعلى ذلك الأمر قاتل معاوية؟

قال : اللّهمّ نعم.

قالوا : وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاتل عمار بن ياسر ومن معه بصفين حتى قتل عمّار بن ياسر ومن معه من أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتابعين باحسان ، وبأمر الله وإذنه قاتلوا الفئة الباغية؟

قال : اللّهمّ نعم.

٢٣٣

قالوا : أخبرنا عن عليّ حين حكّم الحكمين أليس قد حرّم القتال الّذي أحلّ الله من معاوية وجنده حتى يحكم الحكمان ويأذنا به؟

قال : اللّهمّ نعم.

قالوا : فاخبرنا عن عليّ أحرّم دماءهم بتوبة من معاوية وجنده ، ودخول منهم في الإسلام؟ أم حرّم دماءهم بغير توبة منهم ولا دخول في الإسلام؟

قال : بل حرّم دماءهم بالعهد الّذي أعطاهم حتى يحكم (الحكمين) (؟) بغير توبة ولا دخول في الإسلام.

قالوا : أليس قد حرّم عليّ منهم ما أحلّ الله من قتالهم من غير انتقال منهم عن الّذي أحلّ دماءهم ، واستحل قتال من قتل بلا حدث ، (فمن أقام) (؟) الآن بكتاب الله وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبما قام به عمّار ومن معه من المسلمين فقاتل من قاتله عمار واستحل من استحل عمّار فهو من الكافرين عند صاحبك؟ وكيف يكون عمار من المهتدين المؤمنين ويضل من عمل عمله واقتدى بهداه بعده ، فإن (كان) (؟) قاتلهم عمّار هدى ، فقد اهتدى من اهتدى بهداه ، وإن كان ضلالاً فقد ضل عليّ وأتباعه بولاية عمّار ومن معه من المسلمين ، لقتالهم معاوية؟ وكيف يكون القتال لمعاوية ضلالاً ومعاوية على الدين الّذي استحل منه عمار قتاله وقتال من معه ثمّ لم يتوبوا ولم يرجعوا عمّا هم عليه من دين المسلمين وقولهم؟ وكيف لم يكن القتال لطلحة والزبير على البغي ضلالاً وقد كانا افضل من معاوية ، ويكون القتال لمعاوية ومن معه ضلالاً فهم على الدين الّذي كان عليه طلحة والزبير ، هذا ما نعرف من خطأ عليّ ورجعته عما كان عليه من الحقّ ورغبته عما مضى عليه خيار المسلمين؟ وكيف يحل الله قتال قوم ويأمر به ثمّ

٢٣٤

يهتدي من حرّمه وهم على ذلك الدين ويضل من استحله ، وكيف يحل الله قتال قوم ويأمر به ويأذن فيه ثمّ يكفّر من استحله حتى يأذن فيه من يستحل تحريمه من الحكمين ، وذلك انّ عليّاً حرّم القتال الّذي أحلّه الله من معاوية وجنده ، حتى يأذن فيه عمرو بن العاص وأبو موسى وزعم عليّ أنّه من قام بكتاب الله جلّ وعلا وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ويستحل ما أحل الله من قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله فهو من الكافرين حتى يأذن فيه من يدين بتحريم ما أحل الله من قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله بغير كتاب من الله حدث يحرّم ما أحل الله من قتالهم وحتى يأذن فيه من يدين بتحريمه ويستحل ما حرّم الله من دماء المسلمين ، ويحرّم ما أحل الله من قتال الفئة الباغية ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله. فنذكرك الله يا بن عباس هل يسع هذا من فعله ويهتدي به؟

قال : اللّهمّ لا. (وانصرف عنهم وهو مقرّ لهم ومعترف لهم أنّهم قد خصموه ، ونقضوا عليه ممّا جاء به ممّا احتج به عليهم) (؟)

(فرجع ابن عباس إلى عليّ ، فلمّا رآه قام إليه وناجاه وكره أن يسمع أصحابه قولهم وحجتهم الّتي احتجوا بها) (؟)

فقال له عليّ : ألا تعينني على قتالهم؟

فقال ابن عباس : لا والله لا أقاتل قوماً قد خصموني في الدنيا وإنّهم يوم القيامة لي أخصم وعليّ أقوى وإن لم أكن معهم لم أكن عليهم.

واعتزل عنه ابن عباس (رضي الله عنه) ثمّ فارقه ، وكتب إليه عليّ (يؤنبه) (؟) بمال أخذه من البصرة من بيت المال.

٢٣٥

فقال له : قد عرفت وجه أخذي المال انّه كان بقية دون حقي من بعد ما أعطيت كلّ ذي حق حقه ، قد علمت أخذي المال من قبل قولي في أهل النهروان ، ولو كان أخذي المال باطلاً كان أهون من أن اشرك في دم مؤمن فاكفف عن القوم فأبى ، والله أعلا وأعلم ، انتهى » (١).

فهذا ما سطره سالم بن حمد العماني في كتابه ، ولابدّ لنا من تعقيب يكشف للقارئ زيف ما ذكره وسطره.

ويتم ذلك من خلال النقاط التالية :

تعقيب بلا تثريب (٢) :

لنقف وقفة عابرة عند تلك المحاورة ، ولننظر كم عليها من علامات الاستفهام ، ممّا يسقطها عن الاعتبار في هذا المقام.

١ ـ ذكر المؤلف أسماء ثلاثة كتب أخذ بعضها عن بعض فجعلها مصادر للمحاورة ، فقال : « نقلاً عن شرح اللامية للقطب وأصله في كتاب السير العُمانية من سيرة شبيب بن عطية ».

ولمّا كانت تلك الأسماء مجهولة الهوية عند أصحاب المعجمات الببلوغرافية المعنية ، بدءاً من ابن النديم صاحب الفهرست ، ومروراً بكاتب جلبي صاحب كشف الظنون ، انتهاءً بإسماعيل البغدادي صاحب ذيل كشف الظنون فمن أين السبيل إلى معرفة أصحابها وتقييم كتبهم فضلاً عن توثيقهم؟!

____________

(١) العقود الفضية في أصول الأباضية / ٥٠ ـ ٥٩.

(٢) ممّا استجد بحثه فالحقناه بالكتاب.

٢٣٦

٢ ـ ذكر المؤلف اسم اثنين من علمائهم هما القطب صاحب شرح اللامية ، وشبيب بن عطية صاحب السيرة ، وقال عنه : « من علماء القرن الثاني للهجرة » ، وحسبنا أن نبحث عنه وحده ، ولو عرفناه فهو الأصل لمن بعده ، ولكنّا بعد البحث المضني والأستعانة بالحاسوب الآلي في المكتبة الألفية وكتب العقائد والفرق بعد هذا كلّه لم نجد له ذكراً في كتب أصحاب الرجال والتراجم والتاريخ وكتب الفرق والمقالات. فمن ذا يكون هذا الإنسان المجهول الّذي ذكره في (ص٢٥٣) وقال عنه في حديثه الجليل من أئمة الأباضية في عمان فقال : « وتوفي في زمانه خلف بن زياد البحراني ، وبقي في منزلة إمام بعده شبيب بن عطية الأباضي العماني ومحمّد بن أبي عفان وفي زمانهما بعض جور وقتل »؟

وحبّذا لو ذكر عنه شيئاً من ترجمته أسوة بمن ترجم لهم من أئمة الأباضية ، حيث ترجم لأبي الشعثاء جابر بن زيد في (ص٩٣) ، ولأبي بلال مرداس بن حدير في (ص١٠٧) ، ولعبد الله بن أباض (ص١٢١) ، ولأبي عبيد مسلم بن أبي كريمة في (ص١٣٩) ، وللربيع بن حبيب في (ص١٤٩) ، فبقي على جهالته ، ولا تجدينا معرفة الباقين ما دام الأصل مجهولاً.

٣ ـ ولو سلّمنا جدلاً أنّ (شبيب بن عطية) كان شخصاً واقعياً له وجود خارجي ، ولم يكن اسماً موهوماً ، فلماذا لم يسند روايته بإسناد يرفع عنه إصر الوضع ، وقد كان الإسناد في عصره هو الوسيلة الوحيدة لبراءة عهدة الرواة ، وبقي الإسناد كذلك إلى قرون بعده ، أنظرالطبري المتوفى سنة٣١٠ هـ ، والبلاذري المتوفى سنة ٢٧٦ ، وحتى المسعودي واليعقوبي وابن أعثم ، كلهم اعتمدوا الإسناد في الرواية ، إما في أوائل كتبهم أو في أوّل كلّ حدث أو حديث.

٢٣٧

٤ ـ شيوع الأخطاء الاملائية والنحوية وقد وضعتها بين أقواس وأتبعتها بعلامة استفهام بين قوسين. ولم تقتصر تلك الأخطاء على الاملائية والنحوية ، بل تسرّب الخطأ حتى نال الآي القرآني ، فغلط في نقلها ، وذلك قوله تعالى في سورة براءة فقال : (وإلى قوله لا تعملون) ولدى مراجعة الآية الكريمة كانت قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) (١) ، ولم يرد تصحيح ما ذكرت في جدول (تصويب) في آخر الكتاب.

٥ ـ هلهلة اللغة الفجّة الّتي ساق بها المحاورة مع كثرة التكرار المملّ فيها ، ولم يعهد ذلك في شيء من محاورات الخوارج وخطبهم ، بل وصفوا بالبلاغة وحسن البيان ، ولندع الشكليات ، ولننظر إلى الأهم منها.

٦ ـ قال : « وانصرف عنهم وهو مقرّ لهم أنهم قد خصموه ونقضوا عليه ممّا جاء به ممّا احتج به عليهم ». وهنا لابدّ من وقفة تأمّل!

لماذا انصاع ابن عباس لحجتهم؟ وهم لم يأتوه بشيء جديد ، وإنّما حشروا في حوارهم المزيد من غير المفيد ، هو اجترار وتكرار لما سبق أن سمعه منهم من إشكاليات تافهة مرّت به في حروراء وفي الكوفة ، حينما أتاهم في منزلهم ، ومرت بنا محاوراته وفيها قرأناه مخاصماً جدلاً بقوة جنان وحسن بيان مع انارة المحجة ببليغ الحجة ، فاستطاع أن يقنع منهم من أناب فتاب ، وآب إلى جادة الصواب ، فما باله في هذه المرة احرنجم عن الجواب؟

٧ ـ وإذا صحّ ما ذكره المؤلف في المحاورة من انصياع ابن عباس لحجتهم ، وبالأحرى انقطاع حجته عن جوابهم ، فما باله لم يتبدّل نظره إليهم بعد

____________

(١) براءة / ٦.

٢٣٨

ذلك ، بل كانت مواقفه هي الأولى ، وهي الأقوى في إظهار موالاة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومعاداة أعدائه ، ومنهم الخوارج ، وستأتي شواهد على ذلك في صفحة احتجاجاته.

وللتدليل أذكر موقفاً واحداً يفنّد زعم المؤلف : فقد روى الشيخ الطوسي بسنده عن سعيد بن المسيب قال : « سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن عليّ بن أبي طالب ، فقال له ابن عباس : إن عليّ بن أبي طالب صلّى القبلتين ، وبايع البيعتين ، ولم يعبد صنماً ولا وثناً ، ولم يضرب على رأسه بزلَم ولا بقدح ، ولد على الفطرة ، ولم يشرك بالله طرفة عين أبداً.

فقال الرجل : إني لم أسألك عن هذا ، وانما أسألك عن حمله سيفه على عاتقه يختال به حتى أتى البصرة فقتل بها أربعين ألفاً ، ثمّ صار إلى الشام فلقي حواجب العرب فضرب بعضهم ببعض حتى قتلهم ، ثمّ أتى النهروان وهم مسلمون فقتلهم عن آخرهم.

فقال له ابن عباس : أعليّ أعلم عندك أم أنا؟

فقال : لو كان عليّ أعلم عندي منك لما سألتك.

قال سعيد بن المسيب فغضب ابن عباس حتى اشتد غضبه ثمّ قال :

ثكلتك أمك. عليّ علّمني وكان علمه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ورسول الله علّمه الله من فوق عرشه فعلم النبيّ من الله ، وعلم عليّ من النبيّ ، وعلمي من علم عليّ ، وعلم أصحاب محمّد كلّهم في علم عليّ كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر » (١).

____________

(١) الأمالي ١ / ١١ مط النعمان في النجف.

٢٣٩

وستأتي له مواقف مع بعض الخوارج منها مع ذلك الّذي كان متعلقاً بأستار الكعبة وهو يعلن براءته من الإمام وحديثه رواه ميمون بن مهران ، ولولا طوله لذكرته.

ومنها مع السائل الخارجي الّذي سأله عن الإمام فأعرض ثمّ سأله ثانياً فأجابه بجواب بليغ وحديثه عن ضرار بن الأزور.

ومنها ما رواه الأصبغ بن نباتة عن إسلام الاعرأبي على يد الإمام ، وما كساه الإمام ، وتعرّض الخوارج له حتى شككوه في الإمام فأتى ابن عباس وهو في مسجد الكوفة فسأله عما جرى له فأجابه حتى أقنعه ، والحديث طويل سيأتي في صفحة احتجاجاته.

٨ ـ قال : « فرجع ابن عباس إلى عليّ ، فلمّا رآه قام إليه وناجاه وكره أن يسمع أصحابه قولهم وحجتهم الّتي احتجوا بها ».

أقول : وهذا أمرٌ لم يُعهد من الإمام مثله من ذي قبل ، كما لم يعهد من ابن عباس كذلك.

ولو أغمضنا عن مناقشة ذلك فلنا أن نسأل المؤلف : من أين علم الإمام بأنّ ابن عباس أتاه مخصوماً فكره أن يسمع أصحابه قولهم وحجتهم الّتي احتجوا بها ، حتى احتاط للأمر بالنجوى؟ على أنّ ذلك التصرّف منه أدعى إلى اثارة الفضول ولفت النظر ثمّ التساؤل عما جاء به ابن عباس ، مع أنّا قد مرّ بنا في الحديث عن مؤتمر التحكيم مضايقة الكوفيين لابن عباس في السؤال عما تجيء به رسُل الإمام حتى تبرّم ساخطاً عليهم فضولهم غير المستحب قائلاً كما في الطبري : (أما تعقلون! أما ترون رسول معاوية يجيء لا يُعلم بما جاء به ، ويرجع لا يُعلم ما

٢٤٠