موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٤

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-504-X
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٣٨٢

ثالثاً : موقف خطابي ومنازلة ميدانية مع عمرو بن العاص

روى نصر بسنده عمن سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين وهو يحرّض أصحابه بصفين : « فقام محنيّاً على قوس ، فقال ـ ثمّ ذكر الخطبة وجاء في آخرها : مع أنّ القوم ـ ويعني أهل العراق ـ قد وطِئوا بلادكم وبغوا عليكم ، فجدّوا في قتال عدوكم ، واستعينوا بالله ربكم ، وحافظوا على حُرماتكم » (١).

وقال نصر : « ثمّ إنّه جلس فقام عبد الله بن العباس خطيباً فقال :

الحمد لله رب العالمين ، الّذي دحا تحتنا سبعاً ، وسمك فوقنا سبعاً ، ثمّ خلق فيما بينهنّ خلقاً وأنزل لنا منهنّ رزقاً ، ثمّ جعل كلّ شيء يبلى ويفنى غير وجهه الحي القيوم الّذي يحيا ويبقى.

ثمّ إنّ الله بعث أنبياء ورسلا فجعلهم حججاً على عباده ، عُذراً أو نُذراً ، لا يطاع إلاّ بعلمه وإذنه ، يمنّ بالطاعة على من يشاء من عباده ثمّ يثيب عليها ، ويعصى بعلم منه فيعفو ويغفر بحلمه ، لا يقدر قدره ، ولا يبلغ شيء مكانه ، أحصى كلّ شيء عدداً ، وأحاط بكل شيء علماً.

ثمّ إني أشهد أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إمام الهدى والنبيّ المصطفى ، وقد ساقنا قدر الله إلى ما قد ترون ، حتى كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمة ، وانتشر من أمرها ، أنّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على عليّ بن أبي طالب ابن عم رسول الله وصهره ، وأول ذكرٍ صلّى معه ، بدري قد شهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلّ مشاهده الّتي فيها الفضل ، ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام.

____________

(١) نفس المصدر / ٣٥٨.

١٠١

واعلموا والله الّذي ملك الملك وحده فبان به وكان أهله ، لقد قاتل عليّ بن أبي طالب مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليّ يقول : صدق الله ورسولهُ ، ومعاوية وأبو سفيان يقولان : كذب الله ورسوله.

فما معاوية في هذه بأبّر ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في تلكم ، فعليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر ، والله إنّكم لعلى الحقّ وإنّ القوم لعلى الباطل ، فلا يكوننّ أولى بالجدّ في باطلهم منكم في حقكم ، أما والله إنّا لنعلم أنّ الله سيعذّبهم بأيديكم وبأيدي غيركم.

اللّهمّ ربّنا أعنّا ولا تخذلنا ، وانصرنا على عدوّنا ، ولا تَخلُّ عنا ، وافتح بيننا وبين قومنا بالحقّ ، وأنت خير الفاتحين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم » (١).

ثمّ جرت منازلة ميدانية واشتد القتال فيها ، فقد قال ابن اعثم الكوفي : « خرج عمرو بن العاص في خيل عظيمة ، فأخرج إليه عليّ (رضي الله عنه) عبد الله بن عباس في خيل مثلها ، فانصرفوا عن قتلى وجرحى » (٢).

رابعاً : يوم من أيام صفين مع الوليد بن عقبة

قال نصر في كتابه وقعة صفين : « فلمّا أن كان اليوم الخامس ـ من شهر صفر ـ خرج عبد الله بن العباس ، والوليد بن عقبة ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ، ودنا ابن عباس من الوليد بن عقبة ، فأخذ الوليد يسبّ بني عبد المطلب وأخذ يقول : يابن عباس قطعتم أرحامكم ، وقتلتم إمامكم ، فكيف رأيتم صنع الله بكم ، لم تعطوا ما طلبتم ، ولم تدركوا ما أمّلتم ، والله ـ إن شاء الله ـ مهلككم وناصرنا عليكم.

____________

(١) نفس المصدر / ٣٥٩.

(٢) كتاب الفتوح ٣ / ٣٠.

١٠٢

فأرسل إليه ابن عباس : أن ابرز إليّ ، فأبى أن يفعل ، وقاتل ابن عباس يومئذ قتالاً شديداً ».

ثمّ قال نصر : « ثمّ انصرفوا عند الظهر وكلّ غير غالب وذلك يوم الأحد » (١).

هذا ما ذكره نصر من عدم الغلبة لأي من الطرفين ـ يخالفه ما رواه المسعودي فقد قال : « وأكثر الوليد من سب بني عبد المطلب بن هاشم ، فقاتله ابن عباس قتالاً شديداً وناداه : ابرز إليَّ يا صفوان ـ وكان لقب الوليد ـ وكانت الغلبة لابن عباس ، وكان يوماً صعباً » (٢).

وقد ورد ذكر هذا اليوم عند الطبري (٣) ، وفي تاريخ ابن الأثير (٤) ، والبداية والنهاية لابن كثير (٥) ، وتاريخ ابن خلدون (٦). وغيرها من المصادر ، وجميعها متفقة على أنّ المنازلة كانت بين ابن عباس وبين الوليد. إلاّ أنّ البلاذري بعد أن روى ما هو المذكور عند المؤرخين عقب قائلاً : ومن قال : إنّ الوليد اعتزل القتال ، قال : كان القتال في اليوم الخامس بين عبد الله بن عباس وملحان (٧) بن حارثة بن سعد بن الحشرج الطائي وهو من أهل الشام ، وفيه يقول الشاعر :

____________

(١) وقعة صفين / ٢٤٩.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣٨٩ تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ١٣ ط دار المعارف.

(٤) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٢٧ ط بولاق.

(٥) البداية والنهاية ٧ / ٢٦١ ط السعادة.

(٦) تاريخ ابن خلدون ١ / ١١٠٣ ط دار الكتاب اللبناني.

(٧) هو ابن عم حاتم الطائي الجواد المشهور. فحاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي ، وهذا ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج الطائي وله ذكر في اخبار حاتم في الاغاني ١٦ / ٩٥ و ٩٨ ط الساسي وفيها : وكان ـ حاتم ـ لا يسافر إلاّ وهو ـ يعني ملحان بن حارثة ـ معه.

١٠٣

ليبك على ملحان ضيف مدقّع

وأرملة تزجى مع الليل أرملا (١)

خامساً : مع عبيد الله بن عمر وذي الكلاع الحميري في قتال شديد

قال أبو حنيفة في الأ خبار الطوال : « وخرج يوماً ذو الكلاع في أربعة آلاف فارسي من أهل الشام قد تبايعوا على الموت ، فحملوا على ربيعة ، وكانوا في ميسرة عليّ ، وعليهم عبد الله بن عباس ، فتصدعت جموع ربيعة ، فناداهم خالد ابن المعمّر ـ وهو أحد رؤساء الأخماس من البصرة ـ : يا معشر ربيعة أسخطتم الله ، فثابوا إليه فاشتد القتال حتى كثرت القتلى ، ونادى عبيد الله بن عمر : انا الطيب ابن الطيب ، فسمعه عمار فناداه : بل أنت الخبيث ابن الطيّب.

فاقتتلوا بين الصفين ، وعبيد الله أمامهم يضرب بسيفه ، فحمل عليه حُريث ابن جابر الحنفي فطعنه في لبّته فقتله » (٢).

وقال أيضاً : « وخرج ذو الكلاع في كتيبة من أهل الشام من عك ولخم ، فخرج إليه عبد الله بن عباس في ربيعة فالتقوا ، ونادى رجل من مذحج العراق : يا آل مذحج خدّموا (٣) فاعترضت مذحج عكاً يضربون سوقهم بالسيوف فيبركون ، فنادى ذو الكلاع : يا آل عك بروكاً كبروك الإبل ، وحمل رجل من بكر بن وائل يسمّى خندفا على ذي الكلاع فضربه بالسيف على عاتقه ، فقدّ الدرع وفرى عاتقه

____________

(١) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) ٢ / ٣٠٥.

(٢) الأخبار الطوال / ١٧٨.

(٣) خدّموا أي اضربوا السُوق ، والتخديم ضرب مكان الخلخال من الرجل. وقد وهم محقق كتاب الأخبار الطوال طبع وزارة الثقافة والارشاد القومي ـ الاقليم الجنوبي ـ الإدارة العامة. حيث ذكر النص (خذموا) بالذال المعجمة وعلق في الهامش بقوله : في الاصل خدموا والصواب : خذموا أي أسرعوا في السير. وهذا مبلغ علمه فلا غرابة لكن الأغرب مراجعة الدكتور جمال الدين الشيال للكتاب ولم يلتفت إلى خطأ ذلك.

١٠٤

فخرّ ميتاً ، فلمّا قُتل ذو الكلاع تمحكت عكّ ، وصبروا لعضّ السيوف ، فلم يزالوا كذلك حتى أمسوا » (١).

هذه رواية الدينوري في الأخبار الطوال ، لكن نصر بن مزاحم روى مقتل ذي الكلاع قبل مقتل عبيد الله بن عمر كما ذكر له مخاتلة فاشلة ولنذكر روايته باقتضاب. قال : « إنّ زياد بن خصفة أتى عبد القيس ـ وهم من ربيعة البصرة ـ يوم صفين ، وقد عُبيّت قبائل حمير مع ذي الكلاع ـ وفيهم عبيد الله بن عمر ـ لبكر بن وائل ، فقاتلوا قتالاً شديداً خافوا فيه الهلاك فقال زياد لعبد القيس : لا بكر بعد اليوم ، إنّ ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة ، فانهضوا لهم وإلاّ هلكوا ، فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء ، فشدّت إزاء الميسرة فعظم القتال ، فقتل ذو الكلاع الحميري قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف ، وتضعضعت أركان حمير ، وثبتت بعد ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر وبعث عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن عليّ فقال : إنّ لي اليك حاجة فالقني ، فلقيه الحسن فقال له عبيد الله : إنّ أباك قد وتر قريشاً أوّلاً وآخراً ، وقد شنئوه فهل لك أن تخلعه ونوليك هذا الأمر؟

قال : كلا والله لا يكون ذلك ، ثمّ قال له الحسن : لكأنّي أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك ، أما إنّ الشيطان فقد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك مخلّقاً بالخلوق تري نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً.

قال : فوالله ما كان إلاّ كيومه أو كالغد وكان القتال ، فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء ـ وهي الخضراء ـ كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر ، ونظر

____________

(١) الأخبار الطوال / ١٧٩.

١٠٥

الحسن فإذا هو برجل متوسد رِجل قتيل قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله ، فقال الحسن لمن معه : انظروا من هذا ، فإذا هو برجل من همدان ، فإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب قد قتله وبات عليه حتى أصبح ، ثمّ سلبه ... واخذ سيفه ذا الوشاح ، فـأخذ به معاوية بالكوفة بكر بن وائل حين بويع فقالوا : إنّما قتله رجل منا من أهل البصرة يقال له محرز بن الصحصح ، فبعث معاوية إليه بالبصرة فأخذ السيف منه » (١).

____________

(١) وقعة صفين / ٣٣٤.

ولقد اختلف الرواة في قاتل عبيد الله بن عمر فقالوا من همدان وقالوا من حضرموت وقالوا من ربيعة وهذا هو الّذي استقر به ابن أبي الحديد في شرح النهج ١٤٠ / ٤٩٩ مستدلاً بشعر كعب بن جعيل في رثائه حيث ذكر اسم اسماء وهي بنت عطارد إحدى زوجتي عبيد الله والأخرى بحرية بنت هاني الشيبانية ، وكان عبيد الله أخرجهما معه إلى الحرب ذلك اليوم لينظرا إلى قتاله فوقفتا راجلتين. ويبدو من رواية المسعودي ان نساءه كانت أكثر من اثنتين.

قال المسعودي في مروج الذهب ٢ / ٣٩٥ : وكان عبيد الله إذا خرج إلى القتال قام إليه نساؤه فشددن عليه سلاحه ما خلا الشيبانية بنت هاني بن قبيصة ، فخرج في هذا اليوم ـ يوم مقتله ـ وأقبل على الشيبانية وقال لها : إني قد عبأت اليوم لقومكِ ، وأيم الله إني لأرجو أن أربط بكل طنب من أطناب فُسطاطي سيداً منهم. فقالت له : ما أبغض إلاّ أن تقاتلهم ، قال : ولم؟ قالت : لأنّه لم يتوجه اليهم صنديد في جاهلية ولا إسلام وفي رأسه صعر إلاّ أبادوه ، وأخاف أن يقتلوك ، وكأني بك قتيلاً وقد أتيتهم أسالهم أن يهبوا لي جيفتك ، فرماها بقوس فشجها ، وقال لها ستعلمين بمن آتيك من زعماء قومك ، ثمّ توجه فحمل عليه حريث بن جابر الجعفي فطعنه فقتله ، وقيل ان الاشتر النخعي هو الّذي قتله ، وقيل ان عليّاً ضربه ضربة فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفه حُشوة جوفه ، وان عليّاً قال حين هرب فطلبه ليقيد منه بالهرمزان : لئن فاتني في هذا اليوم لا يفوتني في غيره. وكلّم نساؤه معاوية في جيفته فأمر أن تأتين ربيعة فتبذلن في جيفته عشرة آلاف ، ففعلن ذلك ، فاستأمرت ربيعة عليّاً فقال لهم : إنّما جيفته جيفة كلب لا يحل بيعها ، ولكن إذا أحببتم فاجعلوا جيفته لبنت هانئ بين قبيصة الشيباني زوجته ، فقالوا لنسوة عبيد الله : إن شئتن شددنا ، إلى ذنب بغل ثمّ ضربناه حتى يدخل إلى عسكر معاوية فصرخن وقلن : هذا أشدّ علينا ، واخبرن معاوية بذلك فقال لهن : ائتوا الشيبانية فسلوها ان تكلّمهم في جيفته ، ففعلن وأتت القوم وقالت : انا بنت هانئ بن قبيصة ، وهذا زوجي القاطع الظالم وقد حذّرته ما صار إليه فهبوا لي جيفته ففعلوا ، وألقت إليهم بمطرف خز فأدرجوه فيه ودفعوه اليها ، فمضت به ، وكان قد شد في رجله إلى طنب فُسطاط من فساطيطهم ، قارن البلاذري في أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) ٢ / ٣٢٦.

١٠٦

سادساً : مشهد من مشاهد صفين برواية ابن عباس

روى فرات بن إبراهيم بسنده عن ضرار بن الأزور (١) : « أنّ رجلاً من الخوارج سأل ابن عباس عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، فأعرض عنه ثمّ سأله فقال : كان والله عليّ أمير المؤمنين يشبه القمر الزاهر ، والأسد الخادر ، والفرات الزاخر ، والربيع الباكر ، فأشبه من القمر ضوؤه وبهاؤه ، ومن الأسد شجاعته ومضاؤه ، ومن الفرات جوده وسخاؤه ، ومن الربيع خِصبه وحياؤه.

عقمت النساء أن يأتين بمثل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

تالله ما سمعت ولا رأيت إنساناً مثله ، لقد رأيته يوم صفين وعليه عمامة بيضاء وكأن عينيه سراجان ... » (٢) إلى آخر ما سيأتي.

وروى هذا أبو جعفر محمّد بن محمّد بن عليّ الطبري بسنده عن عكرمة عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) قال : « عقم النساء أن يأتين بمثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ما كشفت النساء ذيولهنّ عن مثله ، لا والله ما رأيت فارساً محرباً يوزن به ، لرأيته يوماً ونحن معه بصفين وعلى رأسه عمامة سوداء ، وكأنّ عينيه سراجا سليط تتواقدان من تحتهما ، يقف على شرذمة شرذمة يخطبهم حتى انتهى

____________

(١) هذا ليس هو المعدود في الصحابة والّذي قتل مالك بن نويرة فانّه قيل مات في أيام أبي بكر وقيل في أيام عمر راجع الإصابة في ترجمته وإنّما هذا رجل آخر غيره لم أقف على من ذكره في الرجال عندنا. فهو مجهول. ولكن اتفاق جمهرة من المؤرخين على رواية المشهد عن ابن عباس يجعلنا من المطمئنين برواية فرات بن إبراهيم.

(٢) في تفسيره / ١٦٣ ط الحيدرية.

١٠٧

إلى نفر أنا فيهم ، وطلعت خيل لمعاوية تدعى بالكتيبة الشهباء ، عشرة آلاف دارع على عشرة آلاف أشهب ، فاقشعرّ الناس لها لمّا رأوها ، وانحاز بعضهم إلى بعض. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما النخع والخنع يا أهل العراق؟ هل هي إلاّ أشخاص مائلة فيها قلوب طائرة ، لو مسّتها سيوف أهل الحقّ لرأيتموها كجراد بقيعة سفته الريح في يوم عاصف.

ألا فاستشعروا الخشية ، وتجلببوا بالسكينة ، وادّرعوا الصبر ، وغضّوا الأصوات ، وقلقلوا الأسياف في الأغماد قبل السلّة ، وانظروا الخزر ، واطعنوا الشزر ، وكافحوا بالظُبا ، وصلوا السيوف بالخطّي والنبال بالرماح ، وعاودوا الكر ، واستحيوا من الفرّ ، فإنه عار في الأعقاب ، ونار يوم الحساب ، فطيبوا عن أنفسكم نفساً ، وامشوا إلى الموت مشياً سجحاً ، فإنّكم بعين الله (عزّ وجلّ) ، ومع أخ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليكم بهذا السرادق الأدلم ، والرواق المظلم ، فاضربوا ثبجه ، فإنّ الشيطان راقد في كسره ، نافش حضنيه ، مفترش ذراعيه ، قد قدّم للوثبة يداً ، وأخرّ للنكوص رجلاً ، فصمدا صمداً ، ينجلي لكم عمود الحقّ وأنتم الأعلون ( وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) (١) ها أنا شادّ فشدّوا باِسْمِ اللَّهِ حم لا ينصرون.

ثمّ حمل عليهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام حملة وتبعته خويلةٌ لم تبلغ المائة فارس ، فأجالهم فيها جولان الرحى المسرحة بثقالها ، فارتفعت عجاجة منعتني النظر ، ثمّ انجلت فأثبتت النظر فإذا أمير المؤمنين قد أقبل وسيفه ينطف ، ووجهه كشقة القمر وهو يقول : قاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا إيمان لهم.

____________

(١) محمّد / ٣٥.

١٠٨

قال عكرمة : وكان ابن عباس (رضي الله عنه) يحدث فيقول : أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّا (عليه السلام) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين » (١).

أقول : لقد أخرج هذه الخطبة ـ كلاً أو بعضاً ـ كثير من الأعلام بدءاً من فرات ابن إبراهيم (المعاصر للإمام الرضا (عليه السلام) المتوفى سنة ٢٠٣ هـ) فقد رواها بسنده كما مر ، ثمّ رواها نصر بن مزاحم المتوفى سنة ٢١٢ في كتابه وقعة صفين كما حكاها عنه ابن أبي الحديد (٢) وإن خلت النسخة المطبوعة من كتاب صفين عن ذلك ، ورواها الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥ هـ (٣) ، ورواها ابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦ هـ (٤) ، والمسعودي المتوفى سنة ٣٤٦ هـ في مروج الذهب (٥) ، والشريف الرضي المتوفى سنة ٤٠٦ هـ (٦) ، والقاضي القضاعي المتوفى سنة ٤٥٤ هـ (٧) ، والبيهقي المتوفى سنة ٤٥٨ هـ (٨) ، والزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ هـ (٩) ، وابن عساكر المتوفى سنة ٥٧ هـ (١٠) ، والطبري الإمامي من علماء القرن السادس (١١) ، والمتقي الهندي (١٢) ، وغير هؤلاء من المتأخرين عنهم ، فجميع الذين ذكروا الخطبة بتمامها مروية عن ابن عباس (رضي الله عنه) وروايته لها

____________

(١) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى / ١٧٢ ط الحيدرية.

(٢) شرح النهج ١ / ٤٨٣ ط مصر الأولى.

(٣) البيان والتبيين ٢ / ٢٤.

(٤) عيون الأخبار ١ / ١١٠ ط.

(٥) مروج الذهب ٢ / ٣٨٩.

(٦) نهج البلاغة المختار / ٦٤.

(٧) دستور معالم الحكم / ١٢٤.

(٨) المحاسن والمساوي / ٤٥.

(٩) الفائق مادة (زنن) و (نتر) وغيرهما.

(١٠) تاريخ دمشق (ترجمة الإمام) ٣ / ١٤٥ ـ ١٥٠.

(١١) بشارة المصطفى / ١٧٢.

(١٢) كنز العمال ١١ / ٣٣٨ ط حيدر آباد الثانية.

١٠٩

بألفاظها في ذلك الموقف الرهيب على ما فيه من تداعيات القلق ، وحفظه لها بنصها وفصّها ـ كما يقولون ـ لتبرز لنا احدى معالم النبوغ عنده ، وتظهر احدى ملامح العبقرية الفذة النادرة الّتي كان يمتاز بها.

فهذه احدى مفردات مواقفه الحربية في صفين مضافاً لما قدّمنا ذكره من شواهد على مركزه القيادي ومنازلته الحربية.

والآن إلى لون آخر من تلك المواقف الّتي تتجلّى من خلالها رهبة العدوّ منه ، فجهد محاولاً خداعه. وإليك :

حديث الخديعة :

قبل ذكر الحديث لابدّ من توثيقه لأنّ هشام بن عمّار الدمشقي كان يقول للبلاذري وهو من شيوخه : « هذا الحديث ممّا صنعه ابن دأبكم لأنّ البلاذري رواه عن المدائني عن عيسى بن يزيد » (١) ـ وهو ابن دأب ـ وإذا رجعنا إلى الجاحظ وجدناه يقول : « يزيد بن بكر بن دأب وكان عالماً ناسباً وراوية شاعراً وهو القائل :

الله يعلم في عليّ علمه

وكذاك علم الله في عثمان

ثمّ قال : وولد يزيد بن يحيى وعيسى ، فعيسى هو الّذي يعرف في العامة بابن دأب ، وكان من أحسن الناس حديثاً وبياناً ، وكان شاعراً راوية ، وكان صاحب رسائل وخطب ، وكان يجيدهما جداً.

ومن آل دأب حذيفة بن دأب وكان عالماً ناسباً. وفي الدأب علم بالنسب والخبر » (٢).

____________

(١) أنساب الأشراف ٢ / ٣١٠ تح ـ المحمودي.

(٢) كتاب البيان والتبيين ١ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤ تح ـ هارون.

١١٠

فهؤلاء بنو دأب ، ومنهم عيسى بن دأب الّذي اتهمه هشام بن عمار الدمشقي ، وهشام على ما ورد في ترجمته في تهذيب التهذيب من مدح فقد ورد فيه من القدح ما ينسف مدحه. ويكفي أنّه كان يُلقّن فيتلقّن ولا يفهم بما يحدّث.

ثمّ إنّ الحديث رواه غير ابن دأب فلاحظ سند نصر بن مزاحم فقد رواه عن محمّد بن اسحاق عن عبد الله بن أبي يحيى عن عبد الرحمن بن حاطب وهذا صحأبي مولود على عهده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتوفى سنة ٦٨ هـ وقيل قتل يوم الحرة كما في الإصابة.

ولاحظ سند الجاحظ فقد رواه (١) عن محمّد بن سعيد عن إبراهيم بن حويطب إلاّ أنّه ذكره مقالة قالها عمرو بن العاص لابن عباس ، وليس ذلك بضائر.

وأمّا ابن أعثم فقد ذكر ما جرى من الكتب ... لما عضّهم سلاح أهل العراق وبدأها بلفظ (قال) : وإذا رجعنا نلتمس القائل نجد الرجل قد ذكر في ابتداء خبر وقعة صفين عدة أسانيد ليس بين أسماء رجالها عيسى بن دأب ، وقال بعد ذكرهم وغير هؤلاء ... وقد جمعت ما سمعت من رواياتهم على اختلاف لغاتهم فألّفته حديثاً واحداً على نسق واحد ... فعرفنا أنّه هو القائل.

أ ـ بين عمرو بن العاص وابن عباس :

والآن إلى رواية الحديث بلفظ نصر واضافة ما عند البلاذري بين قوسين وكذا ما عند ابن اعثم من زيادة وقال : « وإنّ معاوية لمّا يئس من جهة الأشعث قال لعمرو بن العاص :

____________

(١) نفس المصدر ٢ / ٢٩٨ تح ـ هارون.

١١١

إنّ رأس الناس بعد عليّ هو عبد الله بن عباس ، فلو ألقيت إليه كتاباً لعلك ترققه به ، فإنّه إن قال شيئاً لم يخرج عليّ منه ، وقد أكلتنا الحرب ، ولا أرانا نصل إلى العراق إلاّ بهلاك أهل الشام.

فقال له عمرو : إنّ ابن عباس (أريب) لا يُخدع ، ولو طمعت فيه لطمعت في عليّ.

فقال معاوية : صدقت إنّه لأريب ولكن على ذلك فاكتب إليه (رقعة لطيفة وتنظر ما عنده فتعمل على حسب ذلك).

(قال) فكتب إليه عمرو : (من عمرو بن العاص إلى عبد الله بن العباس) : أمّا بعد ، فإن الّذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء ، وساقه سفه العافية ، وأنت رأس هذا الأمر بعد عليّ (ابن عمك) ، فانظر فيما بقي ودع ما مضى ، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياةً ولا صبراً ، واعلم انّ الشام لا تملك إلاّ بهلاك العراق ، وإنّ العراق لا تملك إلاّ بهلاك الشام ، وما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم ، وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منّا ، ولسنا نقول ليت الحرب عادت ، ولكنا نقول ليتها لم تكن ، وإنّ فينا من يكره القتال ، كما أنّ فيكم من يكرهه ، وإنّما هو أمير مطاع (أو مأمور مطيع) ، أو مؤتمن مشاور وهو أنت ، وأمّا الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يُدعى في الشورى ، ولا في خواص أهل النجوى (وقد طال هذا بيننا حتى لقد ظننا انّ فيه الفناء وفي ذلك أقول) وكتب في أسفل الكتاب :

طال البلاء وما يُرجى له آسى

بعد الإله سوى رفق ابن عباس (١)

____________

(١) أسا الجرح أسواً وأساً : داواه ، وأسا بينهم أصلح ، والآسي : الطبيب.

١١٢

قولاً له قول مَن يرضى بحظوته

لا تنس حظّك إن الخاسر الناسي (١)

يا بن الّذي زمزم سقيا الحجيج له

أعظم بذلك من فخرٍ على الناس

كلٌ لصاحبه قرنٌ يساوره

أسد العرين أسودٌ بين أخياس (٢)

لو قيس بينهم في الحرب لاعتدلوا

العجز بالعجز ثم الرأس بالرأس

فانظر فدىً لك نفسي قبل قاصمة

للظهر ليس لها راق ولا آسي

إنّ العراق وأهل الشام لن يجدوا

طعم الحياة مع المستغلق القاسي (٣)

بسرٌ وأصحاب بُسرٍ والذين هُم

داء العراق رجال أهل وسواس

قوم عراة من الخيرات كلهمُ

فما يساوي به خلق من الناس (٤)

قالوا يرى الناس في ترك العراق لكم

واللّه يعلم ما بالسلم من باس

إنّّي أرى الخير في سلم الشآم لكم

واللّه يعلم ما بالشام من ناس

أنت الشجاء شجاها في حلوقهم

مثل اللجام شجاه موضع الفاس (٥)

(فاصدع بأمرك أمر القوم إنّهم)

خشاش طير رأت صقراً بحسحاس (٦)

____________

(١) الحُظُوة ، بالضم والكسر ، والحِظة كِعدة المكانة والحظ من الرزق ، وفي نسخة : قول من يرجو مودته ، وفي أنساب الأشراف والفتوح : قول مسرور بحظوته.

(٢) في انساب الأشراف (قرنٌ يعادله) وفي المصدر : يساوره أي يواثبه ، وهو أصح أيضاً ممّا يوجد في بعض المصادر : (يشاوره). والأخياس : جمع خيس ـ بالكسر ـ وهو الشجر الكثير الملتفّ. وفي أنساب الأشراف : (أسُدٌ تلاقي أسوداً بين أخياس).

(٣) استغلقني في بيعته لم يجعل لي خياراً في رده واستغلقت عليّ بيعته صار كذلك (لقاموس) وفي أنساب الأشراف :

أهل العراق وأهل الشام لن يجدوا

طعم الحياة لحرب ذات أنفاس

(٤) في طبعة صفين بمصر / ٤٦٩ : فما يُساوي به أصحابه كاسي.

(٥) اللجام ككتاب للدابة ويكون في حلق الدابة لذلك فهو الشجا ، وكلّ ما يعترض الحلق من عظم ونحوه فهو شجاً.

(٦) كذا في أنساب الأشراف ٢ / ٣٠٨ (تلرجمة الإمام علي) ، وخشاش الطير كالعصافير ونحوها ، والحساس : السيف المبير.

١١٣

فيها التقى وأمور ليس يجهلها

إلاّ الجهول وما النوكى كأكياس (١)

قال : فلمّا فرغ من شعره عرضه على معاوية ، فقال معاوية : لا أرى كتابك على رقة شعرك.

فلمّا قرأ ابن عباس الكتاب (والشعر) أتى به عليّاً فأقرأه شعره فضحك وقال : قاتل الله ابن العاص (ابن النابغة) ما أغراه بك يا بن عباس ، أجبه وليردّ عليه شعره الفضل بن العبّاس فإنّه شاعر.

فكتب ابن عباس إلى عمرو : أمّا بعد فإني لا أعلم رجلاً من العرب أقلَّ حياء منك ، إنّه مال بك معاوية إلى الهوى ، وبعته دينك بالثمن اليسير ، ثمّ خبطت بالناس في عشوة (عشواء طخياء) (مظلمة) طمعاً في الملك فلمّا لم تر شيئاً أعظمت الدنيا إعظام أهل الذنوب (الدين) وأظهرت فيها (زهادة) نزاهة أهل الورع ، فإن كنت (أردت) (تريد أن) ترضي الله (عزّ وجلّ) بذلك فدع مصر وارجع إلى بيتك (أهل بيت نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم » ، (فإنّ) هذه الحرب ليس معاوية فيها كعليّ ، ابتدأها عليّ بالحقّ وانتهى فيها إلى العذر ، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السَرَف ، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام ، بايع أهل العراق عليّاً وهو خير منهم ، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه ، ولست أنا وأنت فيها بسواء ، أردتُ الله وأردتَ أنت مصر وقد عرفتُ الشيء الّذي باعدك مني ، ولا أرى الشيء الّذي قرّبك من معاوية ، فإن ترد شراً لا نسبقك إليه ، وإن ترد خيراً لا تسبقنا إليه والسلام.

____________

(١) النوكى : الحمقى ، والكيّس خلاف الحُمقى.

١١٤

ثمّ دعا الفضل بن العباس ، فقال له يا ابن أم (١) أجب (عني) عمراً (على شعره هذا).

فقال الفضل :

يا عمرو حسبك من خدع ووسواس

فاذهب فليس لداء الجهل من آسي (٢)

إلاّ تواتر طعن في نحوركم

يشجي النفوس ويشفي نخوة الرأس

(بالسمهريّ وضرب في شواربكم

يردي الكماة ويذري قبة الرأس)

هذا الدواء الّذي يشفي جماعتكم

حتى تطيعوا عليّاً وابن عباس

أمّا عليّ فإنّ اللّه فضّله

بفضل ذي شرف عالٍ على الناس

إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيّسة

أو تبعثوها فإنا غير أنكاس (٣)

قد كان منّا ومنكم في عجاجتها

مالا يردّ وكلٌّ عرضة البأس (٤)

____________

(١) في قول ابن عباس يا ابن أم ـ على تقدير صحة النسخة ـ نحو تجوّز له ما يبرّره في الاستعمال والمخاطبات بين الناس لشدّ العزيمة وطلب المعونة. والا فمن المعلوم الثابت ان أخاه الفضل بن العباس بن عبد المطلب قد مات في طاعون عمواس سنة ١٧ ـ أو ١٨ ـ بالشام. وانما المخاطب في المقام هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب ، وهو ابن اخت عبد الله بن عباس ، فان أمه آمنة بنت العباس ، ويقال لها : أمينة ـ قال البلاذري : كانت عند العباس بن عتبة بن أبي لهب فولدت له الفضل الشاعر. ولما كان الاشتراك في الاسم واسم الأب بين الشاعر اللهبي وبين خاله ، فظن من لا خبرة له أن الشاعر هو الفضل بن عباس بن عبد المطلب ، غافلاً عن تقدم وفاته ومن تفطن إلى ذلك فقد احتمل تصحيف الندبة (يا بن ام) عن (يا بن عم) باعتبار الشاعر من ذرية أبي لهب وهو من أعمام عبد الله بن عباس ، لكن الصواب في نظري (يا بن اختي) لأنّه هو ابن اخته كما تقدم.

(٢) في الفتوح (فاذهب فما لك في ترك الهدى آسي).

(٣) المخَيّسة من الإبل : ـ بالفتح ـ الّتي لم تسرح ولكنها حُبست للنحر أو للقسم فشبه الحرب بالابل في اعتقالها ، وأنكاس جمع نِكس وهو المقصّر عن غاية الكرم.

(٤) في الفتوح (من لا يفرّ وليس الليث كالجاسي كالخاسي).

١١٥

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة

هذا بهذا وما بالحق من باس

لا با رك الله في مصر لقد جلبت

شراً وحظك منها حسوة الكأس

يا عمرو إنك عارٍ من مغارمها

والراقصات لأثواب الخنا كاسي

ان عادت الحرب عدنا فالتمس هرباً

فيالأرض أوسلماًفي الأفق ياقاسي) (١)

ثمّ عرض الشعر والكتاب على عليّ فقال : (أحسنت) ولا أراه يجيبك بشيء بعدها إن كان يعقل ، ولعله يعود فتعود عليه.

فلمّا انتهى الكتاب إلى عمرو أتى به معاوية فقال : أنت دعوتني إلى هذا ، ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب.

فقال : إنّ قلب ابن عباس وقلب عليّ قلب واحد ، كلاهما ولد عبد المطلب ، وإن كان قد خشن فلقد لان ، وإن كان قد تعظّم أو عظّم صاحبه فلقد قارب وجنح إلى السلم ».

قال ابن اعثم (٢) : « فلمّا وصل الكتاب والشعر إلى عمرو فأتى به معاوية فأقرأه إياه ، ثمّ قال : ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب.

فقال معاوية : صدقت أبا عبد الله ، ولكنك قد علمت ما مرّ علينا بالأمس من القتل والهلاك ، وأظن عليّاً سيباكرنا الحرب غداً ويعمل على المناجزة ، وقد رأيت أن أشغله أنا غداً عن الحرب بكتاب أكتبه إلى ابن عباس ، فإن هو أجابني إلى ما أريد فذلك ، وإلا كتبت إلى عليّ وتحمّلت عليه بجميع من في عسكره فإن أجاب ، وإلا صادمته وجعلتها واحدة لي أم عليّ ، فهذا رأيي وإنّما أريد بذلك

____________

(١) الأبيات المقوسة من الفتوح لابن أعثم ٣ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٢) في الفتوح ٣ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

١١٦

أن أجمّ الحرب أياماً ، فقد تعلم ما نزل بنا في هذه الأيام وإن كان عندك رأي غير هذا فهاته؟

فقال عمرو : أمّا أنا فأقول إنّ رجاءك لا يقوم رجاءه ، ولست بمثله ، وهو رجل يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، وهو يريد الفناء وأنت تريد البقاء ، وليس يخاف أهل الشام من عليّ إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم ، وأظنك تريد مخادعة عليّ ، واين أنت من خديعته.

فقال معاوية : فكيف ذلك؟ ألسنا ببني عبد مناف؟

فضحك عمرو ثمّ قال : بلى لعمري أنت وهو من بني عبد مناف كما تقول ولكن لهم النبوة من دونك ، فإن شئت فاكتب ».

ب ـ بين معاوية وابن عباس :

قال نصر : « وإنّ معاوية كان يكاتب ابن عباس ، وكان يجيبه بقول ليّن ، وذلك قبل أن يعظم الحرب » (١).

أقول : ولم أقف على شيء من تلك المكاتبات سوى ما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق ونقله المتقي الهندي قال : « عن عبد الملك بن حميد قال : كنّا مع عبد الملك بن صالح بدمشق فأصاب كتاباً في ديوان دمشق :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن عباس إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك ، فإنّي أحمد الله إليك الّذي لا إله إلاّ هو ، عصمنا الله وإياك بالتقوى ، أمّا بعد فقد جاءني كتابك فلم اسمع منه إلاّ خيراً ، وذكرت شأن المودة بيننا ،

____________

(١) وقعة صفين / ٤٧١.

١١٧

وإنّك لعمر الله لودود في صدري من أهل المودة الخالصة والخاصة ، وإنّي للخلّة الّتي بيننا لراع ، ولصالحها لحافظ ولا قوّة إلاّ بالله.

أمّا بعد فإنّك من ذوي النهى من قريش وأهل الحلم والخلق الجميل منها ، فليصدر رأيك بما فيه النظر لنفسك والتقية (البقية ظ) على دينك ، والشفقة على الإسلام وأهله ، فإنّه خير لك وأوفر لحظك في دنياك وآخرتك ، وقد سمعتك تذكر شأن عثمان بن عفان فاعلم إنّ انبعاثك في الطلب بدمه فرقة وسفك للدماء ، وانتهاك للمحارم ، وهذا لعمر الله ضرر على الإسلام وأهله ، وإنّ الله سيكفيك أمر سافكي دم عثمان ، فتأنّ في أمرك ، واتق الله ربّك ، فقد يقال لك : إنك تريد الإمارة ، وتقول : إن معك وصية من النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بذلك ، فقول نبيّ الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم الحقّ فتأن في أمرك ، ولقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول للعباس أنّ الله يستعمل من ولدك اثني عشر رجلاً منهم السفاح والمنصور والمهدي والأمين والمؤتمن وأمير العصب ، أفتراني استعجل الوقت أو أنتظر قول رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم؟ وقوله الحقّ ، وما يرد الله من أمر يكن ولو كره العالم ذلك ، وأيم الله لو أشاء لوجدت متقدماً وأعواناً وأنصاراً ولكني أكره لنفسي ما أنهاك عنه فراقب الله ربّك ، واخلف محمداً في أمته خلافة صالحة ، فأمّا شأن ابن عمك عليّ بن أبي طالب فقد استقامت له عشيرته وله سابقته وحقه ، وبحوله على الحقّ أعوان ونصحاء لك وله ولجماعة المسلمين.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

١١٨

وكتب عكرمة ليلة البدر من صفر سنة ست وثلاثين ... اهـ » (١).

فهذا الكتاب نموذج من تلك الأجوبة الليّنة والّتي لم تجد الأرض الصالحة لتثمر نفعاً وقد استمر معاوية في خداعه وهو الآخر لم يجد الأذن الصاغية لاستماعه ، حتى إذا عظم الخطب ، واشتعلت نار الحرب ، تغيّرت اللهجة ، وتقارعت الحجة بالحجة وصار إلى المخادعة والمخاتلة بطريقة ايقاع الفرقة بين الهاشميين ، واغراء بعضهم على بعض ، وليس ذلك ببدع منه فقد كان ـ على حدّ قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ : « يودّ ما ترك من بني هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه » (٢).

وهل في الهاشميين بعد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل ابن عباس في فهمه وعلمه ، وعقله وفضله ، فليجهد معاوية نفسه فيما يفرّق به بين المرء وإمامه ، وذلك بخديعة ابن عباس وإنّه الرأس بعد الإمام.

وهذه الفكرة لم تبارح معاوية طيلة حكمه ، فسيأتي من الشواهد عليها بعد موت الإمام الحسن (عليه السلام) وقوله لابن عباس : « أصبحت سيّد أهلك » ، ولكن ابن عباس الذكي الألمعي لا ينخدع بزبرج الألفاظ فرد عليه قائلاً : « أمّا ما بقي أبو عبد الله الحسين بن عليّ فلا ... ».

والآن إلى حديثه في صفين برواية نصر بن مزاحم :

قال نصر بن مزاحم : « فلمّا قتل أهل الشام قال معاوية : إنّ ابن عباس رجل من قريش ، وأنا كاتب إليه في عداوة بني هاشم لنا ، وأخوّفه عواقب هذه الحرب لعله يكف عنّا. فكتب إليه :

____________

(١) كنز العمال ١١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٥ ط حيدر آباد الثانية برقم ١٣٢٦.

(٢) الفائق للزمخشري (نيط).

١١٩

أمّا بعد فإنكم يا معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار عثمان بن عفان ، حتى أنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما بدمه ، واستعظامهما ما نيل منه ، فإن يكن ذلك لسلطان بني أمية فقد وليها عدي وتيم (قبل بني أمية) فلم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة ، وقد وقع من الأمر ما قد ترى (وأدالت هذه الحروب منا ومنكم) ، وأكلت هذه الحرب بعضها من بعض حتى استوينا فيها ، فما أطمعكم فينا أطمعنا فيكم ، وما آيسكم منّا آيسنا منكم ، وقد رجونا غير الّذي كان وخشينا دون ما وقع ، ولستم بملاقينا اليوم بأحدّ من حدّ أمس ، ولا غداً بأحد من حدّ اليوم ، وقد قنعنا بما كان في أيدينا من ملك الشام ، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق ، وأبقوا على قريش (واتقوا الله ربكم) فإنّما بقي من رجالها ستة : رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز ، فأمّا اللذان بالشام فأنا وعمرو وأمّا اللذان بالعراق فأنت وعليّ ، وأمّا اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر ، واثنان من الستة ناصبان لك (ولابن عمك) واثنان واقفان فيك ، وأنت رأس هذا الجمع اليوم ، ولو بايع لك الناس بعد عثمان لكنّا إليك (إلى طاعتك) أسرع منّا إلى عليّ (فرأيك فيما كتبت إليك) » (١).

قال نصر في كلام كثير كتب إليه : « فلمّا انتهى الكتاب إلى ابن عباس (تبسم ضاحكاً) أسخطه ثمّ قال : حتى متى يخطب ابن هند إليّ عقلي؟ وحتى متى اجمجم على ما في نفسي؟ فكتب إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فقد أتاني كتابك وقرأته (وفهمت ما سطرت فيه) ، فأمّا ما ذكرت من سُرعتنا اليك بالمساءة في أنصار ابن عفان ،

____________

(١) وقعة صفين / ٤٧١.

١٢٠