موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ومهما كان نصيب الرواية من الصحة ، فقد كان هذا اللقب لابن عباس معروفاً بين الصحابة امتدحه به غير واحد منهم : منهم الخليفة عمر بن الخطاب الذي كان يكثر من قول : « نعم ترجمان القرآن ابن عباس » (١) ، ومنهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي كان يطريه بقوله : « نعم ترجمان القرآن » (٢) ، « لو أدرك أسنانا ما عاشره منا أحد » (٣) وفي لفظ ما عشّره منا أحد (٤) وفسروه : أي ما بلغ علمنا معشار علمه. وسيأتي العديد من شواهد ذلك.

ومن ألقابه (البحر) كما مرّ عن الجاحظ قريباً ، وقال الصفدي : « وكان يسمى البحر لكثرة علومه » (٥) ، وقد ورد التعبير به في بعض الأحاديث ، فهذا الحكم بن عمرو الغفاري يقول في حديث له : « ولكن أبى ذلك البحر ، يريد به ابن عباس » كما في كتاب الذبائح آخر باب لحوم الحمر الانسية من صحيح البخاري (٦).

وهذا جابر بن زيد يقول : « سألت البحر عن لحوم الحمر » (٧) ، وهذا مجاهد يقول : « كان عبد الله بن عباس يسمى البحر لكثرة علومه » (٨) ، وهذا عطاء كان يقول : « قال البحر كذا. يعني ابن عباس » (٩).

_______________________

(١) تاريخ بغداد ١ / ١٨٥.

(٢) الاستيعاب ٣ / ٩٣٥ ، وطبقات ابن سعد الطبقة الخامسة ١ / ١٤٨ تح‍ محمّد صامل السُلمي ، ومقدمة تفسير الطبري ١ / ٤٠ من عدة طرق ، ومستدرك الحاكم ٣ / ٥٣٧ وصححه.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ٥٣٧ ، والاصابة ترجمة ابن عباس.

(٤) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١٢٠ ، المعرفة والتاريخ ١ / ٤٩٥ ، عيون الأخبار لابن قتيبة ١ / ٢٢٩.

(٥) الوافي بالوفيات ١٧ / ١٢٢.

(٦) صحيح البخاري ٧ / ٩٦ ط مصر سنة ١٣١٤.

(٧) الاصابة ٤ / ١٤٨ تح‍ البجاوي ، والمعرفة والتاريخ ١ / ٤٩٦ ، وتاريخ بغداد ١ / ١٧٤.

(٨) نفس المصدر.

(٩) أنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس) ١ ق ٢ / ٢٧١ أمصور بمكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام العامة.

٨١

ومن ألقابه : (رباني الأمة) ، قال الثعالبي : « ربّاني الأمة : هو عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب كان يقال له : ربانيّ الأمة ، وحبرها ، وترجمان القرآن » (١) ، وقد سماه بذلك كل من محمّد بن الحنفية وعمرو بن دينار (٢).

والآن فقد رأينا مداليل ألقابه كلها مشعرة برفعة المسمّى وسمّوه فكان أولها أشهرها وآخرها أشرفها ، فإن معنى الرباني هو المتأله العارف بالله تعالى كما عن الثعالبي والفيروزأبادي ، وشديد التمسك بدين الله وطاعته ، كما في الكشاف وغيره ، أو هو الذي يربّي أمور الناس بتدبيره واصلاحه ، كما ذكره الطبرسي ، وقال ثعلب : إنّما قيل للفقهاء الربانيون ، لأنهم يربّون العلم أي يقوّمونه (٣).

ابن عباس في خَلقِه وخُلُقِه :

ما دامت صفات الإنسان ـ الخَلقِية والخُلقية ـ فيها دلالة على تمامية التعريف ، فلا بد لنا إذن من الإلمام بشيء من صفات الحبر ابن عباس رضي‌الله‌عنه بما تيسر لنا من معرفته ، فانها تحكي لنا بعض مميزاته وخصائصه ، وقد قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : « الناس يتفاضلون في الدنيا بالشرف والبيوتات والإمارات والغنى والجمال والهيئة والمنطق ، ويتفاضلون في الآخرة بالتقوى واليقين ، فأتقاهم أحسنهم يقيناً ، وأزكاهم عملاً ، وأرفعهم درجة » (٤).

_______________________

(١) ثمار القلوب / ١١٣.

(٢) ستجد هذه الكلمات منسوبة إلى مصادرها فيما يأتي بعنوان ـ جمل الثناء والإطراء.

(٣) ثمار القلوب / ١١٣ ، وتفسير الكشاف ، ومجمع البيان في تفسير قوله تعالى : ( كُونُوا رَبَّانِيّ ) آل عمران ٧٩ ، والقاموس (ربب).

(٤) المحاسن والأضداد للجاحظ / ١٢٣ ، والمحاسن والمساوي للبيهقي ١ / ٧٦.

٨٢

وقد حاز ابن عباس تلك المفاخر الدنيوية في شرفه الرفيع وبيته المنيع ، كما حاز الإمارة وأوتي من الغنى فضلاً كثيراً ، وكل ذلك سنقرأه في سيرة حياته.

أمّا الجمال والهيئة والمنطق فقد كان ابن عباس رضي‌الله‌عنه ـ كما يصفه المؤرخون ـ : أبيضاً مشرّباً بشقرة أو بصفرة (١) جسيماً ، يأخذ مقعد رجلين إذا جلس (٢) وسيماً ، صبيح الوجه ، طلق المحيا ، فائق الحسن ، له وفرة ، يخضب بالحِناء ، إذ كان يصفّر لحيته ، وقيل يخضبها بالسواد (٣) حتى قال مسروق عنه : « أجمل الناس وأفصحهم » (٤) ، وقال عطاء : « ما رأيت البدر إلا ذكرت وجه ابن عباس لحسنه وجماله وبهائه » (٥) ، وشهد له عمر بأنه أصبح الفتيان وجهاً (٦) ، وقال أبو إسحاق : « رأيت ابن عباس رجلاً جسيماً قد شاب مقدم رأسه وله جمة » (٧) ، وكان طويلاً ، والطول من كمال الجسم وجمال البسطة فيه ، قال المبرّد : « والعرب تمدح بالطول وتضع من القِصَر » (٨) ، وكان الطول في بني هاشم صفة غالبة ، حتى لقد

_______________________

(١) قال ابن كثير في البداية والنهاية ٨ / ٣٠٦ : ولما عمي أعترى لونه صفرة يسيرة أه‍ ولا غرابة في ذلك لأنه عمي وهو في سن الشيخوخة ولكن من الغريب ما ذكره الجاحظ في رسالته : فخر السودان على البيضان (الرسالة الرابعة من مجموع رسائل الجاحظ / ٢٠٩ تح‍ عبد السلام محمّد هارون) ان ابن عباس رضي‌الله‌عنه كان أدلم ضخماً ، والأدلم : الشديد السواد. وهذا ممّا انفرد به أبو عثمان الجاحظ فيما أعلم ، كما انفرد في قوله : وكان ولد عبد المطلب العشرة السادة دُلُماً ضُخماً ؟ وفي قوله : وآل أبي طالب أشرف الخلق ، وهم سودٌ وأدمٌ ودُلُم ؟

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٣٠٦.

(٣) ولا منافاة بين الفعلين ، فربما كان يفعل هذا مرة وذلك أخرى ، وكل راوٍ حدث بما رأى. الاصابة ٤ / ٩١.

(٤) الاصابة ٢ / ٣٣٣.

(٥) تاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ٣١.

(٦) البداية والنهاية ٨ / ٢٩٩.

(٧) أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه كما في الاصابة ٤ / ٩١.

(٨) الكامل للمبرد ١ / ٩٢ تح‍ أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاته.

٨٣

ورد في حديث ولادة الزهراء عليها‌السلام : (إنّ أمها خديجة لمّا أحسّت بالطلق فأرسلت إلى نساء من قريش فأبين الحضور وقلن لها أنتِ عصيتنا وتزوجت يتيم أبي طالب ، قالت : دخلت عليَّ أربع نسوة سمر طوال كأنهنّ من نساء بني هاشم) (١).

وفيما حدثت به تلك العجوز التي رأت عليّ بن عبد الله بن عباس يطوف وقد فرع الناس كأنه راكب وهم مشاة ، فقالت : من هذا الذي فرع الناس ؟ فأعلمت ، فقالت : لا إله إلا الله انّ الناس ليرذلون عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه فسطاط أبيض (٢) ، ويروى أنّ عليّاً كان إلى منكب عبد الله ، وعبد الله إلى منكب العباس ، والعباس إلى منكب عبد المطلب (٣).

وقد ذكر المبرد جماعة كانوا من مقبلي الظعن لطولهم ، فقد بذوا الناس طولاً وجمالاً ، وكان أحدهم يسعه أن يقبّل المرأة في هودجها لطوله وعد منهم العباس وابنه عبد الله (٤).

ووصفه عليّ بن أبي طلحة قال : « كان عبد الله بن عباس مديد القامة ، جيّد الهامة ، مستدير الوجه جميله أبيضه ، وليس بالمفرط البياض سبط اللحية ، في أنفه قنا ، معتدل الجسم ، وكان أحسن عينا قبل أن يكفّ بصره ، وكفّ قبل موته بست سنين أو نحوها » (٥).

_______________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ / ٣ ط الاسلامية ، أمالي الصدوق / ٥٣٢ ط الحيدرية ، ومصباح الأنوار (مخطوط).

(٢) المعارف لأبن قتيبة / ٢٨٩ ط ليدن ، وربيع الأبرار للزمخشري باب الخلق وصفاتها الرضوية ، ونسخة الأوقاف ببغداد ، وفي المطبوع ١ / ٨٤٨ ، وكامل المبرد ١ / ٩٣ ، والاعلاق النفيسة / ٢٢٥ ، ولطائف المعارف / ١١٢.

(٣) نفس المصدر.

(٤) الكامل للمبرد ٢ / ١١٧.

(٥) أنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس) برقم ١٢٤ نسخة مخطوطة بقلمي.

٨٤

وكانت له عناية خاصة بمظهره ، فهو في تزيين جسمه يعنى بالخضاب حين تبدّى الشيب في كريمته ، فكان يخضب بالسواد (١) ، وبالحناء (٢) ، وثالثة يصفّر لحيته (٣) ، وأظنه إنّما فعل ذلك لما أثر عنه في ذلك من الحديث : (من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ عليه رجل قد خضب بالحناء فقال : ما أحسن هذا. ثم مرّ عليه آخر وقد خضب بالحناء والكتم فقال : ما أحسن هذا. ثم مرّ عليه آخر وقد خضب بالصفرة فقال : هذا أحسن من هذا كله) (٤).

ويُعنى بالطيب حتى قال عكرمة مولاه : « كان يطلي جسده بالمسك » (٥) ، حتى رآه بعضهم وقد أحرم والغالية على طلعته كأنها الربّ (٦). وقالوا : أنه إذا مرّ في الطريق ق‍‍لن النساء على الحيطان أمرّ ابن عباس أم مرّ المسك (٧) ، وفي لفظ : « قال الناس : لطيمة مسك أو ابن عباس » (٨).

وهو في ملبسه كان يُعنى ويتأنق حتى كان يلبس الرداء وقيمته ألف (٩) ، وقالوا : كان يلبس المطرف الخز المنصوب الحوافي بمزالف (١٠) ، ويأخذه

_______________________

(١) ذخائر العقبى / ٢٢٧.

(٢) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٤٢.

(٣) تهذيب الأسماء واللغات للنووي ١ / ٢٧٥ ط المنيرية بمصر.

(٤) المعجم الكبير للطبراني ١١ / ٢٠ برقم ١٠٩٢٢ ، وأبو داود في سننه برقم / ٤١٩٣ ، وابن ماجة في سننه برقم / ٣٦٢٧.

(٥) عيون الأخبار لأبن قتيبة ١ / ٣٠٤.

(٦) نفس المصدر ١ / ٣٠٣.

(٧) نفس المصدر ١ / ٣٠٤ ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٤ / ٤٤٢.

(٨) غرر الخصائص للوطواط / ٤٠.

(٩) عيون الأخبار لأبن قتيبة ١ / ٢٩٨ ، وسير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٤.

(١٠) المزالف : المراقي.

٨٥

بألف (١) ، وستأتي شواهد على ذلك في مستقبل تاريخه ، وكان يلبس الخز ويكره المصمت (٢) وهو ضرب من الثياب والحرير الخالص ، وكان يلبس الأستبرق ، فدخل عليه المسور بن مخرمة يوماً فأنكر عليه فقال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : « إنّما كره ذلك لمن يتكبّر فيه ، فلمّا خرج المسور قال : انزعوا هذا الثوب عني » (٣).

وقال : « لبست مرّة حلّة فنظر إليّ الناس فقلت : ما تعيبون عليّ ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم أحسن ما يكون من الحلل ، ورأيته مرّة لابساً جبّة مبطنّة ومرّة جبّة رومية ضيّقة الكمّين » (٤).

ولقد رآه أبو الجويرية وعليه إزار إلى نصف ساقه أو فوق ذلك ، وعليه قطيفة رومية وهو يصلي (٥).

وحدّث كريب مولاه قال : « رأيت أبن عباس يعتم بعمامة سوداء فيرخي شبراً بين كتفيه ومن بين يديه » (٦).

وقال رجل لعطية : ما أضيق كمّك ؟ قال : كذا كان كمّ ابن عباس وابن عمر (٧).

ومهما يكن نصيب هذه الروايات من الصحة ، فإنها قد لا تخلو من مبالغة في الوصف ، خصوصاً في مسألة الطول وإلا فيلزم أن يكون عبد المطلب رضي‌الله‌عنه يناطح سقف البيت الحرام برأسه ، وهذا ما لم يحدث به أحد ، نعم انّه كان طويلاً مفرطاً فيه.

_______________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ٥٤٥.

(٢) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٤. وثوب مصمت لا يخالط لونَه لونٌ ينسج من الابريسم الصرف.

(٣) كشف الغمة للشعراني ١ / ١٩٥ ط مصر.

(٤) نفس المصدر ١ / ١٩٦ ط مصر ، باب ما يحل ويحرم من اللباس.

(٥) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٤.

(٦) نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر.

٨٦

وما أبعد هذا كله ممّا رواه المقدسي في كتابه : « إنّ العباس رضي‌الله‌عنه كان قصيراً » (١) ، ولعل مراده : كان قصيراً بالنسبة إلى أبيه حيث كان إلى منكبه كما تقدم ، وفات المقدسي التنبيه على ذلك.

وعلى أيّ فأنّ صفات الحبر ابن عباس رضي‌الله‌عنه الجسمية كانت موروثة عن آبائه فجلهم كان موصوفاً بالجمال والكمال لأنهم على حدّ ما جاء في الحديث الشريف المروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (من أتاه الله وجهاً حسناً ، واسماً حسناً ، وجعله في موضع غير شائن له من الحسب ، فهو من من صفوة خلقه) (٢) ، ولا شك أنّ بني هاشم هم الصفوة كما مرت الأشارة إلى ذلك ويأتي فابن عباس رضي‌الله‌عنه من سادات بني هاشم وقد حاز تلك الصفات الثلاث على النحو التالي :

فأمّا الوجه الحَسَن : فقد كان جميلاً مشرقاً حتى قال عطاء بن يسار : « ما رأيت البدر إلّا ذكرت وجه ابن عباس رضي‌الله‌عنه لحسنه وجماله وبهائه » (٣).

وأمّا الأسم الحَسَن : فقد كان أسمه عبد الله ، والذي سماه بذلك هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما مرّ في حديث ولادته ، والعبودية لله منتهى الفخر والشرف حتى قدّمت على الرسالة كما في ذكر التشهد في الصلاة وغيره.

وأمّا حسَبَهُ : فقد كان في موضع من الشرف لا يضاهيه فيه إلا مَن كان يماثله من أسرته. وناهيك به أنه من بني هاشم الذين أختارهم الله من خلقه كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (خير العرب مضر ، وخير مضر بنو عبد مناف ، وخير بني عبد

_______________________

(١) البدء والتاريخ ٥ / ١٠٥ ط أوربا ، وقد نسب إلى أبي سهل البلخي وهو للمقدسي.

(٢) ربيع الأبرار (مخطوط) باب الخلق وصفاتها نسخة الرضوية والأوقاف ببغداد ١ / ٨٥٠ ط بغداد.

(٣) تاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ٣١ ، والبداية والنهاية ٨ / ٣٠٦ ، وخلاصة تهذيب الكمال / ٢٠٢ ، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي وغيرها.

٨٧

مناف بنو هاشم ، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب. والله ما أفترق فرقتان منذ خلق الله آدم إلا كنتُ في خيرهما ) (١) ، إذن فهو من صفوة خيار خلق الله سبحانه.

ولنعم ما قال الشيخ شمس الدين الأندلسي :

لقريش على الأنام فخار

وبنو هاشم فخار الفخار (٢)

وزاد عليها غيره وأجاد وفيه لزوم ما لا يلزم :

فبالمصطفى قد علوا احمدا

فكان الفقار لأسنى الفخار

وبالمرتضى شيّدوا فخرهم

بصارمه ذي الفقار الفخار

وحاز الفخار لهم عصبة

أئمة حق رؤوس الفخار

فمن ذا يوازي لهم أحمدا

ومن ذا يسامي لهم بالفخار

ما عن بقية مكارم الأخلاق فهي كثيرة ، ولكن أصولها عشرة جمعها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما نسب إليه من الشعر ، فقال :

إن المكارم أخلاق مطهرة

فالعقل أولها والدين ثانيها

والعلم ثالثها والحلم رابعها

والجود خامسها والفضل ساديها (٣)

والبر سابعها والصبر ثامنها

والشكر تاسعها واللين باقيها (٤)

_______________________

(١) الخصائص الكبرى للسيوطي ١ / ٩٣ تح‍ د. محمّد خليل هراس.

(٢) اُنظر ذيل التبر المسبوك / ٢٥٠.

(٣) المراد سادسها ، ولكن للضرورة الشعرية قال : ساديها.

(٤) ديوان عمدة المطالب لسيّدنا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ص ١٣٨ ط بمبيء سنة ١٣٥٧ ، وأدب الدنيا والدين / ١١ ط دار إحياء التراث العربي ، والمستطرف ١ / ١٥ ، وجاء في تهذيب تاريخ دمشق ٤ / ٣٥٧ : ذكر ابن اسحاق صاحب المغازي انه قال ذكر الزاهد عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال :

ان المكارم أخلاق مطهرة

فالعقل أولها والبر ثانيها

قال الحافظ. يعني ابن عساكر. فذكر قصيدة عدد أبياتها اثنان وسبعون بيتاً ، وقال ابن بدران مهذب التاريخ : لم يذكر منها في الأصل سوى هذا البيت.

٨٨

وعلى ضوء هذه المكارم العشرة المطهرة إذا أردنا أن نبحث عن صفات الحبر ابن عباس رضي‌الله‌عنه ومكارم أخلاقه ، فإنا نجد أنّ نصيبه منها هو الحظ الأوفر.

ولمّا كان ذكر الشواهد عليها استباق لما يأتي في غضون سيرته ، فسنكتفي هنا بايراد طائفة من أقواله ، فهي تحكي عن غرّ أفعاله ، فإنّ المرء مخبوٌّ تحت طيّ لسانه لا طيلسانه ، وكما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : (المرء مخبوءٌ تحت لسانه) (١).

١ ـ أمّا عن العقل : فقد قال رضي‌الله‌عنه : « أساس الدين بني على العقل ، وفرضت الفرائض على العقل ، وربّنا يُعرف بالعقل ، ويتوسل إليه بالعقل ، والعاقل أقرب إلى ربه من جميع المجتهدين بغير عقل ، ولمثقال ذرة من برّ العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام » (٢).

وقال : « مجالسة العقلاء تزيد الشرف » (٣).

وقال : « مجامعة العاقل في الغل والوثاق ، خير من مجامعة الجاهل على السندس والاستبرق » (٤).

٢ ـ وأمّا عن الدين : فقد قال رضي‌الله‌عنه : « ملاك أمركم الدين ، وزينتكم العلم ، وحصون أعراضكم الأدب ، وعزّكم الحلم ، وحليتكم الوفاء » (٥).

وقال وهو يوصي بعضهم : « عليك بالفرائض وما وظّف الله تعالى عليك من حقه ، وأستعن بالله على ذلك ، فإنه لا يعلم من عبدٍ صدق نيّة وحرصاً فيما عنده من حسن ثوابه إلا أخّره عما يكره ، وهو الملك يصنع ما يشاء » (٦).

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده ٣ / ١٨٩ الحكمة ١٤٨.

(٢) روضة الواعظين / ٩.

(٣) سراج الملوك للطرطوشي / ١٣٥.

(٤) غرر الخصائص الواضحة للوطواط / ٩٥ ط سنة ١٢٩٩ ه‍ بمصر ، مشكاة الأدب ١ / ٩١٤.

(٥) مجمع الأمثال ٢ / ٤٥٥ تح‍. محي الدين ط دار الفكر ، جمهرة خطب العرب ١ / ٢٧١.

(٦) حلية الأولياء ١ / ٣٢٦.

٨٩

وقال : « لا يقبل الله صلاة أمريء وفي جوفه حرام » (١).

وقال : « عهدت الناس وأهواءهم تبعٌ لأديانهم ، وإن الناس اليوم أديانهم تبعٌ لأهوائهم » (٢).

وقال : « المروءه أن تحقق التوحيد ، وتركب المنهج السديد ، وتستدعي من الله المزيد » (٣).

وقال : « لأن أرقـّع ثوباً فألبسه فيرفعني عند الخالق ، أحبّ إليّ من أن ألبس ثياباً تضعني عند الخالق وترفعني عند المخلوقين » (٤).

وقال : « وأعمل عمل من يعلم أنه مجزيّ بالحسنات مأخوذ بالسيئات » (٥).

وستأتي شواهد كثيرة عن إيمانه وورعه وتقواه وزهده في فصول سيرته.

٣ ـ وأمّا عن العلم : فقد قال رحمه‌الله : « العلم كثير فأرعوا أحسنه أما سمعتم قول الله تعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٦) » (٧).

وقال : « العلم أكثر من أن يحاط به. وفي لفظ : يحصى ، وفي ثالث : يؤتى على آخره ، فخذوا من كل شيء أحسنه » (٨).

_______________________

(١) الطبقات الكبرى للشعراني ١ / ٢٢ ، منهاج العابدين للغزالي / ٣٥ ط سنة ١٣٢٧ ه‍ بمصر.

(٢) ربيع الأبرار للزمخشري (مخطوط) باب الشر والفجور نسخة الرضوية ٢ / ٤٩٤ ط الأوقاف ببغداد ، والمستظرف ١ / ١٥٥.

(٣) محاضرات الراغب ١ / ١٤٥.

(٤) اللمع لأبي نصر السراج الطوسي / ١٨٧.

(٥) مجمع الأمثال ٢ / ٤٥٥.

(٦) الزمر / ١٧ ـ ١٨.

(٧) محاضرات الراغب ١ / ٢٢.

(٨) الكهف / ٦٦.

٩٠

وقال : « لو كان أحد مكتفياً من العلم لأكتفى منه موسى على نبيّنا وعليه السلام وَلما قال : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) (١) » (٢).

وقال : « معلم الخير يستغفر له ويشفع له كل شيء حتى الحيتان في البحر » (٣).

وقال : « مثل علم لا يظهره صاحبه كمثل كنز لا ينفق منه صاحبه » (٤).

وقال : « ما أوتي عالم علماً إلّا وهو شاب » (٥).

وقال : « العلماء فوق المؤمنين مائة درجة ما بين الدرجتين مائة عام » (٦).

وقال : « ذللتُ طالباً فعززتُ مطلوباً » (٧).

وقال : « ما سألني رجل إلّا عرفت أفقيه هو أم غير فقيه » (٨).

وقال : « تذاكر العلم بعض ليلة أحبّ اليّ من إحيائها » (٩).

٤ ـ وأمّا عن الحلم : فقد قال رحمه‌الله : « ثلاث من كنّ فيه فقد استحق ولاية الله : حلم أصيل يدفع به سفه السفيه ، وورع يمنعه عن المعاصي ، وحسن خلق يداري به الناس » (١٠).

_______________________

(١) البيان والتبيين ١ / ٤٠٤ تح‍ هرون ، وجامع بيان العلم ١ / ١٠٦ ، وأدب الدنيا والدين / ٣٢ ، والموشى ١ / ٢ ، ورغبة الأمل ٦ / ٦٥.

(٢) أدب الدنيا والدين / ٥٩.

(٣) جامع بيان العلم ١ / ٣٨.

(٤) نفس المصدر ١ / ١٢٢.

(٥) منية المريد / ١٢٣.

(٦) تذكرة السامع للكناني / ٥.

(٧) جامع بيان العلم ١ / ١١٧ ، عقد الفريد ١ / ٢٦٤ ، عيون الأخبار لأبن قتيبة ١ / ١٢٢ ، ربيع الأبرار باب العلم والحكمة (مخطوط) نسخة الرضوية ، و ٣ / ٢٦٨ ط الأوقاف ببغداد ، تذكرة السامع / ٩١ ، منية المريد.

(٨) جامع بيان العلم ٢ / ١١٥.

(٩) ربيع الأبرار باب العلم والحكمة نسخة الرضوية مخطوط ، جامع بيان العلم ١ / ٢٤.

(١٠) نزهة المجالس ١ / ١٧٥.

٩١

وقال في وصيته لبعض أصحابه : « وعزكم الحلم » (١).

وسيأتي ما يدل على ذلك في اللين.

٥ ـ وأمّا عن الجود : فقد قال رحمه‌الله : « لسادات الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الاتقياء » (٢).

_______________________

(١) مر تمام الوصية في الكلام عن الدين نقلاً عن مجمع الأمثال ٢ / ٤٥٥ تح‍ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(٢) أدب الدنيا والدين / ١٦١.

أقول : لقد روى ابن قتيبة في عيون الأخبار ١ / ٣٣٤ ط دار الكتب وغيره قصة رواها ابن الكلبي قال : أخبرني غير واحد من قريش قالوا أراد عبد الله وعبيد الله ابنا العباس أن يقتسما ميراثهما من أبيهما بمكة ، فدُعي القاسم ليقسم ، فلمّا مدّ الحبل قال له عبد الله أقم المطمر ـ يعني الحبل الذي يُمدّ ـ فقال له عبيد الله : يا أخي الدار دارك لا يُمدّ والله فيها اليوم مطمر. فهذه القصة لا أكاد أصدّق صحتها. لأن الراوي لم يذكر من أبناء العباس إلّا عبد الله وعبيد الله فأين بقية أولاده وبناته وكلهم كان لهم حق في ميراثهم من أبيهم العباس ؟ فهل كانت دار العباس لهما فحسب لأنه خصهما بها ؟ أو انها كانت لهم جميعاً ثم خلصت لهما ببيع أو هبة ؟ فكل ذلك لم يشر إليه حديث الراوي في قصته ولو صحت أمكن تخريج القصة على وجهٍ صحيح بأن ابن عباس حبر الأمة لم يكن ليتسامح من حقه بمقدار ما زاغ عنه القاسم في اقامة الحبل فحرصه إنما كان لإقامة الحق ؟ لا عن سجية بخل لم يُعرف لها شاهد في سلوكه ولنا فيما ذكروه عنه من أحاديث السخاء الكثيرة ما يغني ويقني ، وحسب القارئ ما رواه صاحب الأغاني ١٠ / ١٥٧ مط التقدم بمصر من مروره بمعن بن أوس المزني وقد كف بصره وقال له يا معن كيف حالك ؟ فقال : ضعف بصري وكثر عيالي وغلبني الدين قال : وكم دينك ؟ قال : عشرة آلاف درهم فبعث بها إليه ،ثم مرّ به من الغد فقال له كيف أصبحت يا معن ؟ فقال :

أخذت بعين المال لما نهكته

وبالدين حتى ما أكاد ادان

وحتى سألت القرض عنه ذوي

الغنى ودّ فلان حاجتي وفلان

فقال له عبد الله : بالله المستعان ، إنا بعثنا اليك بالأمس لقمة فمالكتها حتى أنتزعت من يدك ، فأي شيء للأهل والقرابة والجيران ؟ وبعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى فقال :

٩٢

وقال : « ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر » (١).

وقال : « لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحبّ إلي من حجة بعد حجة ، ولَطبق بدانق أهديه إلى أخٍ لي في الله عزوجل أحبّ إليّ من دينار أنفقه في سبيل الله عزوجل » (٢).

وقال : « العاقل الكريم صديق كل أحد إلّا من ضرّه ، والجاهل اللئيم عدو كل أحد إلّا من نفعه » (٣).

وقال : « شر ما في الكريم أن يمنعك خيره ، وخير ما في اللئيم أن يكفّ عنك شره » (٤).

٦ ـ وأمّا عن الفضل : فقد قال رحمه الله : « تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره » (٥).

_______________________

فإنك فرع قريش وإنما

تمجّ الندى منها البحور الفوارع

ثووا قادة للناس بطحاء مكةٍ

لهم وسقايات الحجيج الدوافع

فلمّا دُعوا للموت لم تبك منهمُ

على حادثات الدهر العيون الدوامع

وسيأتي في سخائه حديث صنيعه مع أبي أيوب الأنصاري وقد وفد عليه وهو بالبصرة أيام ولايته ، وهو حديث معجب مطرب يدل على سخائه وأريحيته كما ستأتي أحاديث عن جوده وأنه كان يسمّى معلم الجود لسخائه وحثه على ذلك قولاً وفعلاً كما في محاضرات الراغب ١ / ٢٧٨.

وأنه أول من وضع موائد الطعام في الطرقات للناس ولم يكن يعود إلى رفعه كما عن مشكوة الأدب ص ٩١٥.

(١) إحياء العلوم ٤ / ١٧٢.

(٢) حلية الأولياء ١ / ٣٢٨ ، وصفوة الصفوة ١ / ٣١٨.

(٣) أدب الدنيا والدين / ٣١٢.

(٤) نفس المصدر / ٣١٢.

(٥) البداية والنهاية ٨ / ٣٠٤.

٩٣

وقال : « لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره ، فإنّه يشكرك عليه من لم تصطنعه اليه ، وإني والله ما رأيت أحداً أسعفته في حاجته إلّا أضاء ما بيني وبينه ، ولا رأيت أحداً رددته عن حاجته إلّا أظلم ما بيني وبينه » (١).

وقال : « من كرم الرجل سلامه على من عرفه ومن لم يعرفه » (٢).

وقال : « صاحب المعروف لا يقع ، فإن وقع وجَدَ له متكأ » (٣).

٧ ـ وأمّا عن البرّ : فقد مرّ قريباً في الجود قوله : « لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحبّ اليّ من حجة بعد حجة ، ولطبق بدانق أهديه إلى أخ لي في الله عزوجل أحب الي من دينار أنفقه في سبيل الله عزوجل ».

٨ ـ وأمّا عن الصبر : فقد قال : « أفضل العدّة الصبر على الشدّة » (٤).

وقال : « أستعينوا بالصبر على أداء الفرائض ، وبالصلاة على تمحيص الذنوب » (٥).

ونُعيت إليه إبنته وهو في السفر في طريق مكة ، فنزل عن دابته فصلى ركعتين ثم رفع يديه وقال : « عورة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجر ساقه الله » (٦).

٩ ـ وأمّا عن الشكر : فقد قال : « الشكر هو الطاعة بجميع الجوارح لرب الخلائق في السر والعلانية » (٧).

_______________________

(١) عيون الأخبار لأبن قتيبة ٣ / ١٧٨ ، رغبة الآمل ٢ / ١٢٢ ، عين الأدب والسياسة بهامش غرر الخصائص / ٢٥٩ ، ربيع الأبرار ١ / ٢٦٢ نسخة السماوي ، المخلاة / ٣٨.

(٢) نزهة المجالس ١ / ١٨٣.

(٣) عيون الأخبار ٣ / ١٧٥ ، ومجمع الأمثال ٢ / ٤٥٥ ، ومحاضرات الراغب ١ / ٣١٠.

(٤) أدب الدنيا والدين / ٢٥٩ ، وسراج الملوك / ١٨١ ، والخلق الكامل ٤ / ٢٨٩ ، والكنز المدفون / ٢٥.

(٥) طهارة القلوب بهامش نزهة المجالس ٢ / ٥.

(٦) ربيع الأبرار للزمخشري ، باب الموت وما يتصل به ، نسخة الرضوية ونسخة السماوي ، والعقد الفريد ٢ / ١٢٨ ، ومحاضرات الراغب ٢ / ٢٢٨.

(٧) منهاج العابدين للغزالي / ٧٨ مصر سنة ١٣٢٧ ه‍.

٩٤

وقال : « أربع من كنّ فيه فقد ربح : الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر » (١).

وقال : « لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه » (٢).

وقال : « لو أنّ فرعون مصر أسدى إليّ يداً صالحة لشكرته عليها » (٣).

١٠ ـ وأمّا عن اللين : فقد قال : « لم يمل إلى الغضب إلّا من أعياه سلطان الحجة » (٤).

وقال : « من لم تكن فيه ثلاث خصال فلا توافه : ورع يحجزه عن معاصي الله ، وحلم يطرد به فحشه ، وخلق يعيش به » (٥).

وقال : « من سلّم عليك من خَلق الله فاردد عليه‌السلام وإن كان مجوسياً ، إنّ الله تعالى يقول : ( وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) (٦) » (٧).

ومهما بلغ صعصعة في صدق تصويره ، فلا يبلغ معرفةً بابن عباس معرفته هو بنفسه ، وسنختار من كلماته مثلثات أخرى على نمط مثلثات صعصعة كشف فيها جوانب نفسية لا يمكن لصعصعة ولا لغيره الإطلاع عليها ، اللّهم إلّا بعض آثارها الخارجية بقوة الملاحظة ودوام المعاشرة.

_______________________

(١) المحجة البيضاء ٥ / ٢١٣ ، احياء العلوم ٣ / ١٠٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) العقد الفريد لأبن قتيبة ١ / ١٤٠.

(٤) نهاية الإرب للنويري ٦ / ٩٥.

(٥) المجتبى لأبن دريد / ٦٤ ط حيدر آباد.

(٦) النساء / ٨٦.

(٧) المحجة البيضاء ٥ / ٢١٣ ، احياء علوم الدين ٣ / ١٠٣.

٩٥

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه لرجل شتمه : « إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال : إني لأسمع بالحاكم من حكّام المسلمين يعدل في حكمه فأحبّه ، ولعلّي لا أقاضي إليه أبداً ، وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به ، ومالي بها سائمة ولا راعية ، وإني لآتي على آية من كتاب الله فوددت انّ المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم » (١).

وقال : « ثلاثة لا أكافئهم : رجل بدأني بالسلام ، ورجل وسّع لي في المجلس ، ورجل أغبرّت قدماه في المشي إلي إرادة التسليم عليّ ، أمّا الرابع فلا يكافئه إلّا الله عزوجل ، قيل : ومن هو ؟ قال : رجل نزل به أمر فبات ليلته مفكراً بمن ينزله ، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي » (٢).

وقال : « من لم تكن فيه ثلاث خصال فلا توافه : ورع يحجزه عن معاصي الله ، وحلم يطرد به فحشه ، وخلق يعيش به » (٣).

وقال أيضاً : « ما بلغني عن أخٍ لي مكروهٌ قط إلّا أنزلته إحدى ثلاث منازل : إن كان فوقي عرفت له قدره ، وإن كان نظيري تفضّلت عليه ، وإن كان دوني لم أحفل به ، هذه سيرتي في نفسي فمن رغب عنها فأرض الله واسعة » (٤).

وهو القائل : « لجليسي على ثلاث : أن أرميه بطرفي إذا أقبل ، وأن أوسّع له إذا جلس ، وأصغي إليه إذا تحدّث » (٥).

_______________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ٣٠٠ ، والمعرفة والتاريخ ١ / ٥٢٦ ، ومعجم الطبراني ١٠ / ٢٦٦ ط الثانية بالموصل ، ومجمع الزوائد ٩ / ٢٨٤ وقال : رجاله رجال الصحيح.

(٢) عيون الأخبار لأبن قتيبة ٣ / ١٧٦.

(٣) المجتبى لأبن دريد / ٦٤.

(٤) صفة الصفوة ١ / ٧٥٤.

(٥) عيون الأخبار لأبن قتيبة ١ / ٣٠٦ ، رغبة الآمل ٢ / ٢٠٥ ، ربيع الأبرار ١ / ورقة ٢٠٠ نسخة السماوي ، ١ / ٢٩٤ طبع بغداد.

٩٦

وهو القائل : « أكرم الناس عليّ جليسي ، وان الذباب يقع على جليسي فيؤذيني ، وإني لأستحي من الرجل يطأ بساطي ثلاثاً فلا يُرى عليه أثر من بري » (١).

وبهذه المثلثات الثلاث نكتفي عن الإطناب في سرد ما ورد في وصف أخلاقه ، وسوف يصادفنا فيما نقرأ من فصول سيرته شواهد على ذلك كثيرة.

وكيف لا يكون في حسن أخلاقه مثلاً أعلى وهو القائل : « انّ الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد ، وان الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل » (٢).

وعن طاووس قال : « كنا عند ابن عباس ، قال : وكان سعيد بن جبير يكتب ، قال : فقيل لابن عباس : إنهم يكتبون ، قال : أيكتبون ؟ ثم قام ، وكان حسن الخُلُق ، قال : ولولا حسن خُلقه لغيّر بأشد من القيام » (٣). وأنا مهما شككت في صحة هذا الخبر ودلالته على المنع من التدوين ـ لأن ابن عباس كان ممن يرى تدوين الحديث وهو نفسه قد كان يحمل معه ألواحه ويجلس على باب الأنصاري ليسمع منه ويكتب عنه. كما سيأتي توثيق ذلك في تاريخه العلمي ـ فلا اشك في دلالته على حسن خلقه ، ولولا حسن خلقه لغيّر بأشد من القيام على حد تعبير طاووس.

قال الجاحظ في رسالة نفي التشبيه : « ولو لم يعرف ذلك إلّا بعبد الله بن العباس وحده كان ذلك كافياً ، وبرهاناً شافياً ، فان الأعجوبة فيه أرث على كل

_______________________

(١) ربيع الأبرار ١ / ٢٨٩.

(٢) ربيع الأبرار ١ / ورقة ١٥٠ نسخة السماوي ، ١ / ٤٩ ط بغداد.

(٣) المعرفة والتاريخ ١ / ٥٢٧.

٩٧

عجب وقطعت كل سبب ، وقد رأيتم حاجة عمر إليه ، وإستشارته إياه ، وتقويمه لعثمان وتغييره عليه ، ولو لم يكن للفضيلة من بين أقرانه مستحقاً ، وبها مخصوصاً ما خصّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة المستجابة ، ولما خصه بعلم الكتاب والسنة ، وهما أرفع العلم ، وأشرف الفكر ، ويدّلك على تقديمه للغاية ، وايثاره للتعلم والاستبانة ، قوله حين قيل له في حداثته وقبل البلوغ في سنه : ما الذي آتاك هذا العلم وهذا البيان والفهم ؟ قال : قلب عقول ولسان سؤول » (١).

والخلاصة ، لقد كان مثالاً لمحاسن الأخلاق وجميل الصفات ، مع ما له من مزايا الفضل الأخرى من نفاذ بصيرة قلّ مثيلها حتى شهد باعجاب مربيه ومعلّمه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : (لله در ابن عباس ان كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق) (٢) ، وقد رويت كلمة الإمام هذه فيه بألفاظ متفاوتة أحسبها من تساهل نقل الرواة بعد تسالمهم على المعنى فقد رواها ابن عبد ربّه مرة أخرى في كتابه بلفظ : (لله بلاء ابن عباس) (٣) ، ورواها الديريني في علم القلوب : (كأنه ينظر إلى الغيب من ستور رقيقة) (٤) ، ورواها الكتاني نقلاً عن الدينوري : (لينظر الي الغيب خلف ستر رقيق لعقله وفطانته) (٥).

ومهما يكن فليس ذلك بضائر بعد الدلالة فيها على جودة الرأي ونفاذ البصيرة وكثرة الإصابة فكان كما قال الشاعر :

بصير بأعقاب الاُمور برأيه

كأن له في اليوم عيناً على غد

_______________________

(١) رسائل الجاحظ ١ / ٣٠٠ تح‍ عبد السلام محمّد هارون.

(٢) العقد الفريد ٢ / ١٢٨ تح‍ أحمد أمين ورفيقيه.

(٣) نفس المصدر ٢ / ٣٤٦.

(٤) علم القلوب / ٢٤.

(٥) التراتيب الادارية ٢ / ٤١٤.

٩٨

نشأة حبر الاُمة :

نشأ عبد الله بين أحضان الفضيلة وحجور الكرامة ، تحت رعاية أبيه العباس الذي كان يتولى سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، وكلاهما من المآثر التي ورثها عن آبائه.

ومن الطبيعي أن يكون ابنه عبد الله أدرك في أيام طفولته ما كان يقوم به أبوه في سبيل هاتين المكرمتين. كما أنه من الطبيعي أدرك ما كان يدور في بيوت أهله من حديث الإسلام والمسلمين ، ومثابرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبيل دعوته ، ومناوأة قريش له ، لأن تلك هي الظاهرة التي تلفت النظر ، ويظهر من شعر أم الفضل حين كانت ترقصه ، انها كانت تعقد عليه أملاً كبيراً في المستقبل ، وتتوسم فيه أن يكون سيداً كآبائه فهي تقول :

ثكلت نفسي وثكلت بكري

إن لم يسد فهراً وغير فهر

بالحسب العدّ وبذل الوفر

حتى يوارى في ضريح القبر (١)

وليس ثمة من تفصيل حول نشأته الأولى في مكة ، لكن الذي لا شك فيه أنّه أدرك في صباه ما كان يجري بمكة من خلال أحاديث أهل بيته ، وما يقال في الإسلام والمسلمين ، ولئن شككنا في إدراكه خروج أبيه العباس مع ابن عمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة (الثانية) لتوكيد العهد على الأنصار ، لصغر سنّه يومئذ إذ لم يتجاوز الثالثة من عمره ـ وإن كان أبوه كان يحدّث عن ذكريات طفولته وهو في مثل ذلك السن ، كما سيأتي في ترجمة حديثه عن مولد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لكن الذي لا شك فيه أنه وعى في طفولته ما كان عليه المسلمون بمكة. بعد الهجرة.

_______________________

(١) محمّد بن حبيب الهاشمي في المنمق / ٤٣٢ ط حيدر آباد ، والقالي في الامالي ٢ / ١١٨ ، وابن ظفر في أنباء نجباء الأبناء / ٧٩ ط الأولى بالتقدم بمصر.

٩٩

من إستضعاف قريش لهم ، رجالاً ونساءً وولداناً ، وكان هو من الولدان الذين لحقهم الأذى حتى روي عنه بعد ذلك في تفسير قوله تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) (١).

قال الرازي : « المراد بالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان قوم من المسلمين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة ، وكانوا يلقون من كفار مكة أذىً شديداً » (٢).

قال ابن عباس : « كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان » ، ونقل ذلك عنه جملة من المفسرين كالقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (٣). والسيوطي في الدر المنثور وغيرهما. ورواه البخاري في صحيحه (٤) ، وغير.

وهذا يعني أنه كان يعاني ربما من أبناء المشركين في مثل سنّه من مضايقات وربّما من آبائهم أيضاً ما خلّف ذلك أثراً في نفسه فحدّث عنه ، وسيأتي في ترجمة أمه ما يتصل بهذا.

وأيضاً ممّا لا شك فيه أنه وعى إخراج قريش لأبيه ولأبناء عمومته طالب وعقيل ونوفل ـ كُرهاً وذلك في حرب بدر. كما وعى ما حدث بعد ذلك من أخبار عن أنتصار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش وأسر أبيه وعودته إلى مكة بعد وصول خبر الحرب اليها ـ وسيأتي طرف منه في ترجمة أمه لبابة ، ومن القريب جداً أنّه

_______________________

(١) النساء / ٧٥.

(٢) تفسير الرازي ١٠ / ١٨٢ ط البهية بمصر ١٣٥٧ ه‍.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٥ / ٢٧٩.

(٤) صحيح البخاري (كتاب التفسير ، سورة النساء) ٦ / ٤٦.

١٠٠