موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

آثارها المحزنة من الذاكرة ، كما لا تضيع معالمها مهما تكثرت نزوات الاقلام الماكرة. إذ لولاها لما استولت على المسلمين الحكومات الجائرة وحتى الكافرة.

قال المعلمي في الأنوار الكاشفة : « تكلم بعض المتأخرين في هذا الحديث وذكر أنّه لو كانت الواقعة بنحو هذه الصورة لما أغفل الصحابة ذكرها والتنويه بشأنها ، فما باله لم يذكرها إلّا ابن عباس مع أنّه كان صغيراً يومئذٍ. ويميل هذا المتأخر إلى أنّها كانت واقعة لا تستحق الذكر تجسمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل ... ا ه‍ » (١).

أقول : ولايهمنا معرفة ذلك البعض النكرة وإنّما الّذي يهمنا تنبيه القرآء على حكمة إطالتنا الحديث حول ذلك الحديث بدءاً من الصحابة الّذين رووه وهم الإمام عليّ وعمر وجابر وابن عباس ، ومروراً بصور الحديث وانتهاء بما قاله علماء التبرير حوله ، ومع كلّ ذلك ينقّ بعض النكرات من المتأخرين ، ويميل إلى (انّها واقعة لاتستحق الذكر تجسّمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل).

كيف لاتستحق الذكر ! ومنها كان المنطلق نحو الخلافة ، وعليها بنى أصحاب النص ادّعاءهم ، وبها هدموا على أصحاب الاختيار بناءهم.

قال سليم بن قيس الهلالي ـ تابعي جليل ـ : « إنّي كنت عند عبد الله بن عباس في بيته وعنده رهط من الشيعة ، فذكروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموته ، فبكى ابن عباس وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الاثنين ـ وهو اليوم الّذي قبض فيه ـ وحوله أهل بيته وثلاثون رجلاً من أصحابه : (أيتوني بكتف اكتب لكم فيه كتاباً لن

_______________________

(١) الأنوار الكاشفة / ٥٨ ط السلفية.

٤٦١

تضلوا بعدي ، ولن تختلفوا بعدي ...) ، فقال رجل : إن رسول الله يهجر (!) ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : (إنّي أراكم تخالفوني وأنا حي فكيف بعد موتي) ؟ فترك الكتف.

قال سليم : ثمّ أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم لولا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضل أحد ولا يختلف.

فقال رجل : يابن عباس ، ومن ذلك الرجل ، فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم فقال : هو عمر ، فقلت : صدقت ، قد سمعت عليّاً وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون : أنّه عمر ، فقال : ياسليم اكتم إلّا من تثق به من اخوانك ، فإنّ قلوب هذه الأمة أشربت حبّ هذين الرجلين كما أشربت قلوب بني إسرائيل حبّ العجل والسامري » (١).

فهذا الخبر يدلّ بتكرار المحاولة مرة أخرى يوم الاثنين ، يوم وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكرّر الموقف من عمر ، وليس ذلك ببعيد ، لأن الموقف دقيق والظرف حسّاس ولولا كلمة عمر لما أصاب الأمة ما أصابها.

فهلمّ وأقرأ ما قاله أحمد أمين في كتابه : « وقد أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الّذي مات فيه أن يعيّن من يلي الأمر من بعده ، ففي الصحيحين أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا احتضر قال : (هلمّ أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده) وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب فقال عمر : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف القوم

_______________________

(١) كتاب سليم بن قيس الهلالي ٢ / ٧٩٤ ط الهادي سنة ١٤١٥ تح‍ الشيخ محمّد باقر الأنصاري.

٤٦٢

وأختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول : ما قاله عمر ، فلمّا أكثروا اللغو والإختلاف عنده عليه‌السلام قال لهم : (قوموا) فقاموا. وتركُ الأمر مفتوحاً لمن شاء ، جَعَل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة حتى إلى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين » (١).

فهذا هو السبب الّذي جعلنا نطيل البحث ، ونجترّ المرارة ، ونكرّر ذكر حديث الرزية. ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢).

أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أنس قال : « ما نفضنا عن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم الأيدي ـ من دفنه ـ حتى أنكرنا قلوبنا » (٣).

وأخرج ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الآجري : « قال عمرو بن ثابت لمّا مات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفر الناس إلّا خمسة » (٤).

وقد يستفز هذا الكثير الكثير من القرآء ويطعنون في صحته. ولكن نطمئنهم بأنّ ذلك صحيح وهو ليس بدعاً ممّا أخرجه البخاري في عشرة مواضع من صحيحه من أحاديث الحوض.

وإلى القارئ واحداً منها : « أخرج في صحيحه كتاب التفسير باب ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ

_______________________

(١) يوم الإسلام / ٤١.

(٢) الشعراء / ٢٢٧.

(٣) المصنف لابن أبي شيبة ١٣ / ٣٦٤ ، وابن ماجة في سننه / ١١٩ ، والهيثمي في موارد الضمآن / ٥٣٠.

(٤) تهذيب التهذيب ٨ / ٩.

٤٦٣

شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) بسنده عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال خطب رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فقال : (أيها الناس إنّكم محشورون إلى الله حفاة عراة غُرلا (٢) ثمّ قال : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ... ) (٣) إلى آخر الآية ، ثمّ قال : (ألا وإنّ أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ، ألا وإنّه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا ربّ أصحابي فيقال إنّك لاتدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (٤) ، فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) » (٥).

النهاية المحزنة :

لقد مرّ بنا ما كان من الرزية الّتي حاقت بالمسلمين في يوم الخميس وهو اليوم الّذي أعلن فيه التمرّد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فردّ أمره الناطقُ عن المعارضة ، وصدمه بكلمة أغمي عليه منها لشدة وقعها ، وكانت بداية النهاية المحزنة ، أمّا نهاية تلك البداية فكانت وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الاثنين. وما حدث من الصحابة فيما بين

_______________________

(١) المائدة / ١١٧.

(٢) غرل : أي غير مختونين.

(٣) الأنبياء / ١٠٤.

(٤) الأنبياء / ١٠٤.

(٥) صحيح البخاري ٦ / ٥٥ ط بولاق ، وأخرجه مسلم في صحيحه ٢ / ٣٥٥ ط بولاق في كتابه الجنة وصفة نعيمها باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة. فالحديث متفق عليه كما يقول علماء الحديث من أهل السنّة.

٤٦٤

اليومين ـ الخميس والاثنين ـ من أحداث تتابعت بعنفها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تبرّم بأصحابه وسأم منهم وتمنى أن يريحه الله منهم.

وإلى القارئ بعض الشواهد على ذلك :

١ ـ في حديث عبد الرزاق في المصنف عن العباس بن عبد المطلب : فقلت : يا رسول الله لو اتخذت شيئاً تجلس عليه ... وفي لفظ المحب الطبري : مكاناً تكلم الناس فيه يدفع عنك الغبار ويردّ عنك الخصم ، فقال النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (لأدعنّهُم ينازعونّي ردائي ، ويطؤنَّ عقبي ، ويغشاني غبارهم ، حتى يكون الله يريحني منهم). فعلمت أنّ بقاءه فينا قليل (١).

وفي لفظ البزار في مسنده « قال : (لا أزال بين أظهرهم يطأون عقبي وينازعون ردائي حتى يكون الله يريحني منهم) » (٢).

وليس من شك في أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد الكناية بقوله : (ينازعونّي ردائي) يعني منازعتهم له فيما هو له ومن حقه واختصاصه كاختصاصه وحقه بردائه ، ولكنهم نازعوه وجاذبوه ، فهو يريد أن يوحي بالأمر ويقول : (هلمّ أكتب لكم) وهم يقولون : انّه هجر. كما أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ويطؤن عقبي) كناية عن مبلغ تعدّيهم على من يخلّف بعده ، حتى وكأنّهم يطؤنّ عليهم بأقدامهم سحقاً لهم وإبعاداً لهم عن الساحة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ويغشاني غبارهم) كناية عمّا يلحقه من شدة الأذى والعنَت فيتأثر لما يصيب أهل بيته وعقبه من ظلم كما يتأثر الإنسان إذا غشيه الغبار. وغير

_______________________

(١) المصنف ٥ / ٤٣٤ ، قارن سنن الدارمي / ٢١ ، وذخائر العقبى / ٢٠٤.

(٢) قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢١ : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

٤٦٥

خفيّ دقة التعبير بغشيان الغبار ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (حتى يكون الله يريحني منهم) نعرف مبلغ سخطه على من نازعه رداءه ووطئ عقبه وغشيه بما أثار من غبار الفتنة ، وبعد صريح هذا القول فليقل الّذين يستغفلون العقول ، لقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو راضٍ عنهم ؟!

٢ ـ وتعقيباً على ما مرّ كان موقفه الآخر الّذي سبّب له إزعاجاً بالغاً ، وكان أحد الموارد الّتي نازعوه فيها رداءه ، وهو موقفه من الصلاة بالناس في مرضه في الوقت الّذي ثقل فيه حاله. وإليك الحديث برواية ابن سعد في الطبقات الكبرى بسنده عن عبيد بن عمر الليثي (١) : « إنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في مرضه الّذي تُوفي فيه أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، فلمّا أفتتح أبو بكر الصلاة وجَدَ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم خفّة فخرج فجعل يفرّج الصفوف ، فلمّا سمع أبو بكر الحسّ علم أنّه لا يتقدم ذلك التقدّم إلّا رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته فخنس إلى الصف وراءه فردّه رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إلى مكانه ، فجلس رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إلى جنب أبي بكر وأبو بكر قائم ، فلمّا فرغا من الصلاة قال أبو بكر : أي رسول الله أراك أصبحت بحمد الله صالحاً وهذا يوم ابنة خارجة ـ امرأة لأبي بكر من الأنصار في بلحارث بن الخزرج ـ فأذن له رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ، وجلس رسول الله في مصلّاه وإلى جانب الحُجر ، فحذّر الناس الفتن ثمّ نادى بأعلى صوته ـ حتى أنّ صوته ليخرج من باب المسجد ـ فقال : (إنّي والله لا يمسك الناس عليّ بشيء ، لا أحلّ إلّا ما أحلّ الله في كتابه ، ولا

_______________________

(١) كان قاصّ أهل مكة. وهذا يكفينا من تعريف ابن حجر له في تقريب التهذيب.

٤٦٦

أحرّم إلّا ما حرّم الله في كتابه ، ثمّ قال : يا فاطمة بنت محمّد ويا صفية عمة رسول الله أعملا لما عند الله فإنّي لا أغني عنكما من الله شيئاً) ثمّ قام من مجلسه ذلك فما انتصف النهار حتى قبضه الله » (١).

وروى ابن سعد أيضاً بسنده عن عبيد الله بن عبد الله قال : « دخلت على عائشة فقلت لها حدثيني عن مرض رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قالت : لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فقال : (أصلّى الناس ؟) فقلت : لا هم ينتظرونك يا رسول الله قال : (ضعوا لي ماء في المخضب) (٢) قالت : ففعلنا فاغتسل ، ثمّ ذهب لينوء فأغمي عليه ثمّ أفاق ، فقال : (أصلى الناس ؟) فقلت : لا هم ينتظرونك ، فقال : (ضعوا لي ماء في المخضب) ، قالت : ففعلنا فاغتسل ثمّ ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثمّ أفاق فقال : (أصلى الناس ؟) فقلت : لا هم ينتظرونك والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لصلاة العشاء الآخرة قالت : فأرسل رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس ، فأتاه الرسول فقال : إن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يأمرك أن تصلي بالناس ، فقال أبو بكر : وكان رجلاً رقيقاً يا عمر صلّ بالناس فقال عمر : أنت أحق بذلك فصلّى أبو بكر تلك الأيام ، ثمّ إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وجد من نفسه خفّة ، فخرج بين رجلين أحدهما العباس ، فصلّى الظهر وأبو بكر يصلي بالناس. قالت : فلمّا رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أن لا يتأخر ، وقال لهما أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر. قال : فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١٧ ط أفست عن ط ليدن.

(٢) المخضب : المركن تغسل فيه الثياب.

٤٦٧

بصلاة النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قاعد.

قال عبيد الله : فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت : ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ؟ قال : هات ، فعرضت عليه فما أنكر منه شيئاً غير أنّه قال : سمّت لك الرجل الّذي كان مع العباس ؟ قال قلت : لا ؟ قال : هو عليّ بن أبي طالب » (١).

وروى ابن سعد أيضاً هذا الحديث بأخصر من ذلك وفيه : « فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين ابن عباس ـ تعني الفضل ـ وبين رجل آخر. قال عبيد الله : فأخبرت ابن عباس بما قالت قال : فهل تدري من الرجل الآخر الّذي لم تسمّ عائشة ؟ قال قلت : لا قال ابن عباس : هو عليّ إن عائشة لا تطيب له نفساً بخير » (٢).

أقول : ولئن كنّت عنه برجل فقد أبعدته حتى عن تلك الكناية في حديث آخر عنها فقالت : « وأصبح ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يوم الاثنين مفيقاً فخرج يتوكأ على الفضل بن عباس وعلى ثوبان مولاه حتى دخل المسجد » (٣).

وما أكثر الشواهد الّتي حفظتها عنها كتب السيرة فكشفت عما تكنّه لعليّ من شنآن ، وكانت على حدّ ما وصفها ابن عباس حبر الأمة بقوله : « إنّ عائشة لا تطيب له نفساً بخير ».

ومهما كانت الدوافع والنوازع ولكن هلمّ الخطب فيما ورد عنها ـ وعن غيرها أيضاً ـ في مسألة صلاة أبي بكر بالمسلمين أيام مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكثرة

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١٩.

(٢) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ١٩.

(٣) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٢٠.

٤٦٨

التناقضات فيما روي في ذلك أصبحت مثار جدل وخلاف. وحيث أنّها من الأحداث الّتي شاهدها حبر الاُمة عبد الله بن عباس وعاشها بجميع تداعيتها ومداخلاتها ، حتى كان يعرض عليه بعض الرواة ما سمعه من عائشة ، كما مرّ قريباً شاهد ذلك ، فلا مناص من الإلمام بشيء عنها.

ماذا عن صلاة أبي بكر ؟

تكاد تكون المسألة من المتسالم عليها أنّ أبا بكر صلّى بالمسلمين في مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن الخلاف نشأ في متداعياتها ، وبدا التناقض في مرويات من رواها فأثار ذلك كثيراً من الشكوك والتساؤلات ، وإليك بعضاً منها :

١ ـ هل صحيح أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أحداً بعينه ـ سواء أبا بكر أو غيره ـ ليؤم المسلمين في صلاتهم في مرضه ؟ والجواب نقرؤه في رواية عبد الله بن زمعة بن الأسود يقول : « عدتُ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في مرضه الّذي توفـّي فيه ، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال لي رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (مرّ الناس فليصلوا).

قال عبد الله : فخرجت فلقيت ناساً لا اُكلمهم ، فلمّا لقيت عمر بن الخطاب لم أبغ مَن وراءه وكان أبو بكر غائباً ، فقلت له : صل بالناس يا عمر ، فقام عمر في المقام ، وكان عمر رجلاً مُجهراً ، فلمّا كبّر سمع رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم صوته ، فأخرج رأسه حتى أطلعه الناس من حجرته فقال : لا لا لا ، ليصل بهم ابن أبي قحافة ، قال : يقول ذلك رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم مغضباً ،

٤٦٩

قال : فانصرف عمر فقال لعبد الله بن زمعة : يا بن أخي أمرك رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أن تأمرني ؟

قال : فقلت لا ولكني لما رأيتك لم أبغ مَن وراءك ، فقال عمر : ما كنت أظن حين أمرتني إلّا أنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أمرك بذلك ، ولولا ذلك ما صليت بالناس ، فقال عبد الله لمّا لم أر أبا بكر رأيتك أحق من غيره بالصلاة.

فظهر من هذه الرواية أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأمر أحداً بعينه حين آذنه بلال بالصلاة.

وأنّ جميع ما جرى كان من تصرّف عبد الله بن زمعة الشخصي ، ولذا عاتبه عمر على ذلك. كما ظهر أنّ الراوي كان هواه مع أبي بكر وعمر ، فهو رأى اُناساً غيرهما فلم يكلمهم ، لماذا (؟) وهو ما إن رأى عمر فلم يبغ مَن وراءه ، لماذا ؟ وهو الّذي كشف عن دخيلة هواه حين قال لعمر : لما لم أر أبا بكر رأيتك أحق من غيره بالصلاة ، لماذا ؟ ولنا أن ندرك ما تزيّده على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسب إليه قوله لما سمع صوت عمر فأخرج رأسه حتى أطلعه الناس من حجرته فقال : لا لا لا ليصل بهم ابن أبي قحافة. يقول ذلك رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم مغضباً. وعبد الله بن زمعة هذا استشهد يوم الدار مع عثمان (١) ، فهو غير متهم عند من يحتج بأمثاله في مثل المقام ، وقد تبين لنا أنّه لم يكن أمرٌ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أحد بعينه يقوم مقامه في الصلاة بالمسلمين. وهذا ما سيأتي عن الإمام عليّ عليه‌السلام أيضاً.

_______________________

(١) تقريب التهذيب لابن حجر ١ / ٤١٦.

٤٧٠

٢ ـ إنّ المروي في مسألة صلاة أبي بكر فيه من التناقض العجيب الغريب ما يدعو إلى الريبة في ذلك وإن تضخم كماً وكيفاً. ولئلا نطيل الوقوف كثيراً فلنقرأ بعض ما جاء عن عائشة وحدها مضافاً إلى ما مرّ عنها أيضاً ، وعليها مدار أكثر المروي في ذلك ، لنرى مدى التناقض فيه :

أ ـ في حديث قالت : « أوذن النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بالصلاة في مرضه فقال : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس ثمّ أغمي عليه فلمّا سرّي عنه قال : هل أمرتنّ أبا بكر يصلي بالناس ؟ فقلت يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق لا يُسمع الناس ، فلو أمرت عمر. قال : إنكن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس فربّ قائل ومتمنّ ويأبى الله والمؤمنون » (١).

ب ـ وفي حديث آخر عنها : « لمّا كانت ليلة الاثنين بات رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم دنفا ، فلم يبق رجل ولا إمرأة إلّا أصبح في المسجد لوجع رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فجاء المؤذّن يؤذنه بالصبح فقال : قل لأبي بكر يصلي بالناس ، فكبّر أبو بكر في صلاته ، فكشف رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم الستر فرأى الناس يصلون ، فقال : إن الله جعل قرّة عيني في الصلاة ، وأصبح يوم الاثنين مفيقاً فخرج يتوكأ على الفضل بن عباس وعلى ثوبان غلامه حتى دخل المسجد وقد سجد الناس مع أبي بكر سجدة من الصبح وهم قيام في الاُخرى ، فلمّا رآه الناس فرحوا به ، فجاء حتى قام عند أبي بكر ، فاستأخر أبو بكر فأخذ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بيده فقدّمه في مصلّاه فصفّا جميعاً ، رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم جالس وأبو بكر قائم على

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ ق٢ / ٢٠.

٤٧١

ركنه الأيسر يقرأ القرآن ، فلمّا قضى أبو بكر السورة سجد سجدتين ثمّ جلس يتشهد ، فلمّا سلّم صلّى النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم الركعة الآخرة ثمّ انصرف » (١).

ج ـ وفي حديث ثالث عنها قالت : « ما مرّت عليَّ ليلة مثل ليلة قال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يا عائشة هل طلع الفجر ؟ فأقول : لا حتى أذّن بلال بالفجر ، ثمّ جاء بلال فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ما هذا ؟ فقلت : هذا بلال ، فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : مري أبا بكر فليصل بالناس » (٢). وقال الهيثمي : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : « تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الإمام في تلك الصلاة » (٣).

ومع ذلك فقد رووا عنها تارة الإشتراك في الإمامة ، كما روى ابن سعد ذلك عنها في الطبقات (٤) فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاعد.

وأخرى زادت على المشاطرة فجعلت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأموماً صلّى بصلاة أبي بكر ، وهذا أيضاً قد مرّ عن عائشة ورواه عنها ابن سعد في الطبقات (٥) فلماذا الإختلاف منها في كيفية صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

_______________________

(١) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٢٠.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ٣٥.

(٣) فتح الباري ٢ / ١٢٣.

(٤) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١٩.

(٥) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٢٠.

٤٧٢

٣ ـ ثمّ ماذا تعني جملة رفع الستر فرأى أبا بكر يصلي والمسلمون وراءه فسرّ بذلك فأسدل الستر ، كما في روايات أنس بن مالك عند ابن سعد في الطبقات (١) فأين صار خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوكئاً على الفضل بن عباس ورجل كما تقول عائشة ؟ وأين صار قول إبراهيم النخعي : « أمَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وهو ثقيل معتمداً على أبي بكر » ؟ (٢) وأين زعمهم في حديث نسبوه إلى أم سلمة : « كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجعه إذا خفّ عنه ما يجد خرج فصلّى بالناس ، وإذا وجد ثقلة قال مروا الناس فليصلوا ، فصلّى بهم ابن أبي قحافة يوماً الصبح فصلّى ركعة ثمّ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلس إلى جنبه فأتمّ بأبي بكر فلمّا قضى أبو بكر الصلاة أتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما فاته » ؟ (٣)

٤ ـ لماذا الإختلاف في مدة إمامة أبي بكر في الصلاة فقالوا ثلاثة أيام (٤) ، وقالوا سبع عشرة صلاة كما رواه ابن سعد (٥) ، وهي تزيد على ما سبق في مدتها ، ولا تكون الوفاة ضحى أو صدر النهار كيفما حسبنا الصلوات ، إلّا أن نتمها فنجعلها أكثر من أربعة أيام ، فتبدأ من عشاء يوم الخميس وتنتهي بغداة يوم الاثنين.

٥ ـ لماذا الإختلاف في الصلاة الّتي كان خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها ـ بعد أن وجد خفته كما يقولون ـ فتارة خرج لصلاة الظهر وذلك عن عائشة كما في الطبقات (٦) ، وتارة أخرى كان خروجه لصلاة العشاء كما في حديثها الآخر ورواه

_______________________

(١) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ١٨ و ١٩.

(٢) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ١٧.

(٣) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٢٢.

(٤) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٢٣ عن عكرمة.

(٥) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٢٣.

(٦) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٢٩.

٤٧٣

أيضاً ابن سعد في الطبقات (١) ، وثالثة كان خروجه لصلاة الغداة ـ الصبح ـ كما في حديثها الثالث ورواه أيضاً ابن سعد في الطبقات (٢) ؟ فأيها الصحيح ؟ أو لا صحيح في المقام.

٦ ـ لماذا خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدما أمر أبا بكر بالصلاة مكانه كما يقولون ؟ هل حدث ما يستدعي خروجه وتحمّل العناء حتى خرج يتهادى بين رجلين وهو يجرّ رجليه تخط رجلاه الأرض ؟ سؤال أجابوا عنه بأنّه وجد في بدنه خفّة ، وهذا منهم لا يكاد يصدقه ذو مسكة ، فمن أين أتته الخفّة مع ذلك المرض ؟ وإذا كان ـ كما يزعمون ـ وجد خفّة لماذا توكأ على رجلين ولم يكتف بواحد ؟ إذن فجواب الخِفة فيه خِفّة.

ويبدو أنّ بعضهم أحسّ بخِفة وزن ذلك الجواب ، فأبتدع حديثاً على لسان الفضل بن عباس ـ وهو أحد الرجلين اللذين توكأ عليهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال فيه : « وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد يوم الاثنين ، وبعث يوم الاثنين ، وتوفي يوم الاثنين ، فلمّا كان يوم الأحد ثقل في مرضه فأذّن بلال بالأذان ، ثمّ وقف بالباب فنادى السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، أقيم الصلاة ؟ فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوت بلال ، فقالت فاطمة : يا بلال إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليوم مشغول بنفسه ، فدخل بلال المسجد ، فلمّا أسفر الصبح قال : والله لا أقيمها أو أستأذن سيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج بلال فقام بالباب ونادى السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله.

_______________________

(١) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٣٠.

(٢) نفس المصدر ٢ ق ٢ / ٢٠.

٤٧٤

فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوت بلال فقال : اُدخل يا بلال إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليوم مشغول بنفسه ، مُر أبا بكر يصلي بالناس ، فخرج ويده على أم رأسه وهو يقول : واغوثاه... ثمّ قال : يا أبا بكر إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرك أن تصلي بالناس ، فتقدم أبو بكر فصلّى بالناس ، وكان رجلاً رقيقاً ، فلمّا رأى خلو المكان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرّ مغشياً عليه وصاح المسلمون بالبكاء ، فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضجيج الناس فقال : ما هذه الضجة ؟ قالوا : ضجيج المسلمين لفقدك يا رسول الله ، فدعا رسول الله عليّ بن أبي طالب وابن عباس فاتكأ عليهما ، فخرج إلى المسجد فصلّى بالناس ركعتين خفيفتين... » (١). فأين صارت صلاة أبي بكر بالناس وائتمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به في ركعة ؟ والجواب عند من أتى بغشية أبي بكر ، ولكنه ضاع وسط ضجيج الناس المفتعل.

٧ ـ وعلى فرض الخِفّة والغشية يبقى الحديث يحمل أكثر من إشارة وإثارة بأنّه لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر أبا بكر ، وهذا ما تنبّه له ابن الإسكافي في كتابه المعيار والموازنة فقال : « متى نظرنا إلى آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب للحديث مَخرجا عن النقص والتقصير ، وذلك إنّ آخره : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا وجد إفاقة وأحسّ بقوّة خرج حتى أتى المسجد وتقدم فنحّى أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه ، فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتركه على إمامته وصلّى خلفه ، كما صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف » (٢).

_______________________

(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٨ وقال رواه الطبراني وفيه عبد المنعم بن إدريس وهو كذّاب.

(٢) المعيار والموازنة / ٤١ ـ ٤٢ ط الاُولى.

٤٧٥

ويؤيد قول ابن الإسكافي في تنحية أبي بكر قول محمّد بن إبراهيم الراوي لحديث الصلاة بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد روى ابن سعد حديثه في الطبقات ـ إلى أن قال ـ : « فلم يشعر أبو بكر حتى وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده بين كتفيه فنكص أبو بكر وجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن يمينه » (١).

فلماذا دفعه وهو الّذي أمره ؟ ولماذا نكص هو الآخر ما دام قد صلّى بأمر منه ؟ فهذه هي التنحية الّتي قالها ابن الإسكافي.

٨ ـ لماذا أثارت مسألة الصلاة خلافاً وتسابقاً بين الزوجتين عائشة وحفصة ؟ فما دام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو صاحب الحقّ في التعيين فليس من حق أيّ إنسان أن يفرض رأيه ـ ولنقل بتهذيب العبارة ـ يعرض رأيه عليه حتى يسبّب له ازعاجاً فيقول لهن : « إنكن لصواحب يوسف » (٢).

وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد في شرح قوله عليه‌السلام : ومن كلام له خاطب به أهل البصرة على جهة إقتصاص الملاحم : (فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل ... ، وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء وضغنٌ غلا في صدرها كمرجل القينَ ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل ، ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله).

قال الشارح : « وأمّا الضغن فاعلم انّ هذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد كنت قرأته على الشيخ أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني رحمه‌الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام ، وسألته عمّا عنده فأجابه بجواب طويل أنا أذكر محصوله بعضه بلفظه وبعضه بلفظي ، فقد شذ عني الآن لفظه كلّه بعينه ...ثمّ ذكر كلامه إلى أن

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ٢٢.

(٢) أنظر طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ٢١ ، وقارن البخاري ١ / ١٣٩ ط بولاق.

٤٧٦

قال... ومن حديث الصلاة ما عرفت ، فنسب عليّ عليه‌السلام عائشة إلى أنّها أمرت بلالاً مولى أبيها أن يأمره فليصلّ بالناس ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما روي قال : ليصل بهم أحدهم ولم يعيّن وكانت صلاة الصبح فخرج رسول الله وهو في آخر رمق يتهادى بين عليّ والفضل بن العباس حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر ، ثمّ دخل فمات ارتفاع الضحى فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه ... فبويع على هذه النكتة الّتي اتهمها عليّ عليه‌السلام على أنّها ابتدأت منها ، وكان عليّ عليه‌السلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيراً ويقول : (انّه لم يقل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنكن لصويحبات يوسف إلّا انكاراً لهذه الحال وغضباً منها ، لأنّها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما ، وأنّه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب).

وفي حديث أم سلمة كما رواه الحاكم قالت : « والّذي أحلف به إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة وهو يقول : جاء عليّ ؟ جاء عليّ ؟ مراراً. فقالت فاطمة عليها‌السلام : كأنك بعثته في حاجة قالت : فجاء بعد قالت أم سلمة : فظننت أنّ له إليه حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب ، وكنت من أدناهم إلى الباب فأكبّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يومه ذلك ، فكان عليّ أقرب الناس عهداً » (١). قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي في التلخيص على تصحيحه. فقال : صحيح (٢).

_______________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٢) وقارن مسند أحمد ٦ / ٣٠٠ ط أفست دار صادر ، ومجمع الزوائد ٩ / ١١٢ ، والبداية والنهاية ٧ / ٣٩٧ نقلاً عن ابن أبي شيبة.

٤٧٧

ولنترك الحديث ومقدماته وتداعياته ، وهلمّ إلى خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي خطبها وتلك هي آخر خطبة له ، فقد رواها البخاري في صحيحه مبتورة عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : « خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الّذي مات فيه بملحفة قد عصّب بعصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : (أمّا بعد فإنّ الناس يكثرون ويقلّ الأنصار حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام فمن ولي منكم شيئاً يضرّ فيه قوماً وينفع فيه آخرين ، فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم) ، فكان آخر مجلس جلس به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

وهذه الخطبة لها إضافات قطعها الرواة ، ويهمنا منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أيها الناس سُعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم) ، وهذا منه نذير بشرٍ مستطير سيحيق بالأمة فحذار لهم ثمّ حذار.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وإنّي والله ما تمسكون عليَّ بشيء ، إنّي لم أحلّ إلّا ما أحل الله ـ القرآن ـ ولم أحرّم إلّا ما حرّم الله ـ القرآن) (٢) وهذا يوحي أنّ بين الصحابة من كان يتهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تصرفاته ، فهو يقسم لنفي التهمة عن نفسه.

فما هي التهمة ؟ ومّن هم أصحابها ؟ ولو بحثنا عنها وعنهم فهل نجد ما يكشف عنها وعنهم ؟ ربّما نجد ما يشير إليها ولو بعد حين في حوار جرى بين عمر وابن عباس بعد ذلك ، فقد قال عمر : « ولقد كان من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أمره ـ يعني عليّاً ـ ذرواً من قول ، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه

_______________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ٢٤٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٣٣٢ ، طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ٤٦ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٩٦.

٤٧٨

أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك » (١). إذن عرفنا انّ التهمة هي ما كان يبلّغه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ربّه في أمر عليّ وأنّه وصيّه وخليفته من بعده ، فأبى ذلك عمر وآخرون ، فأتهمه عمر بأنّه كان يربع في أمره ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) (٢).

ولقد قال ابن عباس : « ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس يوم توفي على أربعة منازل : مؤمن مهاجر ، والأنصار ، وأعرابي يؤمن لم يهاجر إن استنصره النبيّ نصره ، وإن تركه فهو إذن له ، وإن استنصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حقاً عليه أن ينصره وذلك قوله تعالى : ( وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (٣) ، والرابعة : التابعين بإحسان » (٤).

وهذا تقسيم دقيق وهو تقييم للصحابة على ضوء الدين في القرآن المجيد ، وفيه استبعاد الإطلاق اللغوي في معنى الصحبة وتقريب لمعناها الشرعي القرآني.

فرحم الله ابن عباس ، فقد قطع جهيزة المتنطعين المغالين في أمر الصحبة والصحابة.

وعند قوله هذا فلنقف في ختام هذا الجزء من تاريخ حياته في العهد النبوي الشريف ، لنستقبل في الجزء الثاني تاريخه من بعد ذلك العهد الزاهر ، ونمرّ بما له وعنده في فترة بين عهدين.

_______________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٩٧ ط مصر الاُولى ، كشف الغمة للإربلي ٢ / ٤٦ ، وكشف اليقين للعلّامة الحلي / ٩٤ ط حجرية.

(٢) الكهف / ٥.

(٣) الأنفال / ٧٢.

(٤) أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ كما في الدر المنثور ٣ / ٢٠٧ في تفسير الآية ٧٢ من سورة الأنفال.

٤٧٩

والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

٤٨٠