موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

واعطف على ذلك ما جاء في الحديث الثاني : (يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر) ، فقد أبى ذلك حين تخلف عنه مَن ذكرنا واختلفوا فيه ، فأين مانسب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : (يأبى الله) ، والّذي وقع خارجاً يثبت أنّه تعالى لم يأبَ ذلك ، وأنّ المؤمنين أيضاً لم يأبوا ذلك حين تخلفوا عنه واختلفوا فيه.

قال الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه : « ولا شك أنّ الوضع ظاهر في هذا الحديث وانه أريد به معارضته حديث الشيعة في أمر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي ينسب إلى عمر أنّه منعه ، ولو صح كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي بكر لكان نصاً جلياً لأبي بكر ، وهو مالم يقل به جمهور المسلمين ، ثمّ لم يطلب النبيّ أن يكتب الكتاب ثمّ يعدل عنه ؟ ولم يثبت انّ عائشة دعت أباها ولا أخاها وما أحرصها على دعوتها في أمر جليل كهذا ... ا ه‍ » (١).

سبحان الله حديث الدواة والكتف الّذي ترويه كتب الصحاح والمسانيد والتاريخ والسير من جميع المسلمين ، يقول عنه الدكتور : (حديث الشيعة) ؟ وحديث عائشة الّذي لا يشك هو بوضعه يقول لو صح ... لكان نصاً جلياً لأبي بكر ؟ وهو مالم يقل به جمهور المسلمين؟ ولعله لم يقف على قول ابن حزم في الفصل : « فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده ... » (٢) ، وهكذا تبقى ازدواجية المعايير عند المحدَثين كما كانت عند السابقين.

ونعود لحديث عائشة وحديث عبد الرحمن فنقول : ولو كان للحديث أدنى نصيب من الصحة لأظهراه عند حاجة أبيهما إلى أدنى دعم في أحرج وقت ، فلماذا كتماه وهما ولداه.

_______________________

(١) نظرية الإمامة لدى الشيعة الأثنى عشرية / ٢٣٦ ط دار المعارف بمصر.

(٢) الفصل ٤ / ١٠٨.

٤٤١

ولا يبعد ـ كما أرى ـ أنّ الحديثين كانا في بطن الريب ، ولم ينزّلا من ظهر الغيب. ولم يولدا إلّا بعد حين من الدهر ، ولم يكونا من قبل شيئاً مذكوراً ، لكنّ صِرار معاوية وتعاون الحاقدين على الإمام معه اختلق كثيراً من نحو ذلك.

محاولات بائسة يائسة :

لقد كان حديث الكتف والدواة واضح الدلالة على المراد كتابته ، وهو تأكيد النص ـ تحريرياً ـ على خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام وهذا هو الّذي فهمه الحاضرون ، ومنهم عمر لذلك منع منه ، وقد مرّت بنا في أجوبة التساؤلات الأربعة إثبات ذلك فلا حاجة إلى إعادته.

ولمّا كان الحديث المذكور أقضّ مضاجع الكثير من القائلين بخلافة أبي بكر ، فبذلوا جهداً جهيداً وأصروا عناداً على التماس مخرج من المأزق الّذي أوقعهم فيه الحديث المذكور. فقالوا وقالوا وقد مرّت بنا نماذج من ذلك في أقوال علماء التبرير.

وأظن انّ القارئ على ذُكر من مقالة ابن حزم الظاهري الّذي ذكر الحديث ثمّ عقـّب قائلاً : « هذه زلة العالم الّتي حذّر منها الناس قديماً ، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الإختلاف وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله اُخرى ، فلذلك وافق عمر ومن وافقه بما نطقوا به ، ممّا كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الّذي لو كتبه لم يُضل بعده.

ولم يزل أمر هذا الحديث مهمّاً لنا ، وشجى في نفوسنا ، وغصة نتألم لها ، وكنا على يقين من الله تعالى لايدع الكتاب الّذي أراد نبيّه صلّى الله عليه (وآله)

٤٤٢

وسلّم أن يكتبه فلن يُضل من بعده دون بيان ، ليحيا ـ كذا ـ من حيّ عن بيّنة ، إلى أن منّ الله تعالى بأن أوجدناه فانجلت الكربة والله المحمود » (١).

ثمّ ذكر ما انجلت به عنده الكربة وذلك ماروته عائشة وعبد الرحمن ابنا أبي بكر لصالح أبيهما ـ وقد مرّ ذكرهما قريباً في التلاعب الرخيص ، كما ذكرنا أوجه الخلل فيهما في التعقيب على ما قاله ابن حزم ، وفي التلاعب الرخيص ، وليس يعنينا ذلك.

لكن هلمّ الخطب فيمن زاد على ابن حزم في حزمته ، وأفرغ كلّ ما في جعبته من سهام مسمومة لأسباب معلومة ، ذلك هو ابن كثير الشامي الّذي أغرب وأسهب ، وشرّق وغرّب فهو ذكر في سيرته حديث الكتف والدواة نقلاً عن البخاري ومسلم ثمّ عقّب قائلاً : « وهذا الحديث ممّا قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم ، كلٌ مدّعٍ أنّه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم ، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم. وأهل السنّة يأخذون بالمحكم ويردّون المتشابه إليه ، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عزوجل في كتابه. وهذا الموضع ممّا زلّ فيه أقدام كثير من أهل الضلالات ، وأمّا أهل السنّة فليس لهم مذهب إلّا اتباع الحقّ يدورون معه كيفما دار.

وهذا الّذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة بالتصريح بكشف المراد منه.

فإنّه قد قال الإمام أحمد : ثمّ ذكر حديث عائشة » (٢).

_______________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ٧ / ١٢٢.

(٢) اُنظر البداية والنهاية ٤ / ٤٥٠ ـ ٤٥١.

٤٤٣

كشف جديد في رواية الحديث عن عكرمة :

لقد مرّ في صور الحديث رواية عكرمة لأربع من صوره ، وهي على مابينها من تفاوت الألفاظ الّذي قد تحمّل عبئه الرواة عنه ، لكن القاسم المشترك بينها يوحي بأنّ حديث الكتف والدواة ، كان يوم الاثنين اليوم الّذي مات فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الصورة ١٧ و ١٨ و ١٩ و ٢٠).

وهذا كشف جديد لم يسبق إليه غير عكرمة ، ولمّا كان احتمال أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا بكتابة الكتاب مرتين ، مرة في يوم الخميس في مرضه قبل وفاته بأربعة أيام ، ومرة أخرى في يوم الاثنين يوم وفاته ، احتمال مستبعد جداً ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كان في دعوته يوم الخميس لم يلق استجابة مُرضية ، بل سمع كلمة نابية جافية ، لماذا يكرر الطلب ثانياً وهو القائل لمن سأله في يوم الخميس بعد طرد المنازعين : أنأتيك بالّذي طلبت فقال أو بعد ماذا ؟ (الصورة ١٨).

وفي رواية عكرمة (الصورة ١٨) : ثمّ أتوه بالصحيفة والدواة فقال : (بعد ما قال قائلكم ما قال ؟) فمن أبى أن يكتب بعد الّذي سمعه من عمر ، كيف يستدعي مرة اخرى باحضار الدواة والكتف ليسمع عين الجواب الأوّل منه أيضاً ؟

فما ورد في روايات عكرمة في المقام لايخلو من نظر ، خصوصاً وان عكرمة كان كذاباً وقد كذب على ابن عباس حتى حبسه عليّ بن عبد الله بن عباس على باب الكنيف فقيل له فيه : فقال : « أنّه يكذب على أبي » (١) ، وأمره في الكذب مشهور ، حتى أنّ ابن عمر قال لمولاه سالم : « اياك أن تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس » (٢).

_______________________

(١) سير أعلام النبلاء ٥ / ٥١٢ ط دار الفكر.

(٢) نفس المصدر.

٤٤٤

فالصحيح ما عليه بقية الرواة عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه من انّ الحديث كان يوم الخميس.

ما هي الوصية الثالثة ؟

سؤال فرضته صورة الحديث التاسعة ، المروية عن طريق سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه بأشكالها المختلفة.

ولمّا كانت تلك الصورة ـ كما قلنا عندها ـ تكاد ينعدم عندها وضوح الرؤية ، لاختلاف الرواة عن سفيان إلى نحو من خمس عشرة رواية ، يمكن أن تكون كلّ رواية صورة بحد ذاتها. ومهما كان الاختلاف بين الرواة عن سفيان ، فثمة أمر بالغ الأهمية يرويه سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وذلك انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن طرد المنازعين له المشاقّين أمره : قال أوصيكم بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة عمداً أو قال : فنسيتها ؟

هذه الوصايا الثلاث لم ترد مسندة عن غير طريق سفيان بن عيينة ، وإن وردت مرسلة كما في الصورتين (٢١ ـ ٢٣).

ثمّ ما ورد عن طريق سفيان فيه غمغمة في تعيين الثالثة ، فمن هو الّذي غصّ بريقه فلم يفصح بها ، ولابدّ من عرض نماذج لما ورد عسى أن نستشف كنه الوصية الثالثة الّتي شق على الراوي الإفصاح بها لأي غرض كان :

١ ـ أوصى بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد ... وسكت عن الثالثة عمداً ، أو قال فنسيتها (وهذا ما رواه يحيى بن آدم وأحمد بن حماد عن سفيان).

٤٤٥

فيا ترى من هو الّذي سكت عمداً ؟ أهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وحاشاه ـ لماذا أراد أن يوصي بها ؟ ولماذا سكت عنها ؟ فإن كان هو لماذا لم يستفهموه عنها ؟ أهو ابن عباس ؟ فلماذا حدّث بها ؟ ولماذا سكت عنها ؟ أهو سعيد بن جبير الراوي عنه ؟ أهو ، أهو ؟ سؤال بعد سؤال. يطول بذلك المقام والمقال. والجواب على احتمال أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من ذكرنا أسماءهم هو الّذي سكت عنها يدفعه ما يأتي من قول سفيان إن هذا من قول سليمان.

إذن لماذا اختلف الرواة في النقل عن سفيان في ذلك ، فقد جاء : « ونسيت الثالثة » كما في رواية قبيصة عن سفيان.

وجاء : « والثالثة خير ، أمّا أنّه سكت عنها ، وامّا ان قال فنسيتها » كما في رواية محمّد بن سلام عن سفيان ، وجاء في هذه الرواية قال سفيان هذا من قول سليمان.

وجاء : « فإمّا أن يكون سعيد سكت عن الثالثة عمداً ، وإمّا أن يكون قالها فنسيتها » كما في رواية عبد الرزاق عن سفيان أنّه قال الخ ...

وجاء : « قال ابن عباس وسكت عن الثالثة أو قال : فأنسيتها » كما في رواية سعيد بن منصور عن سفيان برواية سنن أبي داود في المتن.

وجاء في رواية في هامش سنن أبي داود : « قال الحميدي عن سفيان قال سليمان : لا أدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها ».

إلى غير ذلك من تهويش وتشويش لتضييع الوصية الثالثة. ولكن الباحث المجدّ والقارئ الواعي لايخفى عليه ما وراء الأكمة ، فقد ورد في رواية أبان بن عثمان عن بعض أصحابه ـ وذكر حديث الدواة والصحيفة ـ وقد مرّ بلفظه في

٤٤٦

(الصورة ٢١) وفيها فدعا العباس بصحيفة ودواة فقال بعض من حضر : « انّ النبيّ يهجر » ثمّ أفاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له العباس : « هذه صحيفة ودواة قد اتينا بها يارسول الله » فقال : (بعد ما قال قائلكم ما قال) ثمّ أقبل عليهم وقال : (احفظوني في أهل بيتي ، واستوصوا بأهل الذمة خيراً ، وأطعموا المساكين ، واكثروا من الصلاة ، واستوصوا بما ملكت أيمانكم ـ وجعل يردّد ذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإني لأعلم إنّ منكم ناقض عهدي ، والباغي على أهل بيتي).

فتبيّن أنّ الثالثة هي الوصية بأهل بيته فهي الّتي تغصّ بها النفوس فلا تطيق ذكرها أمّا لنُصب أو من خوف الحاكمين ، وإذا عرفنا انّ الساكت هو سليمان الأحول ـ وهو صاحب القول : « أو فنسيتها » ـ عرفنا انّ الرجل كان في أيام الحجاج الّذي كان يطارد سعيد بن جبير حتى القي القبض عليه وهو عائد بمكة ، فلعله كان معه بمكة مختفياً ، أمّا الوصايا الاُخرى فليس فيها ما يدعو للسكوت عنها أو زعم نسيانها.

ولشراح الحديث حول تفسير « ونسيت الثالثة » تشريق وتغريب ، فمنهم من رأى انّها تجهيز جيش أسامة ، ومنهم من قال : « يحتمل انّها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تتخذوا قبري وثناً) ».

إلى غير ذلك ممّا لا يقره المنطق ، فإنّ كلّ ماذكروه ليس فيه ما يستدعي الكتمان ، والتحايل عليه ، وما ذلك إلّا استهجان بالعقول الواعية.

والّذي يؤكد ما نذهب إليه شهادة ثلاثة من الصحابة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان آخر ما تكلم به هو الوصية بأهل بيته كما قال ابن عمر :

٤٤٧

١ ـ فقد ذكر ابن حجر في صواعقه نقلاً عن الطبراني عن ابن عمر : « إنّ آخر ما تكلم به النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (اخلفوني في أهل بيتي) » (١).

٢ ، ٣ ـ وأخرج التابعي الجليل سليم بن قيس الهلالي في كتابه السقيفة قال : « قلت : لعبد الله بن العباس ـ وجابر بن عبد الله الأنصاري إلى جنبه ـ : شهدت النبيّ عند موته ؟ قال : نعم ، لمّا ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع كلّ محتلم من بني عبد المطلب وامرأة وصبي قد عقل ، فجمعهم جميعاً فلم يدخل معهم غيرهم إلّا الزبير ـ فإنّما دخل لمكان صفية ـ وعمرو بن أبي سلمة (٢) واُسامة بن زيد. ثمّ قال (٣) : إنّما هؤلاء الثلاثة منا أهل البيت ، اُسامة مولانا ومنا ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعمله على جيش وعقد له ـ وفي ذلك الجيش أبو بكر وعمر ، فقال كلّ واحد منهما لا ينتهي أمره ـ يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه يستعمل علينا هذا الصبي ـ فاستأذن اُسامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليودعه ويسلم عليه ، فوافق ذاك اجتماع بني هاشم فدخل معهم ، واستأذن أبو بكر وعمر وأسامة ليسلّما على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأذن لهما.

فلمّا دخل أسامة معنا ـ وكان من أوسط بني هاشم ، وكان شديد الحبّ له ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنسائه : قمن عني فأخلينني وأهل بيتي ، فقمن كلهن إلّا عائشة وحفصة ، فنظر إليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : (أخلياني وأهل بيتي) ، فقامت عائشة آخذة بيد حفصة وهي تذمر غضباً وتقول : قد أخليناك وإياهم ، فدخلتا بيتاً من خشب.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا أخي أقعدني) ، فأقعده عليّ عليه‌السلام وأسنده إلى نحره.

_______________________

(١) الصواعق المحرقة / ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) أمه أم المؤمنين أم سلمة.

(٣) القائل هو ابن عباس.

٤٤٨

فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : (يا بني عبد المطلب اتقوا الله واعبدوه ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ولا تختلفوا ، انّ الإسلام بني على خمس : على الولاية ، والصلاة ، والزكاة ، وصوم رمضان ، والحج ، فأمّا الولاية : فللّه ولرسوله وللمؤمنين الّذين يؤتون الزكاة وهم راكعون ، ( وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (١).

قال ابن عباس : فجاء سلمان والمقداد وأبو ذر ، فأذن لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بني عبد المطلب فقال سلمان : يارسول الله للمؤمنين عامة ؟ أو خاصة لبعضهم ؟ يعني الولاية. قال : بل خاصة لبعضهم الّذين قرنهم الله بنفسه ورسوله في غير آية من القرآن. قال : من هم ؟ قال : أولهم وأفضلهم وخيرهم هذا أخي عليّ بن أبي طالب ـ ووضع يده على رأس عليّ عليه‌السلام ـ ثمّ ابني هذا من بعده ـ ووضع يده على رأس الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ ثمّ ابني هذا من بعده ـ ووضع يده على رأس الحسين عليه‌السلام ـ والأوصياء تسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد ، حبل الله المتين وعروته الوثقى ، هم حجة الله على خلقه ، وشهداؤه في أرضه ، من أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله وعصاني ، هم مع الكتاب ، والكتاب معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه حتى يردوا عليَّ الحوض) » (٢).

فهؤلاء الثلاثة من الصحابة شهد اثنان منهم ـ وهما ابن عباس وابن عمر ـ بالوصية بأهل البيت كانت آخر وصايا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند موته وشهادة الثالث ـ وهو جابر بن عبد الله ـ كانت بتقريره صحة شهادة ابن عباس رضي‌الله‌عنهما.

_______________________

(١) المائدة / ٥٦.

(٢) السقيفة / ٩٠٥ ـ ٩٠٦ تح‍ الأنصاري نشر الهادي.

٤٤٩

تدخل العنصر النسوي في النزاع :

لقد مرّت بنا صور الحديث ، وقرأنا فيها ما يشجي النفوس ، وقرأنا في خمس منها تدخل العنصر النسوي عندما وقع الخلاف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقع التنازع بين الصحابة ، فمنهم القائل قرّبوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكتب ما أراد ، ومنهم القائل القول ما قال عمر.

فقد جاء في (الصورة ١٤) قال : « فأقبل القوم في لغطهم فقالت المرأة : ويحكم عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... » ، ولئن كانت هذه الصورة غير واضحة المعالم ، فإنّ الّتي بعدها مثلها إلّا أنّها أشمل لبعض ما جرى.

فقد جاء في (الصورة ١٥) : « فأخذ من عنده من الناس في لغط فقالت امرأة ممّن حضر : ويحكم عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليكم ، فقال بعض القوم : « اسكتي فإنّه لاعقل لك ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنتم لا أحلام لكم) ».

وأوضح منها ما جاء في (الصورة ١٧) : « فقالت زينب زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تسمعون النبيّ يعهد إليكم ، فلغطوا. فقال : (قوموا ...) ».

وإذا بحثنا في ثنايا تلك الصور نجد فيما رواه عمر نفسه ، انّ من استنكر ذلك من النساء أكثر من واحدة فقد جاء عنه كما في (الصورة ٣) : « فقال النسوة : ائتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته ، قال عمر فقلت : اسكتنّ فإنكنّ صواحبه إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ ، وإذا صح أخذتنّ بعنقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هنّ خير منكم) ».

ونحو ذلك جاء في (الصورة ٤) : « فقال النسوة من وراء الستر : ألا تسمعون ما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت : إنكن صواحبات (صواحب) يوسف ، إذا مرض رسول الله عصرتنّ أعينكنّ ، وإذا صح ركبتنّ عنقه ، فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (دعوهنّ فإنهنّ خير منكم) ».

٤٥٠

ولئن كان عمر لم يفصح عن أسماء تلكم النساء الّتي دخلن المعركة الكلامية من وراء الستر ، فليس يعسر على الباحث معرفتهن ، خصوصاً وقد عرفنا اسم واحدة منهنّ وهي أم المؤمنين زينب بنت جحش. ولما كنّ نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزبين كما في حديث عائشة وقد أخرجه البخاري في صحيحه (١) : قالت : ان نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنّ حزبين ، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة ، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... (٢) وإذ لا يعقل أن تكون عائشة وحزبها هنّ اللائي أنكرن الاختلاف.

ولمّا كانت أم المؤمنين زينب بنت جحش من سائر نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللاتي لم تذكرهن عائشة باسمائهن عرفنا أنّها هي ومن كان معها من حزبها هن اللائي أنكرن على عمر ومن معه امتناعهم من امتثال أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيهنّ ممّن يوالين أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى القارئ أسماؤهن.

١ ـ أم المؤمنين أم سلمة.

٢ ـ أم المؤمنين زينب بنت جحش.

٣ ـ أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.

٤ ـ أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان.

٥ ـ أم ألمؤمنين جويرية بنت الحارث : فهذه هي النسوة اللائي أدركن مايريده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو العهد بالأمر إلى ولي الأمر من بعده لكن عمر يجبههن وينتصر لهن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول له : (أنتم لا أحلام لكم ، دعوهن فإنّهن خير منكم).

_______________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الهبة باب قبول الهدية ٣ / ١٥٦ ط بولاق.

(٢) اُنظر معجم الطبراني ٢٣ / ٤١ ط الثانية بالموصل.

٤٥١

عمر يقول بالغيبة ويقول بالرجعة فماذا يقول العمريون ؟

لقد مرّت في بعض صور الحديث لمحات عابرة ، ذات دلالة معينة ، وهي تكفي لإدانة منكري الغيبة والرجعة ، والذين كثر منهم الهرج والمرج على الشيعة لقولهم بالغيبة وبالرجعة ، فنسبوا اليهم كلّ قبيح ، وأكثروا التشنيع والتبديع ، ولسنا في مقام اثبات صحة عقيدة الغيبة والرجعة ، وامكان وقوعها ، ومن نافلة القول الخوض فيما أثبته الله سبحانه في كتابه بقوله تعالى : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) (١) وليس يعني ذلك الحشر يوم القيامة ، لأن ذلك قال فيه : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) (٢) فإذن هو حشر خاص (٣). كما قال في الغيبة في موسى عليه‌السلام واستدل بذلك عمر نفسه لقوله تعالى : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (٤).

_______________________

(١) النمل / ٨٣.

(٢) الكهف / ٤٧.

(٣) يستدل القائلون بالرجعة على إثباتها بآيات من القرآن المجيد مثل قوله تعالى : ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) المؤمن / ١١. وقوله تعالى : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) البقرة / ٢٥٩. وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) البقرة / ٢٤٣. وقوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). وقوله تعالى في أصحاب الكهف في الآية / ٢٥ ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) فقال فيهم ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) الكهف / ١٢.

(٤) الأعراف / ١٤٢.

٤٥٢

ولسنا بصدد البحث عن ذلك ، لكن وجدنا لعمر بن الخطاب مقالة على نحو ما قاله يوم وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أوعد وتوعّد من قال مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقالته في ذلك اليوم لايخفى غرضه منها فقد كان منتظراً مجيء أبي بكر من السُنح. أمّا يوم حديث الرزية فلماذا قال : « من لفلانة وفلانة ـ مدائن الروم ـ إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بميت حتى نفتحها ، ولو مات لأنتظرناه ، كما انتظرت بنو إسرائيل موسى » ؟

وليس من شك انّ ذلك كان لبلبلة الأفكار ، وهو في نفس الحال كان تمهيداً لما سيحدث ممّا دُبّر أمره. ومهما يكن الغرض فإنّ عمر قائل بالرجعة فماذا يقول العمريون ؟

صور من مسخ الحديث :

لقد جرت على حديث الكتف والدواة عمليات مسخ وتحريف ، بل وتقطيع أوصال ، كلّ ذلك لتضييع معالم الحقّ وتشويه الحقيقة.

وإلى القارئ بعض النماذج من تلك الصوَر :

١ ـ فمنها ما أخرجه البخاري بسنده إلى نعيم بن زيد قال : « حدّثنا عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا ثقل قال : (ياعليّ إئتني بطبق أكتب فيه ما لاتضل أمتي) ، فخشيت أن يسبقني فقلت : إني لاحفظ من ذراعي الصحيفة ، وكان رأسه بين ذراعي وعضدي ، يوصي بالصلاة وبالزكاة وما ملكت

٤٥٣

أيمانكم ، وقال : كذلك حتى فاضت نفسه ، وأمره بشهادة أن لا إله إلّا الله وان محمّداً عبده ورسوله من شهد بها حرّم على النار ... ا ه‍ » (١).

فهذا الحديث الّذي رواه البخاري صريح في أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى عليّاً والمسلمين بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانهم ، حتى فاضت نفسه بين ذراع عليّ وعضده.

بينما روى البخاري نفسه في صحيحه « عن عائشة : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات بين سحرها ونحرها وقالت : متى أوصى إليه » (٢).

فيا تُرى أيّ الحديثين أولى بالاعتبار ؟ على أنّه قد ورد في صحاح الآثار والأخبار ما يدل على وصاية عليّ عليه‌السلام عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ورد أيضاً ما يدل على موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مستند إلى صدر عليّ عليه‌السلام (٣).

لكن الّذي يستريب الباحث فيه هو ما ورد في حديث البخاري في الأدب المفرد من تقاعس الإمام عن إحضار الطبَقَ ، وبذلك يكون شأنه شأن من لم يحضر الدواة والكتف ، فالكلّ لم يمتثل أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كان في حديث البخاري في الأدب المفرد ما ينمّ عن جهل واضعه حين ذكر الطبَقَ ، ولم يعهد الكتابة عليه ولم يرد في شيء من النصوص ما يدل على انّ الطبَقَ من الأدوات الكتابية ، ودون القارئ المعاجم اللغوية ليرى معاني الطبق فليس بينها ما يشير إلى ذلك.

_______________________

(١) الأدب المفرد / ٥٠ تحق‍ محمّد فؤاد عبد الباقي المطبعة السلفية سنة ١٣٧٥ ه‍ ، ولقد مرّ هذا في الصورة الاُولى من صور الحديث مروياً عن ابن سعد في الطبقات وأحمد بن حنبل في المسند. فراجع.

(٢) راجع كتاب الوصايا من صحيح البخاري ٤ / ٣ ، وصحيح مسلم ٥ / ٧٥.

(٣) أنظر ما رواه ابن سعد في الطبقات ٢ ق ٢ / ٥١.

٤٥٤

٢ ـ ومنها ماجاء من تزيّد فاضح لراويه ، وذلك نحو ما قاله ابن أبي الحديد المعتزلي معقباً على ما رواه عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة من حديث الكتف والدواة فقال : « هذا الحديث قد خرّجه الشيخان محمّد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحهما. واتفق المحدّثون كافة على روايته ».

ولدى مقابلة ما رواه عن الجوهري بما خرّجه الشيخان وغيرهما نجد حشواً زائداً فيه وهو قول الراوي : « فمات رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في ذلك اليوم » وهذا مثل ما قد مرّ في (الصورة ١٦) من صور الحديث رواية هلال ابن مقلاص وفي آخرها : « فأبطأوا بالكتف والدواة فقبضه الله ». وهذا أيضاً من التزيد الفاضح إذ ليست هذه الزيادة جزءاً من الحديث ، ولا يصح أن تكون جزءاً ، لأنّ الحديث كان يوم الخميس كما هو صريح قول ابن عباس رضي‌الله‌عنه حين كان يقول : « يوم الخميس وما يوم الخميس ». ومن المعلوم والمتيقن انّ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت يوم الاثنين ، فتكون وفاته بعد يوم الحديث بأربعة أيام ، فكيف يصح قول الراوي : « فمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم ». وقد صرّح شرّاح الصحيحين وغيرهم بذلك (١).

٣ ـ ومنها النقص الواضح من أصل الحديث. كما صنع السمهودي في كتابه وفاء الوفا فإنّه ذكر الحديث من آخره ولم يذكر أوله تحاشياً من ذكر ما جرى من عمر ومن شايعه في ذلك اليوم (٢).

_______________________

(١) راجع فتح الباري لابن حجر ١ / ١٦٨ ، والأحكام لابن حزم ٧ / ١٢٤.

(٢) اُنظر وفاء الوفا ١ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

٤٥٥

٤ ـ ومنها ما هو أقبح فعلاً من صورتي التزيد السابق والتنقص اللاحق في الحديث ، وذلك كما أجهز عليه جماعة ، فألغوا حديث الكتف الدواة جملة وتفصيلاً ، ولم يذكروا منه سوى وصايا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخره كما مرّ في رواية أبي داود في سننه (١) فلا بكاء ابن عباس وتلهفه وأسفه على ما فات الأمة من الخير في الأمن من الضلالة. ولا دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدواة والكتف. ولا قول عمر : « إنّ النبيّ ليهجر ». ولا قوله : « حسبنا كتاب الله ». ولا وقوع النزاع والتخاصم بين الحاضرين. ولا طرد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن شاقّه في أمره وقوله : (لا ينبغي عندي تنازع).

٥ ـ ومنها ما صنعه كثيرون ممّن كتبوا في السيرة النبوية من الغاء الحديث من صفحة السيرة بالمرّة حتى ولم يشيروا إليه بأدنى إشارة ، كما صنع محمّد بن عبد الوهاب. إمام الوهابية ـ في كتاب مختصر سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكما فعل مثل ذلك أمين الدويدار في كتابه صور من حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. إلى غيرهما من الكتّاب المحدَثين.

فهكذا تعرّض الحديث لعمليات كثيرة من ابتزاز إلى تحريف إلى إجهاز عليه وإلى إهمال. كلّ ذلك إخفاء للحقيقة ، وفات المغرضون أنّ الحقّ أقوى منهم ، ولا يقهر بتلك الأساليب ، ولا تخفى الشمس وإن جلّلها السحاب ، أو لفّها الضباب.

كيف ؟ وأنّى ؟ والحديث ـ كما يقول المثل ـ سارت بذكره الركبان ، فتناقله الرواة قرناً بعد قرن ـ كما مرّ عليك ـ وأخرجه الحفاظ وأئمّة الحديث من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد ومعاجم اللغة وأسفار التاريخ والسيرة فراجع ما مرّ من ذكر مصادر الحديث.

_______________________

(١) راجع الصورة (٩) من صور الحديث.

٤٥٦

الحديث في الشعر العربي :

لم أبحث كثيراً عن الشعراء الّذي أشاروا إلى الحديث ، وليس ذلك من غرض كتابي هذا ، ولكني وقفت على شعر شاعر مؤمن ممّن لم يتبع الغاوين ، لهج به فنظم مشيراً إليه بقوله :

وصىّ النبيّ فقال قائلهم

قد ظل يهجر سيد البشر

ورووا أبا بكر أصاب ولم

يهجر وقد وصّى إلى عمر (١)

ومن النظم في ذلك قول الشاعر :

وما رأيت من الآيات معتبرا

إن كنت مِدّكرا أكنت معتبرا

أوصى النبيّ أمير النحل دونهما

وخالفاه لأمر عنده اشتورا

وقال هاتوا كتاباً لا تضلوا به

بعدي فقالوا رسول الله قد هجرا

تعصباً لأبي بكر فحين ثوى

وفّى فوصّى به من بعده عمرا

تحمّل العبء فيها ميتاً عجبا

وقال حياً أقيلوني بها ضَجِرا

إن قال ان رسول الله غادرها

شورى فهلا اقتفى من بعده الأثرا

أو قال أوصى فلم تقبل وصيته

يوم الغدير فلا تعجل فسوف ترى (٢)

_______________________

(١) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ١ / ٢٠٢ ، وكشف الغمة للأربلي ١ / ١٦٥ منشورات الشريف الرضي ، والصراط المستقيم للبياضي ٣ / ٧.

(٢) اثبات الهداة للحر العاملي ٤ / ٤٢٤ ، والصراط المسقيم للبياضي ٣ / ٧. ووردت هذه الأبيات في أوّل الحجة الخامسة من كتاب الوصية لأحد معاصري الشيخ الصدوق المتوفى سنة ٣٨١ ه‍. والكتاب في مجموعة برقم / ١٣مجاميع خطية بمكتبة المرحوم الحجة المغفور له الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء.

٤٥٧

نهاية البحث عن المأساة في حديث الرزية :

لقد طالت مسيرتنا مع حديث الكتف والدواة ، والّذي سميناه حديث الرزية ، لأنّه كان حديث مأساة وهو كذلك حديث رزية وزريّة.

ولئن طالت المسيرة ، فلا ضير ما دامت تكشف العمى عن البصيرة ، وما دمنا أنا قرأنا جوانب في الحديث فيها مآسي مريرة.

١ ـ فلقد قرأنا صور الحديث المتفاوتة ، وذكرنا منها (٢٥) صورة لا تتفق صورة منها مع اُخرى. بل لقد قرأنا في الصورة التاسعة عدة صور ، ممّا زادت العدد ، وذلك يكشف لنا مدى الدور الّذي قام به الرواة في إخفاء معالم الإدانة.

٢ ـ ولقد قرأنا ذكر رواة الحديث جمهرة كثيرة مرتّبين حسب القرون ، حتى لا يرقى الشك إلى أصل الحديث ، وبذلك يثبت التواتر.

٣ ـ وقرأنا أيضاً مصادر الحديث منبثة في ثنايا أسماء الرواة ، وكلها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد واُمهات كتب التاريخ والتراجم ، ممّا لا يرقى الشك إليها.

٤ ـ وقرأنا السبب في إطالة البحث في الأسانيد ، لإلقاء تبعة التضبيب على الرواة فهم الّذين يحملون إصر ذلك.

٥ ـ وقرأنا موقف المعارضة المحمومة ضد أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وتبيّنا من كان هو أبرز رموزها في وقفة مع الحديث.

٦ ـ وقرأنا ماذا كان عند علماء التبرير أزاء موقف الردّ والإباء ، وعرفنا من هم ؟

٧ ـ وقرأنا ماذا قال كلّ واحد من علماء التبرير ؟ وماذا كان عند كلّ واحد من هنات ؟ كما قرأنا الرد على ما قالوه هم دفعاً بالصدر.

٤٥٨

٨ ـ وقرأنا ماذا قاله العمريون وعرفناهم في عمريّتهم اكثر من عمر.

٩ ـ وقرأنا تحقيق ماذا قال عمر ؟ واثبات رواية كلمته النابية ، الجافية : « انّ النبيّ ليهجر ».

١٠ ـ وقرأنا الجواب على التساؤلات الأربعة الّتي فرضتها حادثة الرزية ، وتبيّنا أخيراً لماذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً دون غيره.

١١ ـ وقرأنا سرّ المنع وتصميم عمر عليه ، لأنّه علم مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما عرفنا من أين علم عمر مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٢ ـ وقرأنا انّ عمر نبذ السنّة نبذ الحصاة وراء ظهره حين قال : « حسبنا كتاب الله ». و « عندكم القرآن » ، وهو بذلك يحتجز الإحتجاج بالقرآن للقرآن وحده فقط وفقط ، وليس للسنّة عنده أي دور أو كرامة.

١٣ ـ وقرأنا آراء علماء السنّة وأئمتهم في الرد على من يرى مثل رأي عمر في ذلك الاحتجان والاحتجاج.

١٤ ـ وقرأنا بعد ذلك آراء عمرية خطيرة ويأباها العمريون.

١٥ ـ وقرأنا الموازنة بين شفقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمته وبين شفقة عمر.

١٦ ـ وقرأنا ما جرى على الحديث من تلاعب رخيص لصالح أبي بكر ؟

١٧ ـ وقرأنا كشفاً جديداً في رواية عكرمة. وهو من رواة الحديث. حين سرّب الشك إلى يوم الحديث.

١٨ ـ وقرأنا تحقيقاً حول تعيين الوصية الثالثة الّتي في آخر الحديث والّتي لفّها الغموض ، وحشرجت في فم الرواة فغصوا بها ، فلا هم ابتلعوها ولم يذكروها بالمرة ، ولاهم صرّحوا بها. فقالوا عنها : إمّا نسيها أو سكت عنها.

٤٥٩

١٩ ـ وقرأنا كيف اشتدت الأزمة ذلك اليوم حتى تدخل العنصر النسوي في النزاع ، وقرأنا من كان يمثل ذلك العنصر من نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنهنّ كن حزبين.

٢٠ ـ وقرأنا انّ عمر ممّن كان يقول بالرجعة ، ولا غضاضة في ذلك ، ولكن لتنبيه العمريين الّذين يشهّرون بالقائلين بها من بقية فرق المسلمين.

٢١ ـ وقرأنا صوراً من مسخ الحديث ، ممّا دلنا على تظافر الجهود المتوالية في القرون المتتالية لطمس معالمه.

٢٢ ـ وأخيراً قرأنا الحديث في الشعر العربي في نموذج منه.

كلّ ذلك قرأناه ، وأحسب أنّ هناك جوانب لم نشبع البحث فيها ، فعسى أن يتهيأ لها من يشبعها بحثاً وتدقيقاً ، كما أحسب أنّ هناك جوانب لم نبحثها ، فعسى أن يذكرها من يلتفت إليها.

وبعد كلّ تلك القراءات الفاحصة المتأنية ، تبين لنا :

أنّ ابن عباس رضي‌الله‌عنه كان على حقّ لو أبدى أسفه وتلهفه حين قال : « يوم الخميس وما يوم الخميس ».

وأنّه كان على حقّ لو بكى وجرى دمعه مثل نظام اللؤلؤ على خديه.

وأنّه كان على حقّ لو بكى حتى يبل دمعه الحصباء.

وأنّه كان على حقّ لو قال : « الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لنا ذلك الكتاب ».

لقد كان على حقّ في جميع ذلك.

وإنّا على حقّ كذلك إن طالت بنا مسيرتنا مع ذلك الحديث ، فهو حديث الرزية ، ولولاها لما حدثت في المسلمين بلية ، إنّها لرزية ما مثلها رزية ، لن تمحى

٤٦٠