موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ثمّ ما رأي السيوطي في قول عمر في خطبته : « لا يبقين أحد عنده كتاباً إلّا أتاني به فأرى فيه رأيي » ، فظنوا أنّه يريد النظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار (١). كما بعث إلى الامصار يأمرهم : من كان عنده شيء فليمحه ؟ (٢).

فيا هل ترى من هو الّذي أنكر الاحتجاج بالسنّة ؟ ذلك الرافضي المنكود حظه ؟ أم هو عمر بن الخطاب المشهود رفضه ؟

ثمّ هل من حقّنا ان نسأل السيوطي عن حكمه هل هو مخصوص بذلك الرافضي ؟ أم هو عام لكل من أنكر الاحتجاج بالسنّة ؟ وهل يرضى أن يحكم به على عمر ؟ وهل يرضى بذلك علماء التبرير وهو منهم ؟ ثمّ ماباله وهو من أهل السنّة ، ومادام غيوراً على السنّة ، يستنكر ما قاله الرافضي الّذي حامى عن حريم السنّة بأن لا تشوبها شوائب الكذابين ، بل كان الأولى أن يدعو له ويستغفر له ، فهو يريد حماية السنّة لاعدم الاحتجاج بها ونبذها كمن قال : « حسبنا كتاب الله وعندكم القرآن » ، بالله لقد صحّ المثل السائر : (رمتني بدائها وانسلّت) ، وما علينا الآن إلّا أن نقول للسيوطي رضينا بك حَكَماً بيننا وبينك ورضينا بحكمك على كلّ من قال بعدم الاحتجاج بالسنّة من الأولين والآخرين من أيّ فرق المسلمين.

ويكفينا في إدانة السيوطي كتابه : (اللاليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) لماذا كتبه ؟ أليس لتخليص السنّة من الشوائب. إذن فقول الرافضي بعرض السنّة على الكتاب خير ميزان وليس فيه عين ، وكتابه المذكور لم يخلّص

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٥ / ١٨٨ ، وتقييد العلم للخطيب البغدادي.

(٢) جامع بيان العلم لابن عبد البر.

٤٢١

السنّة من كلّ شين. ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١).

وأخيراً فقد تبين لنا أنّ عمر إنّما قال : « حسبنا كتاب الله ، عليكم بالقرآن » ليستفرد بالكتاب وهو الثقل الأكبر ويستبعد الثقل الأصغر وهم العترة ، وسيّد العترة عليّ كما هو معلوم عند المسلمين ، وكان أبو بكر يقول ذلك أيضاً (٢). وليس معنى ذلك الاستبعاد لأهل البيت عن ساحة الخلافة ، يعني بالضرورة أن لانجد عمر يتحدّث بفضائلهم كما كان أبو بكر يفعل كذلك ، حتى لقد عقد المحب الطبري في الرياض النضرة باباً في ذكر ما رواه أبو بكر في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وباباً (في ذكر مارواه عمر في عليّ) ، ووردت عنهما أحاديث كثيرة في فضائل أهل البيت ، يقف عليها الطالب في كتب المناقب للخوارزمي الحنفي وابن المغازلي المالكي والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي سوى ما أورده الحاكم في المستدرك وابن عساكر الشافعي في تاريخ دمشق وغيرهم وغيرهم. فالحديث بفضائل أهل البيت ليس بضارّ لهما بل ربّما أصابا منه نفعاً من تطييب النفوس بإظهار المودة بعد ما تمّ استبعادهم عن الخلافة ، ثمّ تجريدهم حتى من بعض اختصاصهم.

ألم يروي الطبراني في الأوسط وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد عن عمر قال : « لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جئت أنا وأبو بكر إلى عليّ فقلنا ما تقول فيما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : نحن أحقّ الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فقلت والّذي بخيبر ؟

_______________________

(١) يونس / ٣٥.

(٢) كنز العمال ١٥ / ١٠ ط حيدر آباد الثانية.

٤٢٢

قال : والّذي بخيبر ، قلت : والّذي بفدك ؟ قال : والّذي بفدك. فقلت أما والله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا » (١).

٥ ـ ماذا قال السندي في حاشيتيه على البخاري ؟

قال : إنّ الأمر الصادر يفيد أنّه أمن من الضلال ، فالكتاب الّذي يريد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتبه سبب للأمن من الضلال ودوام الهداية. فكيف يخطر على بال إنسان أنّه سيترتب عليه عقوبة أو فتنة أو عجز.

أمّا قوله : « حسبنا كتاب الله » لأنّه تعالى قال : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (٢) ، ويقول : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (٣) ، فكلّ من الآيتين لا يفيد الأمن من الضلال ودوام الهداية للناس ، ولو كان كذلك لما وقع الضلال ، ولكن الضلال والتفريق في الأمة قد وقع بحيث لا يرجى رفعه ، كما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقل لهم أنّ مراده أن يكتب لهم الأحكام حتى يقال على ذلك : إنّه يكفي فهمها من كتاب الله ، ولو فرض أنّ مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كتابة بعض الأحكام ، فلعل النص على تلك الأحكام منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبب للأمن من الضلالة. وعلى هذا لا وجه لقولهم : « حسبنا كتاب الله » ، بل لو لم يكن فائدة النص إلّا الأمن من الضلالة لكان مطلوباً جداً ، ولا يصح تركه للإعتماد على أنّ الكتاب جامع لكلّ شي ، كيف والناس محتاجون إلى السنّة أشد احتياج مع كون الكتاب جامعاً ، وذلك لأنّ الكتاب وإن كان جامعاً إلّا أنّه لا يقدر كلّ أحد على الإستخراج منه. وما يمكن لهم استخراجه منه لا يقدر كلّ أحد استخراجه منه على وجه الصواب.

_______________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ٣٩.

(٢) الأنعام / ٣٨.

(٣) المائدة / ٣.

٤٢٣

ولهذا فوّض الله لرسوله البيان مع كون الكتاب جامعاً فقال تعالى لنبيّه : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) ، ولاشك أنّ إستخراجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب على وجه الصواب يكفي ويغني في كونه نصاً مطلوباً لنا ، لاسيما إذا أمرنا به ، ولاسيما إذا وعد على ذلك الأمن من الضلال ، فما معنى قول « حسبنا كتاب الله » بعد ذلك (٢) ؟

٦ ـ ماذا في القراءة الخلدونية (٣) ؟

ليس من جديد عند ابن خلدون سوى التفافه على حديث الدواة والكتف ، بقفزة غير بارعة فطواه وطمس معالم الإدانة فيه في موضع مقدمته فقال : ـ وهو يذكر أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باحضار الدواة والقرطاس ليكتب صلّى الله عليه (وآله) الوصية ـ : « وان عمر منع من ذلك » (!). ثمّ قال : « وما تدعيه الشيعة من وصيته لعليّ رضي‌الله‌عنه وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل.

والّذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وان عمر منع من ذلك ، فدليل واضح على أنّه لم يقع » (٤).

ثمّ عاد في تاريخه فقال : « في مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثمّ جمع أصحابه فرحّب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيرأ وقال : (أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم واستخلفه

_______________________

(١) النحل / ٤٤.

(٢) حاشية السندي على صحيح البخاري ١ / ٣٣ ، نقلاً عن معالم الفتن لسعيد أيوب / ٢٦٠.

(٣) القراءة الخلدونية اسم لكتاب كان يدرس في الصف الأوّل من المدارس الإبتدائية في العهد الملكي في العراق نسبة لمؤلفها أبن خلدون. وهزءاً بعقلية ابن خلدون في رأيه في المقام شبّهنا ما لديه بما في القراءة الخلدونية.

(٤) مقدّمة ابن خلدون / ٣٨٠ ط دار الكتاب اللبناني.

٤٢٤

عليكم ، وأودّعكم إليه إني لكم نذير وبشير ألّا تعلوا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) ، وقال : ( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ) (٢)).

ثمّ سألوه عن مغسِّله ؟ فقال : (الأدنون من أهلي).

وسألوه عن الكفن ؟ فقال : (في ثيابي هذه أو بياض مصر أو حلّة يمانية).

وسألوه عن الصلاة عليه ؟ فقال : (دعوني على سريري في بيتي على شفير قبري ، ثمّ اخرجوا عني ساعة ، حتى تصلي عليّ الملائكة ، ثمّ ادخلوا فوجاً بعد فوج فصلّوا وليبدأ رجال من أهل بيتي ثمّ نساؤهم).

وسألوه عمّن يدخله القبر ؟ فقال : (أهلي).

ثمّ قال : (إئتوني بدواة وقرطاس ، اكتب لكم كتاباً لاتضلّون بعده) فتنازعوا وقال بعضهم : إنه يهجر ، وقال بعضهم : أهجر ؟ يستفهم ، ثمّ ذهبوا يعيدون عليه ، ثمّ قال : (دعوني فما أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه). وأوصى بثلاث : أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأن يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم. وسكت عن الثالثة أو نسيها الراوي ، وأوصى بالأنصار فقال : (إنّهم كرشي وعيلتي الّتي أويت إليها ، فأكرموا كريمهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم ، فقد اصبحتم يامعشر المهاجرين تزيدون والأنصار لا يزيدون). ثمّ قال : (سدّوا هذه الأبواب في المسجد إلّا باب أبي بكر فإنّي لا أعلم أمرءاً أفضل يداً عندي في الصحبة من أبي بكر ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صحبة إخاء وإيمان حتى يجمعنا الله عنده).

_______________________

(١) القصص / ٨٣.

(٢) العنكبوت / ٦٨.

٤٢٥

ثمّ ثقل به الوجع واغمي عليه ، فاجتمع إليه نساؤه وبنوه ، وأهل بيته والعباس وعليّ.

ثمّ حضر وقت الصلاه فقال : (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فقالت عائشة : « إنّه رجل أسيف لايستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر ». فامتنع عمر وصلّى أبو بكر ، ووجد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم خفّة فخرج ، فلمّا اُحس به أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقامه مكانه ، وقرأ من حيث انتهى أبو بكر ثمّ كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر.

قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة. وكان يدخل يده في القدح وهو في النزع فيمسح وجهه في الماء ويقول : (اللّهم أعنّي على سكرات الموت).

فلمّا كان يوم الاثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصباً رأسه ، وأبو بكر يصلي فنكص عن صلاته ورده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده صلّى قاعداً على يمينه ثمّ أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكرهم. ولمّا فرغ من كلامه قال له أبو بكر : « إنّي أراك قد أصبحت بنعمة الله وفضله كما تحب » ، وخرج إلى أهله في السنح ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته فاضطجع في حجرة عائشة. ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر فنظر إليه وعرفت عائشة أنّه يريده قالت : « فمضغته حتى لانَ واعطيته إياه فاستنّ به ثمّ وضعه » ، ثمّ ثقل في حجري (١) فذهبت أنظر في وجهه ، فإذا بصره قد شخص وهو يقول : (الرفيق

_______________________

(١) وابن خلدون حين يروي لنا حديث عائشة عن السواك الأخضر الّذي بيد عبد الرحمن بن أبي بكر ومضغ عائشة له وأعطته للنبيّ فاستنّ به ثمّ وضعه ثمّ ثقل في حجرها ... الخ ولم يعقّب عليه بشيء ، وكأنه مصدّق به ، ومهما تباله الراوي وأستغفل القارئ فلا يكاد يُصدّق بأن إنساناً في حالة النزع يمكنه أخذ السواك ليستنّ به. وما أدري كيف غفل ابن خلدون أو تغافل عن ذكر تتمة معزوفة السواك الّذي مضغته السيدة عائشة حين قالت ـ فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا (سير أعلام النبلاء للذهبي

٤٢٦

الأعلى من الجنة) ، فعلمت أنّه خُيّر فأختار. وكانت تقول : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين سحري ونحري وذلك نصف نهار يوم الاثنين لليلتين من شهر ربيع الأوّل... » (١).

هذا ما أردنا نقله من قراءة ابن خلدون في مقدمته وتاريخه ، لنوقف القارئ على تخبطه في عرض ماجرى في فترة مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكأنّه قد جنّد نفسه لتكثيف حضور أبي بكر وآل أبي بكر. فأبو بكر فهم نعي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه حين قال : (انّ عبداً من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وبين ماعنده) ، وفهمها أبو بكر فبكى فقال : « بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا » فقال : (على رسلك يا أبا بكر) ؟

وأبو بكر يحظى ببقاء بابه شارعاً إلى المسجد وتغلق سائر الأبواب غير بابه ؟

وأبو بكر يؤمر بالصلاة دون غيره ؟ وأخيراً أضطجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرة ابنة أبي بكر ، وعبد الرحمن بن أبي بكر يدخل وفي يده سواك أخضر فينظر إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعلم عائشة ابنة أبي بكر أنّه يريده فتأخذه وتمضغه حتى لان وتعطيه فيستنّ به. وأخيراً توفي وهو في حجرها وبين سحرها ونحرها. فهذا الحضور المكثّف لأبي بكر وآل أبي بكر يثير التساؤل عن عمل أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقية نسائه أين كانوا وماذا كان في حضورهم ؟ في قراءة أبن خلدون ؟

_______________________

١ / ٤٣١ نقلاً عن البخاري. وفي الهامش تخريجه عن مسلم في صحيحه ، والقرطبي في تفسيره ، والبيهقي في سننه الكبرى ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ، والزبيدي في اتحاف السادة المتقين ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ، وابن حجر في فتح الباري. فراجع موارد ذكرهم).

وفي لفظ آخر : وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت (سير أعلام النبلاء ١ / ٤٣١) نقلاً عن البخاري ، وفي الهامش مصادر تخريجه فراجع ، ولعل الرجل كان على قدر من الحكنة أحسّ بأن ذكر الحبكة بجميع خيوطها سيكشف للقاريء عن زيفها جملة وتفصيلاً.

(١) تاريخ ابن خلدون ٢ / ٨٤٩ ط دار الكتاب اللبناني.

٤٢٧

ألم يقرأ ابن خلدون حديث سلمان الفارسي قال : « دخلت عليه ـ أي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ صبيحة يوم قبل اليوم الّذي مات فيه فقال لي : (ياسلمان ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعليّ) فقلت يا رسول الله : ألا أسهر الليلة معك بدله ؟ فقال : (لا هو أحق بذلك منك) » (١).

ألم يقرأ ابن خلدون حديث حذيفة قال : « كان عليّ أسند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ظهره فقلت لعليّ هلمّ أراوحك ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هو أحق به) » (٢).

وإذا كان ابن خلدون لم يقرأ ذلك ، فهل هو لم يقرأ. حضور العباس وحديث اللدود (٣) ؟ قال ابن أبي الحديد : « وقد وقع اتفاق المحدثين كلّهم على انّ العباس كان ملازماً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيام مرضه في بيت عائشة وهذا لاينكره أحد » (٤).

وهو لم يقرأ حديث مسارّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابنته فاطمة ؟ مرتين بكت في الاُولى وضحكت في الثانية وهذا ما رواه الشيخان وغيرهما ممّا جل عن البيان (٥).

وهو لم يقرأ حديث ابن عباس : « إنه خرج في مرضه الّذي مات فيه عاصباً رأسه بعصابة دسماء ملتحفاً بملحفة على منكبيه فجلس على المنبر وأوصى بالأنصار فكان آخر مجلس جلسه » (٦).

_______________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٥٩١ ط مصر الأولى.

(٢) ذخائر العقبى / ٩٥ ط القدسي.

(٣) سيرة ابن هشام تح‍ السقا ورفاقه ٤ / ٢٢٥ ، وطبقات ابن سعد ٢ / ٢٣٢ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٨٨ ـ ١٨٩ و ١٩٥ وغيرها.

(٤) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٥٩١ ط الاُولى و ١٠ / ٢٦٨ ط محققة بمصر.

(٥) صحيح البخاري برقم ٦٢٨٥ و ٦٢٨٦ ، وصحيح مسلم برقم ٢٤٥٠ و ٢٤٥٠ / ٩٨ و ٢٤٥٠ / ٩٩ ، وسنن ابن ماجه / ٢٦٢١ ، ومسند أحمد ٦ / ٢٨٢ ، وطبقات ابن سعد ٢ ق ، ومشكل الآثار للطحاوي ١ / ٤٨ ، ومشكاة المصابيح للتبريزي / ٦١٢٩ ، وحلية أبي نعيم ٢ / ٤٠ ، وغيرها.

(٦) صحيح البخاري برقم ٣٧٩٩ و ٣٨٠١ وغيره.

٤٢٨

وهو لم يقرأ حديث الفضل بن العباس : « وقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا فضل شدّ هذه العصابة على رأسي فشدّها... الخ » (١).

وهو لم يقرأ حديث أم الفضل قالت : « خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه وصلّى بنا المغرب فقرأ بالمرسلات ، فما صلّى بعدها حتى لقي الله تعالى » (٢).

وهو لم يقرأ حديث أم ألمؤمنين زينب : « ـ وهي تقول لأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين لغطوا عندما أمر بأحضار الدواة وصحيفة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ـ فقال عمر بن الخطاب من لفلانة وفلانة ـ مدائن الروم ـ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بميّت حتى نفتتحها ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى فقالت زينب زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تسمعون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعهد اليكم فلغطوا فقال : (قوموا) ، فلمّا قاموا قُبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكانه » (٣).

وهو لم يقرأ حديث أم المؤمنين أم سلمة قالت : « والّذي أحلف به إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت عدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة بعد غداة يقول : جاء عليّ ـ مراراً ـ قالت : وأظنه كان بعثه في حاجة قالت : فجاء بعد وظننت إنّ له عليه حاجة ، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب فكنت من أدناهم إلى الباب ، فأكبّ عليه عليّ فجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يومه ذلك فكان أقرب الناس به عهداً » (٤).

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ٤٥.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٩١.

(٣) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ٣٨ ط ليدن.

(٤) مسند أحمد ٦ / ٣٠٠ ، والخصائص للنسائي / ٤٠ ط التقدم ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، وغيرها.

٤٢٩

وإذا كان ابن خلدون لم يقرأ كلّ ذلك ، فهل يعقل أنّه لم يقرأ ما روته عائشة وأخرجه البخاري عنها مكرراً وكلاهما عنده في المقام الأسمى من خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوكئاً على العباس ورجل ـ هو عليّ ـ ولكن عائشة لا تطيق لها نفس أن تذكره بخير وهي تستطيع كما قال ابن عباس فيما رواه الطبري (١).

ألم يقرأ ابن خلدون هذا الحضور لعليّ والعباس عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد خرج متوكئاً عليهما حين صلّى أبو بكر فنحّاه وصلّى هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناس ؟ أوليس هذا في صحيح البخاري وتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد ، وابن خلدون قد رأى تلك الكتب جميعها وأخذ عنها خصوصاً عن كتاب الطبري الّذي قال عنه ـ في ذكره أمر الجمل ـ اعتمدناه للوثوق به لسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة.

ثمّ ما بال الناس الّذين سألوه عن مغسّله وكفنه والصلاة عليه وحتى عمّن يدخله القبر ، ما بالهم لم يسألوه عمّن يتولى أمرهم من بعده ؟

ثمّ ما باله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم أبا بكر للصلاة عليه أولاً مادام قد أمر بتقديمه للصلاة بالمسلمين مكانه كما يروي ابن خلدون وغيره ؟ ولندع ذكر ما في قراءة ابن خلدون من مثار التساؤل ، ونعود إلى إنكاره الوصية للإمام كما مرّ عن مقدمته. وإلى إقراره بأن الّذي منع من كتابة ذلك هو عمر ، وما صرّح به ثانياً بأنّ الّذي منع قال : « أنّه يهجر » فتكون النتيجة ماسبق أن ذكرناه في (ماذا قال عمر ؟) وأنّه الّذي قال : « انّ الرجل ليهجر ».

_______________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٤٣٣ ، صحيح البخاري ١ / ١٣٥ باب إنّما جُعل الإمام ليؤتم به... ط بولاق.

٤٣٠

وأمّا كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتب الكتاب لمنع عمر ليس يعني أنّه لم يكن قد أوصى عليّاً ، فما نعى به على الشيعة في ذلك ، وزعم أنّه أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل. فنقول له إنه أمر صحيح ونقله جماعة من أئمة النقل.

ونحن لا نطيل الوقوف معه في سرد ما يستدل به الشيعة على وصاية عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يكن دليلهم منحصراً بذلك الكتاب الّذي أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتبه ومنع عمر منه فلم يقع. فإن لديهم من الأدلة الأخرى والّتي رووها عن مصادرهم ومصادر غيرهم وفي هذا القسم الثاني ما يرغم ابن خلدون على قبول أحاديثهم ففيها من صحاح قومه وسننهم ومسانيدهم وتواريخهم ، وفيها أحاديث دلت على أنّ عليّاً كان وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل يوم الخميس يوم حديث الرزية ، بل كان هو وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يوم بدء الدعوة كما في حديث الإنذار. وإليك بعض ما جاء في ذلك صريحاً بالوصية :

١ ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم) (١).

٢ ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فأنت أخي ووزيري ووصي وخليفتي من بعدي ...) (٢).

فإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله وصياً واختاره أخاً ووزيراً ووصياً ووارثاً وخليفةً من بعده منذ بدء الدعوة وحتى سائر المشاهد بعد ذلك وفيها أكثر من شاهد ، فما ذنب الشيعة إذا آمنوا بصحّة ما رواه أسلافهم وأخلافهم ، ووافقهم عليه سواهم من لم يمنعهم خلافهم. وحديث الوصية شائع ذائع هتف به الصحابه شعراً ونثراً ، ولم ينكر عليهم أحد ذلك.

_______________________

(١) أنظر تاريخ الطبري ٢ / ٢١٦ ط الحسينية ، و ٢ / ٣١٩ ط دار المعارف ، و ٣ / ١١٧٢ ط ليدن ، وكنز العمال ٦ / ٣٩٢ ـ ٣٩٧ ط الاُولى حيدر آباد ، و ١٥ / ١٠٠ ط الثانية حيدر آباد ، نقلاً عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي كليهما في الدلائل.

(٢) أنظر السيرة الحلبية ١ / ٢٨٦ ط البهية : عن ابن جرير والبغوي انهما رويا ذلك.

٤٣١

قال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي ـ على ما ببالي ـ : « وممّا رويته من الشعر القول صدر الإسلام المتضمّن كونه عليه‌السلام وصيّ رسول الله قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب :

ومنا عليّ ذاك صاحبُ خيبرٍ

وصاحب بدر يوم سالت كتائبه

وصيّ النبيّ المصطفى وابن عمّه

فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

ـ ثمّ استطرد يذكر أشعاراً لجماعة من الصحابة في ذلك منهم : عبد الرحمن بن جعيل ، وأبو الهيثم بن التيهان ـ وكان بدرياً ـ وعمر بن حارثة الأنصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وزياد بن لبيد الأنصاري ، وحجر بن عدي الكندي ، وخزيمة بن ثابت الأنصاري ذي الشهادتين ـ وكان بدرياً ـ وابن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وعمرو بن أحيحة ، وزحر بن قيس الجعفي ... ـ وقال بعد ذكر أشعار هؤلاء العشرة ـ ذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل ، وأبو مخنف من المحدثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار ، وليس من الشيعة ولامعدوداً من رجالها ثمّ قال :

وممّا رويناه من أشعار صفين الّتي تتضمن من تسميته عليه‌السلام بالوصي ماذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين وهو من رجال الحديث ، ثمّ ذكر أشعاراً وأراجيز لكل من الإمام أمير المؤمنين نفسه ، وللأشعث بن قيس ، وزحر بن قيس أيضاً ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والنعمان بن عجلان الأنصاري ، وعبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي ، والمغيرة بن الحرث بن عبد المطلب وأخيراً قول صاحبنا عبد الله بن عباس حبر الأمة :

وصيّ رسول الله من دون أهله

وفارسه إن قيل هل من منازل

فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا

أشم كنصل السيف غير حلاحل

٤٣٢

ـ ثمّ ختم ابن الحديد ذلك بقوله : ـ والأشعار الّتي تتضمن هذه اللفظة كثيرة جداً ، ولكنا ذكرنا منها ههنا بعض ماقيل في هذين الحربين ـ يعني الجمل وصفين ـ فأما ما عداهما فإنه يجلّ عن الحصر ، ويعظم عن الإحصاء والعدّ : ولولا خوف الملالة والإضجار ، لذكرنا من ذلك مايملأ أوراقاً كثيرة ... اه‍ » (١).

ولنعم ما استدل به عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف فقد ذكر فيه بسنده عن معمر عن قتادة أنّ عليّاً قضى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشياء بعد وفاته كان عامتها عِدَة. قال : حسبت أنّه قال خمس مائة ألف.

قال عبد الرزاق : يعني دراهم.

قلنا لعبد الرزاق وكيف قضى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصى إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ؟

قال : نعم لا أشك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى إلى عليّ ، فلولا ذلك ما تركوه أن يقضي (٢).

فبعد هذا كيف يستنكر ابن خلدون ما تدّعيه الشيعة من وصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام ومادام هو نفسه اعترف بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بإحضار دواة وقرطاس ليكتب لأمته كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ، واعترف أيضاً بأنّ عمر هو الّذي منع ، واعترف بأنّ بعضهم ـ المانعين ـ قال : (إنّه يهجر). ولم يكن ذلك إلّا عمر. فما دام ابن خلدون اعترف بجميع ذلك عليه أن يذعن بصحة ما تدعيه الشيعة ، لأن ذلك ورد في اعترافات عمر ، كما ذكرنا في (عمريون أكثر من عمر).

_______________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٤٧ ط الاُولى بمصر. وقد ترجم المرحوم السيد هاشم البحراني في كتابه التحفة البهية طائفة من أقوال قدماء الشعراء المتضمنة انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فناهزت التسعين ، وما فاته منهم ومن أشعار المحدّثين أضعاف ذلك.

(٢) أنظر المصنف لعبد الرزاق ٧ / ٢٩٤.

٤٣٣

فقد اعترف لابن عباس حبر الأمة ـ في حديث بينهما حول الإمام والخلافة ـ : « ولقد أراد ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في أنّ يصرّح باسمه ـ يعني عليّاً ـ فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ».

وقال مرة أخرى في محاورة بينهما في الموضوع نفسه : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد ذلك وأراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله » ؟!

وقال في مرة ثالثة : « لقد كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذرواً من قول لايثبت حجة ولايقطع عذراً ».

إلى آخر ما هنالك من اعترافات خطيرة ذكرناها هناك فليرجع إليها من شاء.

والّذي يلفت النظر في القراءة الخلدونية التصريح بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي عيّن قبره في بيته فقال : (دعوني على سريري في بيتي على شفير قبري) ، فهو لم يترك ذلك مجهولاً حتى يحار أهل البيت في مكان دفنه فينقذهم من الحيرة أبو بكر بتعيين المكان كما يحلو رواية ذلك للبكريين ، كما إنّ في تصريحه ذلك أيضاً نفي لمن زعم أنّ البيت هو لعائشة بل هو بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما لها حجرتها فيه.

ومهما قيل عن فهم ابن خلدون في الاجتماع وفلسفة التاريخ فهو غير بارع في التحوير ، ولا أمين في العرض كما رأيناه فيما مرّ من خلط عنده وخبط ممّا لايخفى على القارئ النبيه.

وإن لم يكن هو بدعاً في ذلك فقد رأينا قبله من وافق ابن خلدون في هواه ، ومن بعده من شايعه على دعواه ، وذلك هو الشهاب الخفاجي الّذي بهت الشيعة كما بهتهم ابن خلدون ، فقال : « وقد ادعى الرافضة أنّ الكتاب

٤٣٤

الّذي أراد النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتابته كان فيه الوصية بخلافة عليّ ، فلذا منع منه عمر. وهو كذب منهم عليه » (١).

وبقيت تهمته للشيعة بوضع حديث الرزية منطوقاً ومفهوماً حتى الأمس القريب. ألم يقل محمّد عزة دروزة في كتابه (تاريخ العرب في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين) : « ونحن لا نستبعد أن تكون الرواية من مصنوعات الشيعة المتأخرين » (٢).

أقول : ونحن قد ذكرنا مصادر الرواية وعرضنا أسماء الرواة حسب القرون ولم نذكر فيهم من الشيعة أحداً ، فهل كلّ أُولئك الحفاظ كانوا في غفلة عما رآه دروزة أو أنها منه طعنة الهمزة اللمزة !

والرجل بالرغم من كثرة كتبه التأريخية لا أراه إلّا راجلاً في تميز أحداث التاريخ ، ولست متجنياً عليه ، فهنا يقرأ له قوله بعد ذكر رواية الطبري في إجبار أمير المؤمنين على البيعة لأبي بكر : « ونرجح أنّ هذا الخبر مصنوع مدسوس من الشيعة » (٣) ، ولم يَزَل يرسل في غير سدد ، حتى جعل رواية أبي بكر في مطالبة الزهراء عليها‌السلام بفدك فروى لها « إنا لا نورّث ما تركناه صدقة » ، هي نهاية الخصام وبها انقطع الكلام ، ولعلّه يحاول من طرف خفي إشارة إلى الوئام فقال : « ويكون ماعدا ذلك من مزيدات الشيعة ومدسوساتهم » (٤).

_______________________

(١) نسيم الرياض بشرح الشفاء للقاضي عياض للشهاب الخفاجي ٤ / ٢٨٤ ط أفست دار الكتاب العربي بيروت.

(٢) تاريخ العرب في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين / ١٦ ـ ١٧.

(٣) نفس المصدر / ١٦ ـ ١٧.

(٤) نفس المصدر.

٤٣٥

وكم له ولغيره من تهم بهتوا بها الشيعة ، ومرّت نحو هذه النغمة عن غيره ، ومهما يكن فالجواب على بهتانه ، يعلم ممّا مرّ في ردّ ابن خلدون وبطلانه وممّا مرّ فيما سبق من بيان ماذا أراد أن يكتبه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فراجع.

ثمّ إنّ من الغريب من ابن خلدون وأضرابه من الناصبة ذكرهم لقول عائشة : « مات بين سحري ونحري » ، من دون أي تعليق عليه ، أو توجيه له ، مع أنّها لمّا حدثت به من سألها عن مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء السائل فذكر ذلك لحبر الأمة عبد الله بن عباس فاستنكر عليه قولها وأبى تصديقها في زعمها ، فقال له : « أتعقل والله لتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنه لمستند إلى صدر عليّ » (١) ، وفي حديث ثانٍ رواه الطبراني عن ابن عباس قال : « جاء ملك الموت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الّذي قبض فيه فأستأذن ورأسه في حجر عليّ » (٢).

وفي حديث ثالث عن ابن عباس أيضاً : « انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثقل وعنده عائشة وحفصة إذ دخل عليّ عليه‌السلام فلمّا رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع رأسه ثمّ قال أدن مني أدن مني فأسنده إليه فلم يزل عنده حتى توفي » (٣).

فهذا يعني أنّ قول عائشة لم يكن متفقاً على صحته بل هو مرفوض من قبل حبر الأمة عبد الله بن عباس وهو من أهل البيت الّذين كانوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين الوفاة. فكان على من يقول بقول عائشة معالجة ماورد عن ابن عباس في رفضه ،

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ط ليدن.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ٣٥.

(٣) نفس المصدر ٩ / ٣٦.

٤٣٦

وليعلم القارئ أنّه لم يكن ابن عباس وحده يرفض ذلك فعن أم سلمة ورد مثل ذلك كما مرّ (١) وعن عمر مايؤيده أيضاً (٢).

أيّهما الشفيق الرفيق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم عمر ؟

لقد مرّت بنا كلمة عمر ـ مراراً ـ « فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام » ؟ كما مرّ في أقوال علماء التبرير انّ ذلك اشفاقاً منه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومرت كلمته الأخرى : « أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددت عنه خوفاً من الفتنة » ، وليس فيها من الشفقة شيء ، وقد استوجب ذلك علينا أن نعمل الموازنة في الشفقة على المسلمين والرفق بهم بين الرسول الكريم الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين عمر.

وإنّها من سخرية القدر واحدى الكبر ، ولكن فرضها علينا أبناء عمر ورددها الببغائيون فلا ضير ولاجير في ذلك :

فالرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي وصفه الله تعالى بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٣) ، وقال فيه تعالى مخاطباً المؤمنين : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٤) ، فهل بعد هذا من مجال للقول ؟ أم هل يكون من المقبول والمعقول أن لايكون شفيقاً رفيقاً بالمؤمنين ويكون عمر هو الشفيق الرفيق فيحتاط على الإسلام ويخاف الفتنة ؟!

_______________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٣٠٠ ط مصر الاُولى ، والخصائص للنسائي / ٤٠ ط التقدم بمصر ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، والرياض النضرة ٢ / ١٨٠ ط الخانجي ، وذخائر العقبى / ٧٢ ط القدسي ، ومجمع الزوائد ٩ / ١١٢ ، وتذكرة الخواص / ٤٧ ط الغري.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ٥١.

(٣) القلم / ٤.

(٤) التوبة / ١٢٨.

٤٣٧

سبحانك اللّهم إن هذا إلّا بهتان عظيم. وإشفاق عمر على من ؟ أعلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد صدمه بكلمته حتى أغمي عليه ! أم على المسلمين وقد أضاع عليهم نعمة الإعتصام من الضلالة بالكتاب ؟ وكيف يصدق ذلك إنسان في مثل عمر الّذي كان في أخلاقه وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة ـ كما وصفه أبن أبي الحديد ـ وهو ممّن لايتهم عليه (١) فهل يُصدّق في زعمه ؟ اشفاقاً وحيطةً على الإسلام ؟

وعمر هو الّذي قال فيه الصحابة لأبي بكر حين أراد استخلافه عليهم بعده : « تستخلف علينا فظاً غليظاً ، فلو قد ولينا كان أفظ وأغلظ فما تقول لربك إذا لقيته » (٢).

وعمر هو الّذي خطب في الناس فقال : « بلغني انّ الناس قد هابوا شدتي ، وخافوا غلظتي ، قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرنا ، ثمّ أشتد علينا وأبو بكر رضي‌الله‌عنه والينا دونه ، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه. ولعمري من قال ذلك فقد صدق » (٣).

وهو الّذي وصف الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته الشقشقية أيامه وطبيعته في الحكم فليرجع إليها.

أهكذا إنسان يمكن أن يوصف بأن ماصدر منه بتلك الغلظة والشدة ، ونبّو الكلمة وجفوة اللهجة ، كان منه ذلك إشفاقاً وحيطةً وخوف الفتنة !! والرسول الصادق الأمين الّذي يسدّده الوحي ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٤) ، ويقول

_______________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ١٨٣ ط محققة.

(٢) كنز العمال ٣ / ١٣٦ ط الأولى.

(٣) اُنظر حياة الحيوان للدميري ١ / ٤٩.

(٤) النجم / ٣ ـ ٤.

٤٣٨

لأمته : (ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً) ليس شفيقاً على أمته !؟ وعمر بمنعه يكون منه اشفاقاً وحيطة على الإسلام ؟! ولامجال لأن يكونا معاً شفيقين لتعارضهما في مورد الشفقة ، وهكذا تضيع المقاييس عند ضياع العقول في متاهات الهوى ، فما ذكر من تعليل زعم الشفقة من عمر تعليل عليل ، وليس هو بمقبول ، حتى لدى السذج وبسطاء العقول ، فضلاً عن النابهين والباحثين من العلماء الواعين.

عملية التزوير من أنحاء التبرير :

لمّا كان حديث الكتف والدواة واضح الدلالة على أنّ المراد منه كان هو تأكيد النص على ولاية عليّ عليه‌السلام ولذلك منع منه عمر كما أعترف هو بذلك ، وقد مرّ ذكره والإشارة إليه مراراً. وكذلك فهمه من تابعه على منعه. ولكن تعرض للمسخ والتشويه والتشكيك ولم يسلم من زبانية الوضاعين ، ويزيد القارئ إيماناً بأنّهم فهموا ذلك منه ، ما تشبث به رواة السوء وسجلته الأقلام المشبوهة تشويهاً للحقيقة ، وإمعاناً في غثيثة التزوير حيث انبرى فريق منهم إلى مسخ أصل الحديث وتحوير نصه ، بعد ان عجزوا في تبرير ما قاله عمر وما ساقوه من أعذار تافهة. فذكروا انّ الحديث كان لصالح أبي بكر ، فرووا في ذلك عن عائشة وعن أخيها عبد الرحمن. فقد أخرج مسلم وأحمد والبغوي وغيرهم عن عائشة قالت : « قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي مات فيه : (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب لأبي بكر كتاباً لايختلف عليه أحد). ثمّ قال : (معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر) » (١).

_______________________

(١) وروى نحو هذا الحديث كثير من المؤلفين في الحديث والتاريخ. فراجع مصابيح السنّة للبغوي ٢ / ١٩٤ ، وصواعق ابن حجر / ١٣ ، ومشكاة المصابيح ٣ / ٢٢٠ ، وشرح مشارق الأنوار

٤٣٩

وأخرج ابن عساكر كما نقله عنه المتقي في كنز العمال عن عبد الرحمن ابن أبي بكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (إئتني بدواة وكتف أكتب كتاباً لاتضلوا بعده أبداً). ثمّ قال : (يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر) (١).

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : « وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه : (إئتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لاتضلون بعده أبداً) ، فاختلفوا عنده ، وقال قوم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله » (٢).

وفي قول هذا المعتزلي وهو غير متهم على الوضاعين البكريين وهو من علماء التبرير أيضاً. ما يغني عن التعليق على ما في الحديثين من نظر ، وفيه مايكفينا للتدليل على كذب الحديثين.

ففي آخر الحديث الأوّل : (معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر) وهذا ما قد وقع في السقيفة وخارجها ، وتخلف عن بيعته أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعه بنو هاشم وتخلف عنها سعد بن عبادة ومن معه من الأنصار وتخلف عنها سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة و و و فهل يجرأ أحد ان يقول هؤلاء جميعاً ليسوا من المؤمنين ـ والعياذ بالله ـ معاذ الله أن يقول ذلك أحد ، كيف وهم من خيرة المؤمنين وفيهم أوّل المؤمنين إيماناً وهو عليّ عليه‌السلام.

فمعاذ الله أيضاً أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال كذلك.

_______________________

لابن الملك ٢ / ٢٥٨ ، وبهجة المحافل للعامري ، وشرح البهجة للأشخر اليماني ، ونور الأبصار للشبلنجي ، وقد مرّ اعتماد ابن حزم في كتابه الأحكام ٧ / ١٢٣ على هذا الحديث في حل ما أستشكل عليه من حديث أبن عباس في حديث الرزية. ومرّ منا التعقيب عليه في أقوال علماء التبرير.

(١) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٣ / ١٣٩ ، ومنهاج السنّة لابن تيمية ٣ / ١٣٥ ط الاُولى. وغير ذلك.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ١٧ ط الاُولى.

٤٤٠