موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ومن كان دوره التبليغ ، والتبليغ فقط لأنّ الله سبحانه يقول : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١).

فليس من حقّه أن يكون له أيّ دور سوى تبليغ ما أمره الله به ، وقد مرّ التصريح منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك حين أعترض عليه جلف جاف في أمر بيعة الغدير لعليّ عليه‌السلام : منك أو من الله ؟ فأجاب قائلاً : الله الّذي لا إله إلّا هو. من الله.

وحيث أنّ بيعة الغدير وكتابة الكتاب لو تمت ، كلتاهما كانت لبيعة عليّ عليه‌السلام وخلافته ، وهما من واد واحد ، وفي الأولى كان عبداً مأموراً فكذلك هو في الثانية كان عبداً مأموراً ، وأيضاً ليس من حقّ أيّ أحد أن يعترض عليه في تنفيذ أمره.

وإذا لم نقل بهذا فما هو إلّا الإختيار ، وإنّما أراد عليّاً من نفسه لعواطف شخصية ـ والعياذ بالله ـ فلننظر لماذا تلك العواطف ؟

هل كانت نسبية ، فهو قريبه وابن عمه ؟ وهذا غير مقبول ولا معقول ، لأن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِنَ العمومة وأبناء العمومة غير عليّ ، وفيهم من هو أكبر سناً من عليّ ، وليس فيهم من تحقد عليه قريش كما كانت تحقد على عليّ لأنّه قتل صناديدهم ووترهم في الله. فلماذا لم يشر إلى أيّ واحد من أولئك الأحياء فيؤهله لأي قيادة أو إمارة أو ولاية لا تصريحاً ولا تلميحاً.

إذن ليست رابطة النسب وحدها هي المرجّح لعليّ دون غيره ، وليس لقاعدة النسب أيّ دور في الترشيح.

ثمّ هل كانت رابطة المصاهرة لأنّه كان صهراً له على أبنته ؟ وهذا أيضاً غير مقبول ولا معقول إذ لم تكن رابطة المصاهرة تكفي للترشيح ، على أنّها ليست أقوى من رابطة القربى.

_______________________

(١) الحاقة / ٤٤ ـ ٤٦.

٤٠١

وقد كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصهاراً غير عليّ ، وهم أقدم مصاهرة منه ، وتجمعه وإياهم قربى نسب من بُعد ، كما في عثمان وهو من بني عبد مناف. فلماذا لم يحض عثمان بشرف ذلك الإختيار ؟

إذن ليس تعيين عليّ عليه‌السلام للخلافة دون غيره على حساب القربى النسبية وحدها ، ولا عليها وعلى رابطة المصاهرة. ولابدّ أن يكون ليس للأختيار الشخصي من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تعيينه أيّ دور ، وإنّما هو أمر من الله تعالى ، ودوره هو التبليغ فقط ، للمؤهلات الّتي كانت في عليّ عليه‌السلام ولم توجد في غيره.

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (١).

النتائج :

لقد تبين بوضوح على الأسئلة المتشابكة على النحو التالي :

١ ـ ماذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب في الكتاب ؟ الجواب : أراد أن يكتب كتاباً يعيّن فيه وليّ الأمر بعده.

٢ ـ من أراد أن يكتب أسمه في الكتاب ؟ الجواب : أراد أن يكتب اسم عليّ في ذلك الكتاب.

٣ ـ لماذا أراد أن يكتب له ذلك الكتاب ؟ الجواب : لأنّه رأى ضغائن قوم خشي عليه منهم.

٤ ـ لماذا أراد عليّاً عليه‌السلام دون غيره ؟ الجواب : لأن الله تعالى أمره بذلك.

_______________________

(١) الأحزاب / ٣٦.

٤٠٢

من هم المعارضة ؟

إذا رجعنا نستقريء صور الحديث نجد تعتيماً متعمداً على أسماء المعارضة سوى اسم عمر بطلها المقدام صاحب الكلمة النافذة ، كالسهم في قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى (غمّ) أغمي عليه. وباختصار نجد : في الصورتين : (١ ، ٢) المرويتين عن عليّ عليه‌السلام وابن عباس ، فقام بعضهم ليأتي به فمنعه رجل من قريش (؟) وقال : « انّ رسول الله يهجر ».

وفي الصورتين (٣ ، ٤) المرويتين عن عمر : « فكرهنا ذلك أشد الكراهية » (؟).

وفي الصورة (٥) المروية عن جابر : فكان في البيت لغط وكلام وتكلم عمر ...

وفي الصورة (٦) فأختلف من في البيت وأختصموا فمن قائل يقول : القول ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن قائل يقول : القول ما قال عمر.

وفي الصورة (٧) فقال بعض أصحابه : « انّه يهجر » ، قال : ـ وأبى أن يسمي الرجل ـ فجئنا بعد ذلك ، فأبى رسول الله أن يكتبه لنا.

وفي الصورة (٨) فقال بعض من كان عنده : « إنّ نبيّ الله ليهجر ».

وفي الصورة (٩) برواية البخاري : فتنازعوا ... فقالوا : « هجر رسول الله ».

وبروايته الأخرى عن سفيان ... فقالوا : « ما له أهجر » استفهموه.

وبرواية الطبري فقالوا : « ما شأنه أهجر » استفهموه.

وفي الصورة (١٠) برواية البلاذري ، فقال : « أتراه يهجر » ، وتكلموا ولغطوا.

وبرواية ابن سعد ، فقالوا : « إنّما يهجر رسول الله ».

٤٠٣

وفي الصورة (١١) فقال بعض من كان عنده : « انّ نبيّ الله ليهجر ».

وفي الصورة (١٢) فقال عمر : « قد غلبه الوجع » فاختلف أهل البيت فأختصموا فمنهم من يقول يكتب لكم ... ومنهم من يقول ما قال عمر ... فلمّا كثر اللغط والاختلاف ، وغمّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (قوموا عني).

وفي الصورة (١٤) فأقبل القوم في لغطهم.

وفي الصورة (١٥) فأخذ من عنده من الناس في لغط.

وفي الصورة (١٧) فلغطوا فقال : قوموا.

وفي الصورة (١٨) فتنازعوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال رجل من القوم : انّ الرجل ليهجر ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بإخراجه وإخراج صاحبه.

وفي الصورة (١٩) فقال المعذول : انّ النبيّ يهجر كما يهجر المريض ، فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأخرجوه فأخرجناه.

وفي الصورة (٢٠) فمنعه رجل ...

وفي الصورة (٢١) فدعا العباس بصحيفة ودواة ، وقال بعض من حضر : « انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهجر ».

وفي الصورة (٢٢) فقالوا : « ما شأنه أهجر ».

وفي الصورة (٢٤) إنّ قوما قالوا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم : « ما شأنه هجر ». رواه ابن حزم.

وفي الصورة (٢٥) فتنازعوا فقال بعضهم : ما له أهجر استعيدوه ، فقال عمر قد غلبه الوجع. كما في رواية المقريزي.

٤٠٤

هذه حصيلة ما ورد في صور الحديث الّذي تكثّرت وتكسّرت ، حتى يصعب على الرائي فيها تجميع أجزائها بصورة واحدة. وهذا ما يدل على مدى التضبيب الّذي لفّ الهالة لتمييع الحالة ، وتضييع القالة. ولكن لم يخف وجه الكراهية الّتي أبدتها المعارضة بشدة ، فهم الّذين نابذوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ بدء دعوته وحتى ساعة وفاته وما بينهما من مواقف ، وما بالهم نسوا أنّ الخير كان ويكون فيما كانوا يكرهون.

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١).

وبعد هذا هل يصح أن يقول علماء التبرير أخيرهم العقاد وليس آخرهم ، إنّ النبيّ كان يحبّ أن يحبّ الناس عليّاً ، فهو يحبّه ويمهدّ له وينظر إلى غده ... ثمّ يقول : وليس من الممكن ... وليس من الممكن ... ولابدّ لنا الآن من النظر في حال عمر وماذا أراد بقوله ؟

ماذا قال عمر ؟

ليس من شك فيما قال عمر ، إذ نسب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الهجر : إنّ النبيّ يهجر ، إنّما يهجر رسول الله.

وليس من شك في أنّ علماء التبرير أضفوا على جفاء هذه الكلمة ، نسيجاً أوهى من نسيج العنكبوت ، وألقوا ظلالاً ـ وضَلالاً ـ من التشكيك في تحوير ما قال لسماجته ، وقد مرّ في صور الحديث ما طرأ على الكلمة من تحريف شائن ، كما مرّ في أقوال علماء التبرير مقالة متهالك مائن ، في تصريف الكلمة على وجوهها غير الصرفية ، فقالوا يهجر إلى ليهجر ، إلى أهجر إلى هَجر هَجَر

_______________________

(١) النجم / ٣ ـ ٤.

٤٠٥

وأستنبطوا لكلٍ وجهاً في القراءة ، حتى جعلوها من الإنشاء إلى الاخبار ثمّ عادوا إلى الإستفهام في مقام الإنكار وهو تشريق وتغريب ، وتصعيد بلا تصويب ، وإذ لم يجدوا مناصاً في إنكارها ، جعلوها فضيلة لعمر بعد أن كانت وصمة عليه. فقالوا إنّما قال ذلك إنكاراً على من تخلف عن أمتثال أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا التفسير يأباه عليهم حتى عمر.

ومهما يكن فإنّ الصحيح عندي أنّه قال : « انّ الرجل ليهجر » كما رواها الغزالي (١) ، وإن ورد أيضاً : « انّه يهجر » كما في الصورة الحادية عشرة من صور الحديث ، وقد مرّت نقلاً عن ابن سعد في الطبقات (٢) ، ونقلها البيهقي مسنداً (٣) ، وذكرناها عن المستخرج للإسماعيلي ، نقلاً عن الملا عليّ القارئ في شرح الشفاء (٤) ، وفي طبقات ابن سعد أيضاً ، ومسند أحمد (٥) ، وكتاب السنّة للخلال المتوفى سنة ٣١١ (٦) ، ومعجم الطبراني الكبير (٧) ، وغيرها : « فقالوا : إنّما يهجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، وفي لفظ الطبري : « انّ رسول الله يهجر » (٨) ، وفي تاريخ ابن خلدون : « فتنازعوا وقال بعضهم : انّه يهجر ، وقال بعضهم : أهجر ؟ يستفهم » (٩).

_______________________

(١) سرّ العالمين / ٩ ط مصر سنة ١٣١٤ ه‍. ولا يضرنا التشكيك في نسبة الكتاب إلى الغزالي بعد أن نسبه إليه سبط ابن الجوزي الحنبلي في تذكرة الخواص.

(٢) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ٣٦.

(٣) سنن البيهقي ٣ / ٤٣٥ ط بيروت سنة ١٤١١ (باب كتابة العلم في الألواح والأكتاف).

(٤) شرح الشفاء لملا علي القارئ ٢ / ٣٥٣ ط استنابول سنة ١٣١٦ ، ونسيم الرياض للخفاجي ٤ / ٢٧٩ ط أفست دار الكتاب العربي بيروت.

(٥) مسند أحمد ٥ / ٣٥٥.

(٦) كتاب السنّة ١ / ٢٧١ ط الرياض.

(٧) معجم الطبراني الكبير ١١ / ٤٤٥ ط الموصل.

(٨) تاريخ الطبري ٣ / ١٩٣ط دار المعارف.

(٩) تاريخ ابن خلدون ١ / ٨٤٩ ط دار الكتب اللبناني.

٤٠٦

وجاء في حديث سليم بن قيس الهلالي عن ابن عباس : « فقال رجل منهم : انّ رسول الله يهجر » (١) ، وغير هؤلاء.

ويدلنا على نسبة عمر الهجر إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تلجلج بعضهم عند ذكر كلمته فيقول : « قال كلمة معناها إنّ الوجع غلب عليه » ، وهذا ما صنعه ابن أبي الحديد وسائر من استهجن الكلمة من علماء التبرير لما فيها من مساس بقداسة الرسول وقدسية رسالته. فحذفوها وأثبتوا البديل عنها : « قد غلب عليه الوجع ».

والآن ليفكر القارئ في أمر عمر أيّ شيء كان يدعوه لتلك المقالة النابية والكلمة القارصة ؟ وماذا عليه لو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب ذلك الكتاب ليعصم عمر وغير عمر من الأمة من الضلالة إلى الأبد ؟

وهل كان عمر يحب أن يبقى الناس في طخياء الضلالة يعمهون ؟ فليقل علماء التبرير ما عندهم ؟ وهل كان عمر يعتقد في نفسه « إنّ النبيّ يهجر » ؟ وكذلك فليقولوا ما شاؤا في ذلك ، وقد مرّ بعض ما عندهم من تخليط.

أم كان عمر يريد أمراً آخر من وراء كلمته ، فلم يرَ لديه أبلغ ممّا قاله ليبلغ مراده ؟ وهذا ما نراه ولا نتجنّى عليه ، فقد كان هو أيضاً يراه ، وقد صرّح بذلك ، ومرّت بعض تصريحاته في التعقيب على ما قاله علماء التبرير (عمريون أكثر من عمر) فراجع حيث علم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أن يكتب الكتاب باسم عليّ فمنع من ذلك.

فمنها قوله : « ولقد أراد ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يصرّح بأسمه ـ يعني عليّاً ـ فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام » ؟!

ومنها قوله : « لقد كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذرواً من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً ».

_______________________

(١) وسيأتي الحديث بتمامه.

٤٠٧

ومنها قوله : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد ذلك وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله ، أو كلّ ما أراد رسول الله كان » ؟!

ومنها قوله : « فكرهنا ذلك أشد الكراهية » (؟)

ولماذا يا أبا حفص ؟ ولا نحتاج إلى الجواب ، ما دمت أنت القائل لابن عباس : « إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة ». ولماذا أيضاً ؟ وأنت تعلم أنّ عليّاً كان أحق بها من غيره ، وأنت الّذي أعترفت بذلك وقلت لابن عباس : « أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر ».

وهذه الأقوال جميعها قد مرّت مسندة إلى مصادر موثوقة فراجع (عمريون أكثر من عمر).

من أين علم عمر مراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

والآن لنبحث من أين علم عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب الكتاب باسم عليّ عليه‌السلام ، وهو لم يذكره باسمه كما في الحديث ، ولم يكتب بعد كتابه ليعلم بذلك عمر ، فمن أين علم بذلك فقال « انّه ليهجر » ؟

لقد علم ذلك من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لن تضلوا بعده ـ بعدي ـ أبداً).

وهذه الكلمة لم ترد في شيء من الأحاديث النبوية إلّا في بضعة أحاديث كلّها توحي بفضل عليّ منفرداً أو مجتمعاً مع أهل بيته خاصة ، وهم فاطمة والحسن والحسين الّذين هم قرناء الكتاب ، كما في حديث الثقلين والتمسك بهما عاصم من الضلالة.

٤٠٨

وإلى القارئ تلكم الأحاديث الّتي وردت فيها جملة : (لن تضلوا) ، وهي دالة على انّ التمسك بعليّ وأهل بيته أمان من الضلالة ، ولم ترد في حقّ أيّ إنسان سواهم :

أوّلاً : حديث الثقلين وهو من الأحاديث المتواترة رواه أكثر من أربعين صحابياً في ستة مواطن ، وأخرجت أحاديثهم المصادر الكثيرة وقد نافت على المائة (١). ولفظه كما في أكثر من موطن قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ذلك : (أيّها الناس إنّي تركت فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ـ الأكبر كتاب الله ، والأصغر عترتي أهل بيتي ـ وإنّ اللطيف الخبير عهد إليَّ أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كهاتين ـ أشار بالسبابتين ـ ولا أنّ أحدهما أقدم من الآخر ، فتمسكوا بهما ، لن تضلوا ولا تقدّموا منهما ولا تخلفوا عنهما ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم).

وهذا ما قاله في حجة الوداع في يوم عرفة وفي مسجد الخيف بمنى وفي غدير خم ، سوى ما قاله قبل ذلك في يوم فتح الطائف عام ثمان من الهجرة ، وسوى ما قاله بعد حجة الوداع وآخر مرة في هجرته وعلى منبره يوم قبض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد كان أبو بكر يقول : « عليّ عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » كما أخرج ذلك عنه السيوطي في جمع الجوامع وعنه المتقي الهندي في كنز العمال (٢).

ثانياً : ما رواه الحسن بن عليّ وعائشة وأنس وجابر مرفوعاً قال : « ادعوا إليَّ سيّد العرب ـ يعني عليّ بن أبي طالب ـ فقالت عائشة : ألستَ سيّد العرب ؟ فقال : (أنا سيّد ولد آدم وعليّ سيّد العرب) ، فلمّا جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال

_______________________

(١) اُنظر كتاب عليّ إمام البررة ١ / ٢٩٢ ـ ٣١٨ ط دار الهادي.

(٢) كنز العمال ١٥ / ١٠١ ط الثانية حيدر آباد.

٤٠٩

لهم : (يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به (لن تضلوا) بعده أبداً) ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (هذا عليّ فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي ، فان جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم من الله عزوجل) » (١).

ثالثاً : ما روته أم سلمة قالت : « خرج رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إلى صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته فقال : (ألا لا يحلّ هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلّا لرسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، ألا قد بيّنت لكم الأسماء أن لا تضلوا) » (٢).

رابعاً : ما رواه زيد بن أرقم قال : « كنا جلوساً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (ألا أدلكم على من لو أسترشدتموه (لن تضلوا) ولن تهلكوا) ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : (هو هذا وأشار إلى عليّ بن أبي طالب) ثمّ قال : (وآخوه ووازروه وصدّقوه وانصحوه فإنّ جبرئيل أخبرني بما قلت لكم) » (٣).

خامساً : وثمة حديث ـ رواه ابن حجر في الصواعق (٤) ـ جاء فيه التصريح باسم عليّ عقب ذكر حديث الثقلين فاقرأ ذلك : « إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ في مرض موته ـ (أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول

_______________________

(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية ١ / ٦٣ وقال رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن عائشة ، نحوه في السؤدد مختصراً ، والطبراني في معجمه الكبير ٣ / ٨٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٣١ ، والمحب الطبراني في الرياض النضرة ٢ / ١٧٧ ، وفي الذخائر / ٧٠ ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه ، كنز العمال ٢ / ٢١٦ و ٥ / ١٢٦ ، وغيرهم وكلهم عن عائشة.

(٢) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٦٥ ، والسيوطي في اللئالي المصنوعة ١ / ١٨٣ ط مصر الاُولى نقلاً عن سنن البيهقي ـ وعلى القارئ المقارنة ليجد كيف تلاعبت الأهواء بالسيوطي فحرّف وغيّر.

(٣) أخرجه ابن المغازلي المالكي في المناقب / ٢٤٥.

(٤) الصواعق المحرقة / ٧٥ ط الميمنية ١٣١٢.

٤١٠

معذرة إليكم ، ألا وإني مخلّف فيكم كتاب ربي عزوجل وعترتي أهل بيتي ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها فقال : هذا عليّ مع القرآن ، والقرآن مع عليّ ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض ، فاسألوهما ما خلّفت فيهما) ».

سادساً : ما رواه ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لن تضلوا ولن تهلكوا وأنتم في موالاة عليّ ، وإن خالفتموه فقد ضلّت بكم الطرق والأهواء في الغيّ فاتقوا الله ، فإنّ ذمة الله عليّ بن أبي طالب) » (١).

وأحسب انّ هذا هو تتمة ما مرّ قبله ، ومهما يكن فهذه جملة أحاديث وردت فيها صيغة (لن تضلوا) (أن لا تضلوا) وكلها في أهل البيت عليهم‌السلام منها ما يخصّ عليّاً بمفرده ، ومنها ما يعمّه وبقية أهل بيته ، فهل من المعقول والمقبول دعوى انّ عمر لم يسمعها ؟ ليس من الممكن أن لا يكون عمر سمعها من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ممّن سمعها منه كلّها أو بعضها ، وحيث لم يرد في مورد جملة (لن تضلوا) إلّا وهي توحي بذكر عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام ، فلذلك لمّا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا) ، أستشعر عمر من ذلك ما هو إلّا التصريح باسم عليّ في ذلك الكتاب ، فتلك حجة مكتوبة ليس من السهل عليه ولا على غيره إنكارها. وذلك هو ما اعترف به لابن عباس بعد ذلك ، فلم يجد سلاحاً أقوى عنده يشهره في وجه الشرعية في ذلك الوقت غير كلمة « انّ النبيّ ليهجر » وبذلك نسفٌ للمحاولة الفعلية ولجميع المحاولات اللاحقة الّتي ربّما يفاجأ بها. وهذا معنى كلماته الّتي مرّت على القارئ في تعترافاته الخطيرة ، فراجع.

_______________________

(١) أنظر ينابيع المودة للقندوزي ٢ / ٢٨٠.

٤١١

فنسبة الهجر إلى النبيّ المعصوم إقدامٌ جريء ، مع إساءة أدب مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومساس بشخصه الكريم ، وأجرأ من ذلك دعواه في كلمته الأخرى « وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله » ، ولنستذكر ما مرّ من أقوال علماء التبرير الّذين رأوا في هذه الكلمة دليلاً على فقاهة عمر بل وأفقهيته على ابن عباس ، حيث اكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به (؟!) وهذا ما مرّ عن ابن بطال والنووي وغيرهما فراجع. فقد بيّنا هناك من هو الأفقه منهما بحجج لا يقوى زوامل الأسفار على حملها فضلاً عن ردّها.

والآن فلنعد إلى تفسير كلمته « حسبنا كتاب الله » وما تعنيه من دلالة ظاهرة وما تخفي من معنى أشتملت عليه ، وماذا أراد عمر بقوله : « وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله » :

ماذا أراد عمر بقوله : « حسبنا كتاب الله » ؟

ليس في قوله : « حسبنا » أيّ غموض لغوي ، ولا أشتراك لفظي ، ومعناه كفانا ، و (حَسبَ) اسم معنى لا اسم فعل ، بدليل زيادة الباء عليه في قولهم بحسبك درهم ، وهكذا قول الداعي حسبي الله ، أي كفاني دون غيره ، كما يصح أن يقول (بحسبي) أي كفاني ، هذا من ناحية المعنى في اللغة العربية. إذن ماذا أراد عمر غير ذلك ؟ وهل وراء ذلك مراد لعمر ؟ نعم إنّه الكناية عن الاستغناء بالقرآن دون عديله ، وما عسى ذلك الرفض إلّا لمن عيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الثقلين ، وهم العترة ، الّذين هم الثقل الأصغر ، وهو الآخر الّذي يأباه عمر فاستبعده جاهداً ، وفرض الاستغناء بالقرآن وحده فقال : « وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ». وذلك ما دلّ عليه معنى (حسبنا) أي كفانا ، وإن قيل ما الدليل على انّ ذلك مراد عمر ؟

٤١٢

فإنّا نقول : دليلنا على ذلك اعترافاته السابقة بأنّه فهم ذلك فقال : « حسبنا... الخ ».

ولولا أن يكون ذلك مراد عمر لما كان معنى لقوله : « حسبنا كتاب الله » ولا معنى لقوله : « وعندكم القرآن » ، واحتمال أنّه أراد الاستغناء بالقرآن وحده لأنّه فيه تبيان كلّ شيء ، لقوله تعالى : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) كما قاله علماء التبرير فليس ذلك بصحيح ولا يمكن أن يُصحَح له ، لأن القرآن وحده لا يغني ما لم يكن معه مَن يعلم تأويله قال تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٢) ، والله سبحانه يقول : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٣) ، وقد ورد عن الإمام عليّ عليه‌السلام قوله في تفسير هذه الآية فقال : (نحن أهل الذكر) ولا شك أنّ عليّاً عليه‌السلام كان منهم بل ومن أفاضلهم ، كيف لا وهو الّذي دعا له الرسول بأن يكون الأذن الواعية ، وفيه نزل قوله تعالى : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (٤) ، وهذا هو الّذي أدركه عمر وفهمه ، لذلك استبعد الضميمة عن القرآن ، فرفضها ومنع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة الكتاب الّذي لن تضل أمته من بعده ما إن تمسكوا به.

وفي حديث الثقلين دلالة واضحة أنّ التمسك بهما معاً ـ القرآن والعترة ـ هو السبيل العاصم من الضلالة. وليس التمسك بأحدهما دون الآخر بعاصم وحده.

_______________________

(١) الأنعام / ٣٨.

(٢) آل عمران / ٧.

(٣) النحل / ٤٣.

(٤) شواهد التنزيل للحسكاني ٢ / ٢٧٢ ، وحلية الأولياء ١ / ٦٧ ، وفرائد السمطين للحمويني ، وكنز العمال ١٥ / ١٥٧ ط الثانية ، ومناقب ابن المغازلي الحديث / ٣٦٦ ، وسمط النجوم العوالي ٢ / ٥٠٤ ، وتفسير الطبري ٢٩ / ٥٥ ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي في تفسير الآية نقلاً عن ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

٤١٣

ونحن إذا استذكرنا ما مرّ آنفاً من انّ عمر كان جاداً في دفع عليّ عما أراده الله تعالى له على لسان نبيّه ، ولمّا كان عليّ عليه‌السلام هو واحد من العترة بل هو سيدهم ، أدركنا المعنى الحقيقي لكلمة عمر : « حسبنا كتاب الله » وهي تعني التفكيك بين القرآن والعترة عند التمسك بهما. والرد الحاسم على استبعاد العترة من أهلية التمسك بها ، لذلك ارتكب ما ارتكب ممّا لا يجوز لمثله أن يفعله ، وقال ما قال ممّا ليس من حقّه أن يقوله. ولكنه اليقظ الحذر والمتمرّس على الخلاف على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشواهد ذلك يكفي منها يوم صلح الحديبية ، ويوم الصلاة على ابن أبيّ. وغير ذلك.

فأي مانع له الآن أن يعلن الخلاف ، ويقول ما لا يحل له ولأي مسلم أن يقوله فينسب الهجر إلى النبيّ المعصوم. ما دام هو بذلك يرفض قرناء الكتاب ، وكان من الطبيعي لمثله ، وهو يريد ذلك أن يقول للحاضرين : « وعندكم القرآن » ـ يعني لا حاجة لنا بالعترة الّتي يدعونا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى التمسك بالكتاب وبها كما في حديث الثقلين ـ.

ولندع هذا الجانب التفسيري لكلمته ، ولنعد إلى الجانب اللفظي لها. ولنستغفل عقولنا ثانية ، وكأننا نبحث عن حاقّ المعنى لقوله. فماذا كان يعني بكلمته : « حسبنا كتاب الله » ؟ أو ليس معنى ذلك هو رفض السنّة ؟ الّتي هي تلو الكتاب ؟ أفهل كان يرى حقاً عدم حجية السنّة ؟

نعم كان وكان ، ولسنا نحمّله إلّا تبعة أفعاله ، لأنّه ممّن أمر في أيامه بتحريقها ومحوها (١). وما دام ليس من حقنا أن نحمّله خشية الإتهام بأنا لسنا معه

_______________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ٥ و ١٤ / ١٠٨ ، وشواهد التنزيل ١ / ٣٣٤ ـ ٣٣٧.

٤١٤

على رأي فلنترك الحديث لأئمّة عمريّين لا يشك في ولائهم لعمر ، مثل الإمام الشافعي وابن حزم ، والبيهقي ، والسيوطي.

فلنقرأ ما يقول كلّ واحد في عدم الإستغناء بالكتاب وحده ولابدّ من السنّة معه ، وهم غير متهمين فيما يقولونه في إدانة من قال بالإستغناء بالكتاب وحده حتى ولو كان عمر :

١ ـ ماذا قال الشافعي ؟

قال الإمام الشافعي في الرسالة ونقله عنه البيهقي في المدخل (١) : « قد وضع الله رسوله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من دينه وفرضه وكتابه الموضع الّذي أبان جلّ ثناؤه أنّه جعله علماً لدينه بما أفترض من طاعته ، وحرّم من معصيته وأبان من فضيلته ، بما قرن بين الإيمان به مع الإيمان به فقال تبارك وتعالى : ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (٢) وقال : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (٣) فجعل كمال ابتداء الإيمان الّذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثمّ برسوله معه.

قال الشافعي : وفرض الله على الناس إتباع وحيه وسنن رسوله فقال في كتابه : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (٤).

_______________________

(١) نقل كلامه بنصه السيوطي في رسالته مفتاح الجنة في الأحتجاج بالسنّة / ٣ ـ ٤ ضمن مجموعة الرسائل المنيرية أواخر المجلد الثاني.

(٢) الأعراف / ١٥٨.

(٣) النور / ٦٢.

(٤) آل عمران / ١٦٤.

٤١٥

قال الشافعي : فذكر الله الكتاب والقرآن ، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنّة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم. وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) (١) ـ ثمّ ساق الكلام إلى أن قال : فأعلمهم أنّ طاعة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم طاعته فقال : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٢).

واحتج أيضاً في فرض اتباع أمره بقوله : ( لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٣) وقوله : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٤) وغيرها من الآيات الّتي دلت على اتباع أمره ولزوم طاعته فلا يسع أحد رد أمره لفرض الله طاعة نبيه ».

٢ ـ ماذا قال ابن حزم ؟

قال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام : « لاتعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نقل من أفعاله فقال سبحانه خبراً عن رسوله : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٥) ، وقوله تعالى :

_______________________

(١) النساء / ٥٩.

(٢) النساء / ٦٥.

(٣) النور / ٦٣.

(٤) الحشر / ٧.

(٥) النجم / ٣ ـ ٤.

٤١٦

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) ، وقوله : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (٢). فأخبر عزوجل انّ كلام نبيّه وحي من عنده كالقرآن في أنّه وحي ... اه‍ » (٣).

٣ ـ ماذا قال البيهقي ؟

وقال البيهقي بعد احكامه هذا الفصل : « ولولا ثبوت الحجة بالسنّة لما قال صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب فربّ حامل مبلّغ أوعى من سامع) ثمّ أورد حديث : (نضّر الله امرؤاً سمع منا حديثاً فأدّاه كما سمعه ، فربّ مبلّغ أوعى من سامع) ». وهذا الحديث متواتر كما سأبينه.

قال الشافعي : « فلمّا ندب رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها ، دلّ على أنّه لا يأمر أن يؤدّى عنه إلّا ما تقوم به الحجة على من أدي إليه ، لأنّه إنّما يؤديَ عنه حلال يؤتى ، وحرام يجتنب ، وحدّ يقام ، ومال يؤخذ ويعطى ، ونصيحة في دين ودنيا ».

ثمّ أورد البيهقي من حديث أبي رافع قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتي الأمر من أمري ممّا أمرتُ به أو نَهيتُ عنه فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) » (٤).

_______________________

(١) الأحزاب / ٢١.

(٢) النساء / ٨٢.

(٣) الإحكام في اُصول الأحكام ١ / ١٧٤.

(٤) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، والبيهقي في دلائل النبوة ، وإسناده صحيح ، وقال الترمذي حسن صحيح ، مشكاة المصابيح ١ / ٥٧.

٤١٧

وأخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبى فضالة المكي : « انّ عمران بن حصين رضي‌الله‌عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم : يا أبا نجيد إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن ؟ فغضب عمران وقال لرجل قرأت القرآن ؟ قال : نعم ، فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً ووجدت المغرب ثلاثاً ، والغداة ركعتين ، والظهر أربعاً ، والعصر أربعاً ؟ قال : لا ، قال : فعن من أخذتم ذلك ؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أوجدتم فيه من كلّ أربعين شاة شاة ، وفى كلّ كذا بعير كذا ، وفي كلّ كذا درهماً كذا ؟ قال : لا ، قال فعن من أخذتم ذلك ؟ ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم.

وقال : أوجدتم في القرأن : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (١) ، أو وجدتم فيه فطوفوا سبعاً ، واركعوا خلف المقام ؟ أو وجدتم في القرآن : لاجلب ولاجنب ولا شغار في الإسلام ؟

أما سمعتم الله يقول في كتابه : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٢) ؟

قال عمران : فقد أخذنا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أشياء ليس لكم بها علم » (٣).

وأخرج البيهقي والحاكم عن الحسن قال : « بينما عمران بن الحصين يحدث عن سنّة رسول الله إذ قال له رجل يا أبا نجيد حدّثنا بالقرآن ، فقال له

_______________________

(١) الحج / ٢٩.

(٢) الحشر / ٧.

(٣) مفتاح الجنّة في الإحتجاج بالسنّّة للسيوطي / ٥ ضمن مجموعة الرسائل المنيريه المجلد الثاني.

٤١٨

عمران أنت وأصحابك تقرؤن القرأن !؟ اكنت تحدّثني عن الصلاة وما فيها وحدودها ؟

أكنت تحدّثني عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال ؟ ولكن قد شهدتُ وغبتَ أنتَ ، ثمّ قال : فرضَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الزكاة كذا وكذا ، فقال الرجل : أحييني أحياك الله.

قال الحسن فما ماتَ ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين » (١).

٤ ـ ماذا قال السيوطي ؟

قال في ديباجة كتابه : « اعلموا يرحمكم الله انّ من العلم كهيئة الدواء ، ومن الآراء كهيئة الخلاء ، لاتذكر إلّا عند داعية الضرورة ، وان ممّا فاح ريحه في هذا الزمان. وكان دارساً بحمد الله تعالى منذ أزمان ، وهو انّ قائلاً رافضياً (؟) زنديقاً أكثر في كلامه : انّ السنّة النبوية والأحاديث المروية ـ زادها الله علواً وشرفاً ـ لايحتج بها ، وأنّ الحجة في القرآن خاصة ، وأورد على ذلك حديث : ماجاءكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن ، فإن وجدتم له أصلاً فخذوا به وإلّا فردّوه. هكذا سمعت هذا الكلام بجملة منه وسمعه منه خلائق غيري ... فاعلموا رحمكم الله من أنكر كون حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حجة ، كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة ...

وأصل هذا الرأي الفاسد أنّ الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنّة والاقتصار على القرآن ... » (٢) إلى آخر كلامه.

_______________________

(١) مفتاح الجنة في الإحتجاج بالسنّّة للسيوطي / ٢٣ ضمن مجموعة الرسائل المنيريه المجلد الثاني.

(٢) نفس المصدر / ٢.

٤١٩

ونحن لانريد مناقشته في حكمه الكلي على الكبرى فهو عين الصواب ، ولكن هلّم الخطب في تطبيق الحكم على الصغرى في المقام.

ويجب أن لايُستغفَل القارئ بما قاله السيوطي الّذي شنّها حرباً شعواء على ذلك الرافضي المجهول الهوية. كما يجب أن لانظلمه مادامت حجته صحيحة كما حكاها عنه السيوطي نفسه.

فإنّ الّذي زعمه السيوطي في حكاية قوله : « هو إهمال السنّة بالمرة فلا يحتج بها ». بينما الّذي حكاه من فحوى دليله هو وجوب عرض السنّة على الكتاب ، والأخذ بها ما دامت غير مخالفة له. وأين هذا من عدم حجيتها والاكتفاء بالقرآن ؟.

وإذا صحّ ماذكره السيوطي عنه من الدليل يكون الرافضي المجهول الهوية على حق في كلامه ، لأنّ الحديث الّذي يخالف القرآن زخرف وباطل ويضرب به عرض الجدار. وهذا هو المنطق الصحيح والسليم الّذي يقطع جهيزة كلّ الوضاعين والمدلّسين الّذين كذبوا في الحديث ونسبوه زوراً إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو منه ومنهم بريء.

وأين هذا ماشهّر به السيوطي بقوله : « إنكار الاحتجاج بالسنّة والاقتصار على القرآن ... » ؟ وهل من الإنصاف أن يرمي بالزندقة لأنّه يقول إنّ السنّة ليست ناسخة للقرآن ولا قاضية عليه ، ولأنّ السنّة الصحيحة هي الّتي لاتخالف القرآن !

ثمّ ما رأي السيوطي في قول عمر : « حسبنا كتاب الله وعندكم القرآن » أليس ذلك نبذه للسنّة نبذ الحصاة وراء ظهره ؟

٤٢٠