موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وعمر يقول أيضاً لابن عباس في كلام بينهما في شأن عليّ : « إن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أراد ذلك وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله ؟! أو كلّ ما أراد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كان » (١).

وعلماء التبرير يقولون : ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنّه توهم الغلط على رسول الله ... كما قال ذلك الخطابي وأضرابه.

وعمر يقول ثالثة لابن عباس : « لقد كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذرواً من قول ، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً » (٢).

وعلماء التبرير يقولون : كان ذلك من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره ، كما مرّ عن النووي.

ورابعة عمر يقول لابن عباس في كلام في شأن عليّ أيضاً : « أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر » (٣).

وعلماء التبرير يقولون : ومهما كانت كلمته فلا يظن به ذلك. كما مرّ عن ابن الأثير.

وعمر يقول خامسة لابن عباس في كلام في شأن عليّ أيضاً : « أوّل من راثكم عن هذا الأمر أبو بكر ، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة » (٤).

وعلماء التبرير يقولون : فإن عمر أشتبه عليه هل كان قول النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من شدة المرض فشك في ذلك فقال : (ما له أهجر ؟) ، كما مرّ عن ابن تيمية.

_______________________

(١) نفس المصدر ٣ / ١١٤ ط الأولى.

(٢) نفس المصدر ٣ / ٩٧ ط الأولى.

(٣) أنظر محاضرات الراغب ٢ / ٢١٣ ط مصر الأولى.

(٤) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٤٩٧.

٣٨١

وبالتالي يقولون : وإنمّا قصده التخفيف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كما مرّ عن البيهقي.

ويقولون : كان ما أختاره عمر صواباً ، كما مرّ عن العيني.

وهكذا ظهرت كوامن نفوسهم على ألسنتهم فخطوها بأقلامهم ، وبانت عمريّتهم أكثر من عمر. إنّ ذلك لعجيب. وأعجب من ذلك كلّه ما سال به قلم العقاد في عبقرياته من مكابراته ولابدّ من المرور به ولنقرأ ما يقول ، فإنّه جاوز القوم في عمريته وأتى بالعجاب في عبقريته.

مع العقّاد ونظراته

قال في عبقرية محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« يكفي أن نستحضر اليوم ما قيل عن الخلافة بعد النبيّ عليه‌السلام ، لنعلم مبلغ ذلك الذكاء العجيب في مقتبل الشباب ، ونُكبر ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب ، ونلتمس لها العذر الّذي يجمل بامرأة أحبّها محمّد ذلك الحب وأعزها ذلك الإعزاز.

فقد قيل في الخلافة بعد النبيّ كثير : قيل : فيها ما يخطر على بال الأكثرين ، وما يخطر على بال الأقلين ، وما ليس يخطر على بال أحد إلّا أن يجمَحَ به التعنّت والاعتساف أغرب جماح. قيل : أنّ وصول الخلافة إلى أبي بكر إنّما كان مؤامرة بين عائشة وأبيها ؟

وقيل : انّه كان مؤامرة بين رجال ثلاثة أعانتهم عائشة على ما تآمروا فيه ، بما كان لهما من الحظوة عند رسول الله ، وكان هؤلاء الرجال على زعم أولئك القائلين : أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح ، وهم الّذين أسرعوا ـ من

٣٨٢

المهاجرين ـ إلى سقيفة بني ساعدة ليدركوا الأنصار قبل أن يتفقوا على اختيار أمير أو خليفة لرسول الله.

وقيل : انّ هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على تعاقب الحكم واحداً بعد واحد : أبو بكر فعمر فأبو عبيدة. ولهذا قال عمر حين حضرته الوفاة : لو كان أبو عبيدة حياً لعهدت إليه لأنّه أمين هذه الأمة. كما قال فيه رسول الله ؟ وهذا زعم روّجه بعض المستشرقين ولقي بين القراء الأوربيين كثيراً من القبول ، لأنّه شبيه بما عهدوه في أمثال هذه المواقف من أحاديث التدبير والتمهيد وروايات التواطؤ والإئتمار » (١).

وقال في عبقرية عمر :

« ونفس عمر بن الخطاب هي تلك النفس الّتي تدعم علم الأخلاق من الأساس ، وهي ذلك الصرح الشامخ الّذي ننظر إلى أساسه فكأننا تسلقنا النظر إلى ذروته العليا ، لأنّه قرّب بين الآمال والقواعد أوجز تقريب ، إذ هو التقريب الملموس » (٢).

وقال بعد ذكره ما صدر من عمر في صلح الحديبية : « هذه المراجعة كانت من خلائق عمر الّتي لا يحيد عنها ولا يأباها النبيّ عليه‌السلام (؟) وكثيراً ما جاراه وأستحب ما أشار به وعارض فيه (؟).

فلا جرم يراجع النبيّ في كلّ عمل أو رأي لم يفهم مأتاه ومرماه ما أمكنته المراجعة وما قلقت خواطره حتى تثوب إلى قرار. اللّهم إلّا أن تستعصي المراجعة ويعظم الخطر ، فهناك تأتي الخليقة العمرية بآية الآيات من الاستقلال

_______________________

(١) موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية (العبقريات الإسلامية) / ١٨٠.

(٢) نفس المصدر / ٤٣٨.

٣٨٣

والحب والحزم الّذي يضطلع بجلائل المهمات. فلمّا دخل النبيّ عليه‌السلام في غمرة الموت ودعا بطرس يملي على المسلمين كتاباً يسترشدون به بعده ، أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير (؟) وقال : انّ النبيّ غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ، ومال النبيّ إلى رأيه (؟) فلم يَعد إلى طلب الطرس وإملاء الكتاب ، ولو قد علم النبيّ أنّ الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذٍ أوّل المجيبين » (١).

وقال في عبقرية الإمام عليّ عليه‌السلام :

« وربما كانت أصح العلاقات المعقولة لأنها وحدها العلاقة الممكنة المأمونة ، وكلّ ما عداها فهو بعيد من الأمكان بُعده من الأمان.

فهو يحبّه ويمهّد له وينظر إلى غده ، ويسرّه أن يحبّه الناس كما أحبّه ، وأن يحين الحين الّذي يكلون فيه أمورهم إليه ..

وكلّ ما عدا ذلك ، فليس بالممكن وليس بالمعقول ..

ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة.

وليس بالممكن أن يحبهما له ، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة ..

وإذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه ، فليس بالممكن أن يرى ذلك ثمّ لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع.

وإذا كان قد جهر به ، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره إنّهم لا يريدون ذلك مخلصين ، وإنّهم إن أرادوه لا يستطيعونه بين جماعة المسلمين ، وإنّهم إن استطاعوه لا يخفى شأنه ببرهان مبين ، ولو بعد حين..

_______________________

(١) نفس المصدر / ٤٤٤.

٣٨٤

فكلّ أولئك ليس بالممكن وليس بالمعقول ..

وإنّما الممكن والمعقول هو الّذي كان ، وهو الحب والإيثار ، والتمهيد لأوانه ، حتى يقبله المسلمون ويتهيأ له الزمان » (١).

هذا ما تفتقت عنه عبقرية العقاد ، ولا نطيل عند أقواله. ولكن لنا أن نسأل منه. ونحن أيضاً نكبر فيه ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب. حين حاول جاهداً دفع معرّة النشاط المحموم الّذي كان من عائشة في تهيئة الأجواء لأبيها وصاحبيه ، فدفع ذلك بالصدر دون حجة ، بينما هي الّتي تقول كما رواه مسلم في الصحيح واحتج به ابن تيمية ـ كما مرّ ـ وقد سئلت عمن كان يستخلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو استخلف فسمت أباها ثمّ عمر ثمّ أبا عبيدة بن الجراح ثمّ انتهت إلى هذا. فلماذا جعل هذا زعماً روّجه بعض المستشرقين ؟

وأين هم من عائشة ومعنى ما رواه مسلم عنها ، ومن أين لها علم ذلك إن لم يكن ثمة تدبير وتمهيد ، وتواطؤ وائتمار :

ثمّ الّذي قاله في عبقرية عمر من أنّ نفس عمر هي تلك النفس الّتي تدعم الأخلاق من الأساس وهي ذلك الصرح الشامخ ... كيف يتم له صدق ذلك وهو الّذي يقول بعد هذا ـ في مراجعة عمر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلح الحديبية ـ : « انّها كانت من خلائق عمر الّتي لا محيد عنها ولا يأباها النبيّ ؟ وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه (؟) ».

أليس هذا من زخرف القول ؟ فهذه كتب السيرة والتاريخ تذكر انّ عمر كان فظاً غليظاً ولا يهمنا ذلك بمقدار ما يهمنا تنبيه القارئ إلى انّ هذه نفس عمر الّتي كانت تدعم علم الأخلاق من الأساس كما يقول العقاد.

_______________________

(١) نفس المصدر / ٧٩٥.

٣٨٥

ثمّ ليت العقاد تروّى قليلاً ولم يرسل القول على عواهنه ، وراجع الكلمة قبل أن يكتبها.

فقوله : « وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه » ؟ لماذا لم يوثق دعواه بشاهد صدق واحد من ذلك الكثير الّذي زعمه. وأين كان ذلك المستحب من مشورته الّذي جاراه فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما أدري هل أنّ ما كان من إعراض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبي بكر وعن عمر حين شاور الناس في يوم بدر فتكلما فأعرض عنهما ، كان ذلك من شواهد الكثير الّذي زعمه (١) ؟

وما أدري لماذا تغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال أبو بكر وحين قال في أناس من قريش : « إنهم جيرانك وحلفاؤك... الخ » (٢) فهل هذا من شواهد ذلك الكثير الّذي زعمه !

وما أدري لماذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الّذي مرّ : (يا معشر قريش والله ليبعثنّ الله عليكم رجلاً منكم أمتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم على الدين أو يضرب بعضكم) ، فقال أبو بكر : « أنا هو يا رسول الله ؟ » قال : (لا) ، قال عمر : « أنا هو يا رسول الله ؟ » قال : (لا ، ولكن ذلك الّذي يخصف النعل) ـ وكان أعطى عليّاً عليه‌السلام نعلاً يخصفها (٣). وهل هذا من شواهد ذلك الكثير الّذي زعمه ، ثمّ إنّ قوله أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير وقال إنّ النبيّ غلبه الوجع ... الخ.

_______________________

(١) أنظر مسند أحمد ٣ / ٢١٩ و ٢٥٧.

(٢) نفس المصدر ١ / ١٥٥.

(٣) أنظر الخصائص للنسائي / ١١.

٣٨٦

كيف يكون قد أشفق من المراجعة ، وهو الّذي صدّه عن الكتابة وشاق الكلمة وشطر الحاضرين إلى فريقين فريق معه وفريق عليه ، حتى وقع النزاع والخصومة فطردهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : (قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع) ؟ فهل هذا كان من الإشفاق ؟ أو هو من تعلان الشقاق ؟

ثمّ يقول العقاد من دون استحياء : « ولو قد علم النبيّ انّ الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذٍ أوّل المجيبين » ؟

يا لله أهكذا تقلب الحقائق ويتلاعب بالعقول ؟

أمّا ما قاله في عبقرية الإمام فقد أتى فيه بالمغالطة الفاضحة حيث أنكر النص وتنكّر لجميع ما قاله النبيّ في حقّ الإمام عليّ عليه‌السلام ، مصحراً وجهراً بالقولُ ، بدءاً من يوم حديث الإنذار : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (١) ومروراً بيومي المؤاخاة ويوم المناجاة بالطائف وأيام براءة وحجة الوداع والغدير كلّ ذلك لم ير العقاد فيها نصاً بل هو إلماح وتأهيل للمستقبل وأقصى ما تدل على الحب والإيثار والتمهيد لأوانه (!) وخل عنك كلّ ذلك ولكن هلمّ فاسأل العقاد عن حديث الكتف والدواة فيم كان التنازع بين الصحابة فمنهم من قال القول ما قال النبيّ ، ومنهم من قال القول ما قال عمر ؟

سؤال وجواب :

ولابدّ لنا الآن من العودة إلى حديث الرزية وطرح الأسئلة التالية ، لنتعرف من أجوبتها على مدى صدق العقاد في مقاله بأن ذلك تأهيل وتلميح وليس هو نص صريح :

_______________________

(١) الشعراء / ٢١٤.

٣٨٧

١ ـ ماذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب في ذلك الكتاب ؟

٢ ـ ومن أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب باسمه ذلك الكتاب ؟

٣ ـ ولماذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب له ذلك الكتاب ؟

٤ ـ ولماذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً دون غيره أن يكتب له ذلك الكتاب ؟

أربعة أسئلة قد تبدو متشابهة ، وليست كذلك بل هي متشابكة ، يأخذ تاليها برقبة أولها والجواب عن أولها يقضي بالجواب عن ثانيها وهكذا. للتداخل فيما بينها ، وأخيراً سنعرف من الجواب عليها الجواب على ما قاله العقاد الّذي حاول تعقيد الواقع الّذي حدث بإنكاره جملة وتفصيلا فجاوز بعبقريته ما قاله علماء التبرير ، وزاد عليهم.

والآن إلى الأجوبة عن تلك الأسئلة :

أوّلاً ـ ماذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب في ذلك الكتاب ؟

لا يخفى على كلّ انسان يمتلك قدرة البحث والوعي ويتحلى بالنزاهة أن يدرك قصد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمره باحضار الدواة والكتف ، فهو حين يرجع إلى جوّ الحديث ـ حديث الكتف والدواة ـ زماناً ومكاناً وملاحظة سائر الحيثيات الّتي أحاطت ذلك الجوّ المكفهرّ بوجوه الصحابة ، تزول عنه أغشية التضليل الّتي نسجها علماء التبرير. ويزداد إيماناً واطمئناناً بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد أن يكتب للصحابة حكماً لم يبلّغه كما أحتمله أو طرحه بصورة الأحتمال بعض علماء التبرير.

٣٨٨

لأنّ احتمال ذلك موهون ومردود بقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) والآية تقطع جهيزة كلّ متنطع.

ولو تنزلنا جدلاً وقلنا بذلك ، فهو أيضاً غير مقبول ولا معقول :

أوّلاً : لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا بدواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده. وكتابة الحكم الواحد أو المهم كما زعمه بعض علماء التبرير ، لا تفي بالغرض ولا تأتي بالنتيجة المرجوة ، وكتابة جميع الأحكام تحتاج إلى عدة أكتاف إذ لا يحويها الكتف الواحد ، ولا أقل على مثل كتاب الله تعالى في تعدد الأكتاف لأن الأحكام وما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تساوي الكتاب ان لم تزد حجماً عليه.

ثانياً : لم يعهد منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يكتب لهم الأحكام الشرعية أو يأمر بكتبها ، وإنّما كان يبلغهم ذلك شفاهاً ، نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي ، وخذوا عني مناسككم ونحو ذلك ممّا عرّفهم من الأحكام من طرق قوله وعمله وتقريره. ولم يعهد أن كتب لهم حكماً واحداً. نعم قد يوجد في بعض كتبه وعهوده ومراسلاته إلى الملوك ورؤساء القبائل ممّا ينبغي التعرض له فهو حين يدعوهم إلى الإسلام فلهم كذا وكذا ، وإن أبوا فالجزية عن يدوهم صاغرون ، وكلّ ما كان كذلك فهو لمن بُعد عنه ، ولم يكن لمن معه في المدينة ، ولم يذكر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب لأهل المدينة مثلاً والذين هم معه حكماً واحداً.

ثالثاً : لو تجاوزنا ما تقدم فالّذي سيكتبه من الأحكام ليس بعاصم لجميع الأمة إنّما يعصم من ابتلي بالحكم فقط ولا يعصم غيره ما دام باب الاجتهاد والتأويل قد فتحه علماء التبرير على مصراعيه ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد ضمان السلامة لجميع أمته من الضلالة.

_______________________

(١) المائدة / ٣.

٣٨٩

إذن فاحتمال كتابة حكم أو مهمات الأحكام مستبعد من ساحة الجدل.

ويبقى السؤال الّذي فرض نفسه ، ماذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب في ذلك الكتاب ؟

ولابدّ في الجواب الصحيح هو الاحتمال الآخر وقد طرحه علماء التبرير ، وقال غيرهم بتعيّنه وهو كتابته بتعيين ولي الأمر من بعده. ليتولى تسيير الأمة وفق مصالحها المشروعة ، وإذا تعيّن ذلك لهم فهو الّذي يحل مشاكلها من بعده ، وبالتالي هو الّذي يعصمها من الوقوع في هوة الضلالة.

إذن مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كتابة اسم من يخلفه في قيادة الأمة ويكون على رأس النظام الحاكم ، فيتولى قيادة الأمة إلى شاطيء النجاة بما يصلح أمورها في الدين والدنيا.

قال الشيخ محمّد الغزالي في كتابه فقه السيرة : « وكان النبيّ نفسه قد همّ بكتابة عهد يمنع شغب الطامعين في الحكم ، ثمّ بدا له فاختار أن يدع المسلمين وشأنهم ينتخبون لقيادتهم من يحبون ... ا ه‍ » (١).

ولقد كان في أوّل كلامه مصيباً ولكنه أخطأ في آخره ويعرف جوابه ممّا سأتي.

ثانياً ـ من ذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب أسمه في ذلك الكتاب ؟

والجواب على هذا يختلف عليه المسلمون. ومن الطبيعي أن يكون كذلك ، تبعاً لأختلاف الواقع عن الشرعية ، فأهل السنّة لهم جواب لتبرير الواقع ، والشيعة لهم جواب آخر بحسب الشرعية وإرادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

_______________________

(١) فقه السيرة / ٣٥٣.

٣٩٠

١ ـ أمّا أهل السنّة فقد قالوا إلّا من شذ منهم : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب كتاباً لأبي بكر ثمّ أعرض عنه بمحض أختياره ، وقال : يأبى الله ذلك والمؤمنون إلّا أبا بكر ، مستندين إلى روايات تنتهي كلّها إلى عائشة ، وأخرجها البخاري ومسلم. وقد مرّت الإشارة إليها والردّ عليها في جملة مناقشة أقوال علماء التبرير. فلا حاجة إلى اعادتها.

٢ ـ وأمّا الشيعة فقد قالوا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب الكتاب باسم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ويعطيه حجة تحريرية بخلافته من بعده ، لكنه صُدّ عن ذلك باعتراض عمر ومن تابعه ، فترك ذلك بعد انتفاء الغرض المطلوب من الكتاب لطعن عمر في الكاتب فضلاً عن الكتاب. ولهم حججهم على ذلك.

والباحث المتجرد عن الهوى والتعصب يدرك أنّ الحقّ معهم ، ويؤيدهم في ذلك اعترافات خطيرة صدرت عن عمر بعد ذلك اليوم بقرابة عقدين من الزمن.

وقد مرّ في مناقشات علماء التبرير الالماح إليها. وستأتي بأوفى من ذلك عند البحث عن (ماذا قال عمر ؟ وماذا أراد عمر ؟).

والآن لنقرأ شيئاً ممّا ساقه علماء الشيعة في حجتهم على أنّ المراد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو كتابة الكتاب بأسم عليّ. وهو لا يتنافى مع قولهم بالنص عليه قبل ذلك بل هو منه. لأنهم قالوا إنّما أراد التأكيد لما رأى من بوادر الشر المحدق بالأمة ، فلنقرأ ذلك.

٣٩١

ثالثا ًـ لماذا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب له الكتاب ؟

قالوا : إنّ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزل عليه الوحي في حجة الوداع بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١) وكان قد وصل المسلمون معه إلى غدير خم بين مكة والمدينة فأمر بحط أوزار المسير عند الغدير ، وقام في المسلمين في رمضاء الهجر على منبر من حدوج الإبل ليستشرف الناس ، وخطب خطبة طويلة ، أبان لهم فيها انّ الله تعالى أمره بأن ينصب عليّاً إماماً وعلماً لأمته من بعده ، ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها حتى بان بياض أبطيهما وقال : (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ...) إلى آخر الخطبة ثمّ نصب لعليّ خيمة خاصة وأمر المسلمين بالسلام على عليّ بأمرة المؤمنين ، فبايعوه.

وكان ممّن دخل عليه وبايعه الشيخان أبو بكر وعمر وقالا له : بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولانا ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (٢).

وهذا هو النص الّذي كان بعد حجة الوداع وجهر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن الاستاذ العقّاد يأباه ويقول : « فليس من الممكن أن يرى ذلك فلا يجهر به في مرض الوفاة وبعد حجة الوداع ». وما أدري أيّ جهرٍ بالقول أوضح وأفصح من ذلك ؟ وما أدري لماذا لم يقرأ العقاد حديث أم سلمة قالت : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الّذي قبض فيه ـ وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ـ : (أيها الناس

_______________________

(١) المائدة / ٦٧.

(٢) راجع كتاب الغدير للمرحوم الشيخ الأميني الجزء الأوّل ستجد تفصيل ذلك موثقاً بالمصادر المقبولة عند المسلمين من السنّة لأنها من كتبهم.

٣٩٢

يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدمت اليكم القول معذرة إليكم ، إلّا إنّي مخلف فيكم كتاب ربّي عزوجل وعترتي أهل بيتي. ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها فقال : هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فأسألوهما ما خلفت فيهما) » (١).

ولماذا لم يقرأ الأستاذ وأضرابه أسباب النزول في قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (٢) وإن حاول هو أو بعضٌ التشكيك في زمان نزولها في ذلك ، فليقل لنا هو وغيره ما سبب نزول قوله تعالى ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) (٣) أليس كان من أسباب نزولها مجيء بعض الحاقدين الحاسدين لعليّ فقال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة والصوم فقبلناها منك ، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : (من كنت مولاه فهذا مولاه) ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله ؟

قال : (الله الّذي لا اله إلّا هو إنّ هذا من الله) ؟

فولّى وهو يقول : اللّهم ان كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله فأنزل الله تعالى : ( سَأَلَ سَائِلٌ ) » (٤).

_______________________

(١) الصواعق المحرقة / ٧٥ ط اليمنية ، وفي جمع الفوائد للروداني ٢ / ٣٣٢ عن أم سلمة رفعته (عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض) ، وأرجح المطالب للآمر تسري / ٣٤٠ و ٥٩٨ ط لاهور.

(٢) المائدة / ٣.

(٣) المعارج / ١.

(٤) راجع كتاب الغدير للمرحوم الشيخ الأميني الجزء الأوّل ستجد تفصيل ذلك موثقاً بالمصادر المقبولة عند المسلمين من السنّة لأنّها من كتبهم.

٣٩٣

بعث أسامة إجراء وقائي :

ولمّا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حالة المسلمين يومئذ وما أحدق بهم من شر مستطير ، لابدّ له من اتخاذ تدبير وقائي لوحدة الصف ، وما ذلك إلّا إبعاد عناصر الشغب الّذين كان يخشى منهم الجفاء والعِداء لولي الأمر من بعده ، لتخلو المدينة منهم ويصفو الجو لخليفته الّذي أمرته السماء بنصبه يوم الغدير. وقد تبين له ـ والوحي يخبره ويأمره ـ انّ الحاقدين والموتورين ممّن وترهم عليّ في سبيل الدين ـ فقتل آباءهم وأخوانهم وعشيرتهم ـ قد بدت منهم كوامن الشحناء على وجوههم ، وبدأ التآمر والكيد. كلّ ذلك أحسّ به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأى دنوّ أجله ، فلابدّ له من اتخاذ ذلك التدبير الوقائي الّذي لو تمّ ، لتمّ الأمر لولي الأمر دون منازع.

فأمر بتجهيز جيش أسامة إلى بلاد مؤتة ، وفي تأميره شاباً لم يتجاوز العشرين من عمره على قيادة جيش يضم من شيوخ المهاجرين والأنصار أشخاصاً بأعيانهم مؤكداً عليهم الخروج ، ولعن المتخلف منهم ، كلّ ذلك له دلالة واضحة وعملية ، على أنّ الفضل للكفاءة وليس للسنّ مهما كان صاحبه وإنّ هذا الاجراء الاحتياطي الوقائي لو تمّ لكانت الأمة في راحة من عناء الشقاء والشقاق ، والّذي لم تزل ولا تزال تكتوي بناره ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أختار أسامة دون غيره ممّن سبق له أن ولاهم قيادة السرايا في الغزوات ، كان يعطي أمته درساً بليغاً بأنّ الجدارة والاستحقاق إنّما تكونان بقدر الكفاءة لا بقدر السنّ ، ولا شك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرشح في توليته الرجال للمناصب إلّا مستحقي الجدارة ، فمن

٣٩٤

استحق بكفاءته موقعاً في القيادة قدّمه ، وإن كان صغيراً في سنّه ، لأن كبر السن لا يهب الأغبياء عقلاً ، ولا صغر السن ينقص الأكفاء فضلاً.

فما الحداثة عن فضلٍ بمانعة

ولا الكفاءة في سنّ وإن هرموا

قد أرسل الله عيسى وهو ابن ساعته

فلم يحابي شيوخاً ما الّذي نقموا

وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هيأ المسلمين لقبول (قاعدة الكفاءة) في ولاية أمورهم ، ونبّههم عملياً على أن ليست الشهرة أو السن أو غيرها من مقوّمات الشخصية ، كفيلة باستحقاق الإمارة والولاية ، فلذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رداً على من نقم تأمير أسامة عليهم : (وأيم الله إن كان ـ زيد ـ لخليقاً للإمارة ، وانّ ابنه لخليق للإمارة) ، كما سيأتي ذلك عن صحيح البخاري وغيره.

وبهذا التدبير الحازم قطع حجة الزاعمين انّ الأمارة والولاية لمن كان في السنّ متقدماً.

من كان تحت اُمرة أسامة :

قال الرواة : لقد عقد اللواء لأسامة بيده ، وأمّره على جيش عدته ثلاثة آلاف فيهم من قريش سبعمائة إنسان. وقد روى الرواة أسماء بعض الشيوخ الّذين كانوا في ذلك الجيش فكان منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم وأسيد بن حضير وبشير بن سعد ، وهناك آخرون » (١) ولكن كلّ من سمّينا منهم ومن لم نسمّ لم يمتثلوا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل تخلّفوا وطعنوا في تأمير أسامة عليهم.

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ / ٤٦ و ١٣٦ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٩٣ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ١٥٩ ط محققة ، وفتح الباري لابن حجر ٩ / ٢١٨ ـ ٢١٩ ، وكنز العمال ٥ / ٣١٢ ط الأولى ،

٣٩٥

قال ابن أبي الحديد المعتزلي : « فتكلم قوم وقالوا : يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين والأنصار ؟

فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سمع ذلك ، وخرج عاصباً رأسه ، فصعد المنبر وعليه قطيفة فقال : (أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ؟ لئن طعنتم في تأمير أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وايم الله ان كان لخليقاً بالامارة ، وابنه من بعده لخليق بها ...) » (١).

وقال أيضاً : « وثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأشتد ما يجده ، فأرسل بعض نسائه إلى أسامة وبعض من كان معه يعلمونهم ذلك. فدخل أسامة من معسكره... فتطأطأ أسامة عليه فقبّله ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اسكت فهو لا يتكلم ، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثمّ يضعهما على أسامة كالداعي له ، ثمّ أشار إليه بالرجوع إلى عسكره ، والتوجه لما بعثه ، فرجع أسامة إلى عسكره.

ثمّ أرسل نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمرنه بالدخول وقلن : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أصبح بارئاً ، فدخل أسامة من معسكره يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل ، فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفيقاً ، فأمره بالخروج وتعجيل النفوذ ، وقال : (أغد على بركة الله).

_______________________

وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٢ / ٣٩١ ، ومن كتب المتأخرين حياة محمّد لمحمد حسين هيكل / ٤٦٧. والملاحظ في هذه المصادر المذكورة كلّها قد ورد اسم أبي بكر وأسم عمر فيمن سمّاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرجوا تحت قيادة أسامة ، ولم تذكر أنهما سمعا وأطاعا ، بل ذكرت أنهما كانا يخرجان ويعودان بحجة أو بغير حجة ، ويكفي وجودهما عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخميس حين أمر بأحضار الدواة والكتف وهو دليل على أنهما كانا يرقبان حالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويترقبان موته ولديهما خطة يجب أن يقوما بتنفيذها.

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ١٥٩ ط محققة ، صحيح البخاري (كتاب المغازي باب بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد في مرضه).

٣٩٦

وجعل يقول : (أنفذ وأبعث أسامة) ، ويكرر ذلك ، فودّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخرج ومعه أبو بكر وعمر. فلمّا ركب جاءه رسول أم أيمن فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يموت.

فأقبل ومعه أبو بكر وأبو عبيدة ، فانتهوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين زالت الشمس من هذا اليوم وهو يوم الاثنين وقد مات ، واللواء مع بريدة بن الحصيب ، فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مغلق » (١).

هذا ملخص حادث بعث أسامة ورزية من تخلف عنه.

( سؤال بعد سؤال فهل من جواب ؟ )

أوّلاً : لقد مرّ بنا انّ أبا بكر وعمر وابن عوف وسعداً أو سعيداً والزبير وأبو عبيدة كانوا فيمن سمّاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمرهم بالخروج فتخلفوا ، وقد لعن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تخلف عن جيش أسامة (٢) فهل هم ممّن شملتهم لعنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وكيف وهؤلاء ممّن زعم الزاعمون أنهم من المبشرين بالجنة ، فهل يجوز أن يلعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شهد له بالجنة وبشّره بها ؟

ثانياً : لقد مرّ بنا أنّ بعض نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلت إلى أسامة وبعض من كان معه.

فمن هي تلكم البعض من نسائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ومَن هم أولئك البعض ممّن كان مع أسامة ؟

_______________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ١٦٠ ط محققة.

(٢) اُنظر الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٢٣ ط الثانية سنة ١٣٩٥ ، وشرح المواقف للجرجاني ٨ / ٤٠٨ ط دار الكتب العلمية بيروت.

٣٩٧

ولماذا لم يفصح الراوي بأسمائهم ؟ فهل من المستبعد أن يكون تلكم البعض (الأوّل) هي من نسائه اللائي سبق للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أسرّ إليهن حديثاً فلمّا نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض كما في سورة التحريم ؟

وهل من المستبعد أن يكونا هما اللتان تظاهرا عليه كما في سورة التحريم ؟

ثالثاً : لقد مرّ بنا أيضاً انّ نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلن إلى أسامة ثانياً يأمرنه بالدخول ، فهل كنّ جميع نسائه ؟ أوهنّ اللائي أرسلن إليه أوّلاً ؟ ومهما يكن فهل من حقهنّ الإرسال ؟ وما هو حقهنّ في الأمر ؟

رابعاً : لقد مرّ بنا أيضاً انّ أسامة وبعض من كان معه أمتثلوا أمر النساء المرسلات ، فهل كان أمرهنّ أوجب طاعة من أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فما بالهم تخلّفوا عن أمتثال أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يذهبوا حيث أمرهم وتباطؤا متثاقلين ؟ ثمّ هم هبّوا سراعاً لأمتثال من أمرتهم من النساء طائعين سامعين فيعودوا مسرعين ؟

خامساً : لقد مرّ بنا كتمان الرواة لأسماء تلكم النسوة فهل كان كلّ الرواة نسيّاً فنسوا أسماءهن كما نسوا الوصية الثالثة في حديث الكتف والدواة ؟ أم انّ في كتمان ذلك ستر عليهن والله يحب الساترين ؟

ومهما تكن حقيقة ذلك فسيبقى التساؤل قائماً ـ وبدون جواب مقنع ـ هل كان ثمة تنسيق وتدبير بين بعض نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أسامة وبعض من كان معه ؟

وهذا أيضاً ليس بالمستبعد من ساحة التصور ، كما أنّه أيضاً غير مستبعد حتى في مرحلة التصديق ، لأنّ أسماء الّذين ذكرتهم الرواية أنّهم أقبلوا مع أسامة هم الثالوث ـ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ـ ونجد لهذا الثالوث أهلية الترشيح للخلافة فيما ترويه عائشة وقد مرّ حديثها ، كما نجد لهذا الثالوث تنسيقاً في

٣٩٨

المواقف من بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كلّ ذلك يصدّق ما قيل من وجود تنسيق وتدبير بينهم وبين بعض نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوحي بأن ثمة تخطيط وتآمر ، حيث كان تشاور وتحاور ، لاقتناص الخلافة من صاحبها بأي ثمن ، كان ولو على حساب الشرعية والدين.

لذلك لم يكن تخلف من تخلف عن جيش أسامة عفوياً.

كما لم يكن تثاقل أسامة بالخروج عاجلاً عفوياً أيضاً.

ولم يكن تلك المراسلات بين بعض أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أسامة وبعض من كان معه عفوياً أيضاً.

كلّ ذلك يوحي بضلوع عناصر فاعلة وخطيرة في تلك المؤامرة ، لذلك كان النفر الّذين وردت أسماؤهم يراوحون بيت النبيّ ولا يبارحونه ، وان بارحه الرجال فلهم من نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عون وعين.

فهذا كلّه قد أحسّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافاً إلى أنّ السماء توحي إليه بأخبارهم ، ثمّ تأمره بتنفيذ أمر الله سبحانه ، وإن كلّفه عناءً وجهداً ، ولاقى عناداً ونَصَباً ، فلذلك أتخذ التدبير الحازم والسريع. والأكثر ضماناً للنجاح ـ لو تم ـ فأمر أن يأتوه بالدواة والكتف ، ليكتب للأمة كتاباً لن يضلوا بعده أبداً. وتلك الوثيقة هي الحجة الشرعية التحريرية الّتي لا يمكن أن تنكر أو تتناسى كسائر ما سبق منه شفاهاً. وتبقى حجة يحتج بها الخليفة من بعده.

فهذا هو ما أراده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا هو ما أدركه عمر وبقية من حضر من طائعين وعاصين. فنبذه عمر وتبعه قوم فشاقّوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمره ، وقبله آخرون ودعوا إليه سامعين طائعين.

وهذا هو الّذي لم يخف من بعدُ على الصحابة فرووه كما رأوه.

٣٩٩

وهذا هو الّذي لم يخف على التابعين وتابعي التابعين ، وحتى علماء التدوين ، لذلك أجهزوا عليه فحرّفوه وزوّروا فيه ، وقد مرّت رواياتهم في صور الحديث وستأتي شواهد أخرى.

وهذا هو الّذي تهرّب من ذكره صراحة بشكل وآخر علماء التبرير ، فحاولوا جاهدين ليكتموا الحقّ ، فقالوا أنّه اراد أن يكتب لأبي بكر ، ولعمري لو كان ذلك صحيحاً لكان عمر أوّل المجيبين المستحبين. ولكن ذلك شأن الجدليين المعاندين ، أيغالاً في صرف النظر عن حق الإمام عليّ عليه‌السلام الّذي أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب له ذلك الكتاب ، فأمعنوا في إخفاء الحقيقة. وهيهات أن تخفى الشمس وإن جللها السحاب.

رابعاً ـ لماذا أراد عليّاً دون غيره ؟

والجواب على هذا يستدعي مُقدمة نعرف منها دور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك. وتلك هي أن ننظر بتجرّد وموضوعية إلى ذلك الدور ، فهل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه مأموراً ؟ أو مختاراً ؟ إذ لا يخلو من هاتين الحالتين.

فإن كان مأموراً ـ وهو لابدّ أن يكون كذلك كما هو شأن الرسالة ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) (١) ـ وما كان شأنه في التبليغ إلّا على حد قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٢).

_______________________

(١) النور / ٥٤.

(٢) المائدة / ٦٧.

٤٠٠