موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

مع الخطابي :

من المؤسف حقاً تضييع الوقت في رد مزاعمه في الدفاع عن عمه. وما ذكره من الاحتمالات الواهية فهي على عروشها خاوية. فما ذكره أولا من أن لو نص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يزيل الخلاف يبطل فضيلة العلماء ويعدم الاجتهاد ، فليته أوضح مراده من فائدة بقاء الخلاف ؟ وما قيمة فضيلة العلماء إذا هي لم ترفع الخلاف من بين الأمة ؟

وليته استدل لنا على ترجيح الاجتهاد على النص النبوي ؟

ما باله يعتذر برمّه وطمّه ، ويجعل من منعه فضيلة تفوق أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الّذي لا ينطق عن الهوى ـ والّذي يضمن لأمته عدم الضلالة أبداً. فهل بعد هذا أعظم فائدة وعائدة ؟

ما أدري بماذا يجيب الخطابي وأنصاره عن المسائل الآتية :

١ ـ أليس كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يزيل الخلاف أولى بالأعتبار من عدمه وبقاء الخلاف بين الأمة يخوضون في الجهالة وحيرة الضلالة ؟

ماذا يبتغي الخطابي وابن الخطاب من بقاء فضيلة العلماء ؟ أليس فضيلتهم لهداية الأمة ؟ فإذا كان كذلك فكتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغني وهو أولى بالأتباع فلماذا منع منه عمر ؟

ثمّ هل كان الخطابي يرى في عمه أنّه أعلم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يصلح الأمة ؟ ولا أظن مسلماً يقول بذلك ، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أمر بالكتاب هل كان يعلم بذهاب فضيلة العلماء أوّلاً ؟ والثاني باطل ومستلزم للكفر ، وعلى الأوّل فلابدّ من علمه

٣٢١

برجحان مصلحة الكتابة على فضيلة العلماء دون العكس ، لأنّه يستلزم أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمرجوح وترك الراجح ، وهذا ممنوع من النبيّ لعصمته وتسديده بالوحي وطلبه الأصلح للأمة.

ثمّ هل كان أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند نفسه أو من عند ربّه ، والأوّل مدفوع بقوله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ) (١) ، والثاني مسموع لقوله تعالى : ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٢) ، و ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (٣) ، و ( قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ) (٤).

وبعد هذا كلّه لو سلّمنا جدلاً أنّ الخطابي علم بمراد عمه عمر من منعه كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه يلغي فضيلة العلماء ويعدم الاجتهاد ، فمن أين له أنّ كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف يشمل جميع الحوادث والأحكام. لأنّ نص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شيء أو أشياء مخصوصة لا يبطل فضيلة العلماء ولا يعدم الاجتهاد ، لأنّ الحوادث لا يمكن حصرها ، فليعدم الاجتهاد فيما نص عليه خاصة ، ويبقى لأجتهادهم سائر المجالات الأخرى. وبهذا كان تعقّب ابن الجوزي للخطابي فيما حكاه عنه ابن حجر حيث قال : وتعقبه ابن الجوزي : بأنّه لو نص على شيء وأشياء لم يبطل الإجتهاد ، لأنّ الحوادث لا يمكن حصرها.

هذا كلّه فيما ذكره أوّلاً.

وأمّا ما ذكره ثانياً :

_______________________

(١) النجم / ٣.

(٢) النجم / ٤.

(٣) الكهف / ١١٠ ، فصلت / ٤١.

(٤) الأعراف / ٢٠٣.

٣٢٢

١ ـ لماذا لا يجوز أن يحمل قول عمر على أنّه توهم الغلط الخ. ؟ وقوله هَجَر أهجر ، يهجر إلى غير ذلك من ألفاظ الهجر الّتي فاه بها عمر ، كلّها أو بعضها تدل على أنّ مراده ذلك.

٢ ـ وما المراد من قوله : « لمّا رأى ما غلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ؟ فهل مراده أنّ الوجع غلب عليه حتى سلبه اختياره ـ والعياذ بالله ـ فان كان ذلك فهذا ما فرّ منه واعتذر عنه لكنه وقع فيه. وإن أراد غلبته على جسمه كاصفراره ونحو ذلك ممّا يورثه المرض في بدن صاحبه ، فليس في ذلك شيء يخشى منه ممّا خاف منه الخطابي وعمّه. وليس ذلك بمانع من إجراء أيّ حكم من الاحكام ، والّذي يبدو لي أنّ مراد الخطابي هو الأوّل وشاهد ذلك قوله : « خاف أن يكون ذلك القول ممّا يقوله المريض ممّا لا عزيمة له فيه » وهل معنى (ما لا عزيمة له فيه) سوى الهجر والهذيان ويعني صدور ما لم يرد فعله ويعزم عليه. هذا هو المعنى الحرفي والعرفي للعزيمة ، وهو نفس المعنى اللغوي الّذي يعني لم تكن له الإرادة المؤكدة المتقدمة لتوطين النفس على ما يرى فعله أو الجد في الأمر. وهذا الوجه يدفعه ظاهر الأمر في الإلزام ، وما أمره باحضار الدواة والكتف إلّا كسائر أوامره الوجوبية ، خصوصاً بعد بيان النفع المترتب عليه ، وهو عصمة الأمة من الضلالة إلى الأبد.

٣ ـ ما معنى قوله : « فيجد المنافقون بذلك سبيلاً ... الخ » إذ ليس الموجب لكلام المنافقين هو قرب الوفاة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ما أعتراه من الكرب كما يقول الخطابي ، بل إن حال المنافقين كانت معلومة لديه أيام حياته ، ومعرفته بالكثير منهم وقد نزل القرآن في التحذير منهم. وقد آذوه يوم رجع من غزاة تبوك

٣٢٣

فآذوه في نفسه وآذوه في أهله ، وتقاعدوا عنه ، وتقاعسوا متخاذلين ومخذلين كلما أراد الغزو. فهل كان يومئذ قرب وفاة ؟ وهل كان مرض ؟ أو هل كان اعتراه كرب ؟

٤ ـ ولو سلمنا أنّ المنافقين كانوا يجدون سبيلاً ، فمن أين للخطابي وأضرابه إثبات علم عمر بذلك ، وإذا قالوا أدركه بفطنته ففي بقية الصحابة الحاضرين يومئذ من فاقه فطنة وعلماً وحكماً وفهماً ، لماذا يدرك أولئك ما أدركه عمر ؟ فإن هم سكتوا لعلمهم أنّه ليس لهم حقّ الاعتراض فكان على عمر مثل ذلك.

٥ ـ ثمّ يا ترى ما هو موقف الخطابي من اعتراف عمر بمراده ، وهو يدفع ما قاله هو وغيره من علماء التبرير فانتظر ، وسنوافيك به ، حينئذٍ ستجده يعترف بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما أراد عليّاً للأمر فمنعه هو من ذلك.

ثانياً : ابن حزم الظاهري

ذكر ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام في جملة كلامه في إبطال القياس في احكام الدين قارب في بعضه وسدّد ، وشذّ في بعضه وأبعد ، ومهما يكن فقد ذكر حديث الرزية وعقبه بقوله : « هذه زلة العالم الّتي حذّر منها الناس قديماً ، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف ، وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى ، فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به ، ممّا كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الّذي لو كتبه لم يُضل بعده. ولم يزل أمر هذا الحديث مهماً لنا ، وشجىً في نفوسنا ، وغصة نتألم لها وكنا على يقين من أنّ الله تعالى لا يدع الكتاب الّذي أراد نبيه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أن يكتبه فلن

٣٢٤

يضل من بعده دون بيان ، فيحيا ـ كذا ـ من حي عن بيّنة ، إلى أن منّ الله تعالى بأن أوجدناه فأنجلت الكربة ، والله المحمود.

وهو ما حدّثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمّد ثنا أحمد بن عليّ ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبيد الله بن سعيد ثنا يزيد بن هرون ثنا إبراهيم بن سعد ثنا صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : « قال لي رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في مرضه : ادعي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتاباً ، فإني أخاف أنّ يتمنى متمنٍ ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبى الله والنبيّون إلّا أبا بكر ».

قال أبو محمّد ـ هو ابن حزم ـ هكذا في كتابي عن عبد الله بن يوسف ، وفي أم أخرى ( ويأبى الله والمؤمنون ).

وهكذا حدّثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمّد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن محمّد بن سلام الطرطوسي ثنا يزيد بن هارون ـ إلى آخر السند المتقدم ـ بمثله وفيه : « إنّ ذلك كان في اليوم الّذي بدئ فيه عليه‌السلام بوجعه الّذي مات فيه » بأبي هو وأمي.

قال أبو محمّد ـ هو ابن حزم ـ فعلمنا انّ الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بأربعة أيام ـ كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا ـ إنّما كان في معنى الكتاب الّذي أراد عليه‌السلام أن يكتبه في أوّل مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال ، لأنّه عليه‌السلام ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين ، وأراد الكتاب الّذي قال فيه عمر ما قال يوم الخميس بعد أن أشتد به المرض ، ومات عليه‌السلام يوم الاثنين ، وكانت مدّة

٣٢٥

علته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أثنى عشر يوماً ، فصح أنّ ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الأمة بعده عليه‌السلام.

فإنّ ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو أستخلف ؟ فإنّما معناه : لو كتب الكتاب في ذلك » (١).

أقول : إلى هنا انتهت الحاجة من نقل كلامه الطويل العريض الّذي نفى فيه تقديم أبي بكر للخلافة قياساً على تقديمه للصلاة ـ كما يروي القياسيون ـ وقالوا به. حتى قال : فيأبى الله ذلك ، وما قاله أحد قط يومئذ ، وانما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس ، الّذين لا يبالون بما نصروا به أقوالهم ، مع أنّه أيضاً في القياس فاسد ـ لو كان القياس حقاً ـ لما بينا قبل ، ولأن الخلافة ليست علتها علة الصلاة ، لأن الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والّذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسير الفاصلة.

وأمّا الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلّا قرشي صليبة عالم بالسياسة ووجوهها ، وإن لم يكن محكماً للقراءة (؟) وإنّما الصلاة تبع للإمامة ، وليست الإمامة تبعاً للصلاة فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الإمامة الّتي هي أصل على الصلاة الّتي هي فرع من فروع الإمامة ؟ هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس.

وسيأتي عن ابن حزم أيضاً مثل ما تقدم من الكلام ، وهناك يحاول اثباته بالقسم والأيمان وهذا من الطرافة بمكان.

_______________________

(١) الإحكام في اُصول الأحكام ٧ / ١٢٢ ط السعادة بمصر.

٣٢٦

وقفة مع ابن حزم :

من المضحك ـ وشر البلية ما يضحك ـ أن يكون مثل ابن حزم المتحرر من كثير الرواسب المقيتة عند قومه ، وهو ينعى عليهم التقليد ، ويعترف صريحاً بما هو الصحيح في أنّ قول عمر إنّما هو زلة العالم الّتي حُذّر الناس منها قديماً ، ثمّ هو يكبو كبوة يقع فيها لوجهه حين يحسب أنّه زالت عنه دياجي الظلماء أن كشف له الغطاء بوجدانه حديث عائشة المزعوم ، ولقد أغرب كثيراً حين زعم أنّ ذلك نص على خلافة أبي بكر ، فقد قال في كتابه الفِصَل : « فهذا نص جليّ على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده » (١). وكأنّه نسي أو تناسى بأنّ أبا بكر وقومه ، ومن أتى بعده كلّهم لم يقولوا بالنص في أمر الخلافة ، وإنّما قالوا بالاختيار ، وما دعاهم إلى ذلك إلّا الإضطرار ، حيث لا نص ثابت عندهم.

وربما يفاجأ القارئ إذا وجد ابن حزم في كتابه جوامع السيرة يدين عملية المنع من إحضار الدواة والكتف فيقول : « فلمّا كان يوم الخميس ـ قبل موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأربع ليالِ ـ اجتمع عنده جمع من الصحابة فقال عليه‌السلام : (أئتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي) ، فقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كلمة أراد بها الخير ، فكانت سبباً لإمتناعه من ذلك الكتاب فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندنا كتاب الله ، وحسبنا كتاب الله. وساعده قوم حتى قالوا : أهجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال آخرون : أجيبوا بالكتف والدواة يكتب لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً لا تضلون بعده ، فساء ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمرهم بالخروج من عنده ؟ فالرزية كلّ الرزية ما حال بينه وبين ذلك الكتاب ، إلّا أنّه لا شك لو كان من

_______________________

(١) الفِصَل ٤ / ١٠٨.

٣٢٧

واجبات الدين ولوازم الشريعة لم يثنه عنه كلام عمر ولا غيره ... ا ه‍ ». هذا ما ذكره ابن حزم في جوامع السيرة (١) ، ومرّ عنه ما ذكره في كتابيه الأحكام والفصل فبأيّهما يأخذ القارئ ؟ وأيهما هو الصحيح ؟ وهل ذلك منه إلّا استغفال لعقول الناس !؟ فالحديث الّذي زعم أنّه وجده فانجلت به الكربة فكأنّه عمي أو تعامى أنّ الحديث صورة ممسوخة لحديث الرزية ، وليته كان كحديث الرزية في تظافر نقله لتتكافأ الكفتان ، وينظر عند التعارض لأيهما الرجحان ، وليختر هو معنى ذلك المزعوم ، ثمّ كيف يخفى هذا على مَن سبقه ممّن خرّج الحديثين مثل مسلم وغيره ؟ وسيأتي الكلام في ذلك مفصّلاً عند حديثنا عن عملية التزوير والمسخ ، وسيقف القارئ على قول ابن أبي الحديد المعتزلي وضعوه ـ البكرية ـ في مقابلة الحديث المروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه : (إئتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبداً) ، فاختلفوا عنده وقال قوم منهم : لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ، وسيعود ابن حزم مرة أخرى إلى الحديث المزعوم يحاول اثباته بالأيمان ؟

ويكفي في تزييفه أنّه لم يظهر يوم السقيفة حين كان أبو بكر أحوج إليه من كلّ ما احتج به ، فأين كانت عائشة عن رواية ذلك ؟ ولماذا لم تناصر أباها به في أحرج وقت كان محتاجاً لنصرتها بمثله ؟

مضافاً إلى ما سيأتي من كشف حال رجاله فانتظر.

ثالثاً : البيهقي

في أواخر كتابه دلائل النبوة بعد ذكره لحديث الرزية بأسانيده إلى عليّ ابن المديني والحسن بن محمّد الزعفراني عن سفيان بن عيينة عن سليمان عن

_______________________

(١) جوامع السيرة / ٢٦٣.

٣٢٨

سعيد بن جبير قال قال ابن عباس : « يوم الخميس وذكر الحديث إلى قوله وسكت عن الثالثة أو قالها فنسيتها » ثمّ قال البيهقي : هذا لفظ حديث عليّ بن المديني وهو أتم ، زاد عليّ قال سفيان : إنّما زعموا أراد أن يكتب فيها استخلاف أبي بكر. ثمّ قال البيهقي رواه البخاري ومسلم في الصحيح (١) ... ثمّ ذكر الحديث بسند آخر وصورة ثانية وفيه قال ـ ابن عباس ـ : « لمّا حُضر رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هلموا أكتب لكم لن تضلوا بعده أبداً) فقال عمر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله ومنهم يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قوموا).

قال عبد الله فكان ابن عباس يقول : انّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم ». ثمّ ذكر رواية البخاري له في الصحيح عن عليّ بن المديني وغيره. ورواية مسلم عن محمّد بن رافع وغيره عن عبد الرزاق. ثمّ قال : وإنّما قصد عمر بن الخطاب بما قال التخفيف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رآه قد غلب عليه الوجع ، ولو كان ما يريد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركهم لاختلافهم ولغطهم لقوله تعالى : ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) (٢) كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه ، وإنّما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر ثمّ ترك

_______________________

(١) دلائل النبوة ٧ / ١٨١ ـ ١٨٢ ط بيروت بتحقيق د عبد المعطي قلعجي.

(٢) المائدة / ٦٧.

٣٢٩

كتبته أعتماداً على ما علم من تقدير الله تعالى ذلك ، كما همّ به في ابتداء مرضه حين قال : وارأساه ، ثمّ بدا له أن لا يكتب وقال : يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر ، ثمّ نبّه أمته على خلافته باستخلافه اياه في الصلاة حين عجز عن حضورها ... إلى آخر ما قال (١) ، وكله من الدفع بالصدر.

وقد روى نفسه في سننه الكبرى في كتابة العلم في الصحف ، حديث جابر : « انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا بصحيفة في مرضه ليكتب فيها كتاباً لأمته لا يَضلون بعده ولا يُضِلون ، وكان في البيت لغط وتكلم عمر فتركه » (٢). وهذا الّذي رواه بتر من آخره ما يدين عمر ، ثمّ ذكر بعده في كتابة العلم في الألواح والأكتاف بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : « يوم الخميس وما يوم الخميس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إئتوني باللوح والدواة والكتف والدواة لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) قالوا : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهجر » (٣).

مع البيهقي في دعاواه :

وتتلخص دعاواه في الأمور التالية :

١ ـ زعمه أنّ حديث عليّ بن المديني أتم لأنّه زاد قول سفيان إنّما زعموا أراد أن يكتب فيها استخلاف أبي بكر.

٢ ـ زعمه أنّ قصد عمر هو التخفيف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الّذي قال.

٣ ـ زعمه أّنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب لهم ما هم مستغنون عنه.

_______________________

(١) دلائل النبوة ٧ / ١٨٣.

(٢) السنن الكبرى ٣ / ٤٣٥ ط بيروت سنة ١٤١١ ه‍.

(٣) نفس المصدر.

٣٣٠

٤ ـ زعمه بل كذبه على سفيان في حكايته قوله.

٥ ـ زعمه تنبيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمته على خلافة أبي بكر استخلافه إياه في الصلاة.

أمّا زعمه الأوّل أنّ حديث عليّ بن المديني أتم وقال : زاد عليّ قال سفيان : إنّما زعموا ... الخ فهذا كذب وهراء ومحض أفتراء ، فحديث سفيان لقد رواه عنه خمسة عشر إنساناً كما مرّ في الصورة التاسعة ، وكلهم من الحفاظ وأئمة الحديث ، وكان عليّ بن المديني واحداً منهم. وحديثه لم يقتصر على رواية البيهقي بأسانيده فقط ، بل رواه عنه البخاري أيضاً وليس فيه هذه الزيادة (١) ، كما لم ترد في أحاديث الرواة الآخرين عن سفيان فمن أين ألصق البيهقي بابن المديني هذه الزيادة ؟

وأمّا زعمه الثاني أنّ عمر قصد التخفيف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فينفيه ما سيأتي عن عمر نفسه من بيان قصده في منعه ، ولو سلمنا جدلاً ، فهل أنّ عمر كان أبصر بنفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه بنفسه ؟

وأمّا زعمه الثالث أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب لأمته ما هم مستغنون ، مدفوع للحكمة الّتي بيّنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابة ذلك الكتاب وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لن تضلوا بعده أبداً) فإنّ ذلك يدل على أحتياجهم إلى عاصم يعصمهم من الضلالة إلى الأبد ، وليس من تأمين على السلامة والصيانة لهم غير كتابة ذلك.

ولو سلّمنا جدلاً ـ ولا نسلّم ـ صواب قول البيهقي أراد أن يكتب لهم ما هم مستغنون عنه ، فيلزم منه أن ينسب القائل بذلك إلى مقام الرسالة ما لا

_______________________

(١) أنظر صحيح البخاري / ٦ و ٩.

٣٣١

يليق بها من العبث ، حيث أنّ ذلك الكتاب لا يزيدهم فائدة ولا يعود عليهم بعائدة ، وهو منافٍ للعصمة عند من يقول بها ، ومناف للحكمة عند من لا يقول بها.

وأمّا ما استدل به على مقالته فهو مردود بعد أن انتفت الفائدة المتوخاة والّتي كان يعلمها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث فتح عمر باباً واسعاً للطعن فيما يكتبه ، ويدل على ذلك ما جاء في بعض صور الحديث ممّا رواه ابن سعد وغيره وفيه : فقال بعض من كان عنده انّ نبيّ الله ليهجر قال فقيل له ألا نأتيك بما طلبت ؟ قال : أو بعد ماذا ؟ قال : فلم يدع به (١).

وأمّا زعمه الرابع أنّ سفيان حكى عن أهل العلم قبله. فهذا كذب على سفيان ، وما روي عن سفيان على اختلاف صور نسخه الخمس عشرة حسب عدد الرواة عنه فلم يأت في واحدة منها انّ سفيان حكى ذلك عن أهل العلم قبله. وإنّما الوحيد الّذي روى ذلك عنه فيما أعلم ـ هو البيهقي ـ ومهما يكن فان الّذي حاول اثباته من الكتابة باستخلاف أبي بكر فقد مرّ الجواب عنه في رد ابن حزم فراجع.

وأمّا زعمه الخامس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبّه أمته على خلافة أبي بكر باستخلافه إياه في الصلاة فيكفي في دحض ما زعمه ما قاله ابن حزم في كتابه الإحكام آنفاً ـ وقد مرّ نقل ذلك عنه قبل هذا فراجع ـ مضافاً إلى قوله : واحتجوا باجماع الأمة على تقديم أبي بكر إلى الخلافة ، وان ذلك قياس على تقديم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له إلى الصلاة ... وهذا من الباطل الّذي لا يحل ، ولو لم يكن في تقديم أبي بكر حجة إلّا انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدّمه إلى الصلاة لما كان أبو بكر أولى بالخلافة من عليّ. لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استخلف

_______________________

(١) أنظر الصورة الحادية عشرة من صور الحديث.

٣٣٢

عليّاً على المدينة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته عليه‌السلام فقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والأحكام أولى من قياس الأستخلاف على الصلاة وحدها ... إلى آخر ماذكره من مناقشة (١).

رابعاً : المازري

قال : إنّما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك ، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب ، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أنّ الأمر ليس على التحتم بل على الإختيار ، فاختلف اجتهادهم ، وصمم عمر على الإمتناع لمّا قام عنده من القرائن بأنه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال ذلك عن غير قصد جازم ، فظهر ذلك لعمر دون غيره.

هكذا حكاه النووي في شرح صحيح مسلم ، وابن حجر في فتح الباري ، والقسطلاني في المواهب اللدنية ، والبدر العيني في عمدة القارئ (٢) ، وغيرهم.

مع المازري :

يتلخص إعتذار المازري في النقاط التالية :

١ ـ اختلاف الصحابة في امتثال أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان لأنّ الأمر ليس على التحتم بل على الإختيار.

٢ ـ تصميم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم.

_______________________

(١) أُنظر كتابه الإحكام ٧ / ١١٩ ـ ١٢٠.

(٢) شرح صحيح مسلم ١١ / ٩١ ، فتح الباري ٩ / ١٩٨ ، المواهب اللدنية ٢ / ٣٦٧ ، عمدة القارئ ٢ / ١٧١.

٣٣٣

٣ ـ ظهور ذلك لعمر دون غيره ؟

وبين النقطة الأولى والنقطة الثالثة نحو تضاد ، إذ أنّ عمر هو الّذي ظهر له أنّ الأمر عن غير قصد جازم ، وهذا مختص به دون غيره كما يزعم المازري ، ويعني ذلك أنّه خفي على الآخرين ، وإذا كانوا كذلك فما بالهم يختلفون في امتثال الأمر ما دام لم يظهر لهم ما ظهر لعمر دون غيره ، ثمّ إنّ قول المازري : « عن غير قصد جازم » يعني ترك الباب مفتوحاً أمام الصحابة فمن شاء أن يمتثل امتثل ومن شاء تخلف ، لأنّ الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار وهذا ما أكده بقوله : « عن غير قصد جازم » والآن لنا أن نسائله.

١ ـ ما معنى بيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصلحة الحكم الشرعي من أمره بقوله : (لا تضلون بعدي أبداً). فلو كان على سبيل الإختيار فمن شاء فعل ومن شاء ترك ، لما ترتب أمر العصمة من الضلالة لهم جميعاً ، بل كان يختص ذلك بمن امتثل ويحرم منه من خالف ، ولما كان الخطاب للجميع فلابدّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توخى هداية الجميع وبذلك تتم فائدة العصمة من الضلالة وإلّا فلا.

٢ ـ ما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر الحديث : (قوموا عني) ، وذلك يعني طردهم عنه ولو كان أمره الأوّل عن غير قصد جازم وليس على التحتم ، بل على الإختيار لما كان لطردهم عنه معنى ، وان تنطّع متنطع فقال : « انّ طردهم عنه إنّما كان بعد تنازعهم ولغطهم فتأذى بذلك فقال : (قوموا عني) ». وهذا لا يدل على الوجوب في الامتثال. هنا نقول له انّ ذلك النزاع هو وحده كاف في الدلالة على لزوم الأمر ، وإلّا لو كان الأمر اختيارياً لما حدث النزاع ولما أستلزم الطرد.

٣٣٤

٣ ـ ما معنى قول عمر : « حسبنا كتاب الله » ؟ أليس يدل على فهمه أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان للوجوب فأراد دفع من يقوم بالامتثال عنه ، وإسقاط حجة قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلية. ولو لم يكن فهم لزوم الأمتثال لما أحتاج إلى قوله : « حسبنا كتاب الله ».

٤ ـ ما معنى بكاء حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه وقوله : « الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين كتابة الكتاب » ؟ أليس يدل ذلك على فوات أمر عظيم وخطير ، وله أثر كبير في حياة الأمة فاستدعى فواته ذلك البكاء حتى يبلّ دمعه الحصى. ولو كان الفائت أمراً أختيارياً لما لزم ذلك البكاء ؟ ولما لزم التعبير عنه ب‍ (الرزية كلّ الرزية) ولعيب عليه ذلك التوجع والتفجع ، فكم هناك من أمور مندوبة وأحكام مستحبة تركها الناس في أيامه ، بل وحتى تغيير بعض الفرائض فلم ينعها ولم يذكر عنه أنّه بكى لها ، ولم ينقل التاريخ عنه أنّه عبّر عن فوت واجب آخر بأنه رزية فضلاً عن المندوب.

٥ ـ وأخيراً من أين للمازري اثبات فهم عمر دون غيره بأن أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عن غير قصد جازم ، وهذا لا يعلم إلّا من قبل عمر نفسه ، ولم يرد عنه في ذلك شيء.

ثمّ إنّ ما ذهب إليه المازري لم يتابعه عليه أحد يعتد به ـ فيما أعلم ـ إلّا رجل واحد من المتأخرين هو السيد عبد الرحيم الطهطاوي (١).

أمّا باقي أعلام قومه كالقاضي عياض والقرطبي وابن حجر وغيرهم فقد ذهبوا إلى عكس ما قاله المازري وقالوا بان عمر فهم الوجوب ، وإنّما

_______________________

(١) اُنظر كتابه هداية الباري ١ / ٨.

٣٣٥

قال الّذي قاله إنكاراً على من تخلف عن الإمتثال ، وستأتي مقالاتهم التافهة وما أسسوه من مقدمات لنتائجهم المردودة وقياساتهم الباطلة ..

خامساً : القاضي عياض

قال : في كتاب الشفاء : فصل : فإن قلت قد تقررت عصمته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في أقواله في جميع أحواله وأنّه لا يصح منه فيها خُلفٌ ولا اضطراب في عمد ولا سهو ولا صحة ولا مرض ولا جدّ ولا مزح ولا رضىً ولا غضب ، ولكن ما معنى الحديث في وصيته صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ...

ثمّ ذكر حديث الكتف والدواة بسنده إلى قوله : فقال بعضهم : انّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد غلبه الوجع ... الحديث.

ثمّ قال : وفي رواية : (إئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) فتنازعوا فقالوا : ماله أهجر استفهموه فقال : (دعوني فإنّ الّذي أنا فيه خير).

وفي بعض طرقه : إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : يَهجَر.

وفي رواية هجر ، ويُروى : أهُجراً. وفيه فقال عمر : إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قد اشتد به الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، وكثر اللغط فقال : (قوموا عني).

وفي رواية : واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كتاباً ، ومنهم من يقول ما قال عمر.

قال أئمّتنا : في هذا الحديث النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم غير معصوم من الأمراض وما يكون من عوارضها من شدة الوجع وغشي ونحوه ممّا يطرأ

٣٣٦

على جسمه ، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ، ويؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان واختلال كلام.

وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث هَجَرَ إذ معناه هذي يقال هَجَرَ هجراً إذا هذى وأهجر هجراً إذا أفحش وأهجر تعدية هَجَرَ ، وانما الأصح والأولى أهَجَرَ على طريق الأنكار على من قال لا يكتب ، وهكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرّوات في حديث الزهري المتقدم ، وفي حديث محمّد بن سلام عن ابن عيينة ، وكذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه وغيره من هذا الطريق ، وكذا روينا عن مسلم في حديث سفيان وعن غيره ، وقد تحمل عليه رواية من رواه هَجَرَ على حذف ألف الأستفهام ، والتقدير أهجر ، أو أن يحمل قول القائل هجراً أو أهَجَرَ دهشةً من قائل ذلك وحيرة لعظيم ما شاهدا من حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشدة وجعه وهو المقام الّذي أختلف فيه عليه ، والأمر الّذي همّ بالكتاب فيه حتى لم يضبط هذا القائل لفظه وأجرى الهُجر مجرى شدة الوجع ، لا أنّه أعتقد أنّه يجوز عليه الهجر ، كما حملهم الاشفاق على حراسته والله يقول : ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١) ونحو هذا ، وأمّا على رواية أهجُراً وهي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير عن ابن عباس من رواية قتيبة فقد يكون هذا راجعاً إلى المختلفين عنده صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ومخاطبةً لهم من بعضهم أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وبين يديه هجراً ومنكراً من القول ، والهُجر بضم الهاء الفَحش في المنطق.

_______________________

(١) المائدة / ٦٧.

٣٣٧

وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث وكيف أختلفوا بعد أمره لهم صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أن يأتوه بالكتاب فقال بعضهم : أوامر النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يفهم أيجابها من ندبها من اباحتها بقرائن فلعل قد ظهر من قرائن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعضهم ما فهموا أنّه لم تكن منه عزمة ، بل أمر ردّه إلى اختيارهم ، وبعضهم لم يفهم ذلك فقال : أستفهموه ، فلمّا أختلفوا كفّ عنه إذ لم يكن عزمة ولمّا رأوه من صواب رأي عمر.

ثمّ هؤلاء قالوا ويكون أمتناع عمر إمّا أشفاقاً على النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب وأن تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال إنّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أشتد به الوجع.

وقيل : خشي عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ورأى أنّ الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد وحكم النظر وطلب الصواب ، فيكون المصيب والمخطيء مأجوراً.

وقد علم عمر تقرّر الشرع وتأسيس الملة وان الله تعالى قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) وقوله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (أوصيكم بكتاب الله وعترتي). وقول عمر : حسبنا كتاب الله ، ردٌ على من نازعه لا على أمر النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم.

وقد قيل : إنّ عمر خشي تطرّق المنافقين ومَن في قلبه مرض ما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك.

_______________________

(١) المائدة / ٣.

٣٣٨

وقيل : إنّه كان من النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لهم على طريق المشورة والإختبار هل يتفقون على ذلك أم يختلفون فلمّا أختلفوا تركه.

وقالت طائفة أخرى : إن معنى الحديث انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كان مجيباً في هذا الكتاب لما طُلب منه ، لا أنّه ابتداء بالأمر ، بل اقتضاه منه بعض أصحابه فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل الّتي ذكرناها.

واستدل في هذه القصة بقول العباس لعليّ : انطلق بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فإن كان الأمر فينا علمناه ، وكراهة عليّ هذا ، وقوله : والله لا أفعل... الحديث.

واستدل بقوله : (دعوني فإنّ الّذي أنا فيه). أي الّذي أنا فيه خير من ارسال الأمر وترككم وكتاب الله وأن تدعوني ممّا طلبتم ، وذكر أنّ الّذي طلب كتابة أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك (١).

أقول : هذا كلّ ما ذكره في هذا الفصل من كتابه الشفاء وليس فيه من النافع إلّا شفى ـ القليل ـ إذ هو إمّا تكرار للسابقين أو تلفيق المتخرصين. ولابدّ لنا من محاسبته على بعض ما ذكره ممّا لم يُسبق إليه من وجوه الأحتمالات والتمحلات وإنّما نقلناه بطوله لأن جماعة ممّن على شاكلته تبعه على رأيه فإنهم بين من نقل جميع كلامه كما صنع النويري في نهاية الإرب (٢) ، ومنهم من لخصه كالقرطبي ولخص من تلخيصه ابن حجر في فتح الباري (٣) كما سيأتي تلخيصه.

_______________________

(١) أنظر الشفاء ٢ / ١٨٥ ـ ١٨٦ ط اسلامبول سنة ١٣٠٤ ه‍.

(٢) نهاية الإرب ١٨ / ٣٧٣ ـ ٣٧٨.

(٣) أنظر فتح الباري الجزء التاسع.

٣٣٩

مع القاضي عياض :

لقد كانت غاية محاولة القاضي هي تبرير ما صدر من عمر بن الخطاب في ذلك اليوم التعيس ، يوم الخميس ، ولكنها محاولة بائسة ويائسة. فهو استعرض :

أوّلاً : تحقيق الصيغة اللفظية الّتي كانت سبب الإختلاف ، ثمّ التشكيك في تعيين قائلها وذلك من خلال ما ذكره من سياق الروايات المختلفة. حتى أنهاها إلى ثماني روايات كما يلي :

١ ـ فقال بعضهم : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلبه الوجع.

٢ ـ وفي رواية : فتنازعوا فقالوا ما له أهجر أستفهموه.

٣ ـ وفي بعض طرقه : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يَهجَرُ ـ (بفتحتين هكذا في النسخة المُعربة المطبوعة باسلامبول سنة ١٣٠٤ ه‍) ـ.

٤ ـ وفي رواية : هَجَر.

٥ ـ ويروى : أهَجرٌ.

٦ ـ ويروى : أهُجراً.

٧ ـ وفيه فقال عمر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أشتد به الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا وكثر اللغط.

٨ ـ وفي رواية : واختلف أهل البيت وأختصموا فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً ، ومنهم من يقول ما قال عمر.

أقول : وهذه الروايات الّتي أشار إليها تترك القارئ في حيرة من أمر القاضي ، وكأنه يحاول التعتيم على الحقيقة ، فيعرض لها دون بيان الصحيح منها ، فهو يترك القارئ في دروب من المتاهات.

٣٤٠