موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

من أوجه نسباً وعلماً إلى حضيض الهاوية عملاً ، حيث ذكروا أنّه ولاه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام على البصرة فاختان بيت مالها ، ثم ذهب مضاغناً لإمامه وابن عمه ، وبالتالي مفارقاً ومغاضباً !؟.

فأنا حين أقرأ هذا تعتريني الحيرة ، فهل هذا يتفق مع ما مرّ عنه من وصفهم له بكل جميل وثناء جليل.

إنّها هي الحيرة التي انبثقت منها الفكرة. ألا يستحق هذا الرجل أن أعرفه ـ أنا على الأقل ـ على حقيقته لأبعد نفسي عن الحيرة ؟ فتفاعلتُ مع الفكرة التي صارت لا تبارحني ، وبدأت أتحرك في أطارها ، وصرت أقرأ وأكتب ما وصلت إليه يدي من مصادر حياته وما يمتّ اليها وهي كمٌّ كبير وكثير.

وقد رأيت فيها من طغيان العاطفة ـ سلباً وايجاباً ـ كما رأيت فيها كثيراً من التقليد ، يتبع الآخر للأول ، وربّما على غير هدى ولا كتابٍ منير. وفي خضمّ ذلك الكم الهائل تنبثق ومضات نورٌ على الدرب تعين الباحث لو أفرغ وسعه فاستخلص ـ ولو لنفسه ـ من بين تلك الشوائب بعض الحقائق التي آمن بصحتها فسجّلها لتكون له حصيلة نافعة في دينه حين نصر مؤمناً ، وفي دنياه حين هدى غيره إليها.

فمن هنا بدأت الفكرة وتنامت ، حين القيت بذرتها وراعيتُ نبتتها ، فلمّا ربت وأنبتت قطفتُ ثمارها ، فكانت هذه الموسوعة ، وهي أربعة أجزاء ، انتهيت منها ـ أولاً ـ في ١٣ ربيع الثاني سنة ١٣٦٨ ه‍ وبقيت أتابع مسيرتي مع الكتاب طيلة هذه السنين ، أضيف كل ما استجد لدي من معلومة أجدها في مصادر لم تكن مَيسرة لي من قبل ، أو دراسات حديثة يستدعي الرجوع إليها غرضَ

٢١

المناقشة غالباً ، فصار هذا الكتاب ، وليد مخاض بحوث طويلة ، وعلى فترات كانت متطاولة ومتباعدة. فتغيّرت بعض العناوين ، واستجد بعض آخر ، لكن هيكله العام لم يتغير.

وأرجو أن أكون قد وُفقت في نفع القارئ ولو بنبذة صالحة يستفيدها منه فيذكرني بخير ، فقد جمعت له ما تناثر في مئات المصادر ، من بطون الكتب والدفاتر ، والله سبحانه وليّ التوفيق وهو خير ناصر.

ماذا نقرأ في هذا الكتاب ؟

لا أكتم القارئ إني يوم صمّمت العزم على تأليف كتاب يتضمن حياة ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، لم أكن أحسب أنّ ذلك سوف يتسع إلى قدر ما وصل إليه اليوم ـ بل ولا إلى هيكله الأول ـ كما لم تكن لديّ خطة مدروسة على منهجية محددة على أنماط الدراسات الحديثة ، بل كنت يومئذٍ انحو النهج التقليدي المألوف لدينا يومئذٍ ، كما هو واضح الأثر بدءاً من أول الكتاب إلى حياته في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن بعد أن استمرت المسيرة مع الكتاب وبعد الإنتهاء من هيكله الأول في أجزائه الأربعة ، فقد دعت الحاجة إلى إعادة النظر في دراسة بعض النقاط من تاريخ المترجم له ، ممّا يستوجب الفاضة في دراسة ذلك ، دراسة محررة ومستوعبة لجوانب ينبغي البحث حولها ، خصوصاً والحاجة ملحة لكشف حقائق خفيت على كثير من الباحثين ممن أُخذوا بسورة التقليد ، وبُهروا بطنطنة الأسماء والألقاب ، وخُدعوا بتطويل الإسناد.

٢٢

لذلك أعدت النظر في صياغة البحث أحياناً ، فتكثّرت المواد وازدادت الفصول بما تولد من جديد ، ونتيجة لذلك فقد استبدلت عنوان الأجزاء بالحلقات ، ورتبتها كما يلي :

(الحلقة الاُولى) : في تأريخه وسيرته ، وقد أصبحت في خمسة أجزاء :

يضم الجزء الأول منها : أحداث ما يقرب من ربع قرن ، بدءاً من ولادته وحتى وفاة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وابن عباس يومئذٍ في أول شبابه.

ويضم الجزء الثاني منها : أحداث ما عاشه ما بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى نهاية عهد عثمان.

ويضم الجزء الثالث منها : من أول خلافة الإمام أمير المومنين عليه‌السلام وحتى شهادته سنة ٤٠ ه‍.

ويضم الجزء الرابع منها : مايتعلق بسيرته عند ولايته على البصرة وما رافقها من أحداث.

ويضم الجزء الخامس منها : من بداية حكومة بني أمية وحتى وفاة حبر الاُمة سنة ٦٨ ه‍.

(الحلقة الثانية) : في تاريخه العلمي. تتضمن دراسته وعطاءه بدءاً من ينابيع العلم والمعرفة وانتهاءً بمظاهر العطاء من مدارسه وتلاميذه ونماذج من خطبه ومحاوراته وكتبه ومسائله والمأثور عنه من حِكَم وكلمات قصار.

(الحلقة الثالثة) : في تاريخه العلمي أيضاً. وتتضمن آثاره في التفسير والحديث والفقه واللغة وآدابها.

٢٣

( الحلقة الرابعة ) : حبر الأمة في الميزان وتتضمن ما جاء فيه من الجرح والتعديل. وبها خاتمة الكتاب.

نسأله تعالى أن يمنّ عليّ بإخراج ذلك من ضم الشتات قبل الممات ، إنه مجيبُ الدعوات.

نور على الدرب لما فيه :

أوّلاً : إنّ كتابة التاريخ ـ كل التاريخ ـ إنّما هو محور تسجيله وهو رهن ذمة الرواة الذين يروون للناس ـ غالباً ـ ما يهواه الحاكمون ، فللسلطة والأموال بريق ـ مخادع ـ على حروف التدوين ، يراه الباحث بوضوح حين يجد في مدونات المؤرخين ما يكاد يخطف بالأبصار ، من أكداس التراث الحافل بالمناقبيات والمزايدات المحشورة للتفخيم والتعظيم ، وحتى الاستعانة بالغيبيات ، لإضفاء القداسة على الحاكمين وأتباعهم ، وتطويعاً للمحكومين بكّمّ أفواههم ، عن تهوين أقدار حكّامهم ، أو تهويل أخطائهم ، فإن ذلك من قدر الله فعليهم الرضا والتسليم ، والى جانب ذلك يجد الهمز واللمز للأخصام ، وهذا ما يجعل الباحث ـ وهو يدرك الدوافع وراء الرفع والوضع ـ في دوّامة من الشك والريبة في صحة جميع ما في المدونات سواءاً في تقييم الرجال أو عرض الأحداث ، وسواءاً كتب الأقدمين أو المحدثين.

لذلك كانت مهمة الباحث المحايد. ولنسميه بالموضوعي النزيه. صعبة جداً ، حيث عليه أن يكون حذراً ويقظاً ، مستعملاً عقله وفطنته ليستشفّ ما وراء النص ، ويتبيّن وجه الحق فيأخذ به ، ويُصدر أحكامه على ضوئه ، ولا ينساق وراء

٢٤

العواطف ، ولا يخدع ببهرجة العناوين والألقاب. فالناس في الخلق سواسية كأسنان المشط ، فمنهم المحسن ومنهم المسيء. ولكلٍ أجر ما أكتسب ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) (١) ، و ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (٢).

ثانياً : ومن هنا تعالت صيحات إعادة كتابة التاريخ من جديد ، ولا شك كان من بينها أصوات مخلصة وجادة في دعوتها إلى مراجعة التاريخ الإسلامي على ضوء الكتاب والسنّة ، فلا يدان بريءٌ ، ولا يُبرّأ مذنب ، ولا يجامل الرجال على حساب الشرع. فلا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٣) وهذا ما يستدعي رفع الحواجز بين الحاكم والمحكوم في تقويم الأعمال ، كما يستدعي رسم الصورة لكل منهما دون تزويق أو تمزيق ، وفوق مسار الشبهات التي تحجب العقل عن النظرة الموضوعية.

فإذا وجدنا ابن عساكر ـ مثلاً ـ يروي لنا عن عمرو بن العاص مرفوعاً : (قريش خالصة الله فمن نصب لها حرباً سُلب ، ومن أرادها بسوءٍ خُزي في الدنيا والآخرة) (٤). ووجدنا أبا لهب وهو عربي وقرشي وابن سيد البطحاء وزوجته أم جميل عربية وقرشية أيضاً ولما كانا كافرين ، نزلت سورة كاملة في ذمهما والتنديد بهما. فلم تنفعهما القرشية شيئاً. وفي المقابل نجد سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وهم من السابقين أقوامهم إلى الإسلام كانوا أفضل

_______________________

(١) الأنعام / ١٦٤.

(٢) المدثر / ٣٨.

(٣) الحجرات / ١٣.

(٤) راموز الأحاديث / ٣٣٤ ط استانبول سنة ١٢٧٥ ه‍.

٢٥

عند الله وعند رسوله وعند المسلمين من ألف قرشي لم تمازج روحه بالإسلام ، وإنّما أسلم كرهاً أو طمعاً كالمنافقين ومسلمة الفتح وأندادهم.

إذن فلا يجوز أن يستغفل القراء باحثٌ يدعو إلى كفّ الأقلام وتحجيم الإسلام ، في اطار ضيّق ، ومنظور خاطيء وخانق. بأن الجميع من الصحابة ، ولا يجوز أن يقال لصحابي لماذا انجرفت أو انحرفت ؟ فالصحابة أناس أمثالنا ، فهم بشر يُخطئون كما يَخطئ سائر الناس ، ولا غضاضة بعد ما رووا هم لنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث الحوض : (إنّ منكم من لا يراني) ، و (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم بعضاً) ، و (لتذادنّ عن الحوض فأقول : يا ربّ أصحابي فيقال : ما تدري ماذا أحدثوا بعدك) ، وهذه أحاديث وردت في الصحاح مكررة ومنها صحيح البخاري وصحيح مسلم ، ولمّا كانت لا مجال لنكرانها ، اضطرت علماء التبرير إلى تسلّق جدرانها بالتأويل والتفسير وليس هناك.

ثالثاً : ولمّا كان عبد الله بن عباس من الصحابة ، وللصحابة بريق صورة مرسومة في الكتب محاطة بهالة من التقديس ارتسمت في الأذهان بأنهم ـ حسب العاطفة الدينية ـ فوق مسار الشبهات ، فلا ينبغي أن يتجاوز الباحث سور الحصانة ، الذي دونه سور الصين العظيم ، فكيف بابن عباس وهو حبر الأمة ، لذا كان لزاماً عليّ وأنا أريد أن أكتب عنه من الرجوع إلى المصادر المعنيّة ـ وما أكثرها وأكثر ما فيها ـ لأجمع أشتات أخباره ، وأقف على آثاره ، ثم الموازنة بينها واستخلاص النتائج منها.

وهذا أمر على ما فيه من جهد ليس بذي بال لأنّبّه عليه. لكن الأهم ـ والمزعج حقاً ـ أنّي وجدت تأريخه مليئاً بالمفارقات العجيبة ، فهو بين إفراط

٢٦

وتفريط ، أصابه من التنميق والتزويق ، كما أصابه من التلفيق والتمزيق ، فضاعت ـ أو كادت ـ حقائق ما بين ذين وذين ، لو سلمت صفحاته من عبث الحاكمين ، سواء الأمويين وهم خصماؤه ، أو العباسيين وهم أبناؤه ، أو المناوئين لهم ومنهم كذلك أعداؤه ـ أقول لو سلمت لكان الجانب المشرق هو الأكثر وضوحاً ، ولكن التضبيب والتعتيم شوّه الصورة حتى بدا الجانب المعتم المظلم أيضاً ـ كيف لا ؟ وهو قد عاش أحداث الإسلام الكبرى منذ فتح مكة وحتى يوم وفاته ، وخاض غمار بعضها مبرّزاً فيها فكان له رأي ، وكان له صوت ، وكان له حضور فاعل ومؤثر. وذلك كله يستدعي إكبار المعجبين به كما يستفزّ حقد المناوئين له. ولكل من الفريقين أنصار لهم غايات وأهداف ، ربما وصلت إلى حدّ الإسفاف ، فمثلاً نجد في العصر الأموي إنّ مدوّني السيرة الأوائل فيهم من كان ضالعاً في ركاب الحاكمين ـ إن لم يكونوا كلهم إمّا رغبة أو رهبة ـ ولنقرأ نموذجاً منهم ، وهو ابن شهاب محمّد بن مسلم الزهري يروي لنا عنه أبو الفرج الأصفهاني قوله : « قال لي خالد بن عبد الله القسري : اكتب لي النسب فبدأت بنسب مضر وما أتممته قال : أقطعه قطعه الله من أصولهم ، وأكتب لي السيرة فقلت له فإنّه يمرّ بي الشيء من سيرة عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) فأذكره ؟ فقال : لا إلّا أن تراه في قعر الجحيم.

قال أبو الفرج : لعن الله خالداً ومن ولّاه وقبحهم وصلوات الله على أمير المؤمنين » (١).

_______________________

(١) الأغاني ١٩ / ٥٩ ط الساسي.

٢٧

فإذا كان هذا من مدوّني السيرة وهو يعترف بما عليه أن يكتبه ، فلا غرابة إذن على من راجع المصنف لعبد الرزاق مثلاً حين يجد دلائل نصب الزهري هذا واضحة في جملة من الموارد ، وقد أحصيت منها على عجل اثني عشر مورداً في جزء واحد من أحد عشر جزءاً ملخصها :

١ ـ أول من أسلم زيد بن حارثة وليس عليّ.

٢ ـ إغفال اسم عليّ في كتابة صلح الحديبية حين ذكر خبر الصلح فتجاهل اسمه فقال (الكاتب) : مع أنّ عبد الرزاق ذكر عن غير الزهري انّه عليّ (١) وهو نفسه لما سأله معمر عن الكاتب فضحك وقال هو عليّ بن أبي طالب ولو سألت عنه هؤلاء قالوا عثمان ـ يعني بني أمية (٢) ـ. فماذا يعني ضحكه ؟ ألا أنّ شر البلية ما يضحك ؟

٣ ـ لم يذكر عليّاً في تبليغه براءة مع ذكره أبا بكر أميراً على الحج ؟

٤ ـ لم يذكر حضور عليّ في وقعة أحد ، وأعجب من ذلك لم يذكر شهادة لحمزة لئلا يذكر من مثّل به.

٥ ـ لم يذكر لعليّ حضوراً في وقعة الأحزاب وقتله عمرو بن عبد ود.

٦ ـ لم يذكر لعليّ حضوراً في وقعة بني قريظة.

٧ ـ لم يذكر لعليّ حضوراً في وقعة خيبر وقتله مرحبا.

٨ ـ لم يذكر لعليّ حضوراً في عمرة القضاء.

٩ ـ لم يذكر لعليّ حضوراً في غزوة حنين.

_______________________

(١) المصنف ٥ / ٣٤٢.

(٢) نفس المصدر ٥ / ٣٤٣.

٢٨

١٠ ـ لم يذكر لعليّ حضوراً في هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة ولم يذكر مبيته على الفراش.

١١ ـ لم يذكر لعليّ حضوراً في تبوك وطوى حديث المنزلة.

١٢ ـ وفي خبر عليّ ومعاوية أكثر من شاهد فراجع المصنف (١).

أتطلب أثراً بعد عين ، وأيضاً ألم يحدثنا المدائني عن نسخة معاوية إلى عماله برئت الذمة ممن روى في فضل عليّ وأهل بيته شيئاً. وكتابته برواية أحاديث في فضائل الصحابة ، فكثر المتزلفون أمثال أبي هريرة وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص وأحزابهم ممن لا تلتقي بذمّهم الشفتان احتقاراً لهم وازدراءً بهم ، لأنهم لا كرامة لهم ، وكثر الحديث الموضوع حتى قال ابن عرفة النحوي ـ نفطويه ـ : « إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني امية تقرّباً اليهم بما يظنون أنهم يرغمون به انوف بني هاشم » (٢).

ولمّا كان ابن عباس عاش تلك الفترة الحانقة الخانقة أيام معاوية الذي كان يلعنه مع لعنه للإمام ، وينهاه عن التحديث بفضائل الإمام ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى في صفحات احتجاجه ـ فقد أصابه رذاذ الأذى من معاوية الذي كان ، على حد قول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : (ودّ معاوية ما ترك من بني هاشم نافخ ضرمة إلّا طعن في نيطه) (٣). وما كان أخلاف الأمويين بأحسن حالاً من أسلافهم في عداوتهم لبني هاشم ـ ومنهم ابن عباس ـ.

_______________________

(١) نفس المصدر ٥ / ٤٥٢ ـ ٤٦٦.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ١٦ ط مصر الاُولى.

(٣) الفائق للزمخشري / نيط.

٢٩

والآن إلى نموذج آخر في العصر العباسي الذي زاد في الطين بلّة ، فكثرت الموضوعات المبشرة بحكومتهم من الرواة المتزلفين :

فمنها أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للعباس : (يا عم ليملكنّ من ذريتك عدد نجومها ـ وقد نظر إلى الثريا ـ) (١). ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : (فيكم النبوة والمملكة) (٢) ؟

ومنها ما ينسب إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبن عباس : (خذ إليك أبا الأملاك) في ولادة ابنه عليّ بن عبد الله.

وما ينسب إلى محمّد بن الحنفية من مبايعة الشيعة له ثم لأبنه عبد الله بن محمّد ووصيته بالأمر إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عباس (٣) ، وجعلوا ذلك مسنداً في صحيفة ورثها محمّد بن الحنفية عن أبيه أمير المؤمنين.

وهكذا تنتشر فضائل وأحاديث مبشّرة بالعباسيين وان الخلافة فيهم ستبقى حتى يسلموها إلى المسيح (٤).

قال الذهبي : « وقد اعتنى الحفاظ بجمع فضائل العباس رعايةً للخلفاء » (٥).

ولعل خير شاهد على ذلك ما صنعه ابن هشام صاحب السيرة النبوية فقد نقلها عن ابن إسحاق ـ وهو مؤرخ دولة رسمي كما كان مالك بن أنس مدوّن السنّة الرسمي لدى العباسيين ـ فذكر ابن هشام حرب بدر وذكر قائمة بأسماء أسارى بدر نقلاً عن ابن إسحاق وقد خلت من اسم العباس جد العباسيين ، مع أنّ قصة أسره تكاد لا تخفى على أي مؤرخ بعد ما ذكرها ابن سعد نقلاً عن

_______________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٤١١.

(٢) نفس المصدر ٣ / ٤٠٩.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ / ١٢١ ط مصطفى محمّد.

(٤) أنظر البداية والنهاية ١٠ / ١٢٢.

(٥) سير أعلام النبلاء ٣ / ٤١٣.

٣٠

الواقدي ، وجرى ذكرها في كتب السنّة كما جرى ذكرها في كتب السيرة ، ولم تخلُ منها حوليات المؤرخين كالطبري وغيره.

وهنا من الطبيعي أن يكون للرأي الآخر دورٌ في تفنيد حجة العباسيين ونسف تاريخهم ، وكان يمثل ذلك الدور الخصوم من العلوية من أبناء الحسن مضافاً إلى شيعتهم ومن يرى في العباسيين مظالم لا حدّ لها.

فكان النقل ، وكان الدس والإفتراء بما يسلبهم حتى محاسن أمجادهم الثابتة ، فنال العباس وابنه عبد الله ـ وهو والد الخلفاء ـ نصيب غير منقوص. حتى صوّروا العباس وهو يشايع ابن أخيه علياً على أمره ، فيذكروا عنه كلاماً لا يخلو من نقد لاذع ومهما تهضمنّاه ورأينا صحة المروي في ذلك فربّما كان المبرّر هو جوّ الصدور الذي يستدعي تلك الزفرات الحارة ولكن هلم الخطب في ابنه عبد الله وما ألحق به من الرواة حتى كادوا تجريده من كل فضيلة ، فصورّوه نداً لعلي وناقداً له كما في قصة تحريق الغلاة ، وفيها من التهويش والتشويش ما لا يخفى كما سيأتي بيانه في الكتاب. وذكروا له آراء فقهية مخالفة له ، ولا كبير مؤاخذة لمن يراه مجتهداً. غير أنّ ما ورد من الحديث مكذوباً عليه أكثر من غيره ، لكثرة المتزلفين إلي أبنائه ، حتى قال يحيى بن سعيد : « لم أر لكذب قط أكثر منه فيمن ينسب إلي الحبر » (١).

ولكن الطامة العامة ما رووه في خيانته بيت مال البصرة أيام ولايته ومفارقته للإمام مغاضباً وغاصباً ، واستمرت روايات الخصوم في التشنيع عليه ، فذكروا له

_______________________

(١) قبول الأخبار ومعرفة الرجال ١ / ٦٧ لأبي القاسم الكعبري ٣١٩ ه‍ دار الكتب العلمية بيروت.

٣١

حتى حديث الجرادة كما سيأتي بيان ذلك كله في الحلقة الرابعة (عبد الله بن عباس في الميزان) إن شاء الله.

وفي مكاتبات المنصور العباسي ومحمد النفس الزكية الحسني ما يؤكد ما قدّمته من تبادل العباسيين وخصومهم الاتهام والشتائم التي نالت الآباء لتنازع الأبناء ، وفي نقائض شعراء العباسيين والعلويين من تبادل الشتم ما لا يحل ذكره.

وهكذا كان من قَدرَ ابن عباس أن يكون العباسيون من أبنائه ، ويكون خصومهم ـ الأمويون والعلويون معاً ـ من أعدائه فلحقته تبعات من هؤلاء وشتيمات من هؤلاء ما شوّه جانباً من تاريخه ، حتى لم يسلم نتيجة لذلك التشويه حتى من غير أولئك كالخوارج ، بل وحتى من غير المسلمين ، فكان ـ باختصار ـ ضحية لأموية حاقدة ، وعباسية بغيضة وحسنية موتورة وخوارج قانصة ، وأخيراً ليهودية وصليبية كافرة (١).

رابعاً : إذن ليس من السهل غربلة المتناقضات في شتات أخبار ابن عباس.

ولم يكن من الهيّن استخلاص تاريخه سليماً من بين تلك الشوائب الكثيرة.

ولا بد لي وأنا أعنى بتاريخه أن أتخطى الحواجز ـ فيما أحسب ـ حين قرأته في مختلف مصادره وعليّ بذل الجهد البالغ مع الصبر والأناة ، وقد تم لي ذلك ـ والحمد لله ـ وإن عانيت طويلاً حتى استوت معرفتي به معرفة يسّرت لي تمييز ما هو صحيح وثابت له أو عليه ، فوضعت صورته حسب رؤيتي له في اطارها الخاص ، دون تجاوز الحدين. الإفراط والتفريط ، ومن دون تلميع أو تغليف ، لتكون أقرب إلى واقعها ، وهي ـ في نظري ـ أفضل من الصور

_______________________

(١) سيأتي مزيد بيان عن تحامل المستشرقين الذين تناولوه بالطعن أمثال جولد زيهر اليهودي وشبر نجر وغيرهما.

٣٢

المصطنعة المحاطة بهالة التفخيم والتعظيم ، كما أنها أصدق من الصورة المصنوعة والمشوهة بضباب التعتيم.

فكانت قناعتي بأن البحث قد تم بالمستوى المطلوب من الموضوعية نتيجة إيماني بتمام المسؤولية ، وتطلعاً إلى ثقة القارئ وإطمئنانه بصحة ما كتبته نصرة لحق مهضوم ، والله من وراء القصد ، وهو وليّ التوفيق والهادي إلى الصواب.

خامساً : ما كتب عن ابن عباس بتأليف خاص ، لقد مرت بنا كلمة الذهبي : « وقد اعتنى الحفاظ بجمع فضائل العباس رعايةً للخلفاء » وهي صادقة إلى حدٍّ بعيد. ولكنه لم يذكر لنا عناية الحفاظ بجمع فضائل ابن عباس الذي هو أبو الخلفاء ، وربما لم يكن في زمانه ما رآه جديراً بالذكر.

ومهما يكن فإلى القارئ نبذة عن الكتب المؤلفة قديماً في ابن عباس رضي‌الله‌عنه :

١ ـ ذكر ابن النديم في الفهرست في مؤلفات المدائني عدة كتب في العباس وابنه عبد الله بن عباس وابنه عليّ بن عبد الله بن العباس وابنه محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عباس ، فكان نصيب عبد الله منها كتاباً واحداً ، ولم نعرف عنه شيئاً سوى ما تقدم (١).

٢ ـ ولقد ذكر النجاشي في رجاله في ترجمة عبد العزيز بن يحيى الجلودي الأزدي البصري جملة كتبه ، ومنها : الكتب المتعلقة بعبد الله بن عباس مسندة عنه ، كتاب التنزيل عنه ، كتاب التفسير عنه ، كتاب المناسك عنه ، كتاب النكاح والطلاق عنه ، كتاب الفرائض عنه ، كتاب تفسيره عن الصحابة ، كتاب القراءات

_______________________

(١) الفهرست / ١١٤ تح‍ رضا تجدد.

٣٣

عنه ، كتاب البيوع والتجارات عنه ، كتاب الناسخ والمنسوخ عنه ، كتاب نسيه ، كتاب ما أسنده عن الصحابة ، كتاب بقية قوله في الطهارة ، كتاب الصلاة والزكاة ، كتاب ما رواه من رأي الصحابة ، كتاب الذبائح والأطعمة واللباس ، كتاب الفتيا والشهادات والأقضية والجهاد والعدة وشرائع الإسلام ، كتاب قوله في الدعاء والعُوذ وذكر الخير وفضل ثواب الأعمال والطب والنجوم ، كتاب قوله في قتال أهل القبلة وانكار الرجعة والأمر بالمعروف ، كتاب في الأدب وذكر الأنبياء وأول كلامه في العرب ، وقريش والصحابة والتابعين ومَن ذمه ، كتاب قوله في شيعة عليّ عليه‌السلام ، كتاب بقية رسالته وخطبه وأول مناظرته ، كتاب بقية مناظرته وذكر نسائه وولده. آخر كتب ابن عباس.

وهذه الكتب كلها لم يصل الينا منها شيء ، ويبقى للجلودي فضل روايتها وللنجاشي فضل ذكرها وروايتها عن الجلودي بواسطتين ، وأحسب أنه رآها فرواها ، فهي كانت حتى القرن الخامس الهجري أيام النجاشي المتوفى سنة ٤٥٠ ه‍.

وهناك مؤلفات متأخرة عن زمان العباسيين ، فلا سبيل إلى اتهام مؤلفيها بالتزلف اليهم ، مثل :

٣ ـ (استئناس الناس بفضائل ابن عباس) تأليف ملا عليّ بن سلطان محمّد الهروي القاري الحنفي نزيل مكة المتوفي بها في سنة ١٠٤١ ه‍ منه نسخة ضمن مجموعة بقلم معتاد وبخط أحمد الجزائري فرغ منها يوم الأثنين ٩ ذي القعدة سنة ١٢٧١ ه‍ (١).

_______________________

(١) كما فهرست الكتب لدار الكتب المصرية ٥ / ١٣٠برقم ١٠ مجاميع.

٣٤

٤ ـ (تحفة اللطائف في فضائل ابن عباس ووجّ والطائف) تأليف الشيخ محمّد المدعو جار الله بن عبد العزيز بن فهد القرشي المكي المتوفي سنة ٩٥٤ ، وهو مختصر على مقدمة وبابين وخاتمة ، ألفه سنة ٩١٥ ، نقل عنه السيد عباس المكي في نزهة الجليس (١).

٥ ـ (اتحاف الناس بفضل وابن عباس) تأليف نور الدين عليّ بن سلطان محمّد الهروي القاري المكي الحنفي المذكور أولاً.

٦ ـ (تحفة الأخوان من الناس في فضيلة ابن عباس) تأليف عليّ القارئ المذكور آنفاً ، نسخة منه في مكتبة أسعد أفندي في تركيا برقم ٣٥٢٤. ولا يبعد أن يكون متحداً مع سابقه.

٧ ـ (رفع الالتباس في فضائل ابن عباس) تأليف تقي الدين أبي محمّد عبد الله بن عبد العزيز بن فهد المكي ، وهو دون الكراسة.

٨ ـ (كشف البأس عما رواه ابن عباس مشافهة عن سيد الناس) تأليف محمّد عابد بن أحمد الأنصاري السندي نسخته في التيمورية.

٩ ـ (نشر اللطائف في فضل الطائف) لأبن عراق الكناني (مخطوط) ، نقل عنه في التاريخ الإسلامي العام ١٢٣ حديثاً مناقبياً في ابن عباس أثر الصنعة ظاهر عليه ، سوف نشير إليه عند ذكر قبره.

١٠ ـ (نور الأقتباس في مشكاة وصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبن عباس) تأليف الحافظ ابن رجب الحنبلي المتوفي سنة ٧٩٥. طبع بتحقيق عبد الفتاح خليفة ومحمود خليفة ، بمصر سنة ١٣٦٥.

_______________________

(١) نزهة الجليس ٢ / ٢٤٦ ط الحيدرية.

٣٥

وفي نظري من خير ما تقدم ذكره هو (كشف البأس عمّا رواه ابن عباس مشافهة عن سيد الناس ) للسندي ، فإنّ اسمه يعني جمع أحاديث ابن عباس التي رواها مشافهة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا موضوع نافع في تقويم أحاديث ابن عباس ، وما تطرّق إليها من شكوك. وإني آسف إذ لم أقف على نسخته ، ودونه كتاب نور الاقتباس في مشكاة وصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبن عباس ، فهو لا يخلو من فائدة أخلاقية كما رأيته ، أمّا الباقيات فغير صالحات في مجال التقييم ، بل إنها بالمناقبيات أشبه ، وذلك أمر نرغب عنه. لا لأنا ننكر فضل ابن عباس ، بل نترفع بشأنه عن تلك المزايدات.

ولا ينقضي عجبي من التجني على ابن عباس رضي‌الله‌عنه فقد غلا فيه مناقبياً اصحاب الكتب المذكورة وعلى النقيض منهم ، قلاه ابن تيمية حتى كتب كتاباً عنوانه : (تكفير ابن عباس) (١) وهو أمر محزن للمسلم كما هو مخزٍ للمؤلف.

سادساً : شكر وعرفان بالجميل :

(من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق) فالحمد لله الذي منّ عليّ بجميل آلائه ، فهيأ لي من أستهدي بآرائه ، إذ كنت أعرُض بعض ما اكتبه على بعض مشايخ العلم وأساتذة الفن ، كما كنت دائم التساؤل مع ذوي الاختصاص ، لغرض الأستفادة من توجيهات الأولين ، والأستنارة بآراء الآخرين.

لذلك صار من الواجب عليّ ـ عرفاناً بالجميل ـ أن أشكرهم على ما رأيت منهم من التقدير والإطراء حتى أولاني بعضهم متفضلاً مبتدءاً ـ وخير الفضل ما كان ابتداءاً ـ بما لا أستحقه من تقريض الثناء فدبّج يراعه كلمة قيمة ، وآخر

_______________________

(١) جلاء العينين / ٩٢ ط بولاق سنة ١٢٩٨ ه‍.

٣٦

ألقي إلي منه كتاب كريم ، فشكراً لهم جميعاً على إحسانهم إليَّ ، ولهم الذكر العلي فرض عليَّ ، فأنا أذكر أسماءهم ، إحياء لهم (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وأسأل الله أن يمنّ عليهم بالرحمة والرضوان. وهم السادة التالية أسماؤهم :

أوّلاً : سيدي وراعي غرسي المغفور له سماحة السيد الوالد ( قدس سره ) (المتوفى ١١جمادي الأول ١٤٠٥ ه‍) الذي ربّاني فأحسن تربيتي ، ورعاني بعطفه ، وأولاني بلطفه ما أعجز عن ذكره فضلاً عن شكره.

ثانياً : شيخ محدّثي العصر بقية السلف سماحة المغفور له الشيخ أغا بزرك الطهراني قدس سره ( المتوفى ١٣ ذي الحجة ١٣٨٩ ه‍) ، مؤلف الموسوعتين الشهيرتين (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) و (طبقات أعلام الشيعة) ، فقد كنت أحظى بزيارته فأنهل من نمير علمه ، ويشجعني عملياً على المثابرة والمصابرة كلما أطلعته على ما جدّ لي من بحوث ، وقد كتب في الذريعة أسماء ما أطلع عليه. وكان منها كتاب (عبد الله بن عباس حبر الأمة) فأعجبه حتى سجل انطباعه عن كل جزء من أجزائه الأربعة في ج ١٥ من الذريعة. ومن المؤسف حقاً أنّ هذا الجزء طبع بعد وفاته فلم يَذكر (في ج ١٥ / ٢١٧) سوى (عبد الله بن عباس فيه تفاصيل حياته في أربعة أجزاء كبار ) وضاع باقي ما كتبه سماحة الشيخ قدس‌سره ، حتى اسم مؤلف الكتاب ، وهذا ما يبعث على الريبة فيمن تولى كبر ذلك ، وإلّا كيف يعقل أنّ الشيخ يذكر الكتاب وحجم أجزائه ، ثم هو يغفل اسم المؤلف مع صلتي الوثقى به والمودة الصادقة بيننا ، وحسبي شاهداً على ذلك ما كتبه بخطه حين طلب مني تهذيب وتشذيب ما كتبه من الحواشي على كشف الظنون ،

٣٧

فاستجبت لطلبه ، وقد طبع صورة ما كتبه بخطه في ايضاح المكنون ذيل كشف الظنون (ط أفست إسلامية ـ طهران عن طبعة معارف استانبول) سوى ما كتبه لي في إجازتيه من طرق الخاصة ومن طرق العامة.

ثالثاً : سماحة الحجة المغفور له الشيخ محمّد عليّ الأوردبادي قدس سره (المتوفى صفر ١٣٨٠ ه‍) فقد بذل لي من وقته ساعة في كل ليلة بعد الأنتهاء من صلاة العشاء يستمع فيها ما أقرأ عليه بعض فصول الجزء الأول ، فأفادني بتوجيهاته ومناقشاته تغمده الله برحمته.

رابعاً : سماحة آية الله العظمى الفقيه السيد ميرزا عبد الهادي الحسيني الشيرازي قدس سره (المتوفى ١٠صفر ١٣٨٢ ه‍) فقد عرف أمر الكتاب من الشيخ الأوردبادي رحمه الله الذي كان يحضر مجلس الفتيا عنده ليلاً في داره ، ولمّا كانت قراءتي على الشيخ ربّما طالت فأخرته بعض الوقت عن مجلس الفتيا ، فهو أخبر سماحة السيد بالكتاب ، فأحبّ الأطلاع عليه ، واطّلع عليه وأعجب به فقرّضه. متفضلاً مشكوراً. بما تقدمت صورة تقريضه.

خامساً : سماحة الحجة العلم الفذّ المغفور له السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني (قدس سره) (المتوفى ٢٥ شوال ١٣٨٦ ه‍) فقد كنت أرتاد مكتبة الجوادين العامة في الكاظمية ، وكنت أزوره هناك ، وأسأله عن رسالته التي كتبها في تنزيه حبر الأمة ممّا أفتري عليه من قصة بيت المال بالبصرة ، وكان يمنحني من خلقه الرفيع ورحابة الصدر ما يجرؤني على التحدث معه حول شخصية المترجم له وكتابي عنه ، فأقول ويسمع ، ويناقش فأدفع ـ بسورة الشباب مع شيخ

٣٨

جاز الثمانين ـ مناقشة الندّ للندّ (١) تغمده الله برحمته ، ووفاء مني بعرفان جميله نشرت كتابه الكريم في أول الكتاب.

سادساً : العلامة الدكتور مصطفى جواد رحمه الله (المتوفى ١٩٦٩ م) الذي جرّت المعرفة بيننا إلى معرفته بأمر الكتاب واطلاعه عليه حيث دعاني إلى بيته ، وهناك كانت قراءة بعض الصفحات وإبداء بعض الملاحظات ثم تتابعت قراءة بعضٍ آخر أرسلته فكان يوشّح ـ مشكوراً ومأجوراً ـ بعض التصويبات اللغوية فرحمة الله عليه.

_______________________

(١) لا أنسى تلك الأمسية العلمية الأدبية في ليلة الأثنين التي كانت تقام في مكتبة الجوادين العامة في صحن الإمامين الكاظمين عليهما السلام فدخلت المكتبة وكان المكان قد ضاق بالزوآر ، والمقريء السيد حيدر الجوادي يتلو بعض آي الذكر الحكيم ، فجلست بقرب مدير المكتبة الذي أفسح لي حتى إذا انتهى المقريء من تلاوته وتقدمت للسلام على سماحة السيد رحمه الله فاستقبلني بحفاوة بالغة وكان من بين السادة الحضور المرحوم الخطيب السيد عبد اللطيف الوردي ، والمرحوم الخطيب الشيخ كاظم آل نوح والمرحوم الدكتور عز الدين آل يس ، والدكتور ضياء الدين الدخيلي وآخرين لم تحضرني فعلاً أسماؤهم ، فرأوا إقبال المرحوم سماحة السيد بطلعته البهية وشيبته البيضاء الفضية التي زانت محياه على شاب لم يتخطّ العقد الثالث من عمره ، فأثار ذلك تساؤل من لم تكن لي ولهم سابق معرفة بيننا. فأحفاني ـ رحمه الله ـ بالسؤال ، ثم تفضّل يعرّفني إلى الجماعة الذين ذكرت أسماءهم بما لا استحقه من الإطراء ثم عاد يسألني عن كتاب ابن عباس ـ رحمه الله ـ وإلى أي مرحلة وصلت فيه ، فأخبرته بتمامه ، فاستبشر كثيراً وجرنّا الحديث إلى طلبه بقراءة فهرسته ثم قراءة بعض فصوله ، وفي اثناء ذلك كانت مداخلات من بعض الحضور ـ وخاصة المرحوم الخطيب الشيخ كاظم آل نوح ـ ومناقشات دامت وقتاً أكثر ممّا هو معتاد لسماحته وللحضور. ولكنهم كانوا يصرّون على مزيد من الحديث ، وجرت بيني وبينهم بعض المطايبات والنكات ، وانتهى المجلس بثنائهم وإعجابهم ودعائهم بالموفقية لأن الموضوع شائك وشائق كما قال الدكتور آل يس ، فشكرتهم ثم ودعتهم وخرجت ، وبعد أيام وأنا في النجف الأشرف فاجأني رسول من قبل سماحة السيد الشهرستاني يحمل مظروفاً فيه كتاب كريم يفيض حباً وعاطفة ، وثناءً ودعاء ، وقد نشرت صورته في أول الكتاب تقديراً مني لفضل صاحبه ، واعترافاً مني باداء بعض ما يجب من الذكر والشكر.

٣٩

وأخيراً لا أنسى إفضال بقية الأعلام الكرام وفي مقدمتهم المغفور له سماحة الإمام الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء والمغفور له الحجة العالم الموسوعي الشيخ محمّد السماوي تغمدهما الله برحمته فقد أفدت من مكتبتيهما خصوصاً الثاني حيث يسرّ لي الاطلاع على نوادر المخطوطات مثل ربيع الأبرار والدرجات الرفيعة وغيرهما ممّا لم يكن مطبوعاً يومئذٍ فرحم الله الماضين ممن تفضل باللطف ، وحفظ الباقين وأجرهم جميعاً على الله. والحمد لله رب العالمين.

النجف الأشرف محمّد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان عفي عنه

٤٠