موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

خالد إلى ذلك البيت الرفيع سوى تلك المرّة ، مع أنّ أم المؤمنين ميمونة كانت خالتهما معاً.

بل كان ابن عباس ربّما بات عندها ليلاً ، ممّا يدل على أنّه كان أكثر إلماماً ، وأشد لصوقاً ، والشواهد على ذلك كثيرة.

فمنها ما أخرجه الحفّاظ والمؤرخون بأسانيدهم عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : « كنت في بيت ميمونة بنت الحارث فوضعتُ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضوءه ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن وضع هذا ؟ فقالت ميمونة : وضعه عبد الله ، فقال : اللّهم علّمه التأويل وفقّهه في الدين » (١).

ومنها ما أخرجوه أيضاً بأسانيدهم عنه رضي‌الله‌عنه قال : « بتّ في بيت خالتي ميمونة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي في الليل فجئت فقمت عن يساره ، فأقامني عن يمينه فصلّى » (٢).

رؤيته الروح الأمين :

ومنها ما ورد من رؤيته جبرئيل مرتين في بيت خالته ميمونة ، فقد أخرج الحفاظ والمؤرخون عنه رضي‌الله‌عنه قال : « كنت مع أبي عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل يناجيه ، وكان كالمعرض عن أبي فخرجنا من عنده ، فقال : ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني ؟ قلت له : يا أبه كان عنده رجل يناجيه قال : وكان عنده أحد ؟ قلت : نعم.

_______________________

(١) أنظر المعرفة والتأريخ للفسوي ١ / ٤٩٤ ، وطبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١١٩ ، ومستدرك الحاكم ٣ / ٥٣٤ ، والمعجم الكبير للطبراني في مواضع متعددة في أحاديث ابن عباس ، وأنساب الأشراف للبلاذري (ترجمة ابن عباس).

(٢) راجع المعرفة والتاريخ للفسوي ١ / ٥٢٠ ، وطبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١٢٠ ، والمعجم الكبير للطبراني في مواضع متعددة في أحاديث ابن عباس.

٢٠١

فرجعنا ، فقال : يا رسول الله إني قلت لعبد الله كذا وكذا ، فقال : لي كذا وكذا ، وهل كان عندك أحد ؟ قال : ورأيته يا عبد الله ؟ قلت : نعم ، قال : ذاك جبريل هو الّذي شغلني عنك » (١).

تلكم هي المرة الأولى ، والمرة الثانية ، بعثه أبوه العباس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل عليه وعنده رجل فقام وراءه ، فالتفت إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « متى جئت يا حبيبي ؟ قال : منذ ساعة ، قال : هل رأيت عندي أحداً ؛ قال : نعم رأيت رجلاً. قال : ذاك جبرئيل عليه الصلاة والسلام ولم يره خلق إلّا عمي إلّا أن يكون نبيّاً ، ولكن أسأل الله أن يجعل ذلك في آخر عمرك ، ثمّ قال : اللّهم علّمه التأويل وفقّهه في الدين ، وأجعله من أهل الأيمان » (٢).

ونحن أزاء هذين الحديثين مهما تكن درجة تصديقنا بهما تفصيلاً ، فلا شك بأنهما من جملة الشواهد على كثرة زياراته لبيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولكن لنا تحفّظ عليهما لما سيأتي.

رؤيته لجبرئيل :

مسألة رؤيته لجبرئيل عليه‌السلام لا يكاد يخلو مصدر من مصادر ترجمته من ذكرها فراجع مسند أحمد (٣) ، والمعجم الكبير للطبراني (٤) ، وتهذيب الآثار

_______________________

(١) راجع المعرفة والتاريخ للفسوي ٢ / ٥٢١ ، وطبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١٢٣ ، والمعجم الكبير للطبراني في مواضع متعددة في أحاديث ابن عباس منها ١٢ / ١٤٣ ط الثانية بالموصل ، وانساب الأشراف للبلاذري في ترجمة ابن عباس.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ٥٣٦ ، وتلخيصه للذهبي بهامشه ، وأنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس).

(٣) مسند أحمد ١ / ٢٦٧٩.

(٤) المعجم الكبير للطبراني / ١٠٥٨٤ و ١٠٥٨٦ و ١٢٨٣٦.

٢٠٢

للطبري (١) ، ومجمع الزوائد للهيثمي (٢) ، والاصابة لابن حجر (٣) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (٤) ، وغيرها.

ولمّا كان جبرئيل عليه‌السلام ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحياناً بصورة دحية الكلبي فربّما كان الّذي رآه ابن عباس هو ذلك ولم يكن قد عرف يومئذ دحية أو رآه بغير صورته. ومهما تكن الصورة الّتي رآها فهي لا تخلو من دلالة مناقبية ، ولكنه لا مانع من صحتها بعد أن قرأناها وفي مصادر كثيرة وقرأنا مثلها لغيره كما سيأتي لكن التصديق بأنّ هذه الرؤية كما قالوا كانت سبب عماه في آخر عمره فيما روى بعضهم (٥) ، وعزاه للطبراني في الأوسط بأسانيد ورجاله ثقات ، فهذا سبب لا نكاد نؤمن بصحته لأنّه سبب ما أنزل الله به وحياً ولا جاء به من سلطان فأيّ علاقة طبيعية أو غير طبيعية ـ بين رؤيته المَلَك وبين فقدانه البصر ؟! فهل ثمة علاقة بين الرؤية وفقدان البصر ؟ فلنقرأ ولو أستطراداً شيئاً عن ذلك.

هل رؤية المَلَك تسبب العمى ؟

لابدّ لنا قبل الإجابة على ذلك من الجواب على سؤال يفرض نفسه قبل ذلك وهو هل يمكن للناس ـ عدا الأنبياء رؤية الملائكة ؟ ومن ثَمَّ إذا أمكن ذلك يأتي الجواب على السؤال المذكور هل الرؤية تسببُ العمى ؟

أمّا الجواب على السؤال الأوّل فلا شك بأنّ الرؤية غير ممتنعة بل ممكنة بل وحاصلة الوقوع ، وقد ورد في :

_______________________

(١) تهذيب الاثار ١ / ١٧١ (مسند ابن عباس).

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٥٥١٨ و ١٥٥١٩.

(٣) الاصابة ٤ / ١٤١ (ترجمة ابن عباس) تحقيق البجاوي.

(٤) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٤٤ ـ ٤٤٥ ط دار الفكر.

(٥) اُنظر مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٥٥٢٠.

٢٠٣

١ ـ القرآن المجيد ما يؤكد ذلك كما في قصة مريم عليها‌السلام وذلك قوله تعالى : ( فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) (١).

وكذلك في حديث ضيف إبراهيم المكرمين وقولهم لزوجته : ( قَالُوا كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) (٢).

وأوضح من ذلك ما جاء في سورة هود حيث قال تعالى : ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) (٣).

فإمرأة إبراهيم ـ سارة ـ رأت الملائكة وضحكت وقالت لهم وقالوا لها ، فرؤية الملائكة والحديث معهم أمر ممكن وواقع ، كما أنّه ليس مختصاً بالأنبياء وأهل الأنبياء كما قد يتوهم. فإن الملائكة الّذين رأتهم سارة زوجة إبراهيم

_______________________

(١) مريم / ١٧ ـ ١٩.

(٢) الذاريات / ٣٠.

(٣) هود / ٦٩ ـ ٧٣.

٢٠٤

وسمعت كلامهم فقالت لهم وقالوا لها. هم الّذين رأوهم قوم لوط ( وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ) (١). إلى آخر ما ورد في القرآن في ذلك.

٢ ـ وجاء في السنّة النبوية ما يدل على الإمكان ففي حديث حنظلة بن الربيع الكاتب الأسيدي انّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم قال له : (يا حنظلة لو كنتم عند أهليكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطريق) وفي لفظ (لصافحتكم الملائكة بأكفها ولزارتكم في بيوتكم) وفي ثالث (لأظلتكم بأجنحتها) (٢).

٣ ـ كما ورد في السيرة النبوية في قصة بدر. ونصرة الملائكة : وجاءت ريح لم يروا مثلها شدة ، ثمّ ذهبت فجاءت ريح أخرى ، فكانت الأولى جبريل عليه‌السلام في ألف من الملائكة مع رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم والثانية ميكائيل عليه‌السلام في ألف من الملائكة عن ميمنة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم والثالثة اسرافيل عليه‌السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم. وكان سيماء الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور والصوف في نواصي خيولهم ، فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لأصحابه انّ الملائكة قد سَوّمت فسومّوا فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم ، وكانت الملائكة يوم بدر على خيل بلق (٣).

_______________________

(١) هود / ٧٨.

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب التوبة باب ٣ ، والترمذي في سننه برقم ٢٥١٦ وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وابن ماجة برقم ٤٢٣٩ والاحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩ / ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، والطيالسي في مسنده / ١٩١ و ٣٣٧ ، والبغوي في شرح السنّة ١ / ١٦٧ ، وأحمد في مسنده ٢ / ٣٠٥ و ٣ / ١٧٥ و ٤ / ١٧٨ و ٣٤٦ ، وصحّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ٤ / ٦٠٦ وغيرهم.

(٣) أنظر طبقات ابن سعد ٢ ق ١ / ٩ السيرة النبوية.

٢٠٥

ولعل هناك من يقول إن المذكور في قصة بدر إنّما كان من إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للصحابة بذلك. فنقول له : إن في أسر العباس صراحة قول أبي اليسر ، وكان دحداحاً قصيراً مدملكاً ذا بطن (١) ، وكان العباس طويلاً ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كيف أسرته ؟ فقال لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبلُ ولا بعدُ هيئته كذا. قال : (لقد أعانك عليه ملكٌ كريم) (٢). وفي خصوص رؤية جبرئيل عليه‌السلام ذكر أصحاب السير جملة من الصحابة رأوه وعدوا منهم :

١ ـ حارثة بن النعمان رأى جبريل مرتين.

٢ ـ تميم بن سلمة.

٣ ـ محمّد بن مسلمة.

٤ ـ حمزة بن عبد المطلب فان كان هو الّذي طلب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يريه جبريل في صورته فأراه ، فالذين ذكرناهم آنفاً رأوه من دون طلب (٣).

وخلّ ما ورد في مزايدات المناقب كحديث رؤية عائشة قالت : « لقد رأيت جبريل واقفاً في حجرتي هذه على فرس ورسول الله يناجيه ، فلمّا دخل قلت : يا رسول الله من هذا الّذي رأيتك تناجيه ، قال : وهل رأيته ؟ قلت : نعم ، قال : فبمن شبّهته ؟ قلت : بدحية الكلبي ، قال : لقد رأيت خيراً كثيراً ذاك جبريل » (٤) ، ورواه أحمد في مسنده ، وفيه قال : « وهو يقرئك السلام قالت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، جزاه الله من زائر ودخيل ، فنعم الصاحب ونعم الدخيل » (٥).

_______________________

(١) سير أعلام النبلاء ٤ / ١٤٧ ط دار الفكر.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ٤٠١ ط دار الفكر ، ومختصر تاريخ دمشق ١١ / ٣٢٩.

(٣) أنظر تنوير الحلك في امكان رؤية النبيّ والملك للسيوطي ضمن كتابه الحاوي ٢ / ٤٥٥ و ٤٥٦ و ٤٥٨.

(٤) أنظر الطبقات لابن سعد ٨ / ٦٧ ـ ٦٨.

(٥) مسند أحمد بن حنبل ٦ / ٧٤ ـ ٧٥ / ١٤٦.

٢٠٦

أمّا الّذين رأوا الملائكة ولم يعيّنوهم مَن هم فهم :

١ ـ أسيد بن حضير.

٢ ـ عبد الرحمن بن عوف.

٣ ـ أبو أسيد الساعدي.

٤ ـ أبو بردة نيّار.

فهؤلاء ممّن رأوا الملائكة في يوم بدر (١).

وأخيراً فقد روى السيوطي في كتابه : « أنّ أبا بكر كان يسمع مناجاة جبريل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢) ، وزاد في مكان آخر : « أنّ جبريل سعطه سعطة فبريء من مرضه !! » (٣).

وهناك أسماء آخرين ذكروا لهم الرؤية والسماع والتسليم والمصافحة وغير ذلك. فمن شاء المزيد فليرجع إلى كتاب السيوطي المذكور.

وإلى هنا نكتفي في الجواب على السؤال الأوّل وهو : هل يمكن للناس رؤية الملائكة ؟ فكان الجواب : نعم يمكن ذلك وقد جاوز مرحلة الإمكان إلى الوقوع لكثرة الشواهد على ذلك.

بقي علينا أن نبحث الجواب عن السؤال الثاني : هل رؤية الملك ـ أو خصوص رؤية جبرئيل عليه‌السلام ـ تسبب العمى ؟

ومن خلال ما مرّ بنا وقرأنا أسماء بعض من رأى الملائكة ومن رأى جبرئيل عليه‌السلام خاصة ، فوجدناهم لم يصابوا بالعمى ، إذن فنفس الرؤية لا تسبّب

_______________________

(١) أُنظر تنوير الحلك للسيوطي في كتابه الحاوي في الفتاوي ٢ / ٤٥٧ ـ ٤٥٨.

(٢) نفس المصدر ٢ / ٤٥٦.

(٣) نفس المصدر ٢ / ٤٦٠.

٢٠٧

العمى ، ولا يقال تلك خصوصية لرؤية ابن عباس لجبرئيل عليه‌السلام حتى تكون رؤيته تسبب له العمى ، فرؤيته كرؤية غيره ، إن صحت أحاديث الرؤية وإلّا فالجميع هباء.

وأمّا الحديث عن عماه فسيأتي في مكانه عند البحث عن تاريخه في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢٠٨



عودة إلى الشواهد

ومن جملة نمط ما مرّ من الشواهد الدالة على عناية الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابن عمه ما رواه السيد ابن طاووس عن عبد الله بن عباس أنّه قال : « يا رسول الله طوبى لمن رأى ليلة القدر فقال له : يابن عباس ألا أعلمك صلاة إذا صليتها رأيت بها ليلة القدر كلّ ليلة عشرين مرة وأفضل ؟ فقال : علّمني صلّى الله عليك. فقال له : تصلي أربع ركعات في تسليمة واحدة ويكون من بعد العشاء الأوّل وتكون قبل الوتر ، في الركعة الأولى فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون ثلاث مرات وقل هو الله أحد ثلاث مرات ، وفي الثانية فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون ثلاث مرات وقل هو الله أحد ثلاث مرات ، وفي الثالثة والرابعة مثل ذلك فاذا سلّمت تقول ثلاث عشرة مرة أستغفر الله ، فوحق من بعثني بالحقّ نبيّاً أنّه من صلّى هذه الصلاة وسبّح في آخرها ثلاث عشرة مرة وأستغفر الله فإنّه يرى ليلة القدر كلّما يصلي هذه الصلاة ، ويوم القيامة يشفع في سبعمائة ألف من أمتي وغفر الله له ولوالديه إن شاء الله تعالى » (١).

وأحسب أنّه صلّى ما علّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأى انها ليلة ثلاث وعشرين فقد روى البلاذري في ترجمته من الأنساب بسنده عنه قال : « أتيت في منامي فقيل لي هذه ليلة القدر فقمت وأنا ناعس فتعلقت ببعض أطناب فسطاط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظرت فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين » (٢).

_______________________

(١) الإقبال / ٦٥ ط الثانية نشر دار الكتب الإسلامية سنة ١٣٩٠ ه‍.

(٢) أنساب الأشراف برقم / ٧٥ نسخة مخطوطة بقلمي.

٢٠٩

ومن الشواهد أيضاً ما أخرجه الحاكم في المستدرك والذهبي في تلخيصه وغيرهما بأسانيدهم عنه قال : « أمرني العباس قال : بت بآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة ، فانطلقت إلى المسجد فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العشاء الآخرة ، حتى لم يبق في المسجد أحد غيره ، قال : فمرّ بي فقال : من هذا ؟ فقلت : عبد الله ، قال : فمه ؟ قلت أمرني أبي أن أبيت بكم الليلة ، قال : فالحق فلمّا دخل ، قال : افرشوا لعبد الله ، قال : فأتيت بوسادة من مسوح (١) قال : وتقدّم إليّ العباس أن لا تنامنّ حتى تحفظ صلاته ، قال : فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنام حتى سمعت غطيطه ، قال : ثمّ أستوى على فراشه فرفع رأسه إلى السماء فقال : سبحان الملك القدوس ـ ثلاث مرات ـ ثمّ تلا هذه الآية من آخر سورة آل عمران حتى ختمها ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٢) ثمّ قام فبال ، ثمّ أستنّ بسواكه ، ثمّ توضأ ، ثمّ دخل مصلاه فصلّى ركعتين ليستا بقصيرتين ولا طويلتين ، قال : فصلّى ثمّ أوتَر ، فلمّا قضى صلاته سمعته يقول : اللّهم اجعل في بصري نوراً ، واجعل في سمعي نوراً ، واجعل في لساني نوراً ، واجعل في قلبي نوراً ، واجعل عن يميني نوراً ، واجعل عن شمالي نوراً ، واجعل لي يوم لقائك نوراً ، واعظم لي نوراً » (٣).

وفي حديث عند الطبراني بسنده عن ابن عباس قال : « بعثني العباس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتيته ممسياً وهو في بيت خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي من الليل ، فلمّا صلّى الركعتين قبل الفجر قال : (اللّهم إنّي أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي ، وتجمع بها شملي ، وتلمّ بها شعثي ، وتردّ بها إلفتي ، وتصلح بها ديني ، وتحفظ بها غائبي ، وترفع بها شاهدي ، وتزكّي بها عملي ، وتبيّض

_______________________

(١) المسوح : جمع مسح الثوب من شعر.

(٢) البقرة / ١٦٤ ، آل عمران / ١٩٠.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ٥٣٥ وتلخيصه للذهبي بهامشه ، والمعجم الكبير للطبراني ١٠ / ٢٧٥.

٢١٠

بها وجهي ، وتلهمني بها رشدي ، وتعصمني بها من كلّ سوء ، اللّهم أعطني إيماناً صادقاً ، ويقيناً ليس بعده كفر ، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والاخرة.

اللّهم إنّي أسألك الفوز عند القضاء ، ونُزُل الشهداء ، وعيش السعداء ، ومرافقة الأنبياء ، والنصر على الأعداء.

اللّهم أنزلت بك حاجتي ، وإن قصر رأيي ، وضعف عملي ، وافتقرت إلى رحمتك ، فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور ، كما تجير بين البحور ، أن تجيرني من عذاب السعير ، ومن دعوة الثبور ، ومن فتنة القبور ، اللّهم ما قصرَ عنه رأيي ، وضعف عنه عملي ، ولم تبلغه أمنيتي ، من خير وعدته أحداً من عبادك ، أو خير أنت معطيه أحداً من خلقك ، فإنّي أرغب اليك فيه ، وأسألك يا ربّ العالمين ، اللّهم أجعلنا هادين مهديين غير ضالين ولا مضلّين ، حرباً لأعدائك ، وسلماً لأوليائك ، نحب بحبك الناس ، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك.

اللّهم هذا الدعاء وعليك الاستجابة ، اللّهم وهذا الجهد وعليك التكلان ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله. اللّهم ذا الحبل الشديد ، والأمر الرشيد ، أسألك الأمن يوم الوعيد ، والجنة يوم الخلود ، مع المقرّبين الشهود ، والركّع السجود ، والموفين بالعهود ، إّنك رحيم ودود ، وإنّك تفعل ما تريد.

سبحان الّذي تعطّف العزّ وقال به ، سبحان الّذي لا ينبغي الحمد إلّا له ، سبحان ذي العرش والبهاء ، سبحان ذي المقدرة والكرم ، سبحان الّذي أحصى كلّ شيء بعلمه.

اللّهم اجعل لي نوراً في قلبي ، ونوراً في قبري ، ونوراً في سمعي ، ونوراً في بصري ، ونوراً في شعري ، ونوراً في بشري ، ونوراً في لحمي ، ونوراً في دمي ،

٢١١

ونوراً في عظامي ، ونوراً من بين يدي ، ونوراً من خلفي ، ونوراً عن يميني ، ونوراً عن شمالي ، ونوراً من فوقي ، ونوراً من تحتي ، اللّهم زدني نوراً ، وأعظم لي نوراً ، وأجعل لي نوراً) » (١).

إلى غير ذلك من الشواهد الّتي تميّز فيها الحبر ابن عباس على جميع اخوانه وجميع أبناء خالاته وهم أبناء أخوات أم المؤمنين ميمونة بما فيهم خالد بن الوليد. فقد حظي بالعطف النبوي ، وحصل على ما لم يحصل عليه أولئك على كثرتهم ، فظهرت آثار ذلك في تكوين شخصيته الّتي فضلت جميع اخوانه وأبناء خالاته ، مضافاً إلى استعداده في نبوغه وألمعيته منذ نعومة أظفاره ، فهو يحفظ المحكم وهو ابن عشر سنين ، بينما كان ابن خالته خالد بن الوليد لم يتعلم من القرآن كثيراً باعترافه (٢) ، بل نقل عنه ابن أبي شيبة في مصنفه : « أنّه أم مرة الناس بالحرّة فقرأ من سور شتى ثمّ ألتفت إليهم حين أنصرف فقال : شغلني الجهاد عن تعلّم القرآن » (٣). وأحسب أنّ ما رواه أبن أبي شيبة هو الّذي رواه ابن حجر في الأصابة إلّا أنّ ابن حجر اختصر ، حفاظاً على مكانة خالد.

شواهد الألمعية :

لقد مرّت بنا شواهد ومشاهد وفيها ما يدلّ على ألمعيته ـ ما دام معنى الألمعية هو الذكاء المتوقد كما يقول أهل اللغة ـ فكان يحدث بما رآه وما سمعه مع حفظ خصوصيات ذلك زماناً ومكاناً ، كما دلت على مدى أختصاص حبر الأمة بالرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى خصّه بوصايا أخلاقية ذكرنا بعضها ، ولكنا

_______________________

(١) المعجم الكبير ١٠ / ٢٨٣ ط الموصل ، ورواه الترمذي برقم / ٣٤٧٩ ، والبيهقي في الدعوات الكبير / ٦٩ ، وقارن تهذيب ابن عساكر ٥ / ٢٠٧.

(٢) الاصابة ١ / ٤١٤ ترجمة خالد بن الوليد.

(٣) مصنف ابن أبي شيبة ٢ / ٥٣٢ و ١٠ / ٥٥٢.

٢١٢

الآن نذكر شواهد أخرى على مدى أستعداده الفطري حتى كان شعلة ذكاء تتقد ، ندر أن نجد نظيره فيمن هو في سنه ـ بل وحتى أكبر منه ـ مَن كان يسأل مثل مسائله وهي شواهد على ألمعيته حيث يتناول في مسائله ما كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مقام قبل خلق الخلق ، وآدم ـ أبو البشر ـ بعد في الجنة ، وكيف تاب الله عليه ؟ وبماذا أقسم فأبرّ قسمه ، وفي فطنة غلام لم يتجاوز الحلم ويتسع فكره لأن يسأل عن مثل ذلك لدليل على ألمعيته.

وإلى القارئ بعض الشواهد :

١ ـ أخرج السيوطي الشافعي في الدر المنثور (١) ، وابن المغازلي المالكي في المناقب (٢) ، والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة (٣) واللفظ للأوّل : قال ابن عباس : « قال سألت رسول الله صلّى الله وعليه (وآله) وسلّم عن الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربه فتاب عليه ؟ (قال : سأل بحق محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليَّ فتاب عليه) ».

٢ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه كما في تهذيبه : « قال ابن عباس : سألت رسول الله صلّى الله وعليه (وآله) وسلّم فقلت : فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة ؟ قال : فتبسم حتى بدت ثناياه ثمّ قال : (كنت في صلبه وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه ، وركبت السفينة في صلب أبي نوح ، وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم ، لم يلتق أبواي قط على سفاح ، ولم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة ، مهذّبا لا يتشعب شعبان إلّا كنت في خيرهما ، قد أخذ الله بالنبوّة ميثاقي ، وبالإسلام عهدي ، وبشّر بي ، وفي التوراة

_______________________

(١) الدر المنثور ١ / ٦٠ نقلاً عن ابن النجّار.

(٢) مناقب ابن المغازلي / ٦٣.

(٣) ينابيع المودة / ٩٧ و ٢٣٨ ط اسلامبول سنة ١٣٠٢.

٢١٣

والإنجيل ذكري ، وبيّن كلّ نبيّ صفتي ، تشرق الأرض بنوري ، والغمام بوجهي ، وعلّمني كتابه في سحابة ، واشتقّ لي إسماً من أسمائه ، فذو العرش محمود وأنا محمّد ، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر ، وأن يجعلني أوّل شافع وأوّل مشفّع ، ثمّ أخرجني من خير قرن لأمتي ، وهم الحمّادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) » (١).

فهذان السؤالان منه وهو بتلك السنّ يكشفان عن المعية نادرة ميّزته عن كثير من الصحابة ومرّ بنا نحو ذلك.

والآن لنأخذ من صحيح مرويّاته الّتي تميّزت بدقة الملاحظة وحضور الذاتية.

فمن ذلك ما ذكره ابن عبد ربّه في العقد الفريد تحقيق أحمد أمين ورفيقيه عنه فقال :

« وقال عبد الله بن عباس : أنشدت النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أبياتاً لاُمية بن أبي الصلت يذكر فيها حملة العرش وهي :

رجلٌ وثور تحت رجل يمينه

والنسر للاُخرى وليث مرصَد مُرصَد (٢)

والشمس تطلع كلّ آخر ليلة

فجراًويصبح لنها يتوقّد

تبدو فما تبدو لهم في وقتها

إلّا معذّبة وإلّا تجلد

فتبسم النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم كالمصدّق له » (٣).

_______________________

(١) تهذيب تاريخ ابن عساكر ١ / ٣٤٩.

(٢) قال الجاحظ في كتاب الحيوان ٦ / ٦٨ : وقد جاء في الخبر إنّ من الملائكة من هو في صورة الرجال ، ومنهم من هو في صورة الثيران ، ومنهم من هو في صورة النسور ، ويدل على ذلك تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاُمية بن أبي الصلت. ثمّ ذكر البيت. واُنظر الأغاني ٤ / ١٤٨ ط دار الكتب المصرية.

(٣) العقد الفريد ٥ / ٢٧٧.

٢١٤

فهذا الخبر كما يكشف عن ألمعية ابن عباس دلنا على حفظه للشعر مبكراً ، واستحضاره له منشداً ومستفهماً ، وبالتالي حصل على ما يبتغيه من إنشاده للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من تبسمه أنّه كالمصدّق له. وهذا غاية في الاحتياط في الرواية ، إذ لم يزد على ما روى ورأى وفهم.

وله سماعات نبوية فيما يخص فضائل أهل البيت مجتمعين ومنفردين نسوق طائفة منها :

١ ـ أخرج الطبراني بسنده عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : « خرجت أنا والنبيّ صلّى الله وعليه (وآله) وسلّم وعليّ رضي‌الله‌عنه في حُشّان المدينة ، فمررنا بحديقة فقال عليّ رضي‌الله‌عنه : ما أحسن هذه الحديقة يا رسول الله ، فقال : (حديقتك في الجنة أحسن منها) ثمّ أومأ بيده إلى رأسه ولحيته ثمّ بكى حتى علا بكاؤه قيل : ما يبكيك ؟ قال : (ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني) » (١). فهذا الحديث حفظ فيه ابن عباس ـ وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو دونها ـ خصوصيات المكان والزمان والسبب والمسبّب والصفة والموصوف.

٢ ـ أخرج ابن مردويه في المناقب وعنه السيوطي في الدر المنثور في تفسير آية التطهير وغيرهما قال ابن عباس : « شهدنا رسول الله صلّى الله وعليه (وآله) وسلّم تسعة أشهر يأتي كلّ يوم باب عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه عند وقت كلّ صلاة فيقول : (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٢) الصلاة رحمكم الله) كلّ يوم خمس مرات ».

_______________________

(١) المعجم الكبير ١١ / ٦٠ ط الموصل.

(٢) الأحزاب / ٣٣.

٢١٥

ففي هذا الحديث نجد حبر الأمة ضبط في الحَدَث مدة الزمان والمكان بدقة مع توفر عنصر المشاهدة وهذا ما يعني قوة الملاحظة عنده ، ولقد روي أيضاً عنه حديث نزول هذه الآية في أهل البيت خاصة بلفظ أوفى ممّا مرّ ، فيما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (١) ، والحكيم الترمذي ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي وأبو نعيم في كتابيهما (دلائل النبوة) ، وعنهم السيوطي في الدر المنثور (٢) ، ولعله لا يقل دلالة عما سبق في دقة الملاحظة وقوة الحافظة الّتي تميّز بها في حفظ الحديث في مروياته ، ورواية الحدَث بتمام خصوصياته. ما يخصّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وإلى القارئ نبذة منه :

١ ـ فمن ذلك ما أخرجه أحمد في المناقب عن ابن عباس قال : « بعثني رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إلى عليّ بن أبي طالب فقال له : (أنت سيد في الدنيا ، سيدٌ في الآخرة ، من أحبّك فقد أحبّني ، وحبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله ، الويل لمن أبغضك) » (٣).

٢ ـ ومن ذلك ما أخرجه الخطيب في تاريخه ، وأخرجه أبو الخير الحاكمي وعنه المحب الطبري في الرياض النضرة (٤) ، وابن حجر في الصواعق (٥) ، الحديث

_______________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ٢٩.

(٢) الدر المنثور ٥ / ١٩٩.

(٣) أنظر الرياض النضرة ٢ / ١٦٦ نقلاً عن أحمد.

أقول : ورواه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٧ بتفاوت بسيط وقال : صحيح على شرط الشيخين ، كما رواه الخطيب في تاريخ بغداد ٤ / ٤١ بعدة طرق وغيرهم.

(٤) الرياض النضرة ٢ / ١٦٨.

(٥) الصواعق المحرقة / ٩٣.

٢١٦

بلفظ الأوّل بسنده إلى عبد الله بن عباس قال : « كنت أنا وأبي العباس بن عبد المطلب جالسَين عند رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إذ دخل عليّ بن أبي طالب فسلّم فردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم السلام وبشَر به وقام إليه واعتنقه وقبّل بين عينيه وأجلسه عن يمينه. فقال العباس : يا رسول الله أتحبّ هذا ؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (يا عم رسول الله والله لله أشدّ حباً له مني. انّ الله جعل ذرية كلّ نبيّ في صلبه وجعل ذريتي في صلب هذا) » (١).

وزاد ابن حجر نقلاً عن كنوز المطالب في روايته لما سبق : « أنّه إذا كان يوم القيامة دُعي الناس بأسماء أمهاتهم ستراً عليهم إلّا هذا وذريته فإنهم يدعون بأسمائهم لصحة ولادتهم ».

وممّا رواه وفيه ذاتية الحضور ممّا يتعلق بالسيدة فاطمة الزهراء وأمها خديجة ومريم وآسية (عليهن السلام) :

١ ـ أخرج الحاكم بسنده عن ابن عباس قال : « خطّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أربعة خطوط ثمّ قال : (أتدرون ما هذا ؟) ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : (إن أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم) ». قال الحاكم : هذا الحديث صحيح الإسناد (٢).

وممّا رواه ورآه ممّا يتعلق بالسيدة الزهراء عليها‌السلام وولديها الحسن والحسين عليهما‌السلام :

_______________________

(١) تاريخ بغداد ١ / ٣١٦.

(٢) مستدرك الحاكم ٢ / ٤٩٧ ، ورواه أحمد في مسنده ١ / ٢٩٣ و ٣١٦ و ٣٢٢ ، وابن حجر في الإصابة ٨ / ١٥٨ ، وابن عبد البر في الاستيعاب ١ / ٧٥٠ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٢٣ ، وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح.

٢١٧

١ ـ ما أخرجه الملا في سيرته وغيره ، وعنهم المحب الطبري قال : وعن ابن عباس قال : « بينما نحن ذات يوم مع النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم إذا أقبلت فاطمة سلام الله عليها تبكي فقال لها رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (فداكِ أبوكِ ما يبكيكِ ؟) قالت : انّ الحسن والحسين خرجا ولا أدري أين باتا ؟ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (لا تبكي فإن خالقهما ألطف بهما مني ومنك) ، ثمّ رفع يديه فقال : (اللّهم أحفظهما وسلّمهما) ، فهبط جبريل وقال : يا محمّد لا تحزن فإنهما في حظيرة بني النجار نائمين وقد وكّل الله بهما ملكاً يحفظهما ، فقام النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ومعه أصحابه حتى أتى الحظيرة فإذا الحسن والحسين معتنقين نائمين ، وإذا الملك الموكّل بهما قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما يظللهما ، فأكبّ النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم عليهما يقبّلهما حتى أنتبها من نومهما ، ثمّ جعل الحسن على عاتقه الأيمن والحسين على عاتقه الأيسر ، فتلقاه أبو بكر وقال : يا رسول الله ناولني أحد الصبيّين أحمله عنك فقال صلّى الله عليه (وآله) وسلّم : (نعم المَطي مطيّهما ونعم الراكبان هما وأبوهما خير منهما) ، حتى أتى المسجد فقام رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم على قدميه وهما على عاتقيه ثمّ قال : (معاشر المسلمين ألا أدلّكم على خير الناس جداً وجدّة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (الحسن والحسين جدهما رسول الله خاتم المرسلين وجدتهما خديجة بنت خويلد سيدة نساء أهل الجنة ، ألا أدلكم على خير الناس عماً وعمّة ؟) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (الحسن والحسين عمهما جعفر بن أبي طالب وعمتهما أم هانيء بنت أبي طالب ، أيها الناس : ألا أدلكم على خير الناس خالاً وخالة ؟)

٢١٨

قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (الحسن والحسين خالهما القاسم بن رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله) ، ثمّ قال : (اللّهم إنك تعلم أنّ الحسن والحسين في الجنة وعمهما في الجنة وعمتهما في الجنة ومن أحبّهما في الجنة ومن أبغضهما في النار) » (١).

أقول : لقد أخرج الطبراني هذا الحديث في معجمه الكبير والأوسط وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد (٢) ، والمتقي في كنز العمال (٣) ، وفيهما زيادة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ألا أخبركم بخير الناس أباً وأماً ؟ أمهما فاطمة بنت رسول الله وأبوهما عليّ بن أبي طالب). وهذا يدل على سقط في نسخة الذخائر.

وهكذا نجد من الشواهد على حضوره المشاهد الّتي حفظها ودلت على دقة الملاحظة وقوة الحافظة حتى رواها كما رآها.

وقد جمع محمّد بن عابد بن أحمد الأنصاري السندي (٤) كتابه (كشف البأس عمّا رواه ابن عباس مشافهة عن سيد الناس) ونسخته مخطوطة في الخزانة التيمورية بمصر. لم يتيسر لي الإطلاع عليهما ربّما يجد فيه الباحث كثيراً من تلك الشواهد ، ولإبراهيم الحربي (مسند عبد الله بن عباس) (٥) ، وسيأتي مزيد ايضاح حول مروياته في تاريخه العلمي.

ولمّا كانت بعض المشاهد النبوية وقعت فيها أحداث ذات دلالات خاصة مميّزة وقد تأثر بها حبر الأمة حتى وضحت معالمها في تاريخه ، من خلال تبيّن

_______________________

(١) ذخائر العقبى / ١٣٠.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٨٤.

(٣) كنز العمال ٦ / ٢٢١ ط الاُولى و ١٣ / ١٠٣ ط الثانية حيدر آباد.

(٤) أنظر الأعلام للزركلي ٧ / ٤٩.

(٥) أنظر الفهرست لابن النديم / ٢٨٧ ط محققة.

٢١٩

آثارها في نفسه ، فكان له من التعقيب عليها بعد روايتها ما يدل على مدى تأثيرها فيه تأثيراً بالغاً ولابدّ لنا ونحن نتلمّس تاريخ حبر الأمة عبد الله بن عباس في تلك الفترة من الوقوف عند محطات ثلاث عايش فيها أحداثاً متتابعة طفحت بطابعها المميّز أكثر من غيرها ، لذلك فهي لا تنسى ولن تنسى مهما طال الزمن ، كما كان لبعضها من بالغ الأثر ما غيّرت أحداثها صفحات من تاريخ المسلمين.

وتلك المحطات الثلاث هي :

١ ـ حجة الوداع : وهي حجة الإسلام كما كان يسمّيها ابن عباس رضي‌الله‌عنه.

٢ ـ بيعة الغدير : وهي الّتي يقول عنها ابن عباس : وجبت والله في أعناق القوم.

٣ ـ مرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحديث الكتف والدواة : وهو الّذي يقول عنه ابن عباس رضي‌الله‌عنه الرزية كلّ الرزية.

فعلينا أن نقرأها بروايته ، دون أن نستجوب غيره من رواة الحديث والسيرة ، ففيما يرويه كفاية عن غيره.

٢٢٠