أنيس المجتهدين - ج ٢

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0282-0
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

دليل الجزء الثاني

المبحث الثالث : في مشتركات الكتاب والسنّة.................................. ٥٩١

الباب الأوّل في الأمر والنهي.................................................. ٥٩٣

الباب الثاني في العامّ والخاصّ................................................. ٦٩٩

الباب الثالث في المطلق والمقيّد................................................ ٨٢٢

الباب الرابع في المجمل والمبيّن................................................. ٨٢٩

الباب الخامس في الظاهر والمؤوّل.............................................. ٨٤٧

الباب السادس في المنطوق والمفهوم............................................ ٨٥١

الباب السابع في النسخ...................................................... ٨٧٢

المبحث الرابع : في الاجتهاد والتقليد........................................... ٨٩٧

الباب الأوّل في الاجتهاد..................................................... ٨٩٩

الباب الثاني في التقليد....................................................... ٩٥٧

المبحث الخامس : في التعادل والترجيح......................................... ٩٧٣

الفهارس العامّة.............................................................. ٩٩١

٥
٦

المبحث الثالث في مشتركات الكتاب والسنّة

وفيه أبواب :

٧
٨

الباب الأوّل في الأمر والنهي

لفظ الأمر حقيقة ـ وفاقا ـ في القول المخصوص ، أي الدالّ بالوضع على طلب الفعل استعلاء. وما يصرف منه ـ كـ « أمرته » و « أمرني » و « مر » وغيرها ـ حقيقة فيه مع النسبة المخصوصة.

والحقّ أنّه حقيقة فيه فقط (١) ، وليس حقيقة في غيره وفاقا للأكثر.

وقيل : مشترك بينه وبين الفعل ، وإليه ذهب المرتضى من أصحابنا (٢).

وقيل : متواطئ فيهما ، أي هو القدر المشترك بينهما (٣) ، أعني مفهوم أحدهما ، أو مطلق الفعل ، أعمّ من أن يكون باللسان أو بغيره.

وقال البصري : مشترك بينهما وبين الشيء ، والصفة ، والشأن ، والطريقة (٤).

لنا : تبادر القول المخصوص فقط منه عند إطلاقه ، ولو كان مشتركا بينه وبين غيره لتبادر الغير أيضا على الاجتماع أو البدليّة ، وليس كذلك ، فيبطل الاشتراك مطلقا.

وأيضا : هو خلاف الأصل ؛ لأنّه يخلّ بالتفاهم ، ولو كان متواطئا بينهما لكان أعمّ منهما ، فلم يفهم القول المخصوص منه عند إطلاقه فضلا عن أن يتبادر منه ؛ لأنّ الأخصّ لا يفهم من الأعمّ عند إطلاقه ، كما لا يفهم الإنسان من الحيوان.

__________________

(١) أي بدون النسبة المخصوصة.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٢٧.

(٣) قاله الشيخ حسن في معالم الدين : ٤٦ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٥٤.

(٤) المعتمد ١ : ٣٩.

٩

وقد استدلّ عليه بوجوه غير تامّة (١) :

منها : عدم اطّراده في الفعل ؛ لأنّه لا يسمّى بعض الأفعال ـ كالأكل والشرب وأمثالهما ـ أمرا ، فلا يكون حقيقة فيه ؛ إذ الاطّراد لازمها.

ويرد عليه : منع عدم التسمية.

ومنها : صحّة السلب ؛ لأنّه يقال : ما أمر بل فعل.

ويرد عليه : منعه على الإطلاق.

ومنها : عدم الاشتقاق من الأمر بمعنى الفعل ، فلا يشتقّ منه اسم الفاعل والمفعول ، والأمر والنهي وغيرها ، فلا يسمّى الأكل أمرا والمأكول مأمورا به ، وهكذا ، وهو دليل عدم الحقيقة ؛ للزوم الاشتقاق فيها.

ويرد عليه : منع اللزوم ، كمنع عدمه في المجاز ، ولذا لا يدلّ جمع الأمر الفعلي على امور على كونه حقيقة. وبهذا يظهر فساد الاحتجاج به على كونه حقيقة فيه ؛ لأنّه اشتقاق ، وهو دليل الحقيقة.

ومنها : أنّ الأمر يستلزم متعلّقا هو المأمور ، وهو لم يتحقّق في الفعل ، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم.

ويرد عليه : منع لزومه لمطلق الأمر.

ومنها : انتفاء لوازم الأمر عن الفعل ، ككونه قسما من الكلام ، وضدّا للنهي ، واتّصاف من تعلّق به بالمطيع والعاصي.

ويرد عليه : أنّها من لوازم القولي دون الفعلي.

احتجّ القائل باشتراكه بينه وبين الفعل بصحّة استعماله فيه ، كما في قوله تعالى : ( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ) (٢) ، والمراد الأفعال العجيبة. وقوله تعالى : ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (٣) أي فعله ، ( وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ ) (٤) ، ( وَما أَمْرُ

__________________

(١) حكاها الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٩ ـ ١٠ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) هود (١١) : ٤٠.

(٣) هود (١١) : ٧٣.

(٤) القمر (٥٤) : ٥٠.

١٠

فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) (١) ، ( لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) (٢). وكما يقال : « هذا أمر عظيم » ، والأصل في الاستعمال الحقيقة (٣).

وقد بالغ المرتضى في مواضع من الذريعة (٤) وسائر كتبه في أنّ الأصل في مطلق الاستعمال الحقيقة ، وبنى عليه الحكم في جميع ما يتفرّع عليه من المسائل.

وقد بيّنّا فيما تقدّم (٥) أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، فيمكن أن يكون الاستعمال فيما ذكر مجازا ، بل هو متعيّن ؛ لأنّه أولى من الاشتراك. على أنّه لو سلّم دلالة الاستعمال على الحقيقة ؛ فإنّما هو إذا تجرّد عن القرينة ، والقرينة على إرادة الفعل فيما ذكر موجودة. ولو منعت ، منع كون الفعل فيه مرادا ، بل يدّعى إرادة غير الفعل من القول أو غيره.

واحتجّ القائل بالتواطؤ بأنّه يستعمل فيهما ، فيجب جعله للقدر المشترك بينهما ؛ دفعا للاشتراك والمجاز ؛ فإنّ كليهما لإخلالهما بالتفاهم محذوران ، مخالفان (٦) للأصل (٧).

والجواب : أنّ ذلك لو لم يدلّ دليل على خلافه ، وإلاّ لزم رفع الاشتراك والمجاز رأسا ، وهنا دلّ الدليل على خلافه ، حيث بيّنّا أنّه يفهم القول المخصوص منه عند إطلاقه ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ.

واجيب عنه أيضا بأنّه قول حادث يرفع المجمع عليه ، وهو كونه حقيقة في القول المخصوص بخصوصه ، فيجب ردّه.

والظاهر أنّ المجمع عليه هو كونه حقيقة في القول المخصوص ، أعمّ من أن يكون بخصوصه ، أو في ضمن القدر المشترك بينه وبين غيره (٨).

واحتجّ البصري بأنّه كما يطلق على القول والفعل ، يطلق على الشيء والصفة ، والطريقة

__________________

(١) هود (١١) : ٩٧.

(٢) إبراهيم (١٤) : ٣٢.

(٣) حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٢٧ ، والفخر الرازي في المحصول ٢ : ١٣.

(٤) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٢٨ و ٣٨ و ٣٩ ، ولم نعثر عليه في سائر كتبه.

(٥) راجع ص ٥٩٣.

(٦) كذا في النسختين. والأولى بل الصحيح : محذور مخالف ؛ فإنّ خبر « كلا » و « كلتا » في جميع الحالات مفرد.

(٧) تقدّم ذكره في ص ٥٩٣.

(٨) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٤٩.

١١

والشأن ، كما في قولهم : « رأيت أمرا هالني » و « لأمر ما جدع قصير أنفه » و « أمر فلان مستقيم » و « لأمر ما يسود من يسود ». وقد عرفت جوابه (١).

وبأنّه لو قيل : « أمر فلان » تردّدنا بين الأشياء المذكورة والقول والفعل وهو آية الاشتراك (٢).

والجواب : منع التردّد بل يتبادر القول. هذا.

ويظهر لك فائدة الخلاف في الأيمان ، والنذور ، والتعليقات. وكيفيّة التفريع ظاهرة.

وعلى ما اخترناه يمكن الاستدلال بالآيات الدالّة على وجوب اتّباع الأمر ـ كقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (٣) ـ على وجوب اتّباع أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فصل [١]

لمّا عرفت أنّ الأمر حقيقة في القول الدالّ وضعا على طلب الفعل استعلاء (٤) ، فاعلم أنّه حدّه ، والقول جنس يخرج الإشارة والقرائن ، فالطلب بهما لا يسمّى أمرا (٥).

وقولنا : « الدالّ على الطلب » يخرج ما لا يدلّ عليه ، كالخبر ، والتهديد ، وأمثالهما.

واحترز « بالوضع » عن الدالّ على الطلب لا بالوضع ، كقولنا : « أوجبت عليك » أو « أنا أطلب منك كذا » أو « إن تركته عاقبتك » ؛ فإنّه في الأصل خبر عن الطلب وليس به ، وإن دلّ عليه عرفا.

وإضافة « الطلب » إلى « الفعل » تخرج النهي. « والاستعلاء » يخرج ما على جهة التسفّل ، وهو الدعاء ، وما على سبيل التساوي وهو الالتماس.

والحقّ اشتراط الاستعلاء كما هو رأي المحقّقين (٦) ، وعدم اشتراط العلوّ ، كما هو رأي

__________________

(١ و ٢) تقدّما في ص ٥٩٣.

(٣) النور (٢٤) : ٦٣.

(٤) في ص ٥٩٣.

(٥) حقّ العبارة أن تكون هكذا : « فالإشارة والقرائن الدالّة على الطلب ليست أمرا ».

(٦) منهم : البصري في المعتمد ١ : ٤٣ ، والفخر الرازي في المحصول ٢ : ١٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٥٨ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ٦٥ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٩٣ ، والمحقّق الحلّي في معارج الأصول : ٦٢.

١٢

المعتزلة (١) ، والأمرين (٢) كما هو رأي جماعة (٣) ؛ لعدّ (٤) العقلاء أمر الأدنى الأعلى سفها ، فلو اشترط العلوّ لما كان هذا أمرا ، ولو لا أنّ فيه الاستعلاء لما عدّ سفها. ويدلّ على عدم اشتراط العلوّ قوله تعالى حكاية عن فرعون : ( فَما ذا تَأْمُرُونَ ) (٥).

فإن قيل : هذا يدلّ على عدم اشتراط الاستعلاء أيضا.

قلنا : ممنوع ؛ لأنّا نلتزم تحقّق الاستعلاء فيه ؛ لأنّ افتقار فرعون إليهم في علمهم اضطرّه إلى التخضّع لهم ، وترخّصهم في التكلّم معه على جهة الاستعلاء تعظيما لعلمهم ، وقس عليه أمثاله.

ولو قطع النظر عنه نقول : لمّا علم بالدلالة اعتبار الاستعلاء ، يتعيّن إرادة المعنى المجازي من مثله.

ويدخل في إطلاق الطلب الإيجاب والندب ، ولا يلزم منه كون مطلقه أمرا ؛ لأنّ الأمر هو القول الدالّ بالوضع على الطلب. ولو جعل نفس الطلب ـ كما هو رأي جماعة (٦) ، وإن لم يكن صحيحا عندنا ، كما يأتي (٧) ـ فليس مطلق الطلب ، بل الطلب بالقول الدالّ بالوضع عليه.

وعلى التقدير الأوّل (٨) ينحصر بصيغة « افعل » وما بمعناها في لغة العرب كالمضارع المقرون باللام ، واسم الفعل ، مثل « رويد » و « صه » أو غيرهما ؛ لأنّ غيرهما (٩) ـ ممّا يدلّ على الطلب مطلقا كـ « أمرتك » أو مقيّدا في وجوب كـ « أوجبت » و « حتّمت » ، أو ندب مثل « ندبت » و « سننت » ـ لا يدلّ عليه وضعا.

__________________

(١) حكاه البصري في المعتمد ١ : ٤٣ ، والفخر الرازي عن المعتزلة في المحصول ٢ : ٣٠٢.

(٢) عطف على العلوّ ، أي عدم اشتراط الأمرين وهما العلوّ والاستعلاء.

(٣) حكاه الأسنوي عن القاضي عبد الوهّاب في التمهيد : ٢٦٥.

(٤) هذا تعليل لكفاية الاستعلاء في تحقّق الأمر.

(٥) الأعراف (٧) : ١١٠.

(٦) منهم : المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٦٤ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٩٤ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ٢٢٦ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ١٢١ ، والفاضل التوني في الوافية : ٦٨.

(٧) يأتي في ص ٥٩٩.

(٨) أي كون الأمر هو القول الدالّ بالوضع على الطلب.

(٩) أي غير صيغة افعل وما بمعناها.

١٣

وعلى التقدير الثاني (١) بالطلب المستفاد منهما ، فلو كانا حقيقتين في الوجوب ـ كما هو الحقّ ـ انحصر الأمر في الإيجاب أو ما يفيده ، والمأمور به في الواجب ، فلا يكون المندوب مأمورا به ، كما تقدّم (٢) وإن كان مطلوبا ، فبطل ما اورد على الحدّ ، بأنّه يصدق على ما يفيد الندب مع عدم كون المندوب مأمورا به.

وبما ذكر يظهر أنّ التعبير عن الخلاف في أنّ الإيجاب هل له صيغة تخصّه أم لا؟ ـ أي صيغة « افعل » وما بمعناها حقيقة في الوجوب أم لا ـ بالخلاف في أنّ الأمر هل له صيغة تخصّه أم لا؟ ـ كما ارتكبه جماعة (٣) ـ صحيح ، فتخطئة هذه الترجمة ـ نظرا إلى عدم الخلاف في إمكان التعبير عن مطلق الطلب بمثل « أمرتك » و « أنت مأمور » ومقيّده بمثل « أوجبت » و « ندبت » ـ خطأ ؛ لأنّ مرادهم أنّ الطلب هل له صيغة تدلّ عليه وضعا بهيئتها ، بحيث لا تدلّ على غيره؟ ومثل « أمرتك » ليس كذلك ؛ لأنّ حقيقته الإخبار.

بقي الكلام في سبب التعبير عن الإيجاب بلفظ الأمر ، والظاهر أنّ سببه كون الإيجاب آكد من الندب في كونه أمرا. والمراد من الدلالة في الحدّ هو المطابقة لا الالتزاميّة ، فلا ينتقض طردا بمثل « لا تستقرّ » و « لا تسكت » ، وعكسا بمثل « اجتنب » و « اسكت ».

اعلم أنّ الأمر لمّا كان من جنس الكلام ـ وهو على التحقيق ينحصر باللفظي المركّب من الحروف والأصوات ، ولا يصحّ النفسي الذي أثبته الأشاعرة (٤) وهو المعنى القائم بالنفس ، المغاير لجنس الحروف والأصوات (٥) ، كما ثبت في محلّه ـ فيجب أن يحدّ الأمر بما حقيقته الحروف والأصوات ، كالقول واللفظ والصيغة بشرائطه (٦) ، كما حدّدناه به (٧) ، لا بما حقيقته المعنى القائم بالنفس كالطلب ومثله ؛ فإنّ المقصود بالذات إظهاره وإلقاؤه إلى المخاطب

__________________

(١) أي كون الأمر هو نفس الطلب.

(٢) تقدّم في ص ٥٩٧.

(٣) منهم : الغزالي في المستصفى : ٢٠٤ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٥٨ و ١٥٩.

(٤) راجع المحصول ٢ : ١٩.

(٥) المستصفى : ٢٠٢ و ٢٠٣.

(٦) أي بشرائط الحدّ.

(٧) تقدّم في ص ٥٩٦.

١٤

وإن كان هو الطلب والصيغة المخصوصة وسيلة إليه ، إلاّ أنّ الأمر هو الوسيلة ؛ لما ذكر ، والمقصود مدلوله.

والحقّ أنّه عين الإرادة ؛ لعدم تعقّل الزائد عليها منه ، ولا يعقل وضع اللفظ الظاهر لمعنى غير معقول (١).

فما ذهب إليه الأشعري من أنّ الطلب مغاير للإرادة (٢) باطل.

واحتجاجه عليه بأنّه تعالى أمر الكافر الذي علم منه عدم الطاعة بها ولم يردها منه ؛ نظرا إلى استحالة صدورها عنه ؛ لامتناع انقلاب علمه جهلا ، والطلب إمّا نفس الأمر ، أو لازم له. وبأنّه قد يطلب ما لا يراد امتحانا (٣).

مندفع بمنع عدم الإرادة في الأوّل. وتعليله عليل ؛ لأنّ العلم ليس علّة. ومنع الطلب في الثاني ؛ فإنّ الصيغة الشخصيّة إذا تجرّدت عن الإرادة لا تدلّ على الطلب ، ولا تكون حينئذ أمرا حقيقة ، بل تكون مستعملة في غير ما وضعت له ، كما إذا استعملت في الخبر أو غيره ، بل يتوقّف كونها أمرا على إرادة المأمور به منها.

ويظهر من هذا أنّ ما قيل : إنّ إرادة المأمور به مؤثّرة في كون الصيغة أمرا (٤) صحيح ، والمراد به ما قلناه.

والتحقيق ، أنّ وضع الصيغة للطلب يكفي في دلالتها عليه ، كسائر الألفاظ الموضوعة لمعانيها ، ولا يفتقر إلى إرادة اخرى كما قيل (٥) ، وإلاّ لزم الافتقار إليها فيها أيضا ، وهو باطل.

واحتجّ الخصم بأنّها تدلّ على التهديد كما تدلّ على الطلب ، فلا بدّ من مميّز ، ولا مميّز غير الإرادة (٦).

والجواب : أنّه يستقيم لو كانت حقيقة في التهديد وليس كذلك ، بل دلالتها عليه

__________________

(١) في « ب » : « الظاهر المعنى غير معقول ».

(٢) قاله الرازي في المحصول ٢ : ٢.

(٣) المصدر : ١٩.

(٤) حكاه الرازي عن أبي علي وأبي هاشم في المحصول ٢ : ٢٩.

(٥) حكاه الرازي عن الكعبي في المحصول ٢ : ٢٨.

(٦) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٢٩.

١٥

مجازيّة ، فتوجد معها القرينة ، فبدونها تحمل على الطلب من غير افتقار إلى مميّز.

هذا. وللأمر حدود أخر في كتب المعتزلة (١) والأشاعرة (٢) كلّها رديّة مزيّفة ، والمتمكّن من أخذ حدود الأشياء وحقائقها كما هي يعلم أنّ الصحيح من حدوده ما ذكرناه (٣) ، أو ما في معناه ، وغيره ظاهر الفساد ، ولذا أعرضنا عن إيراده وردّه.

فصل [٢]

إذ عرفت (٤) أنّ حقيقة الأمر صيغة « افعل » وما بمعناها ، فاعلم أنّها ترد لثمانية عشر معنى :

الإيجاب : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (٥).

الندب : ( فَكاتِبُوهُمْ ) (٦) وهو لتحصيل ثواب الآخرة.

التأديب : « كل ممّا يليك » ، وهو لتحصيل تهذيب الأخلاق ، ولإفادته ملكة يصدر عنها ما يوجب الثواب. عدّه بعضهم من الندب (٧).

الإرشاد : ( فَاسْتَشْهِدُوا ) (٨) ، وهو لجلب المنفعة الدنيويّة.

الإباحة : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) (٩) ، وهو يفيد جواز ما كان المخاطب توهّم عدم جوازه.

التسوية : ( فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ) (١٠) ، وهو يفيد التسوية بين أمرين كان المخاطب توهّم رجحان أحدهما.

التهديد : ( قُلْ تَمَتَّعُوا ) (١١) ، ومنه الإنذار.

__________________

(١) راجع المعتمد ١ : ٤٩ ـ ٧٥.

(٢) راجع المحصول ٢ : ١٨ ـ ٣٦.

(٣) في ص ٥٩٣.

(٤) في ص ٥٩٧.

(٥) الأنعام (٦) : ٧٢.

(٦) النور (٢٤) : ٣٣.

(٧) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٦٠.

(٨) النساء (٤) : ١٥.

(٩) البقرة (٢) : ٦٠.

(١٠) الطور (٥٢) : ١٦.

(١١) إبراهيم (١٤) : ٣٠.

١٦

الدعاء : « اللهمّ اغفر لي ».

التمنّي : « ألا أيّها الليل الطويل ، ألا انجلي » (١).

العجز : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ ) (٢).

التكوين : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (٣) ، وفيه يقصد إيجاد المعدوم.

التسخير : ( كُونُوا قِرَدَةً )(٤) ، وفيه يقصد انتقال الموجود من صورة أو صفة إلى اخرى.

الامتنان : ( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ )(٥).

الإكرام : ( ادْخُلُوها بِسَلامٍ )(٦).

الإذلال : ( ذُقْ )(٧) ، يقصد به ذلّة المخاطب ومسكنته.

الإهانة : ( كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً )(٨) ، ويقصد فيه عدم الاعتناء بشأنه بفعل أو ترك ، عزيزا كان أو ذليلا.

الاحتقار : بل ( أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ )(٩) ، ويقصد فيه عدم الاعتناء به بفعل أو ترك ، أو بمجرّد الاعتقاد ، ومنه عدم مبالاة الآمر بفعله ، واستحقاره في مقابلة فعله.

الإخبار : « إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ».

ولا خلاف في ورودها بهذه المعاني ، ولا في أنّها ليست حقيقة في جميعها ، إنّما الخلاف في تعيين ما هي حقيقة فيه.

وقد اختلف فيه على أقوال تبلغ سبعة عشر ، بعضها شاذّ ظاهر الفساد ، غير ملتفت إليه في المصنّفات. وما يصلح للضبط والالتفات إليه عشرة :

الأوّل : أنّها حقيقة في الوجوب فقط ، وإليه ذهب الأكثر.

__________________

(١) الشعر لامرئ القيس في ديوانه : ٤٨ ، وحكاه الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٤١.

(٢) البقرة (٢) : ٢٣.

(٣) البقرة (٢) : ١١٧.

(٤) البقرة (٢) : ٦٥.

(٥) الأنعام (٦) : ١٤٢.

(٦) الحجر (٤٩) : ٤٦.

(٧) الدخان (٤٤) : ٤٩.

(٨) الإسراء (١٧) : ٥٠.

(٩) يونس (١٠) : ٨٠.

١٧

الثاني : في الندب فقط (١).

الثالث : فيهما بالاشتراك (٢).

الرابع : في القدر المشترك بينهما ، وهو الطلب (٣).

الخامس : فيهما وفي الإباحة بالاشتراك (٤).

السادس : في القدر المشترك بينهما ، وهو الإذن (٥).

السابع : فيها وفي التهديد (٦).

الثامن : في الطلب لغة ، وفي الوجوب فقط شرعا (٧).

التاسع : فيهما بالاشتراك لغة ، وفي الوجوب فقط شرعا ، وإليه ذهب المرتضى رضى الله عنه (٨).

العاشر : الوقف (٩).

والحقّ ، أنّها حقيقة في الوجوب فقط لغة وشرعا وعرفا.

لنا وجوه :

منها : ما شاع وذاع من احتجاج الصحابة والتابعين ومن تأخّر عنهم من العلماء الراشدين بمطلقها (١٠) على الوجوب من غير نكير ، كالعمل بالأخبار من دون تفاوت (١١).

__________________

(١) حكاه الآمدي عن أبي هاشم وكثير من متكلّمي المعتزلة ، وجماعة من الفقهاء ، وعن الشافعي في الإحكام ٢ : ١٦٢.

(٢) القائل هو السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٢٧ و ٥١.

(٣) حكاه الأنصاري عن الماتريدي ونسبه أيضا إلى مشايخ سمرقند في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ١ : ٣٧٣ ، وقاله الفاضل التوني في الوافية : ٦٨.

(٤) حكاه الأنصاري عن الروافض في المصدر.

(٥) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٦١ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ١٢٣ ، القاعدة ٣١.

(٦) حكاه الغزالي في المستصفى : ٢٠٥ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ١٢٣ ، القاعدة ٣١.

(٧) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٤١ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٦٢ و ١٦٣ ، والمحقّق الحلّي في معارج الأصول : ٦٤ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ١٢٣ و ١٢٤ ، القاعدة ٣١.

(٨) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٢٧ و ٥١.

(٩) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٤١ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٦٢ و ١٦٣ ، والمحقّق الحلّي في معارج الأصول : ٦٤ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ١٢٣ و ١٢٤ ، القاعدة ٣١ ، والفاضل التوني في الوافية : ٦٧.

(١٠) أي بمطلق الصيغة.

(١١) حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٥١ ـ ٥٥ ، والفخر الرازي في المحصول ٢ : ٦٩ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٦٦.

١٨

فما اورد عليه في بحث العمل بالأخبار يمكن أن يورد عليه هنا أيضا. والجواب الجواب ، على أنّ المرتضى نقل إجماع الإماميّة على أنّها للوجوب شرعا (١).

ومنها : ذمّ العقلاء العبد بترك الامتثال بعد قول سيّده : « افعل » مع فقد قرائن الوجوب. والأوّل وإن لم يثبت سوى الحقيقة الشرعيّة ، والثاني سوى العرفيّة ، إلاّ أنّ كلاّ منهما إذا ضمّ إليه أصالة عدم النقل ، ينتهض بإثبات الحقائق الثلاث (٢).

وما قيل : إنّها لا تثبت الحقيقة اللغويّة ؛ لجواز أن يكون الصيغة في اللغة حقيقة في الطلب أو الندب ، واستعملت في الوجوب مجازا حتّى اشتهرت فيه عند الشرع والعرف ، فصارت حقيقة شرعيّة وعرفيّة فيه ، فأصالة عدم النقل باقية بحالها مع عدم الوضع (٣).

يرد عليه : أنّ هذا (٤) أيضا نوع نقل ، فالأصل عدمه ، سواء كان المستعمل هو الواضع أو غيره من الشرع والعرف ؛ لأنّ (٥) استعمال لفظ في معنى مجازا مع القرينة أو بدونها إلى أن يصير حقيقة فيه ، يستلزم انتقاله من المعنى الحقيقي إليه وإن لم يصرّح بالنقل ، فأصالة عدم النقل تدفعه أيضا.

ولا يفتقر (٦) إلى التمسّك بأصالة عدم التجوّز ، مع أنّه غير صحيح ؛ لأنّه إنّما يصحّ في موضع اطلق لفظ له معنى حقيقي ومجازي ، ولم يعلم أنّ المستعمل أيّهما أراد ، فيحمل على الحقيقي لأصالة عدم التجوّز. وأمّا إذا استعمل لفظ في معنى لم يعلم كونه حقيقة فيه أو مجازا ، بل احتملهما (٧) ، فلا يحكم بكونه حقيقة فيه لأصالة (٨) الحقيقة وعدم التجوّز ، بل يجب التوقّف حينئذ ، كما تقدّم (٩) من أنّه الحقّ المشهور ، والمخالف فيه السيّد (١٠).

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٥٥.

(٢) هي اللغويّة والعرفيّة والشرعيّة.

(٣) حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٥٢ ـ ٥٥ باختلاف. والمراد بعدم الوضع عدم الوضع الشرعي والعرفي.

(٤) أي الاستعمال المجازي في الوجوب شرعا وعرفا.

(٥) في « ب » : « فإنّ ».

(٦) أي إثبات الحقيقة اللغويّة.

(٧) أي كلّ واحد منهما وحده.

(٨) قيد للمنفيّ لا للنفي.

(٩) في ص ٥٩٣.

(١٠) الذريعة ١ : ٥١.

١٩

ولا ريب أنّ ما نحن فيه ليس من الأوّل ، بل من الثاني لو كان المستعمل هو اللغويّ ، واستعمل الصيغة في الوجوب مطلقا ، أو مع قرينة احتمل معها كونها حقيقة فيه. ولو استعملها فيه بقرينة المجاز بحيث لم يحتمل معها كونها حقيقة فيه ، لم يكن من الثاني أيضا ، بل لا يكون (١) حينئذ حقيقة فيه قطعا ، واستعماله عندنا مردّد بينهما. وكيف كان ، لا يمكن الحمل على الحقيقة لأصالة عدم التجوّز.

ولو كان المستعمل هو الشرع أو العرف ، فحكمه كاللغوي ، مع أنّه لو سلّم هنا أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة لا يثبت منه الحقيقة اللغويّة ، بل حقيقتهما ؛ لأنّ استعمال كلّ شخص لو أثبت الحقيقة فإنّما يثبت حقيقته لا حقيقة غيره. فكيف كان ، لا يصحّ التمسّك في إثبات الحقيقة اللغويّة بأصالة الحقيقة ، بل يتوقّف على التمسّك بأصالة عدم النقل. هذا.

وأجاب بعضهم عن الدليل الثاني بمنع الذمّ. ومع التسليم فإنّما هو لترك المندوب ، أو الأمر الدائر بين الواجب والمندوب ؛ فإنّ تارك كلّ منهما يستحقّ الذمّ عقلا (٢).

ولا يخفى أنّه مكابرة ؛ فإنّ تعلّق ذمّ العقلاء بعبد ترك امتثال أمر مولاه وحكمهم بعصيانه بديهيّ ، إنكاره سفسطة ، وبديهة العقل حاكمة بأنّ مثل هذا الذمّ لا يتوجّه على ترك المندوب وما يحتمل الوجوب ؛ فإنّ الفرق ظاهر بين « اسقني » و « ندبتك إلى أن تسقيني » أو « طلبت منك السقي » ، أمّا وجوبا أو ندبا من غير التعيين.

ومنها (٣) : تبادر الوجوب عنها إذا اطلقت عند أهل الشرع والعرف واللغة ، وإنكاره مكابرة ، وهو آية الحقائق الثلاث (٤).

ومنها : أنّ الاشتراك خلاف الأصل ، فيبطل الأقوال المبنيّة عليه ، وتكون حقيقة لأحد المعاني المتقدّمة فقط مجازا في الباقي. وعدم كونها حقيقة لواحد منها فقط غير الوجوب والندب والإباحة ظاهر ؛ لأنّه لم يقل به أحد ، ولو قيل به لكان ظاهر البطلان ، فبقي احتمال كونها حقيقة لأحد الثلاثة فقط.

__________________

(١) لفظ الأمر.

(٢) قاله الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٧٤ و ٧٥.

(٣) مرّ أوّل الوجوه في ص ٦٠٢.

(٤) أي الشرعيّة والعرفيّة واللغويّة.

٢٠