أنيس المجتهدين - ج ٢

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0282-0
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

وعلى هذا ، فلو أتى بأفراد متعدّدة دفعة ، يحصل الامتثال بالجميع من غير تخصيص لفرد منها على الأوّل ؛ لأنّ أوّل تحقّق للماهيّة حصل به ، ولا يحصل بالجميع على الثاني ؛ إذ المطلوب عليه (١) لمّا كان فردا واحدا ، فتحقّق الامتثال به لا بالجميع.

ثمّ لا يخفى أنّه على القول بالمرّة على التقديرين (٢) يكون المطلوب في هذه الصورة (٣) مشتبها ، فلا بدّ للقائل به إمّا أن يقول بكونه معيّنا في الواقع مشتبها عندنا ، فيستخرج بالقرعة إن جوّز اجتماع الأمر والنهي باعتبارين مختلفين ، أو بالبطلان إن لم يجوّز ذلك.

ولو أتى بفرد واحد أو أفراد على التعاقب ، فلا يكاد أن يتحقّق فائدة الخلاف ؛ إذ على القولين يحصل الامتثال بأوّل فرد يوجد ، ولا معنى للامتثال بعده. والفرق بمجرّد أنّ المطلوب في أحدهما الماهيّة من حيث هي ، وفي الثاني الماهيّة المقيّدة بالوحدة ليس ممّا يختلف به الأحكام ويتفاوت به تفريع الفروع بعد تسليم أنّ امتثال طلب الماهيّة من حيث هي ، والمقيّدة بالوحدة يحصل بالمرّة فقط ، إلاّ أنّ عدم فائدة الخلاف في صورة واحدة ـ مع ثبوتها في صورة اخرى ، ووجود الفرق بينهما من حيث الذات ، وثبوت الدلالة على حقّيّة أحدهما ، وبطلان الآخر ـ لا يصير منشأ لاتّحادهما ، أو لبطلان الحقّ وصحّة الباطل.

وإذا ظهر ذلك ، فاعلم أنّ ما يتفرّع عليه كثير. وممّا فرّع عليه أنّه إذا سمع مؤذّنا بعد مؤذّن ، فهل يستحبّ إجابة الثاني لقوله عليه‌السلام : « إذا سمعتم المؤذّن ، فقولوا كما يقول » (٤) ، أم يسقط الاستحباب بالأوّل؟ وعلى ما اخترناه وإن لزم سقوطه به إلاّ أنّ الأقوى بقاء الاستحباب هنا ؛ نظرا إلى تعليق الحكم على الوصف المناسب الدالّ على التعليل ، فيتكرّر بتكرّره ، كما تقدّم (٥).

ولا يخفى كيفيّة التفريع وحقيقة الحال لو سمع مؤذّنين دفعة.

وممّا فرّع عليه ما لو قال لوكيله : « بع هذا العبد » فباعه ، فردّ عليه بعيب أو خيار ، أو قال

__________________

(١) في « ب » : « المقصود فيه ».

(٢) أي ترتّب الإثم على الزائد وعدمه راجع ص ٦٢٢ و ٦٢٤.

(٣) أي في صورة وقوع الأفراد دفعة.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ٣ : ٥١٥ ، ح ١١٤٥٠ ، وكنز العمّال ٧ : ٧٠٠ ، ح ٢٠٩٩٨.

(٥) تقدّم في ج ١ ، ص ٤٨٠.

٤١

لوصيّه : « استأجر عنّي الحجّ » فاستأجر ، ثمّ فسخ الأجير لأمر مجوّز للفسخ ، فهل يجوز لهما البيع والاستيجار ثانيا؟ ويتأتّى على ما اخترناه عدم الجواز ، ولا ريب فيه في الأوّل.

وأمّا الثاني ، فالظاهر دلالة القرائن على إرادة التكرار ، وقس عليهما غيرهما.

فصل [٦]

لا خلاف في أنّ الأمر المعلّق على شرط أو صفة يثبت (١) علّيّتهما أو كلّيّتهما ـ مثل ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(٢) ، و ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا )(٣) ، و « كلّما جاءك زيد فأكرمه » و « كلّ وارد عليه ألزمه » ـ يتكرّر بتكرّرهما ؛ لوجوب وجود المعلول كلّما وجدت العلّة ، فالعلّيّة تفيد العموم ، والعامّ يتناول جميع أفراده ، والتكرار لذلك ، لا لكونه مستفادا من الأمر.

وأمّا المعلّق عليهما بدون القيدين (٤) ـ مثل « إذا دخل الشهر ، فأعتق عبدا من عبيدي » و « أعتق السخيّ من عبيدي » ـ فقد اختلف في تكرّره بتكرّرهما على أقوال : أصحّها عدم التكرّر من جهة اللفظ (٥) ـ أي لم يوضع اللفظ له ، وحاصله أنّهما لا يدلاّن عليه لغة ـ والتكرّر من جهة العقل والقياس ؛ نظرا إلى أنّ ترتّب الحكم على الشرط والوصف يشعر بالعلّيّة ، وإذا ثبت العلّيّة ثبت العموم ؛ لعدم تخلّف المعلول عن العلّة.

وقيل : يفيد التكرّر بلفظه (٦).

وقيل : لا يفيد التكرّر مطلقا (٧).

لنا على الجزء الأوّل (٨) : أنّه مع قطع النظر عن العلّيّة والكلّيّة تصير القضيّة مهملة ، وفي

__________________

(١) أي يثبت التعليق.

(٢) المائدة (٥) : ٦.

(٣) المائدة (٥) : ٣٨.

(٤) والمراد بهما ثبوت العلّيّة أو الكلّيّة.

(٥) قاله الفخر الرازي في المحصول ٢ : ١٠٧ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ١٣١ ، القاعدة ٣٨.

(٦) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٢ : ١٠٧ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ٢٨٣ ، وهو مختار التفتازاني في شرح التلويح على التوضيح ١ : ٣٠١.

(٧) قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٠٩ ، والبصري في المعتمد ١ : ١٠٦ ، والغزالي في المستصفى : ٢١٤ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ٦٨.

(٨) المراد به عدم التكرّر من جهة اللفظ.

٤٢

الشرطيّة المصاحبة اتّفاقيّة ، والشرط قيد للجزاء ، فيصير المثال الأوّل في قوّة « أعتق عبدا وقت دخول الشهر » ، والثاني في قوّة « أعتق سخيّا من عبيدي » ، فلا يفهم منهما التكرار ، إلاّ إذا جعل الأمر دالاّ عليه.

وأيضا ثبوت الحكم مع الشرط أو الصفة ليس إلاّ التعليق المطلق ، وهو أعمّ من المقيّد بالوحدة أو التكرار ، ولا يدلّ العامّ على الخاصّ.

وأيضا ليس في أدوات الشرط إشعار بالتكرار عرفا ، ولذا لو قال السيّد لعبده : « إن دخلت السوق فاشتر اللحم » عدّ ممتثلا بالمرّة ، ولا يذمّ بترك الشراء في المعاودة. ولو قال الزوج لوكيله : « طلّق زوجتي إن دخلت الدار » لم يتكرّر. وكذا لو قال الناذر : « إن ردّ عليّ مالي ، فله عليّ أن أفعل كذا » ، وإذا لم يدلّ عليه عرفا لم يدلّ عليه لغة ؛ لأصالة عدم النقل.

وللمانع أن يقول : عدم فهم التكرار هنا بالقرينة ، ولا يمكن أن يستدلّ عليه بأنّ الشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده وجوده ، فلا يدلّ على التكرار ؛ لأنّ هذا هو الشرط الشرعي دون اللغوي ، وهو ما يدخل عليه أداة الشرط ، وإلاّ لزم عدم دلالته على المرّة أيضا.

و [ لنا ] على الجزء الثاني (١) : أمّا على إفادة التعليق الشرطي للعلّيّة ، فما تقدّم (٢) من أنّ بعض الحروف ظاهر في التعليل منها حروف الشرط كـ « إن » ومثلها ، فالشرط يفيد العلّيّة بنفسه وإن لم تعلم من طريق آخر (٣). وأمّا على إفادة التعليق الوصفي لها ، فشهادة العرف ، ولزوم كون ذكر الوصف عبثا لو لم يفدها.

فإن قيل : لو كان الشرط والوصف مناسبين للحكم ، لكانا ممّا يثبت علّيّته ، وهو غير المبحث. وإن لم يكونا مناسبين ، لزم أن لا يكون علّة الشيء مناسبة له ، وهو باطل.

قلنا : العلّة إمّا معرّفة أو باعثة ، والاولى لا يشترط مناسبتها للمعلول ، ولا فساد فيه ؛ لأنّها مجرّد أمارة نصبها الشارع لتعريف الحكم ، وتحقّق المناسبة في مثلها غير لازم.

__________________

(١) أي التكرّر من جهة العقل.

(٢) تقدّم آنفا.

(٣) راجع تمهيد القواعد : ٤٨٢ ، القاعدة ١٧٠.

٤٣

وأمّا الثانية ، فلا ريب في لزوم مناسبتها للمعلول في الواقع. وأمّا ظهورها عندنا ، فليس بلازم. فلمّا علمنا بالدلالة إفادتهما للعلّيّة بنفسهما ، فإن كانا من العلل المعرّفة ، فلا حاجة إلى مناسبة أصلا ، وإن كانا من العلل الباعثة ، فيحكم بمناسبتهما للحكم وإن لم يكن المناسبة معلومة لنا ، وثبوت المناسبة الواقعيّة بدون ظهورها لنا لا يدخلهما فيما يثبت علّيّته ؛ لأنّ العلّة الثابتة ما يثبت علّيّته لنا.

والحاصل : أنّا ندّعي أنّهما يفيدان العلّيّة بنفسهما من غير أن يعلم علّيّتهما من طريق آخر من مناسبة أو نصّ أو عقل أو غيرها ، ولا ينكر اتّصافهما بما يشترط في العلّة ، فلم يخرج عن المبحث. هذا ، مع أنّ ثبوت العلّيّة بمجرّد المناسبة غير مسلّم ، فالمناسبة لا تستلزم العلّيّة وإن كانت العلّيّة تستلزمها ، فلو قطع النظر عن إفادتهما للعلّيّة بالترتّب لم تكن علّيّتهما ثابتة وإن كانا مناسبين.

وممّا يدلّ على علّيّتهما ـ وإن لم يعلم المناسبة ـ أنّه لو قيل : « إن كان عالما ، فأهنه ، وإن كان جاهلا ، فأكرمه » أو « أهن العالم » و « أكرم الجاهل » قبح ، وليس ذلك لمنافاة مطلق العلم للإهانة ، ومطلق الجهل للإكرام ؛ لأنّه قد تقدّم المنافاة لأسباب أخر ، فهو لسبق فهم التعليل ، ودلالتهما على العلّيّة في هذه الصورة تستلزم دلالتهما عليها في سائر الصور ؛ دفعا للاشتراك والمجاز ، وإذا ثبت علّيّتهما يثبت (١) دلالتهما على التكرار ؛ لعدم انفكاك المعلول عن العلّة ـ وإن كانت العلّة أمارة محضة ـ لأنّها علامة منصوبة من الشرع لتعريف الحكم ، فيجب كلّيّتها ، وإلاّ لزم الإغراء بالجهل ، فلا فرق بين العلل الباعثة والمعرّفة في وجوب وجود الحكم معهما كلّما وجدتا وإن كان بينهما فرق من جهات أخر ، فما لا يدلّ على التكرار كما في الأمثلة المتقدّمة ، فالسبب فيه عدم اعتبار تعليله بالقرينة.

وبما ذكر ظهر أنّه يصحّ أن يقال : إنّهما يفيدان العموم عرفا وشرعا ، أي من حيث إنّ الشرع والعرف يفهمان منهما العلّيّة. وهذا هو السرّ في تكرّر حلّ الأوامر الشرعيّة المعلّقة عليهما بتكرّرهما.

__________________

(١) في « ب » : « ثبت ».

٤٤

هذا. ولا يبعد أن يقال : إنّهما يفيدان العموم شرعا وإن قطع النظر عن إفادتهما للعلّيّة ، وإلاّ لزم الإبهام المنافي للحكمة.

احتجّ القائل بالتكرّر بلفظه بوجهين :

أحدهما : أنّه قد ثبت تكرّر الأوامر الشرعيّة المعلّقة بتكرّر ما علّقت عليه ، كقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا )(١) ، و ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا )(٢) ، وكالآيتين المتقدّمتين (٣) ، والاستقراء يدلّ على أنّه فهم التكرار من نفس التعليق دون العلّيّة (٤).

والجواب : أنّه لو فهم من مجرّد التعليق ، لفهم من جميع التعليقات مع أنّه لا يفهم من أكثرها ، كما في الأمثلة المذكورة وآية الحجّ (٥). والإيراد بأنّ عدم فهم التكرار فيها بالقرينة مشترك ، فما فهم فيه التكرار إنّما فهم من العلّيّة لا من التعليق ، وما لم يفهم فيه التكرار فلقيام القرينة على عدم اعتبار التعليل ، والاستقراء يدلّ عليه.

نعم ، يمكن ادّعاء فهم التكرار في التعاليق الشرعيّة في غير العلّة ؛ لما ذكرناه (٦).

وثانيهما : أنّ الحكم لو تكرّر بتكرّر العلّة ، فيتكرّر بتكرّر الشرط بالطريق الأولى ؛ إذ الشرط أقوى من العلّة ، لانتفاء الحكم بانتفائه ، بخلاف العلّة ؛ لجواز أن يخلفها علّة اخرى (٧).

والجواب : أنّ تكرّر شيء بتكرّر آخر لا يترتّب على اقتضاء عدمه لعدمه ، كما في الشرط ، بل على اقتضاء وجوده لوجوده ، كما في العلّة.

واحتجّ القائل بعدم التكرّر مطلقا بما لا يفهم منه التكرار من الأمثلة المحقّقة في العرفيّات (٨).

__________________

(١) النور (٢٤) : ٢.

(٢) المائدة (٥) : ٦.

(٣) تقدّمنا في ص ٦٢٦.

(٤) حكاه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٢ : ٢٨٥.

(٥) آل عمران (٣) : ٩٧.

(٦) تقدّم في ص ٦٢٧.

(٧) حكاه الغزالي في المستصفى : ٢١٤ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨٢ ، والأسنوي في نهاية السؤال ٢ : ٢٨٣ و ٢٨٤.

(٨) حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه ١ : ٢٠٦ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨١ ، والمؤلّف رحمه‌الله أخذ بمفاهيم الأدلّة.

٤٥

وقد عرفت (١) أنّ السبب فيه قيام القرينة في بعض التعاليق العرفيّة على عدم اعتبار التعليل.

إذا تقرّر ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّه قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بعد من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ » (٢) ، وهو في قوّة الأمر بالصلاة عند ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيتأتّى وجوب تكرّر الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتكرير ذكره ولو ذكر مرّات متتالية ؛ من جهة استفادة علّيّة ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله لوجوب الصلاة عليه منه على ما اخترناه ، ومن جهة دلالة اللفظ على العموم على القول بفهم التكرار من جهة اللفظ ، والاكتفاء بالمرّة الواحدة على القول بعدم التكرّر مطلقا. هذا إذا حملنا الأوامر الدالّة على الصلاة عليه عند ذكره على الوجوب ، كما ذهب إليه الصدوق (٣) من أصحابنا والزمخشري (٤) من العامّة. ولو حملناها على الاستحباب ، كما ذهب إليه أكثر الفريقين ، يسقط الوجوب بالمرّة. ويظهر فائدة الخلاف في استحباب التكرير كلّما ذكر ، وسقوطه بالمرّة.

فائدة

قد صرّح جماعة بأنّ محلّ الخلاف إنّما هو تعليق الأمر (٥) ، فتعليق غيره من الإنشاء ـ كقول الرجل لزوجته : « إن خرجت من الدار ، فأنت عليّ كظهر امّي » ـ أو الخبر ـ كقولنا : « إن جاء زيد ، جاء عمرو » ـ لا يفيد التكرار وفاقا ، وما (٦) إذا وقع الفعل الثاني في محلّ الأوّل.

وأمّا إذا وقع في غير محلّه ، فتكراره يقتضي تكراره اتّفاقا ، كقوله : « إن دخل زيد داري ،

__________________

(١) آنفا.

(٢) الكافي ٢ : ٤٩٥ ، باب الصلاة على النبيّ ، ح ١٩ باختلاف ، وفتح الباري ١١ : ١٤٤ ، وكنز العمّال ١٦ : ٤٣ ، ح ٤٣٨٥٣.

(٣) قاله في عقاب الأعمال ( ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ) : ٢٤٦ ، باب عقاب من صلّى وترك الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن ذكر عنده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصلّ عليه ، ح ١ ، وكنز العرفان ١ : ١٣٣.

(٤) الكشّاف ٣ : ٥٥٧ ، ذيل الآية ٥٦ من الأحزاب (٣٣).

(٥) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨١ و ١٨٢ ، وحكاه الأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ٢٨٤ ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٢ : ٢٨٥ و ٢٨٦.

(٦) في محلّ الرفع عطفا على « تعليق الأمر ». والمراد تكرار الشرط بجميع خصوصيّاته كما إذا قال : إذا دخل زيد الدار الفلانيّة ، فله كذا فدخل تلك الدار بعينها مرّات.

٤٦

فله درهم » فدخل دارا له ثمّ دارا اخرى له ، فإنّه يستحقّ درهمين.

ووجه الأوّل (١) : قيام القرينة في الأكثر على عدم اعتبار التعليل والتكرير في الأخبار وغير الأمر من الإنشاءات المعلّقة ، واستمرار ذلك إلى أن صار عدم فهم التكرار منها متبادرا عند العرف.

ووجه الثاني : تعدّد الفعل بحيث لا يحتمل الاتّحاد.

فصل [٧]

الحقّ أنّ الأمر لطلب مطلق الفعل من غير دلالة على فور أو تراخ ؛ وفاقا للأكثر.

وقيل : يفيد الفور (٢). وإليه ذهب كلّ من قال بالتكرار ، وبعض من لم يقل به.

وقيل : مشترك بينهما (٣).

وقيل : إنّه لطلب مطلق الفعل إلاّ أنّه يدلّ على الفور ، لا لأنّه حقيقة فيه شرعا أو عرفا ، بل لقيام الأدلّة الخارجيّة على وجوب التعجيل بعد الأمر المجرّد (٤).

وقيل باشتراكه بينهما لغة ، وإفادته الفور شرعا ، وإليه ذهب المرتضى (٥).

وقيل بالوقف (٦). ونقل فيه مذاهب آخر فاسدة المأخذ ، تركناها لظهور فسادها (٧).

لنا : جميع ما تقدّم في التكرار (٨) ، ولا فرق إلاّ أنّ الغالب في الأوامر قيام القرائن العرفيّة أو العاديّة على إرادة الفور ، وهو غير قادح في المطلوب ؛ لأنّ الكلام في الأمر المجرّد عن جميع القرائن ، فما يفهم منه الفور لا ينفكّ عن القرائن ، ويكون الدالّ عليه هي القرائن دون

__________________

(١) المراد به تعليق الخبر وغير الأمر ، والمراد بالثاني وقوع الفعل في غير محلّه.

(٢) قاله الشيخ ونسبه أيضا إلى أبي الحسن الكرخي في العدّة في أصول الفقه ١ : ٢٢٥ و ٢٢٦ ، وحكاه الآمدي عن الحنابلة والحنفيّة في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨٤.

(٣) قاله الفخر الرازي في المحصول ٢ : ١١٣.

(٤) قاله الفاضل التوني في الوافية : ٧٨.

(٥) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٣١.

(٦) حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه ١ : ٢٢٦ ، والفخر الرازي عن الواقفيّة في المحصول ٢ : ١١٣ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨٤ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ٢٨٨ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ١٣٣ ، القاعدة ٣١.

(٧) راجع العدّة في أصول الفقه ١ : ٢٢٥ و ٢٢٦.

(٨) ص ٦١٨.

٤٧

الأمر ، والمجرّد عنها لا يفهم منه الفور. والدليل عليه اختلاف الفوريّة باختلاف الآمر والمأمور والمأمور به وغير ذلك من القرائن ؛ فإنّ الفور الذي يقتضيه الأمر بالسقي غير الفور الذي يقتضيه الأمر بالمسافرة إلى البلاد النائية ، ولو كان الدالّ عليه مجرّد الأمر ، لما اختلف باختلاف القرائن ، بل كان مقتضاه واحدا ؛ لأنّ الموضوع له يجب أن يكون مضبوطا معيّنا.

احتجّ القائل بالفور بوجوه (١) :

منها : أنّ السيّد لو قال لعبده : « اسقني ماء » فأخّر ، عدّ عاصيا.

والجواب : أنّ ذلك إنّما فهم بالقرينة ، وهو ظاهر.

ومنها : [ أنّه ] (٢) لو قال له : « قم » ، ثمّ قال له قبل القيام : « اضطجع إلى المساء » سبق إلى الفهم تغيير الأمر الأوّل إلى الثاني دون إرادة الجمع مع التراخي.

والجواب كما تقدّم (٣).

ومنها : أنّ النهي يفيد الفور فكذا الأمر ، وأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه ، وهو يفيد الفور ، فكذا الأمر.

وقد تقدّم (٤) تقريرهما مع الجواب عنهما ، فلا حاجة إلى الإعادة.

ومنها : أنّ كلّ خبر وإنشاء ، مثل « زيد قائم » و « أنت طالق » يقصد منه الزمان الحاضر ، فكذلك الأمر ؛ إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

والجواب أوّلا : أنّ طريق إثبات اللغة إمّا النقل أو الاستقراء ، والإلحاق بالأعمّ ليس من النقل وهو ظاهر ، ولا من الاستقراء ؛ لأنّه استدلال من حال جميع الجزئيّات على حال الكلّي ، وهنا حال بعضها محلّ النزاع ، فلا يتمّ الاستقراء.

وثانيا : منع دلالة كلّ خبر وإنشاء على الزمان الحاضر وضعا ، فقد صرّح بعض الادباء بأنّ قولنا « زيد منطلق » لا يدلّ على أكثر من ثبوت الانطلاق فعلا له ، وقال : العدول عن

__________________

(١) راجع : المعتمد ١ : ١١٢ ـ ١٢٣ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨٦.

(٢) اضيف للضرورة.

(٣) تقدّم في ص ٦٢١ في ردّ من استدلّ بالنهي على دلالة الأمر على التكرار.

(٤) أي آنفا.

٤٨

الجملة الفعليّة إلى الاسميّة للدلالة على الدوام ؛ لأنّ الاسميّة لا تدلّ على زمان معيّن ، والفعليّة تدلّ عليه.

وثالثا بالفرق بين الأمر وما قيس عليه ، بأنّ الأمر فيه دلالة على الاستقبال ؛ نظرا إلى دلالته على الطلب ، وهو مردّد بين مطلق الاستقبال وأقرب زمان إلى الحال وهو الأجزاء المتعاقبة من أواخر الماضي وأوائل المستقبل. والزمان الحاضر الذي يدلّ عليه المقيس عليه مردّد بين الآن الحاضر الذي لا ينقسم والأجزاء المذكورة. فإن اريد بالزمان الحاضر المعنى الأوّل ، فلا يمكن توجّه الأمر إليه ؛ لأنّ الحاصل لا يطلب. وإن اريد به المعنى الثاني ، فلا يخلو إمّا أن يراد بالاستقبال مطلقة ، فلا يتعيّن توجّهه إليه ؛ أو مقيّده فنطالب الحجّة على تعيّن إرادته ؛ لأنّ المطلق محتمل أيضا ، ولا يصار إلى أحد المحتملين إلاّ لدليل.

ومنها : أنّ التأخير لو جاز ، لم يكن له غاية مبهمة ؛ للزوم التكليف بالمحال ، ولا معيّنة ؛ لعدم إشعار به في الأمر ، ولو استفيدت من الخارج خرج عن محلّ النزاع ، فيلزم جوازه دائما ، فيخرج الواجب عن كونه واجبا.

والجواب : النقض بالنذر المطلق وقضاء الواجب ، وبما لو صرّح بجواز التأخير.

والحلّ كما قيل ـ مع تتميم وتنقيح ـ أنّ جواز التأخير إلى غاية مبهمة وهي آخر أزمنة الإمكان في الواقع على أن ينقطع في أوّل جزء منه ، ويقع الفعل فيه ، لا على أن يكون طرفا للتأخير ويقع الفعل مؤخّرا عنه ؛ للزوم جواز التأخير حينئذ عن جميع أزمنة الإمكان ، وهو يوجب السفه والمنافاة للغرض وخروج الواجب عن كونه واجبا ، والتأخير إليها يقتضي التكليف بالمحال إذا كان متعيّنا ؛ إذ يلزم حينئذ تعريف وقته الذي يؤخّر إليه ؛ لئلاّ يلزم التكليف بما لا يعلم ، وأمّا إذا لم يتعيّن ، بل جاز عن أوّل زمان التكليف والتمكّن إلى ثانيه ، وهكذا بحيث لو أتى به في أيّ جزء من مجموع الأزمنة الواقعة بينهما كان ممتثلا ، فلا يقتضي التكليف بالمحال ؛ لتمكّنه من الامتثال بالمبادرة (١).

وفيه نظر ؛ لأنّه لو قيل حينئذ بوجوب البدار ، كان التزاما ، لإفادة الصيغة الفور ، ولو لم

__________________

(١) قاله الشيخ في العدّة في أصول الفقه ١ : ٢٢٧ و ٢٢٨ ، والأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ١ : ٣٨٨ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ٥٦.

٤٩

يقل به فأخّر المكلّف الفعل إلى انقضاء أزمنة الإمكان ، فإمّا أن يكون آثما ، أو لا ، فعلى الأوّل يلزم التكليف بالمحال ؛ إذ يجب عليه حينئذ عدم تأخيره عن آخر أزمنة الإمكان ، مع أنّه لا يعرفه.

وعلى الثاني يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا.

فالحلّ الصحيح أنّ جواز التأخير إلى غاية معيّنة ، وهو آخر أزمنة الإمكان بظنّ المكلّف بل بشكّه أيضا على التحقيق ، فكلّ زمان لم يظهر فيه عدم الإمكان بعد ذلك يجوز له التأخير ، وكلّ وقت ظنّ فيه ذلك يتضيّق عليه ، وهذا الوقت غير مجهول ؛ لأنّ المكلّف يتمكّن في كلّ وقت أن يتميّز (١) بأنّه هل حصل له الظنّ بأنّه لا يعيش بعد ذلك أم لا؟ ثمّ الوقت الذي يتضيّق عليه يختلف باختلاف الفعل المأمور به كثرة وقلّة ، وصعوبة وسهولة ، فربّما كان كثيرا يقتضي أمدا بعيدا ، وربّما كان قليلا لا يقتضي إلاّ زمانا قصيرا ، وربّما كان صعبا لم يمكن ، أو أنّه عند الهرم وسقوط القوّة ، وربّما كان سهلا أمكن إيقاعه عندهما ، فكلّ زمان ظنّ المكلّف أنّه لم يبق من عمره أو قوّته إلاّ بقدر ما أدّى فيه ما يجب عليه يتضيّق عليه ، وما لم يظنّ ذلك يجوز له التأخير.

والدليل عليه : قد تقدّم فيما ذكر أنّ من ظنّ الموت في جزء من وقت الواجب الموسّع ـ سواء كان ممّا وقته العمر أو لا ـ يعصي بتركه قبله إن مات فجأة ، ومن ظنّ السلامة فيه لا يعصي بتركه قبله لو مات كذلك.

بقي الكلام في الجواب عمّا ذكر في الدليل من أنّه لا إشعار في الأمر بالتأخير إلى غاية معيّنة.

والجواب عنه : أنّ فيه إشعارا بجواز التأخير إلى الغاية المعيّنة التي ذكرناها ، وعدم جواز التأخير عنها ؛ لأنّه لمّا فهم منه وجوب الفعل من غير دلالة على زمان معيّن ، فهم منه عدم لزوم إيقاعه فيما قبل آخر أزمنة الإمكان ، وعدم جواز تأخيره عنه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما قيل : إنّه قلّما يحصل هذا الظنّ ؛ لأنّه لا بدّ له من أمارة ، وليست إلاّ كبر السنّ أو مرضا شديدا وهما لا يفيدان شيئا ؛ إذ كم من شابّ صحيح يموت فجأة ، وكم

__________________

(١) كذا في النسختين ، والأولى « يميّز ».

٥٠

من شيخ سقيم يعيش مدّة. وعلى تقدير حصوله لا دليل على اعتباره شرعا حتّى يحكم به بتضيّق عبادة ثبتت من الشرع توسعتها. ولو سلّم ، فحصوله لمّا كان عند الهرم والمرض الشديد ، فبعده لا يمكن إيقاع شيء من التكاليف (١) ، في غاية الفساد.

أمّا الأوّل (٢) ، فلأنّ الغالب إفادة الأمارتين ظنّا للمكلّف بآخر أزمنة الإمكان وإن لم تفدا القطع به ، فتدلاّن على آخر أزمنة الإمكان بظنّه وإن لم تدلاّ على آخر أزمنة الإمكان في الواقع. ولو سلّم عدم إفادتهما له كلّيا ، فلا ريب في إفادة بعض أفرادهما أو أمارة ما ـ وإن كانت غيرهما ـ له وهو يكفي لإثبات المطلوب ؛ لأنّا نقول : الغاية زمان حصول هذا الظنّ بأيّ أمارة كانت ، وبأيّ نحو اتّفق ، أي اتّفق غالبا أو نادرا.

وأمّا الثاني (٣) ، فلما بيّنّا فيما تقدّم اعتباره (٤).

وأمّا الثالث (٥) ، فلما عرفت (٦) من أنّ الوقت المضيّق بظنّ المكلّف يختلف باختلاف ما يجب عليه ، فالظنّ بتضيّق الوقت لو حصل في المرض ، فإنّما يحصل لو كان ما يجب عليه ممّا أمكن إيقاعه فيه ، وإلاّ فيحصل قبله.

وإذا أحطت خبرا بما ذكر ، تعرف أنّه لو عرضناه على قواعد الميزان يصير الدليل هكذا : هذا الواجب لا يتعيّن آخره ، وكلّ ما لا يتعيّن آخره يجوز الإخلال به ، فهذا الواجب يجوز الإخلال به. وإذا جعلت النتيجة صغرى لقياس آخر ، ينتج أنّ هذا الواجب ليس بواجب ، وهو خلف.

والجواب على الحلّ الأوّل : منع الصغرى إن اريد عدم التعيّن عند الشارع ؛ لأنّ آخره ـ وهو آخر أزمنة التمكّن في الواقع ـ متعيّن عنده ، ومنع الكبرى إن اريد عدم التعيّن عند المكلّف ؛ لأنّ عدم التعيّن عنده لا يقتضي الترخّص له في الإخلال به في جميع الأزمنة.

__________________

(١) حكاه الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ١ : ٣٨٩.

(٢) والمراد به قوله : « قلّما يحصل هذا الظنّ ».

(٣) والمراد به قوله : « وعلى تقدير حصوله ».

(٤) في ص ٦٣٤.

(٥) والمراد به قوله : « ولو سلّم فحصوله ».

(٦) في ص ٦٣٤.

٥١

وعلى الحلّ الذي ذكرناه : منع الصغرى ، سواء اريد عدم التعيّن عند الشارع ، أو المكلّف ؛ لأنّ آخره ـ وهو آخر أزمنة التمكّن بظنّ المكلّف ـ متعيّن عندهما.

ومنها : قوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )(١) ذمّ إبليس على ترك البدار ، ولو لم يقتض الفور ، لما استحقّ الذمّ وكان له أن يقول : ما أمرتني بالبدار (٢).

والجواب : أنّ هذا الأمر كان مقيّدا بوقت معيّن ، وهو وقت التسوية والنفخ بدليل قوله تعالى : ( فَإِذا سَوَّيْتُهُ )(٣) ، فلمّا لم يأت بالفعل فيه استحقّ الذمّ.

ومنها : قوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ )(٤) ، وفعل (٥) المأمور به منها ، فيجب الاستباق إليه. وقوله : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ )(٦) ، والمراد سببها بالاتّفاق ، وليس المراد منه سببا خاصّا كالتوبة ؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح ، فالمراد منه فعل المأمور به مطلقا ، فيجب المسارعة إليه ، ولا يتحقّق الاستباق والمسارعة إلاّ بإيقاعه فورا (٧).

واجيب عنه بأنّ الأمر بالاستباق والمسارعة محمول على الأفضليّة دون الوجوب ؛ لأنّهما إنّما يتصوّران في الموسّع دون المضيّق ، ولا يجبان فيه.

أمّا الثاني ؛ فللإجماع. وأمّا الأوّل ؛ فلأنّ الإتيان بالمأمور به في الوقت الذي لا يجوز التأخير عنه لا يسمّى استباقا ومسارعة عرفا ، فلو حمل على الوجوب ، يلزم أن يكون ما يقتضيه الصورة (٨) فيهما منافيا لما يقتضيه المادّة ؛ لأنّ الصورة تقتضي المنع عن التأخير ، والمادّة ـ وهي المصدر ـ تقتضي جوازه (٩).

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٢.

(٢) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨٦ ، والفخر الرازي في المحصول ٢ : ١١٥ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ٥٦.

(٣) الحجر (١٥) : ٢٩.

(٤) البقرة (٢) : ١٤٨.

(٥) أي إتيانه.

(٦) آل عمران (٣) : ١٣٣.

(٧) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨٨.

(٨) في النسختين : « الصفة ». وما يأتي يقتضي كون الكلمة : « الصورة » أو « الصيغة ».

(٩) حكاه الأنصاري عن الشافعي في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ١ : ٣٨٩ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ٥٧.

٥٢

واورد عليه بأنّ الأمر إمّا موقّت مضيّق ، كالأمر بالصوم في يوم معيّن. أو موقّت موسّع ، كالأمر بصلاة الظهر مثلا. أو مطلق ، كالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد ، وقضاء الصلوات اليوميّة على المشهور ، والحجّ.

والأوّل يفيد الفور ، بمعنى وجوب الشروع في الفعل في أوّل وقته بحيث لو اخّر حتّى خرج بعض وقته ترتّب عليه الإثم وصار قضاء.

والثاني يفيد جواز التأخير عن أوّل وقته ، ولكن لو أخّره عن مجموع الوقت يترتّب عليه الإثم ويصير قضاء.

والثالث ـ وهو ما نحن بصدده ـ يفيد الفور ، بمعنى أنّه لو لم يبادر ترتّب عليه الإثم ، إلاّ أنّه لا يصير قضاء ، بل إذا أتى به في أيّ وقت كان ، يكون أداء وصحيحا. وهذا وإن كان مضيّقا إلاّ أنّه ليس موقّتا ، فيتصوّر فيه الاستباق والمسارعة ؛ لأنّهما إنّما لا يتصوّران في الموقّت المضيّق. فمفاد الآيتين أنّه يجب الاستباق والمسارعة فيما يصحّ فعله في الزمان المتراخي ، ويعصي المكلّف بترك البدار إليه (١).

فما ذكره المجيب مبنيّ على اشتباه الموقّت بغيره ، ولا يلزم حينئذ المنافاة المذكورة ؛ إذ المادّة لا تقتضي إلاّ كون الفعل أداء وصحيحا على تقدير التأخير ، ولا تقتضي مشروعيّة التأخير وعدم ترتّب الإثم ، والصيغة أيضا تقتضي ذلك.

أقول : ما ذكره المورد مبنيّ على أنّ المراد باقتضاء الأمر للفور ترتّب الإثم على التأخير ، لا عدم صحّة الفعل في الزمان المتراخي.

وقد قيل : إنّه المراد لأكثر القائلين بالفور منه (٢) ، بل يظهر من كلام جماعة أنّه لا خلاف في كون الفعل أداء وصحيحا في الزمان المتراخي (٣) ؛ لأنّ أكثر أدلّتهم المذكورة على فرض تمامها إنّما يدلّ على العصيان بالتأخير لا عدم الصحّة ، وقد يأتي أنّ الظاهر من أكثر الأدلّة ، ومن كلام معظم القائلين بالفور ؛ أنّه مدلول الأمر وهو بنفسه يدلّ عليه ، وحينئذ يتعيّن

__________________

(١) قاله الفاضل التوني في الوافية : ٨٣.

(٢) حكاه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٢ : ٢٨٦ و ٢٨٧.

(٣) المصدر وكذا ذكره ملاّ ميرزا في هامش معالم الدين : ٥٧ و ٥٨.

٥٣

الحكم بسقوط وجوب المأمور به ، وعدم صحّته حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان.

وعلى هذا يندفع هذا الإيراد ؛ لأنّه لو دلّ وضعا أو شرعا على الفور لدلّ على عدم صحّة الفعل بترك الفوريّة ؛ لأنّ مدلوله حينئذ هو الإتيان بالفعل في أوّل أوقات الإمكان ، ولا يتصوّر فرق بينه وبين ما إذا قيل : يجب عليك فعل كذا في هذه الساعة. ولو سلّم التزامهم صحّة الفعل في الزمان المتراخي ، اندفع الجواب المذكور بهذا الإيراد.

فنقول في الجواب : إنّه لا ريب في كون المندوب والواجب الموسّع من الخيرات وأسباب المغفرة ، فتخصيصهما (١) بالأفعال الواجبة ترجيح بلا مرجّح ، فتعيّن إرادة جميع الخيرات وأسباب المغفرة. وحينئذ لا يمكن أن يدلّ الصيغتان (٢) على وجوب جميعهما ، فإمّا أن تدلاّ على استحباب الجميع ، أو وجوب البعض واستحباب البعض ، والثاني باطل ؛ إذ هو يوجب استعمال لفظ واحد في معناه الحقيقي والمجازي ، وقد تقدّم (٣) فساده.

احتجّ القائل بالاشتراك كما احتجّ به القائل باشتراكه بين الوحدة والتكرار (٤). والجواب الجواب.

واحتجّ القائل بأنّه للقدر المشترك ـ إلاّ أنّه يفهم منه الفور بالدلالة الخارجيّة ـ على الجزء الأوّل ببعض أدلّة القائلين بأنّه للقدر المشترك من دون تقييد (٥). وهو حقّ نحن نقول بمقتضاه. وعلى [ الجزء ] (٦) الثاني ببعض حجج أصحاب الفور.

وقد عرفت (٧) جوابها. على أنّ الدالّ على الفوريّة إن كان هو النقل لثبت به الحقيقة ؛ لأنّ تحقّق الوضع الشرعي إمّا بتصريح الشارع ، أو بنصبه قرينة متّصلة أو منفصلة على أنّ مراده عند الإطلاق هو المعنى الموضوع له ، والتخصيص بالمتّصلة ترجيح بلا مرجّح ، والنقل إن لم يكن تصريحا بالوضع الشرعي فلا أقلّ من أن يكون قرينة منفصلة دالّة عليه.

__________________

(١) أي المسارعة والاستباق.

(٢) أي « سارِعُوا » و « فَاسْتَبِقُوا ».

(٣) تقدّم في ج ١ ، ص ٧١.

(٤) المحتجّ هو السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٣٢.

(٥) قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٣١ ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : ٩٧.

(٦) اضيف للضرورة.

(٧) راجع ص ٦٣١ وما بعدها.

٥٤

وإن كان هو العقل ، فإن لم يعلم منه أنّ الفوريّة مقصودة الشارع فلا يفيد ، وإن علم منه ذلك فيثبت منه أيضا الوضع الشرعي ؛ لأنّه أيضا من القرائن المنصوبة ، مع أنّه يبعد من الشارع أن يريد من عامّة المكلّفين شيئا ولا ينصب لهم قرينة على مطلوبه ، بل يكل استنباطه إلى عقولهم الناقصة حتّى يختلفوا فيه هذا الاختلاف.

واحتجّ المرتضى على الجزء الأوّل ، كما احتجّ به القائل بالاشتراك مطلقا. وعلى الجزء الثاني بحمل الصحابة والتابعين كلّ ما ورد في الكتاب أو السنّة على الفور (١).

والجواب : المنع ؛ لتفرّده بنقل الحمل ، بل المسلّم وجوده فيما وجد فيه قرائن الفور.

اعلم أنّ السيّد لم يصرّح بالجزء الثاني في بحث الفور والتراخي من الذريعة ، بل اقتصر فيه على كون الأمر مشتركا بينهما (٢) ، وصرّح به في بحث تحقيق الموضوع له ، هل هو الوجوب أو غيره؟ ونقل فيه إجماع الإماميّة على كونه للوجوب والفور شرعا ، محتجّا بما ذكر (٣). وقد ذكرنا الإجماع المنقول منه على كون الأمر للوجوب في تضاعيف أدلّته.

وعلى هذا ، فربّما يعترض بأنّ ردّ إجماعه المنقول هنا ، وقبوله هناك لا يجتمعان ؛ لاتّحاد طريق نقله فيهما ، كما في الخبر المشتمل على جزءين : أحدهما : مردود ؛ فإنّه لا ينتهض حجّة لإثبات الجزء الآخر.

ودفعه أنّ ردّ أحد جزءي المنقول ـ إجماعا كان أو خبرا ـ لمعارض لا يقتضي ردّ الآخر بعد ثبوت حجّيّته. ولو سلّم وردّ مطلقا ، فلا يقدح في كون الأمر للوجوب ؛ لكفاية سائر الأدلّة لإثباته.

وحجّة المتوقّف وجوابها كما تقدّم (٤).

إذا عرفت ذلك فكيفيّة التفريع أنّه إذا قيل لرجل : « بع هذه السلعة » ، فقبضها وأخّر بيعها مع القدرة عليه فتلفت ، فعلى ما اخترناه لا يضمن ، وعلى الفور يضمن ؛ لتقصيره.

وقد علم وجوب الفور في بعض الأوامر للدلالة الخارجيّة ، كالأمر بدفع الزكاة والخمس

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٥٣ و ٥٤ و ١٣٢.

(٢) المصدر : ١٣١.

(٣) المصدر : ٥٣.

(٤) تقدّم في ص ٦٣١.

٥٥

عند المطالبة (١) لأنّ تأخيرهما يوجب الإضرار بأهلهما وجواز تأخير الزكاة شهرا وشهرين ، والخمس إلى تمام حوله للنصّ (٢) والاحتياط للمئونة.

وأداء الدين والأمانة مع المطالبة أو كونهما لمن لا يعلم بهما ، فيجب المبادرة إلى الوفاء ؛ أو إعلام مستحقّهما بالحال ؛ لأنّ تأخيرهما يوجب تضييع مال الغير ، والإضرار به.

وإيقاع الحجّ ؛ للنصوص (٣).

والجهاد وقتال البغاة ؛ لئلاّ يكثر الفساد.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنّ تأخيرهما كالتقرير على المعصية.

وردّ السلام ؛ لفاء التعقيب في قوله تعالى : ( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها )(٤).

والكفّارات عند جماعة (٥) ؛ لأنّها كالتوبة الواجبة على الفور من العاصي.

وإقامة الحدود والتعزيرات ؛ للأخبار (٦) ، ولأنّ تأخيرها يوجب تقليل الزجر عن المفاسد المترتّبة عليها (٧).

والحكم بين الخصمين ؛ لأنّ المتعدّي منهما ظالم ، فيجب المبادرة إلى كفّه عن ظلمه.

فصل [٨]

الأمر بالموقّت ـ موسّعا كان أو مضيّقا ـ لا يقتضي فعله فيما بعد ذلك الوقت ، لا أداء ولا قضاء ؛ وفاقا للأكثر ؛ لبداهة عدم دلالة « صم يوم الخميس » على صوم غيره بوجه.

واحتمال اختصاص جهة الحكمة به ؛ لاختلاف الأوقات في وجوه المصالح ، كالكيفيّات.

ولأنّ الأمر قد يكون مستتبعا للقضاء ، كالأمر بالفرائض الخمس ، وقد يكون غير مستتبع له ، كالأمر بصلاة العيد والجمعة ، فمطلق الموقّت أعمّ منهما ، فلا يدلّ على أحدهما

__________________

(١ و ٢) راجع تهذيب الأحكام ٤ : ٤٣ ـ ٤٨ ، باب تعجيل الزكاة.

(٣) آل عمران (٣) : ٩٧.

(٤) النساء (٤) : ٨٦.

(٥) راجع تمهيد القواعد : ١٣٤ ، القاعدة ٣٩.

(٦) راجع : الفقيه ٤ : ٣٢ ، ح ٥٠٢١ ، وتهذيب الأحكام ١٠ : ٥١ ، ح ١٩٠.

(٧) لمزيد الاطّلاع راجع تمهيد القواعد : ١٣٣ ـ ١٣٥ ، القاعدة ٣٩.

٥٦

بخصوصه ؛ لعدم دلالة العامّ على الخاصّ.

ولأنّه لو اقتضاه ، لكان المثال المذكور بمثابة « صوم يوم الخميس أو غيره » ، وهو متخيّر (١) بينهما ، فيكون الصوم في غيره أداء لا قضاء للأوّل ، فيلزم أن يكون التقييد لغوا. وأيضا يلزم أن يكونا سواء ، فلا عصيان بالتأخير.

لا يقال : لو اقتضاه أمر جديد ، لكان أيضا أداء ؛ لأنّه أمر بالفعل بعد هذا الوقت ، فوقته بعده ، فإذا أتى به بعده ، وقع في وقته لا بعده ، وهو الأداء.

لأنّا نقول : يشترط في الأداء أن لا يكون استدراكا لفائت ؛ إذ هو ما فعل في وقته المقدّر له أوّلا ، وهذا استدراك لمصلحة ما فات ، فيكون قضاء.

وما قيل : « إنّه للخصم أن يقول : إنّي أدّعي أنّه أمر بالصوم وبإيقاعه في يوم الخميس ، فلمّا فات إيقاعه فيه ، الذي به كمال المأمور به ، بقي الوجوب مع نقص فيه (٢) ، فلا يلزم اقتضاء خصوص غيره ، ولا كونه أداء ، ولا كونهما سواء » (٣) ، فاسد ؛ لأنّه لو بقي الوجوب في غيره (٤) ، لكان الأمر مقتضيا له وإن لم يقتضه بخصوصه ، وقد ادّعينا البداهة (٥) في أنّه لا يقتضيه بوجه. ولو سلّم اقتضاؤه له ـ ولو بوجه ـ كان إيقاع الفعل فيه أداء ؛ لأنّ المعتبر فيه كون متعلّقه متناول الأمر الأوّل ولو بالتخيير ، ولا يعتبر فيه كونه متناولا له بخصوصه.

وممّا ذكر يظهر ثبوت التسوية ؛ لأنّ المراد منها كونهما سواء في تعلّق الأمر بهما ، ووجوب الفعل فيهما ، بحيث لا يلزم في تأخيره إلى الثاني عصيان ، وهو كذلك ؛ لأنّ النقص لرفع الكمال لا يوجب العصيان.

احتجّ الخصم بأنّ الوقت للمأمور به كالأجل للدين ، فكما لا يسقط الدين بانقضاء الأجل ، فكذا لا يسقط المأمور به بانقضاء الوقت.

وبأنّ الزمان لكونه ظرفا للمأمور به غير داخل فيه ، فلا يؤثّر اختلاله في سقوطه.

__________________

(١) في « ب » : « تخيير ».

(٢) أي في الصوم أو المأمور به.

(٣) حكاه الفاضل التوني في الوافية : ٨٥ باختلاف.

(٤) أي في غير يوم الخميس.

(٥) في بداية الفصل.

٥٧

وبأنّ هنا مطلوبين : الفعل ، وإيقاعه في وقت معيّن ، فبفوت الثاني لا يفوت الأوّل (١).

والجواب عن الأوّل : أنّه قياس لا نقول به. ومع التسليم نقول : إنّ وجوب أداء الدين بعد الأجل قد علم من خارج ، وهو اشتغال الذمّة وتعلّق الغرض بإحقاق حقوق الناس من غير مدخليّة خصوصيّة الوقت فيه ، ولذا جاز التقديم.

وعن الثاني : أنّ الكلام في مقيّد لو قدّم على وقته لم يعتدّ به ، والوقت في مثله قيد للمأمور به وداخل فيه ، وإلاّ لجاز التقديم.

وعن الثالث : منع تعدّد المطلوب ، بل هو أمر واحد مقيّد.

وتنقيح ذلك : أنّه وقع الخلاف في أنّ المقيّد هل هو شيئان في الخارج ، هما : المطلق والمقيّد ، كما في التعقّل والتلفّظ. أو شيء واحد ، هو ما صدقا عليه ، ويعبّر عنه باللفظ المركّب ، وبالمفهوم المركّب الذي هو مدلوله؟ فمن قال بالأوّل ، جعل القضاء بالأمر الأوّل ؛ لأنّ المأمور به حينئذ شيئان ، فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر. ومن قال بالثاني ، جعله بأمر جديد ؛ لأنّه ليس حينئذ في الخارج إلاّ شيء واحد ، فإذا انتفى سقط المأمور به.

ولمّا كان هذا الخلاف مبنيّا على الخلاف في أنّ تركّب الماهيّة من الجنس والفصل ، وتمايزهما هل هو في الخارج ، أو العقل؟ لأنّ المطلق والمقيّد بمنزلة الجنس والفصل. فإن صحّ الأوّل هنا ، صحّ الأوّل هناك. وإنّ صحّ الثاني هنا ، صحّ الثاني هناك. ولمّا كان الحقّ هنا هو الثاني ـ وإلاّ لم يصحّ الحمل ، كما تقرّر في محلّه ـ يكون الحقّ هناك أيضا هو الثاني ، فيبطل كون المطلوب متعدّدا ، ويثبت اتّحاده.

وأنت خبير بأنّ حقيقة الثاني مبنيّة على عدم كون التركيب العقلي بحذاء التركيب الخارجي ، كتركيب البياض من « اللون » و « مفرّق البصر » ولو كان بحذائه ـ بأن يكون الجنس مأخوذا من المادّة ومتّحدا معها ، والفصل مأخوذا من الصورة ومتّحدا معها ـ كان للجنس وجود (٢) ممتاز عن وجود الفصل ؛ لأنّ المادّة ممتازة في الوجود

__________________

(١) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٢٠١.

(٢) في النسختين : « وجوده ». ولكنّ الصحيح ما أثبتناه.

٥٨

عن الصورة ، فالجنس الموجود في ضمنها ممتاز في الوجود عن الفصل الموجود في ضمنها ، فانتفاء أحدهما لا يستلزم انتفاء الآخر.

ثمّ لا يخفى أنّ حكم مطلق طلب الموقّت ـ سواء كان بعنوان الوجوب أو الاستحباب ، وسواء كان بصيغة الأمر أو غيرها ، من الشارع أو غيره ـ ما ذكر اختلافا واختيارا ، وسؤالا وجوابا.

إذا عرفت ذلك ، فتعلم أنّ القضاء لا يجب إلاّ بأمر جديد.

ويتفرّع عليه عدم وجوب قضاء الفرائض الموقّتة ، وعدم استحباب النوافل الموقّتة إلاّ بدلالة خارجيّة ، كقوله عليه‌السلام : « من نام عن صلاة أو نسيها ، فليصلّها إذا ذكرها » (١).

وممّا فرّع عليه عدم وجوب إخراج الفطرة ، وذبح الأضحية بعد خروج وقتهما على وكيله لو أمره بإخراجها ، وذبحها قبله.

ومثله ـ وإن لم يوصف بالأداء والقضاء ـ إذا قال « بع هذه السلعة » ، أو « أعتق هذا العبد » ، أو « طلّق زوجتي هذه في هذا الشهر » ولم يتّفق البيع ، والعتق ، والطلاق فيه.

تذنيب

إذا ورد الأمر المطلق ولم يأت بالمأمور به في أوّل أوقات الإمكان ، فعلى ما اخترناه من أنّه لا يقتضي الفور ، لا يسقط التكليف ، بل يجب الإتيان به فيما بعد. وعلى مذهب الفور فما يلوح من كلام معظم القائلين به ، ويقتضيه أكثر أدلّتهم ـ من أنّه مدلول الصيغة ، وهي بنفسها تدلّ عليه ـ سقوط الوجوب فيما بعد (٢) ؛ لأنّ إرادة الوقت الأوّل حينئذ جزء مدلولها ، فيكون « اضرب » بمنزلة « يجب عليك الفعل في أوّل أوقات الإمكان » ، ويصير من قبيل الموقّت فيقضى الفعل بانقضاء وقته ، كما تقدّم (٣).

نعم ، على ما يظهر من كلام بعضهم ، ويقتضيه بعض أدلّتهم ـ وهو الآيات المأمور فيها

__________________

(١) عوالي اللآلئ ١ : ٢٠١ ، ح ١٧. وأيضا تقدّم في ص ٣٣٤.

(٢) منهم : السيّد المرتضى في الشريعة الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٣٢ و ١٣٣ ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه ١ : ٢٢٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ١٨٧.

(٣) تقدّم في ص ٦٤٠ ـ ٦٤١.

٥٩

بالمسارعة (١) والاستباق (٢) من أنّه يجب البدار إلى امتثال الأمر ، وإن لم يكن مقتضيا له بنفسه ـ وجوب الإتيان بالمأمور به فيما بعد ؛ لأنّه يدلّ بنفسه حينئذ على وجوب الإتيان به في أيّ وقت كان. والآيات المذكورة لم تجعله موقّتا ، بل اقتضت وجوب المبادرة. والظاهر منه عصيان المكلّف بتركه ، وبقاء مفاد الأمر بحاله (٣).

وتوضيحه : أنّه لم يعلم من الآيات تقييد المأمور به في الأمر المطلق ؛ ليكون الفور مرادا منه أيضا وإن لم يكن بالوضع ، ويتحقّق طلب واحد متعلّق بمطلوب مقيّد ، بل القدر المعلوم منها طلب المبادرة من غير أن تكون مقيّدة له ، كما إذا قال بعد الأمر المطلق : « عجّل واستبق » ، فيتحقّق طلبان متعلّقان بمطلوبين مطلقين : أحدهما : طلب إيجاد الماهيّة ، وهو المفهوم من الأمر. وثانيهما : طلب المبادرة ، وهو المفهوم من الآيات. فإذا أخلّ المكلّف بالطلب الثاني ، عصى من حيث مخالفته ، ولم يعص من جهة الطلب الأوّل ؛ لأنّ عصيانه بترك الإتيان بالفعل مطلقا ، فهو يبقى بحاله. كيف؟ وارتفاع أحد الأمرين لا يستلزم ارتفاع الآخر إذا لم يتقيّد به.

ويظهر من هذا أنّ الدالّ على الفور لو كان مقيّدا للأمر المطلق ـ سواء كان منفصلا عنه ، كأن يرد بعده خطاب آخر يعلم منه إرادة الفور منه ، أو متّصلا به ، كأن يقول : افعل معجّلا ، أو بسرعة ـ يسقط الوجوب حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان ؛ لأنّ الفوريّة لمّا كانت مرادة من الأمر ـ وإن لم يكن للوضع مدخل فيها ، بل علمت إرادتها منه بدليل من خارج ـ يتحقّق طلب واحد مقيّد ، والتكليف المقيّد يفوت بفوات القيد ؛ إذ ما علم أنّه مطلوب ـ وهو المقيّد ـ لم يحصل ، وما يمكن حصوله ـ وهو المطلق ـ لم يعلم كونه مطلوبا ، فلا وجه للإتيان به.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه أنّ الموقّت (٤) ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما صرّح فيه بالتوقيت.

الثاني : ما ورد به أمر مطلق. وقيل بأنّه يفيد الفور وضعا (٥).

__________________

(١) آل عمران (٣) : ١٣٣ : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ).

(٢) المائدة (٥) : ٤٨ : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ).

(٣) راجع معالم الدين : ٦٠.

(٤) أراد به المقيّد الأعمّ من الموقّت الاصطلاحي.

(٥) قاله المفيد في التذكرة بأصول الفقه المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ٩ : ٣٠ ، وحكاه الشيخ في العدّة في الاصول ١ : ٢٣٤.

٦٠