أنيس المجتهدين - ج ٢

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0282-0
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

خبر واحد ؛ وإنّ قوله تعالى : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ )(١) نسخ بقوله عليه‌السلام : « لا تنكح المرأة على عمّتها ، ولا على خالتها » (٢) ؛ وإنّ التوجّه إلى بيت المقدس كان متواترا ونسخ بخبر الواحد ؛ لأنّ أهل مسجد قبا سمعوا مناديه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ألا إنّ القبلة قد حوّلت » (٣) فاستداروا وتوجّهوا إلى الكعبة ، ولم ينكر عليهم ؛ وإنّ النبيّ كان يبعث الآحاد لتبليغ الأحكام إلى أهل القبائل ، وكان المبعوث إليهم متعبّدين بقبولها منهم ، وربما كان في تلك الأحكام ما ينسخ متواترا ؛ لأنّه لم ينقل الفرق بين الأحكام المبتدأة والناسخة للواحد والمتواتر (٤).

وأجاب الأكثر عن الأوّل : بأنّ التخصيص بيان وجمع للدليلين ، والنسخ إبطال ورفع.

وربما أجاب بعضهم : بأنّ إجماع الصحابة فرّق بينهما (٥).

وعن الثاني : بأنّ الظنّ لا يساوي القطع ، فلا يعارضه.

وعن الثالث : بالمنع من النسخ المدّعى فيما ذكرتم ؛ لأنّ الآية الاولى لحكاية الحال ، فالمعنى : لا أجد الآن ، والتحريم في المستقبل لا ينافيه حتّى يلزم نسخه.

وأيضا لا يلزم من عدم وجدان التحريم الإباحة الشرعيّة ، بل جاز أن يكون مباحا عقليّا ؛ فالخبر قد حرّم حلال الأصل ولم يرفع حكما شرعيّا حتّى يلزم النسخ.

والآية الثانية ليست منسوخة بالخبر ، بل مخصّصة به ؛ على أنّ التخصيص لم يقع بمجرّد الخبر ، بل لأنّ الامّة تلقّته بالقبول.

وأهل قبا إنّما قبلوا نسخ القبلة بخبر الواحد ؛ لانضمامه بالقرائن المفيدة للقطع ؛ لأنّ منادي الرسول بحضرته على رءوس الأشهاد ، واستماعهم الصياح وارتفاع الأصوات من مسجده ـ لأنّهم كانوا في قربه ـ قرينة صدق عادة. وربما انضمّ إلى ذلك سماعهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ذلك ما يدلّ على تحويل القبلة.

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٤.

(٢) سنن البيهقي ٧ : ١٦٥ ، وسنن النسائي ٦ : ٩٧ ، ح ٣٢٩٤.

(٣) مسند أحمد ٤ : ٢٠١ ، ح ١٣٦٢٠.

(٤) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٦٠.

(٥) راجع الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٦١.

٣٠١

وقبول القبائل أخبار الآحاد إنّما كان فيما عدا ما ينسخ المتواتر. ولو سلّم فربما كان لحصول العلم بها بالقرائن الحاليّة.

وأنت إذا تأمّلت في أدلّة الفريقين ، تعلم أنّ المعترض على كلّ منهما مستظهر. ولقلّة الفائدة في تلك المسألة نحن لا نبالي بترك الاشتغال عن تحقيقه.

فصل [٨]

الجمهور وأكثر أصحابنا على أنّ الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به غيره.

واحتجّوا على الأوّل بوجوه (١) :

منها : الإجماع ، نقله المرتضى (٢) من أصحابنا ، وبعض العامّة (٣).

وهو في حيّز المنع ؛ فإنّ بعض محقّقي أصحابنا على خلافه (٤).

ومنها : أنّ الإجماع لا يستقرّ إلاّ بعد انقطاع الوحي ، فالكتاب والسنّة متقدّمان عليه ؛ فلا ينسخ بهما ؛ لوجوب تأخّر الناسخ.

وهو أيضا ممنوع ؛ لإمكان استقراره قبله عند الفريقين.

أمّا عندهم ، فلأنّه اتّفاق المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر ، ويمكن أن يثبت مثل هذا الاتّفاق في عصر النبيّ قبل انقطاع الوحي ، ثمّ ينسخ بآية أو خبر.

وأمّا عندنا ، فلأنّه انضمام أقوال إلى قول لو انفرد لكانت الحجّة فيه ، ولا ريب في حصول مثله في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ نسخه بدلالة شرعيّة متراخية.

ومنها : أنّه لو نسخ فإمّا بنصّ قاطع ، أو بإجماع قاطع ، أو بغيرهما ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ، فلأنّه يلزم أن يكون الإجماع على الخطأ ؛ لأنّه على خلاف القاطع ، وهو محال.

__________________

(١) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٥٦ ، والإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٧٣ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ١٦٢ ، وتهذيب الوصول : ١٩٥ ـ ١٩٦ ، ومعالم الدين : ١٢٠.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٣) راجع الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٧٣.

(٤) قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٧٤.

٣٠٢

وأمّا الثاني ، فلأنّه يلزم أن يكون كلّ من الإجماعين على الخطأ ؛ لمخالفته للقاطع.

وأمّا الثالث ، فلأنّه يلزم تقديم غير القاطع على القاطع ، وهو باطل ؛ للعلم بوجوب تقديم الأقوى على الأضعف.

وفيه : أنّه يجري في سائر القطعيّات من آية قطعيّة ، أو سنّة متواترة.

والحلّ أنّه لا فساد في تعارض قطعيّين في حكم مع اختصاص كلّ منهما بزمان ، فالإجماع ما دام ثابتا ليس على الخطأ ؛ لعدم ورود القاطع حتّى يكون مخالفا له ، وبعد وروده يزول ثبوته ، فلا معنى لمخالفته له حينئذ ؛ على أنّ كلّ إجماع ليس قاطعا بل قد يكون ظنّيّا ، وأنّ تقديم القاطع على غيره مطلقا محلّ النزاع ، كما تقدّم (١).

و [ احتجّوا ] على الثاني أيضا بوجوه (٢) :

منها : الإجماع. وحاله كما عرفت هناك (٣).

ومنها : أنّ الإجماع دليل عقلي ، والنسخ لا يكون إلاّ بدليل شرعي.

وفيه : أنّ الإجماع دلالة شرعيّة. أمّا عندهم ، فلأنّ كونه دليلا وحجّة إنّما ثبت من الشرع. وأمّا عندنا ، فلأنّ كونه دليلا باعتبار دخول قول المعصوم فيه.

ومنها : أنّ المنسوخ بالإجماع إن كان قاطعا ، لزم أن يكون على الخطأ ؛ لمخالفته للإجماع ، وإن كان مظنونا ، لزم جواز تقاوم الظنّي وتعارضه للقاطع ، وهو باطل ؛ لأنّ الظنّ بحكم لا يبقى مع القطع على خلافه دليلا يمكنه التعارض والتقاوم معه ، بل انتفى واضمحلّ فلا يثبت به حكم حتّى يتصوّر فيه دفع ونسخ.

وهذا قد ظهر جوابه ممّا تقدّم (٤).

وإذ عرفت ذلك ، تعلم أنّه لا استبعاد في ثبوت إجماع في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ نسخه بآية أو نصّ منه عليه‌السلام ، ولا في ثبوت حكم من القرآن أو السنّة ، ثمّ نسخه بالإجماع.

__________________

(١) أي عدم جواز النسخ بالإجماع.

(٢) تقدّم في ص ٨٨٦.

(٣) تقدّم في ص ٨٨٦.

(٤) تقدّم في ص ٨٨٦.

٣٠٣

ويؤيّده ما روي من طريق العامّة أنّ ابن عبّاس قال لبعض (١) الصحابة : كيف تحجب الامّ بالأخوين وقد قال تعالى : ( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ )(٢) والأخوان ليسا إخوة؟! فقال : حجبها قومك يا غلام (٣). وهو دالّ على رفع حكم الكتاب بالإجماع.

فصل [٩]

القياس إن كان منصوص العلّة ، أو كان الحكم فيه في الفرع أقوى منه في الأصل ، جاز أن يكون ناسخا ؛ لكونه دليلا شرعيّا ، ومنسوخا في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصّ منه ، وأمّا بعده فلا ينسخ ؛ إذ لا ولاية للامّة للنسخ. نعم ، ربما ظهر بعده أنّه كان منسوخا.

وإن كان مستنبط العلّة لم يمكن أن يكون ناسخا. ووجهه ظاهر. وربما أمكن أن يكون منسوخا عند القائلين به. وأمّا عندنا ، فأصله ساقط.

تذنيب

نسخ القياس إمّا بالنصّ على نسخ حكم الفرع ـ كما إذا ثبت حرمة النبيذ قياسا على حرمة الخمر بجامع الإسكار ، فنصّ الشارع على زوال حرمة النبيذ ـ أو بالنصّ على نسخ حكم الأصل ، فيقاس عليه. وفي تسمية ذلك نسخا لحكم الفرع نزاع لفظي.

مثاله : أن ينصّ الشارع على زوال حرمة الخمر ، فيحكم على زوال حرمة النبيذ أيضا ؛ لأنّ نسخ الأصل يستلزم خروج علّيّته عن الاعتبار شرعا ؛ إذ علم عدم ترتّب الحكم عليها في الأصل ، والحكم في الفرع إنّما يثبت بالعلّة ، فإذا انتفت انتفى ، وإلاّ لزم ثبوت الحكم بلا دليل.

وقيل : نسخ حكم الأصل لا يوجب نسخ حكم الفرع ؛ لأنّ الفرع تابع للدلالة لا للحكم ، فلا يلزم من انتفاء الحكم انتفاء الدلالة ، فالدلالة الثابتة على حكم الفرع باقية وإن

__________________

(١) وهو عثمان كما في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٧٥.

(٢) النساء (٤) : ١١.

(٣) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٧٥.

٣٠٤

انتفى حكم الأصل ، فيبقى حكم الفرع (١).

وجوابه : أنّه لمّا زالت العلّيّة المعتبرة بزوال حكم الأصل زال الحكم مطلقا ؛ لزوال حكمته.

فصل [١٠]

المفهوم ـ سواء كان مفهوم موافقة ، أو مفهوم مخالفة ـ يمكن أن يكون ناسخا ومنسوخا ؛ لأنّه دليل شرعي يثبت به الأحكام ، فلا ريب في جواز نسخه ونسخ الأصل (٢) معا.

وقد اختلفوا في جواز نسخ أحدهما دون الآخر على أقوال ، ثالثها : جواز نسخ الأصل دون المفهوم ، وامتناع العكس.

والحقّ أنّ نسخ كلّ منهما يستلزم نفي الآخر ، ولا يمكن نسخ واحد منهما بدون نسخ الآخر ؛ لأنّ المفهوم لازم للأصل وتابع له ، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ، فلا يمكن نسخ المفهوم بدون نسخ الأصل ، ونفي الأصل يستلزم نفي التابع وإلاّ خرج عن كونه تابعا.

والإيراد على الأخير بأنّ دلالة اللفظ على المفهوم تابعة لدلالته على الأصل وليس حكمه تابعا لحكمه ، ولم يحدث شيء إلاّ انتفاء حكم الأصل ، والدلالة الثابتة باقية فيبقى حكم المفهوم ؛ لأنّ متبوعه باق (٣) مندفع بأنّ حكم المفهوم إنّما ثبت من الدلالة على حكم الأصل ، وهي قد انتفت بانتفاء حكم الأصل ، فينتفي الحكم مطلقا.

احتجّ القائل بجواز نسخ كلّ منهما بدون الآخر بأنّ إفادة اللفظ لهما دلالتان متغايرتان ، فجاز رفع كلّ منهما بدون الاخرى (٤).

وجوابه : أنّ التغاير إنّما يدلّ على جواز رفع كلّ من المتغايرين بدون الآخر إذا لم يكن أحدهما مستلزما للآخر ومتبوعا له.

__________________

(١) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٨١ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ١٦٣.

(٢) والمراد بالأصل هنا هو المنطوق.

(٣ و ٤) حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٦٣.

٣٠٥

احتجّ المفصّل بأنّ رفع اللازم يستلزم رفع الملزوم بخلاف العكس ؛ إذ قد يرتفع الملزوم واللازم باق (١).

وجوابه كما (٢) عرفت من أنّ اللازم هنا تابع في الثبوت للمتبوع ، فينتفي بانتفائه.

فصل [١١]

زيادة العبادة المستقلّة على العبادات ليست نسخا للمزيد عليه (٣) ـ صلاة كانت تلك العبادة أو غيرها ـ لأنّ النسخ كما عرفته (٤) زوال الحكم الشرعي بدليل شرعي ، وهنا لم يرتفع حكم شرعي ؛ وهو قول علماء الفريقين.

ويعزى إلى بعض العراقيين القول بأنّ زيادة صلاة سادسة نسخ (٥) ؛ لأنّها تخرج الوسطى عن كونها وسطى ، فيبطل وجوب المحافظة عليها ، وأنّه حكم شرعي وهو النسخ.

ويرد عليه النقض بزيادة كلّ عبادة مستقلّة ؛ لأنّها تخرج الأخيرة عن كونها أخيرة.

والحلّ أنّه لم يبطل وجوب [ المحافظة على ] (٦) ما صدق عليه أنّها وسطى ، وإنّما يبطل كونها وسطى ، وهو ليس حكما شرعيّا ، فلا نسخ.

وأمّا العبادة غير المستقلّة ، فقد اختلف في أنّ زيادتها هل هي نسخ أم لا؟ فالحنفيّة على أنّها نسخ مطلقا (٧).

والشافعيّة والحنابلة على أنّها ليست بنسخ مطلقا (٨).

وذهب المرتضى (٩) والشيخ (١٠) من أصحابنا ، وبعض العامّة إلى أنّ الزيادة إن غيّرت حكم

__________________

(١) ذكره ابن الحاجب في المصدر.

(٢) قوله : « كما عرفت » خبر لجوابه.

(٣) كذا في النسختين. والأولى : « للمزيد عليها ».

(٤) في ص ٨٧٢.

(٥) حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٦٣.

(٦) أضفناه لاستقامة العبارة.

(٧ و ٨) حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٨٥ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٦٣.

(٩) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

(١٠) العدّة في أصول الفقه ٢ : ٥٢٨ ـ ٥٢٩.

٣٠٦

الأصل تغييرا شرعيّا ـ حتّى لو وقع بدونها لم يعتدّ به وصار وجوده كالعدم ووجب استئنافه ـ كانت نسخا (١) ، وإلاّ فلا ، وذكروا أمثلة :

منها : زيادة ركعة أو ركعتين على ركعتي الفجر ؛ لأنّهما لا تجزيان بعد الزيادة لو فعلهما على ما كان يفعلهما عليه أوّلا ؛ لتغيّر التشهّد والتسليم.

ومنها : زيادة التغريب على الجلد ؛ فإنّه لا يحصل الحدّ بالجلد دونه.

ومنها : زيادة عشرين جلدة على حدّ القذف ؛ فإنّه لا يحصل الحدّ بدون العشرين.

ومنها : تخيير المكلّف في امور ثلاثة بعد تخييره في اثنين منها ؛ فإنّ ترك الأوّلين ـ مع فعل الثالث قبل التخيير فيه ـ كان محرّما وبعده غير محرّم ، فهو ـ أي ترك الأوّلين ـ كالعدم في انتفاء الحرمة عنهما ، فالزيادة نسخ لتحريم تركهما.

وأنت تعلم أنّ المثال الأوّل ينطبق على هذا المذهب ، ولا ينطبق عليه البواقي ؛ إذ لا يجب فيها الاستئناف ، بل يجب ضمّ التغريب إلى الجلد في الثاني ، وضمّ العشرين إلى الثمانين في الثالث ، وفعل واحد من الاثنين في الرابع ؛ لحصول الامتثال به.

وذهب بعضهم إلى أنّ الزيادة إن اتّصلت بالأصل زيادة اتّحاد فهو نسخ (٢) ، وإلاّ فلا ، فزيادة ركعة على صلاة الفجر نسخ ؛ لأنّها لو عدمت لو يكن للركعتين أثر أصلا ، وكانت الثلاث واجبة ، وزيادة العشرين على حدّ القذف ليست بنسخ ؛ لأنّها لو عدمت كان للباقي أثر ولا يجب إلاّ العشرون.

وقال قوم : إنّ الزيادة إن رفعت مفهوم المخالفة للاولى ، مثل إيجاب الزكاة في المعلوفة بعد قوله : « في الغنم السائمة زكاة » كانت نسخا.

وإن كانت شرطا في صحّتها وكان الشرط والمشروط جزءين لعبادة ـ بحيث يحصل من مجموعهما عبادة واحدة تكون الزيادة بالنسبة إليها جزءا ، وبالنسبة إلى المزيد عليه شرطا بحيث لم يعتدّ به إذا افرد ولم يضمّ إليه الزيادة ، كزيادة ركعة في الفجر ـ أو كانت شرطا في صحّتها ولم يكونا جزءين لعبادة ـ بحيث يحصل من مجموعهما عبادة

__________________

(١) حكاه الآمدي عن قاضي عبد الجبّار في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٨٦.

(٢) المستصفى : ٩٤.

٣٠٧

واحدة كالطهارة ، في الطواف ـ لم تكن نسخا (١).

والحقّ ـ كما ذهب إليه أهل التحقيق ـ أنّها إن رفعت حكما شرعيّا مستفادا من دليل شرعي ، كانت نسخا ، وإلاّ فلا ؛ لأنّ حقيقة النسخ ذلك.

وعلى هذا فزيادة ركعة على ركعتين نسخ ؛ لأنّها إن زيدت عليهما قبل التشهّد بحيث لم يكن تشهّد بعد الثانية ، كان ذلك نسخا لوجوب التشهّد في الثانية وتحريم الزيادة عليهما ، وكلاهما حكم شرعي. وإن زيدت عليهما بعد التشهّد قبل التحلّل بالتسليم بأن يكون بعد الثانية تشهّد ، كان ذلك نسخا لوجوب التسليم في الثانية وتحريم الزيادة عليهما ، وكلاهما حكم شرعي. وعلى التقديرين لا يلزم نسخ الركعتين ؛ لأنّ وجوبهما باق ، إلاّ أنّ وجوبهما كان منفردا فصار منضمّا والشيء لا ينسخ بمجرّد انضياف غيره إليه ، كما لا ينسخ وجوب فريضة إذا وجبت بعدها اخرى.

وزيادة التغريب على الجلد ، والعشرين على حدّ القذف يمكن أن تكون نسخا من حيث إنّها تنفي ما ثبت شرعا من تحريم الزيادة وإن لم تكن نسخا من حيث رفعها لنفي التغريب والزائد على الثمانين ؛ إذ هو (٢) حكم الأصل ورفعه (٣) ليس نسخا.

وإيجاب الزكاة في المعلوفة بعد قوله : « في الغنم السائمة زكاة » نسخ للمفهوم ، بعد ثبوته وكونه مرادا.

وإيجاب فعل معيّن ثمّ التخيير بينه وبين فعل آخر ليس نسخا ؛ لأنّ التخيير رافع لحكم عقلي وهو أصالة عدم إيجاب فعل آخر.

ولقائل أن يقول : إيجاب فعل يستلزم المنع من تركه ، وإقامة غيره مقامه يرفع ذلك ، وهو حكم شرعي ، فلو أوجب غسل الرجلين معيّنا ، ثمّ خيّر بينه وبين المسح ، فهو نسخ ؛ لأنّه رفع الوجوب عينا بوجوب أحد الأمرين مخيّرا ، وهو غيره ، وقد ثبتا (٤) بدليل شرعي. هذا.

__________________

(١) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٥ ، والعدّة في أصول الفقه ٢ : ٥٣٠ ـ ٥٣١ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ١٦٤.

(٢) أي نفي التغريب.

(٣) أي رفع نفي التغريب.

(٤) أي الوجوب العيني والوجوب التخييري.

٣٠٨

ولو نصّ على عدم قيام غيره مقامه ، ثمّ أثبت التخيير ، كان نسخا بلا ريب.

وزيادة التخيير (١) ـ كالحكم بجواز الحكم بشاهد ويمين بعد ثبوت التخيير بين الحكم بشاهدين وشاهد وامرأتين ، الثابت من قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ )(٢) ـ ليست نسخا ؛ لأنّ ما رفع به ـ وهو عدم جواز الحكم بشاهد ويمين ـ حكم عقلي لا دلالة للآية عليه.

فإن قيل : مفهوم الآية يمنع الحكم بالشاهد واليمين ؛ لأنّهما غير شهيدين من الرجال وغير رجل وامرأتين ، فالنصّ قد نفى الغير بالمفهوم.

قلنا : إنّه دلّ على طلب الاستشهاد لرجلين ، أو رجل وامرأتين ، فإن سلّم مفهومهما فهو أنّ غيرهما غير مطلوب. وأمّا أنّه لا يحكم بغيرهما إذا حصل ، فلا يدلّ عليه بمنطوق ولا مفهوم.

وتقييد الرقبة بالإيمان إن تأخّر كان نسخا لعموم الكتاب الدالّ على جواز عتق الكافر ، وإن قارن كان تخصيصا.

وإباحة قطع رجل السارق إذا سرق مرّة ثانية ليست نسخا ؛ لأنّها ترفع حظره الثابت بالعقل.

وزيادة غسل عضو في الطهارة ليست بنسخ ؛ لأنّها رفعت نفي وجوب هذا العضو وهو مباح الأصل.

ولقائل أن يقول : إنّها نسخ ؛ لأنّ الطهارة المزيد عليها كانت رافعة ومبيحة للدخول في الصلاة وصارت غير رافعة وغير مبيحة.

وزيادة ركن في الصلاة نسخ إن كان (٣) محرّما قبل ؛ لكونها رفعا لحرمته ، وليست بنسخ إن لم يكن (٤) محرّما قبل ؛ لكونها رفعا لحكم الأصل.

وإيجاب الصوم بعد الليل نسخ لكون الليل طرفا وغاية ؛ لرفعه له وهو حكم شرعي.

__________________

(١) والمراد به زيادة أطراف التخيير.

(٢) البقرة (٢) : ٢٨٢.

(٣) أي الركن.

(٤) أي الركن.

٣٠٩

أمّا لو قال : « صوموا النهار » ثمّ أوجب بعض الليل لم يكن نسخا ؛ لأنّه رفع مباح الأصل.

وإثبات بدل الشرط ـ كأن يقول : « صلّوا إن كنتم متطهّرين » ـ ثمّ أمر بالصلاة عند حصول أمر آخر ، لم يكن نسخا ؛ لأنّه رفع نفي كون البدل شرطا وهو حكم عقلي.

وإنّما أطلنا الكلام في ذكر الأمثلة ؛ ليحصل المهارة في استعلام أنّ أيّ صورة تقتضي رفع حكم شرعي ، وأيّها لا تقتضيه حتّى يكون الموافق لنا في هذه المسألة على بصيرة.

ثمّ أثر الاختلاف فيها إنّما يظهر في إثبات الزيادة بخبر الواحد بناء على أنّه لا ينسخ به الدليل القطعي ، فكلّ ما كان ناسخا لحكم ثبت (١) بالقاطع لا يجوز إثباته به ، وما لم يكن ناسخا أو كان ناسخا لحكم غير مقطوع به يجوز إثباته به ، وجليّة الحال على ما اخترناه غير خفيّة.

فصل [١٢]

نقص جزء أو شرط من عبادة ـ كنقص ركعتين من الظهر ، أو إبطال اشتراط الطهارة فيه ـ نسخ للمنقوص وفاقا. وهل هو نسخ لتلك العبادة؟ المختار أنّه ليس بنسخ.

وقيل : نسخ (٢).

وقيل : إن كان المنقوص جزءا ، فنسخ وإن كان شرطا ، فلا (٣).

وقال المرتضى :

إن كانت العبادة المنقوص منها بعد النقصان ممّا لو فعل بتمامه لم يعتدّ به شرعا ولم يجر مجرى فعله قبل النقصان ـ كنقص الركعتين من الأربع ؛ فإنّ الصلاة لو فعلت بعد النقص على الحدّ الذي كانت تفعل قبله ، لم تكن مجزئة وكان وجودها كالعدم ـ كان (٤) نسخا ، وإلاّ فلا ، كنقص عشرين من الحدّ ؛ فإنّ الحدّ لو اجري بعد النقص على الحدّ الذي يجري قبله ، كان مجزئا واعتدّ به شرعا إلاّ أنّه وقع فيه زيادة محرّمة (٥).

__________________

(١) في « ب » : « يثبت ».

(٢) نسبه الآمدي إلى بعض المتكلّمين في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٩٢.

(٣) حكاه الفخر الرازي عن القاضي عبد الجبّار في المحصول ٣ : ٣٧٤.

(٤) أي كان ذلك النقص.

(٥) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٥٢.

٣١٠

وعلى هذا ، فنسخ الوضوء ليس نسخا للصلاة ؛ لأنّ حكمها باق على ما كان ، ونسخ القبلة بالتوجّه إلى غيرها نسخ للصلاة ؛ لأنّها لو وقعت بعد النسخ إلى القبلة الاولى لم تكن مجزئة ، وبالتخيير (١) بين جميع الجهات ليس نسخا لها ؛ لأنّه لو صلّى إلى ما كان أوّلا أجزأه.

لنا : أنّ نقص جزء أو شرط وإن كان نسخا لوجوب الكلّ من حيث هو كلّ ؛ نظرا إلى انتفاء جزئه ولكنّه ليس نسخا لأصل العبادة بمعنى ارتفاع جميع أجزائها ؛ لأنّ النزاع فيه ؛ لأنّه لو كان نسخا لها ، لكان نسخا للباقي ، فيفتقر الباقي في وجوبه إلى أمر جديد وهو باطل بالإجماع. وأيضا دليل الكلّ متناول للجزءين فخروج أحدهما لا يوجب خروج الآخر ، كسائر التخصيصات.

احتجّ القائل بكونه نسخا بأنّه ثبت تحريم العبادة بدون المنقوص ، ثمّ ثبت جوازها ، أو وجوبها بدونه ، فارتفع حكم شرعي بحكم آخر ، ولا معنى للنسخ سوى هذا.

والجواب : أنّه لا معنى لتحريم العبادة بدون المنقوص سوى وجوبه ، وارتفاعه نسخ نحن نقول به ، إنّما الكلام في ارتفاع الباقي ولم يثبت دلالة عليه.

احتجّ المرتضى بأنّ نقص جزء عبادة ـ يوجب (٢) عدم إجزاء العبادة بتمامها لو فعلت بعد النقصان ـ يستلزم عدم كون الباقي جزءا من كلّ العبادة ، بل عبادة اخرى ، وإلاّ كان من صلّى الصبح ثلاثا آتيا لواجب وزيادة ، ولا يخفى فساده وهو يقتضي نسخ أصل العبادة.

والجواب : منع الاستلزام ، وإلاّ افتقر الباقي في وجوبه إلى دليل غير الأوّل ، وإنّه باطل إجماعا.

ثمّ فائدة الاختلاف هنا أيضا إنّما تظهر في إثبات النقصان بخبر الواحد ، كما عرفت في سابقه (٣).

__________________

(١) عطف على « بالتوجّه » أي نسخ القبلة بالتخيير.

(٢) هذه الجملة الفعليّة في محلّ النصب صفة للنقص وقوله : « يستلزم » خبر أنّ.

(٣) تقدّم في ص ٨٩٤.

٣١١

فصل [١٣]

لا ريب في جواز نسخ جميع التكاليف بإعدام العقل ، وبدونه موضع خلاف ، فقيل بالجواز ؛ لأنّها أحكام فجاز نسخها كغيرها من الأحكام (١).

وقيل بعدم الجواز ؛ لأنّه يتوقّف على معرفة النسخ والناسخ (٢) ، وهذا تكليف ، فيلزم خلاف الفرض.

وقد اختلف العامّة في جواز نسخ وجوب المعرفة وتحريم الكفر والظلم والكذب وأمثالها (٣).

وأنت تعلم أنّ نسخ ما حسنه أو قبحه ذاتي غير جائز وفاقا ؛ لما هو الحقّ من ثبوت الحسن والقبح العقليّين.

فصل [١٤]

يعرف النسخ بالتضادّ مع العلم بالمتأخّر بضبط التاريخ ، وبالإجماع ، وبالتنصيص عليه أو بذكر ما في معناه ، نحو « كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها » (٤) ، وأمثاله.

ولو قال الراوي : « هذا ناسخ » أو « منسوخ » لم يقبل ؛ لجواز أن يقول عن اجتهاد ولا نراه ، ولو قال : « هذا سابق » قبل ؛ ووجهه ظاهر.

وإذا تعارض قطعيّان وصرّح الراوي بأنّ أحدهما ناسخ للآخر ففي قبوله نظر ، من حيث إنّه نسخ للمتواتر بالآحاد أو بالمتواتر والآحاد. ثمّ إذا لم يعرف النسخ بإحدى الطرق المذكورة ، فالواجب التوقّف لا التخيير ؛ ووجهه ظاهر.

__________________

(١) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٦٥.

(٢) قاله الغزالي في المستصفى : ٩٣.

(٣) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٩٤ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ١٦٥ ، وشرح مختصر المنتهى ١ : ٣٥٠ ، ونهاية السؤل ٢ : ٦١٦.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ٥٠١ ، ح ١٥٧١.

٣١٢

المبحث الرابع

في الاجتهاد والتقليد

وفيه بابان :

٣١٣
٣١٤

الباب الأوّل

في الاجتهاد

الاجتهاد في اللغة : تحمّل الجهد (١) ، وهو المشقّة.

وفي الاصطلاح قيل : « استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة بحيث ينتفي عنه اللوم بالتقصير » (٢).

ويقاربه ما قيل : « إنّه استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعيّة » (٣).

والمراد باستفراغ الوسع بذل تمام المجهود بحيث يحسّ من نفسه العجز عن المزيد عليه.

وينتقضان طردا باستفراغ العاجز عن الاستنباط ، وبالاستفراغ في الشرعيّات الأصليّة.

وقيل : « هو استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظنّ بحكم شرعي » (٤).

والمراد بـ « الفقيه » من مارس الفنّ ، وقد عرّف فيما تقدّم ، فيخرج استفراغ غير الفقيه وسعه.

واحترز « بتحصيل الظنّ » عن القطعيّات ؛ إذ لا اجتهاد فيها.

و « بحكم شرعي » عن الحسّيّات والعقليّات.

وأنت تعلم أنّه يخرج منه القطعيّات النظريّة مع تأتّي الاجتهاد فيها ، ويدخل فيه الشرعيّات الأصليّة مع عدم تأتّيه فيها.

__________________

(١) الصحاح ١ : ٤٦٠ ـ ٤٦١ ، والقاموس المحيط ١ : ٢٩٦ ، « ج. ه. د ».

(٢) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٩.

(٣) قاله البيضاوي في منهاج الأصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٥٢٤.

(٤) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٢٠٩.

٣١٥

وقيل : « هو صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » (١).

والمراد من « المدارك » ظاهر ، ومن « أحكامها » أحوال التعادل والترجيح ، ويدخل في عموم الأحكام القطعيّات النظريّة ولا يدخل فيه الضروريّة ؛ لعدم صرف نظر فيها فتخرج به. ويخرج بـ « الفرعيّة » الشرعيّة الأصليّة.

وقيل : « ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل ، فعلا أو قوّة قريبة » (٢) ، وهو لا ينتقض طردا باستحصال القطعيّات البديهيّة ؛ إذ لا يصدق (٣) عليه الاستنباط عرفا. ولو سلّم فليس استنباطا من الأصل.

وهذا التعريف أصحّ التعريفات وإن سلم سابقه وما في معناه عن النقوض الظاهرة ؛ لأنّ حقيقة الاجتهاد وذاته صفة ثابتة لنفس المجتهد ، ودرك الأحكام وتحصيلها باستفراغ الوسع اجتهاد فعلي يترتّب عليها ، لازم لها ، وهي مبدؤه ومصدره.

فتعريفه بـ « الملكة » تعريف لماهيّة الاجتهاد وذاته ، وتعريفه بغيرها تعريف لما هو لازم لها ومتفرّع عليها ، أعني الاجتهاد الفعلي. والأوّل أولى.

فصل [١]

اعلم أنّ ما وصل إلينا من أدلّة الأحكام من صاحب الشرع منحصر ببعض الآيات وطرف من الأخبار ، وكثير من الأحكام المحتاج إليها (٤) غير مستنبطة منهما ، ويمكن استنباطها من إجماع منقول ، أو استنباطي ، أو بالردّ إلى قواعد عقليّة من استصحاب ، أو أصل براءة ، أو تلازم ، أو بعض أقسام القياس وإن أمكن أن يقال بأدنى عناية : إنّ استنباطها منها يرجع حقيقة إلى الاستنباط من الأخبار.

__________________

(١) قاله الفاضل التوني في الوافية : ٢٤٣.

(٢) قاله البهائي في زبدة الاصول : ١٥٩.

(٣) في « ب » : « لا يقصد ».

(٤) أي المبتلى بها.

٣١٦

وما يستنبط منهما (١) يتوقّف استنباطه على العلم بمقدّمات لغويّة ومنطقيّة واصوليّة ورجاليّة.

ووجه توقّفه على الاولى أنّ الكتاب والسنّة وردا بلسان العرب ، فلا بدّ من فهم معاني مفردات ألفاظهم ، المتوقّف على اللغة ، وامتياز معاني صيغهم المختلفة ، المتوقّف على الصرف ، ودرك معاني مركّبات ألفاظهم ، المتوقّف على النحو.

ووجه توقّفه على الثانية أنّ استنباط المسائل الخلافيّة ، وتصحيحها منهما (٢) يحتاج إلى الاستدلال ، وهو لا يتمّ بدون المنطق.

والإيراد بأنّ الفكر والاستدلال غريزيّان للإنسان لا يحتاج فيهما إلى البيان ، والمذكور في المنطق إمّا بديهيّ كالشكل الأوّل ، والقياس الاستثنائي ، وأكثر التصديقات ، أو لا فائدة فيه كغيرها (٣) ضعيف يكذبه التأمّل والتتبّع وموازنة استدلال العارف بالمنطق لاستدلال غيره.

وما قيل : إنّ المنطق لو كان مميّزا لما صدر الخطأ عن أهله (٤) ، مندفع بأنّه ناش عن عدم الرعاية.

والقول بأنّه لو كان عاصما فإنّما يعصم عن الخطأ الواقع من جهة الصورة لا المادّة (٥) ، لو سلّم فلا يضرّنا ؛ لأنّه يثبت الاحتياج إليه في الجملة ، وهو كاف للمطلوب.

ووجه توقّفه على الثالثة أنّ فيهما حقيقة ومجازا ، أو أمرا ونهيا ، وعامّا وخاصّا ، ومطلقا ومقيّدا ، ومجملا ومبيّنا ، ومنطوقا ومفهوما ، وفي السنّة قولا وفعلا وتقريرا ، وفي « القول » أخبار آحاد وأخبار متواترة.

وقد أشرنا (٦) إلى أنّ كثيرا من المسائل لا يمكن استنباطها إلاّ من الإجماع أو القواعد العقليّة. والأكثر يقع بين الآيات والأخبار ، أو بينهما ، أو بين واحد منهما والإجماع ، أو سائر الأدلّة تعارض محتاج إلى الترجيح ، فلا بدّ للمستنبط من معرفة هذه الامور بأقسامها

__________________

(١ و ٢) أي من الآيات والأخبار.

(٣) ذكره القمّي في قوانين الاصول ٢ : ٢١٨.

(٤) قاله الشهيد الثاني في الاقتصاد والإرشاد ( ضمن رسائل الشهيد الثاني ) ٢ : ٧٦٢.

(٥) المصدر.

(٦) في أوّل الفصل ص ٩٠٠.

٣١٧

وأحوالها وتفاصيلها ممّا يختلف باختلافه الفروع ، كأقسام الحقيقة والمجاز ، وثبوت الحقيقة الشرعيّة أو عدمه ، وكون الأمر للوجوب أو غيره ، وللوحدة أو التكرار ، وللفور أو التراخي ، واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أو عدمه ، ووجوب مقدّمة المأمور به أو عدمه ، وكون النهي للحرمة أو غيره ، وعدم جواز اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد أو جوازه ، وألفاظ العموم وحجّيّة العامّ المخصوص أو عدم حجّيّته ، وجواز العمل بالعامّ قبل الفحص أو عدم جوازه ، وأقسام العامّ والمخصّص ، وسائر ما يتعلّق بهما وما يتعلّق بالإطلاق والتقييد والإجمال والبيان ، وحجّيّة بعض المفهومات وعدم حجّيّة بعض آخر منها ، وما يتعلّق بالقول والفعل والتقرير ، وكون خبر الواحد حجّة أو لا ، وكون الإجماع أو غيره من الأدلّة العقليّة حجّة أم لا ، وكيفيّة الترجيح والخلاص عند التعارض ؛ لتوقّف الاستنباط على معرفة هذه التفاصيل واختلاف الأحكام باختلافها ، والضابط لها هو علم الاصول.

والقول بعدم توقّف استنباطها عليها (١) ، واه ؛ لأنّ المستنبط ما لم يثبت عنده أنّ الأمر يفيد الوجوب أو غيره كيف يستنبط الحكم منه؟! وما لم يرجّح بوجه في مقام التعارض كيف يحصل له مخلص ويستنبط حكما عنده؟! وقس عليهما غيرهما.

وهل يقال ببطلان الاصول ؛ لأنّ حقيقة (٢) الحال في مسائله غير ما ذكر فيه؟ فما ذا يقال لمن حصر المسائل المذكورة بين النفي والإثبات بأن يقول : هل الأمر يفيد الوجوب أم لا؟ وهل مقدّمة الواجب واجبة أم لا؟ فإن اختير في الجواب أحد الشقّين واثبت ، ثبت حقّيّة مسائل الاصول ، وإن سكت أو قيل له : لست مستحقّا للجواب ، لزم السفسطة والخروج عن ربقة العقل؟

وأمّا وجه توقّفه على الرابعة ، فظاهر ؛ لأنّ في الأخبار مقبولا ومردودا ، ومعرفة كلّ منهما تتوقّف على معرفة رواته وناقليه. وليس غرضنا الآن بيان تفاصيل علوم ينبغي للمجتهد على الوجوب أو الأولويّة معرفتها ؛ فإنّه يأتي بعد ذلك (٣) ، بل غرضنا الآن

__________________

(١) ذكره الفاضل التوني بعنوان « إن قلت » في الوافية : ٢٥٢.

(٢) كذا في النسختين. ولعلّ الصحيح : « حقّيّة ».

(٣) في ص ٩٢٨ ـ ٩٣٣.

٣١٨

تمهيد مقدّمة لما نحن بصدده من بيان حقيقة الاجتهاد وحقّيّته ، وتزييف أقوال خرجت مخالفة له.

فنقول : إذ ثبت ذلك وثبت فيما تقدّم أيضا (١) أنّه لا طريق إلى تحصيل القطع بالحكم من الأدلّة الشرعيّة ، بل الغالب حصول الظنّ به منها ، فالمستنبط إذا أراد استنباط حكم ، فلا بدّ له أن ينظر إلى أنّه من أيّ دليل يستخرج : من كتاب أو سنّة أو منهما أو من إجماع أو دلالة عقليّة؟ فإن استخرج من كتاب أو سنّة أو منهما ، فلا بدّ أن يلاحظ أنّ استنباطه منهما يتوقّف على أيّ مقدّمات ، فيفعل على ما أدّى نظره فيها إليه؟ وإن لم يكن فيهما ما يمكن استنباطه منه ويتوقّف (٢) على ردّه إلى إجماع أو دلالة عقليّة ، فلا بدّ أن يردّه إليها ويفعل على مقتضى ما يوجبه رأيه فيهما ، وإن تعارضت فيه الأدلّة ، فينظر في وجوه التراجيح ويفعل ما يقتضيه نظره فيه.

هذا هو حقيقة الاجتهاد ، ومن حصل له هذه المرتبة فهو المجتهد ، ووظيفته استنباط الأحكام عن أدلّتها التفصيليّة ، وغيره المقلّد ووظيفته الرجوع إليه. وهذا معنى قول المتشرّعة : الناس صنفان : مجتهد ، ومقلّد.

ثمّ إثبات حقّيّة الاجتهاد وتوقّف الاستنباط عليه يتوقّف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : لا ريب في ثبوت التكليف وبقائه.

[ الأمر ] الثاني : لا شبهة في وجوب إطاعة الله وإطاعة حججه ، وهي لا تتحقّق إلاّ بالإتيان بمرادهم ؛ لأنّ الأصل كون كلّ أحد مكلّفا بفهم مرادهم والعمل به.

ويدلّ عليه ورود النهي عن التقليد (٣) ، ولمّا كان فيه (٤) حرج عظيم وتعطيل امور المعاش ، سقط وجوبه العيني بالكفائي ، فيجب على طائفة تحصيل ما يصلون به إليه.

ويدلّ عليه ورود الأمر بالتفقّه ، كقوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ )(٥) الآية ، وقوله تعالى :

__________________

(١) تقدّم في ص ٩٠٠.

(٢) في « ب » : « توقّف ».

(٣) الزخرف (٤٣) : ٢٣ : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ).

(٤) أي في الاجتهاد.

(٥) التوبة (٩) : ١٢٢.

٣١٩

( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١) ؛ حيث دلّ على إيجاب السؤال عن أهل الذكر وهو لا يتمّ بدون وجود أهل الذكر ، وإيجاب الجواب عليهم ، ولا يمكنهم الجواب بدون الفقاهة ، فيلزم وجوب تحصيله على طائفة ، وقول الصادق عليه‌السلام : « تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي » (٢).

ويدلّ عليه أيضا : ورود الأمر عموما أو خصوصا بالإفتاء وإظهار الأحكام للناس ، ورجوع العوامّ إلى العلماء ، كقول الصادق عليه‌السلام لأبان : « اجلس في مسجد المدينة وأفت ، فإنّي احبّ أن أرى من شيعتي مثلك » (٣) ، وغير ذلك.

[ الأمر ] الثالث : قد ثبت بالعقل والنقل (٤) والإجماع أنّ شغل الذمّة اليقينيّ محتاج إلى البراءة اليقينيّة.

[ الأمر ] الرابع : قد ورد النهي عن القول والفتوى بغير علم ، والحكم بغير ما أنزل الله حتّى عدّ الله الحاكم به كافرا وفاسقا وظالما ، وقال : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ )(٥) ، و ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٦) ، وحسبك في ذلك قوله تعالى في شأن نبيّه : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ )(٧).

وقد ورد عن الصادق عليه‌السلام : « حقّ الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون » (٨).

وعنه : « لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ والتثبّت » (٩).

وعنه : « من خاف ، تثبّت على التوغّل فيما لا يعلم ، ومن هجم على أمر بغير علم ، جدع أنف نفسه » (١٠).

__________________

(١) النحل (١٦) : ٤٣.

(٢) الكافي ١ : ٣١ ، باب فضل العلم ، ح ٦.

(٣) رجال النجاشي : ١٠ ، الرقم ٧. وفيه رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(٤) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٢٦ ، ح ٩٨٩.

(٥) البقرة (٢) : ١٦٩.

(٦) الإسراء (١٧) : ٣٦.

(٧) الحاقّة (٦٩) : ٤٤ ـ ٤٥.

(٨) الكافي ١ : ٤٣ ، باب النهي عن القول بغير علم ، ح ٧.

(٩) المصدر : ٥٠ ، باب النوادر ، ح ١٠.

(١٠) المصدر : ٢٦ ـ ٢٧ ، باب كتاب العقل والجهل ، ح ٢٩.

٣٢٠