أنيس المجتهدين - ج ٢

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0282-0
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

قلنا : لا نسلّم أنّ إرادة المقيّد من المطلق تجوّز ؛ لأنّ شمول الماهيّة أو الحصّة منها لكلّ من أفرادها على سبيل الحقيقة وإن اريد هذا الفرد خاصّة منها ؛ لما تقدّم في العامّ المخصوص (١).

ولو سلّم فنقول : لا ريب في أنّ المجاز اللازم من إرادة المقيّد من المطلق راجح بالنسبة إلى المجاز اللازم من إرادة التأكيد ، أو الاستحباب ، أو الوجوب التخييري من المقيّد ؛ لبعد هذه الاحتمالات وندورها ، وهو ظاهر. هذا.

والحقّ ، أنّ المقيّد المعمول به بيان للمطلق لا نسخ له ، سواء تقدّم عليه أو تأخّر عنه.

وقيل : نسخ له إن تأخّر عن المطلق (٢).

لنا : أنّ الإطلاق نوع من العموم ؛ لأنّ المراد من « الرقبة » مثلا أيّ فرد كان من أفراد الرقبة ، فيصير عامّا إلاّ أنّه على البدل ، فالتقييد نوع من التخصيص ، فيكون المقيّد المتأخّر عن المطلق ـ بعين الدليل الدالّ على أنّ الخاصّ المتأخّر مبيّن لا ناسخ ـ مبيّنا لا ناسخا.

احتجّ الخصم بأنّ المقيّد لو كان بيانا للمطلق ، لكان المراد من المطلق هو المقيّد ، فيكون مجازا فيه ، وهو فرع دلالته عليه وهي منتفية ؛ إذ لا دلالة للمطلق على مقيّد خاصّ (٣).

وهو مندفع بما ذكرنا من أنّ التقييد نوع من التخصيص (٤) ؛ على أنّ ذلك لازم على الخصم إذا تقدّم المقيّد ، وفي (٥) تقييده ببعض الصفات اللازمة كتقييد الرقبة بالسليمة مثلا.

[ القسم ] الثاني : أن يتّحد سببهما ويكونا منفيّين ، مثل أن يقول في كفّارة الظهار : « لا يعتق المكاتب » [ و ] (٦) « لا يعتق المكاتب الكافر » ـ حيث لا يقصد الاستغراق ـ ولا خلاف في وجوب العمل بكلّ منهما وعدم جواز حمل المطلق على المقيّد ؛ لعدم

__________________

(١) تقدّم في ص ٨١٥.

(٢) قاله السرخسي في اصوله ١ : ١٥٩.

(٣) استدلّ به الشيخ حسن في معالم الدين : ١٥٥.

(٤) تقدّم آنفا.

(٥) كذا في النسختين. والظاهر أنّه عطف على « إذا ».

(٦) أضفناه للضرورة.

٢٤١

المنافاة بينهما ، فلا يجزي إعتاق المكاتب أصلا ؛ لأنّ نفي الماهيّة إنّما يتحقّق بنفي كلّ فرد منها.

[ القسم ] الثالث : أن يتّحد سببهما ويكونا مختلفين ، كأن يقول في كفّارة الظهار : « أعتق المكاتب » و « لا يعتق المكاتب الكافر » ، ويجب فيه حمل المطلق على المقيّد ؛ لما ذكرنا (١) من أولويّة الجمع على طرح واحد رأسا.

[ القسم ] الرابع : أن يختلف سببهما ويكونا مثبتين ، كأن يقول : « إن ظاهرت أعتق رقبة » و « إن قتلت أعتق رقبة مؤمنة ».

[ القسم ] الخامس : أن يختلف سببهما وكانا منفيّين ، كأن يقول : « إن ظاهرت لا تعتق المكاتب » و « إن قتلت لا تعتق المكاتب الكافر ».

[ القسم ] السادس : أن يختلف سببهما وكانا مختلفين ، كأن يقول : « إن ظاهرت أعتق رقبة » و « إن قتلت لا تعتق رقبة كافرة ».

وفي هذه الأقسام الثلاثة لا يحمل المطلق على المقيّد ، بل يعمل بهما ؛ لعدم المقتضي للحمل ، وعدم المنافاة للعمل بهما.

وذهب جماعة من العامّة إلى تقييد المطلق فيها إن اقتضى القياس تقييده (٢).

وبطلانه ظاهر عندنا.

وكيفيّة التفريع أنّه ورد في بعض الأخبار في كيفيّة الاستنجاء بالأحجار بأنّه بثلاث مسحات مطلقة (٣) ، وفي بعضها : بأنّه بثلاث أحجار ومثلها (٤) ، فعلى ما ذكرنا يجب حمل المطلق ـ وهو المسحات ـ على المقيّد ـ وهو الأحجار ـ فيحكم بتعدّد الأحجار ، ولا يكفي ذو الجهات الثلاث.

وأيضا ورد في بعض الأخبار النهي عن إجارة الأرض للزراعة بالحنطة والشعير مطلقا (٥) ،

__________________

(١) تقدّم في ص ٨٢٤.

(٢) راجع : المحصول ٣ : ١٤٥ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ١٣٥ و ١٣٦.

(٣) عوالي اللآلئ ٢ : ١٨٥ ، ح ٥٩.

(٤) راجع وسائل الشيعة ١ : ٣١٥ و ٣٤٨ ، أبواب الخلوة ، الباب ٩ و ٣٠.

(٥) المصدر ١٩ : ١٣٨ ، كتاب الإجارة ، الباب ٢٦.

٢٤٢

وورد في بعضها النهي عنها مقيّدا بما يخرج منها (١) ، وحمل الأكثر المطلق منها على المقيّد. وهو غير جيّد ؛ لأنّهما ناهيتان ، فلا افتقار إلى الجمع ؛ لعدم المنافاة ، كما عرفت (٢).

ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ مثلا بمثل » (٣) مع قوله في خبر آخر : « إلاّ يدا بيد » (٤). وليس تقييد قوله عليه‌السلام : « في كلّ أربعين شاة شاة » (٥) بقوله : « في الغنم السائمة زكاة » (٦) من حمل المطلق على المقيّد ، بل من تخصيص العامّ بالمفهوم.

تذنيب

إذا ورد حكم مطلقا ومقيّدا بقيدين متضادّين تساقطا وبقي المطلق على إطلاقه ، وإلاّ لزم التناقض أو التحكّم.

نعم ، إن ثبت الدلالة على اعتبار أحد المقيّدين دون الآخر ، أو رجحانه ، تعيّن العمل به.

مثاله : قد ورد الأمر ببعض الصيام مطلقا ، كالأمر بقضاء رمضان في قوله تعالى : ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )(٧) ، وببعضها مقيّدا بالتفريق ، كالأمر بقضاء صوم المتمتّع في قوله تعالى : ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ )(٨) ، وببعضها مقيّدا بالتتابع ، كالأمر بصوم كفّارة الظهار في قوله : ( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ )(٩) ، فعلى ما ذكر يتساقط القيدان ويبقى المطلق سليما ، فكلّ صوم لم يثبت فيه التفريق أو التتابع بدلالة من خارج لا يحكم باشتراط أحدهما فيه.

وأيضا ورد : « أنّه إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا : إحداهنّ بالتراب » (١٠) ،

__________________

(١) المصدر : ٥٦ ، أبواب المزارعة والمساقاة ، الباب ١٦ ، ح ١١.

(٢) في ص ٨٢٥.

(٣) عوالي اللآلئ ١ : ٣٩١ ، ح ٣٢.

(٤) الكافي ٥ : ٢٥١ ، باب الصروف ، ح ٣١ ، وتهذيب الأحكام ٧ : ٩٩ ، ح ٤٢٦ ، والاستبصار ٣ : ٩٣ ، ح ٣١٨.

(٥) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٧ ، ح ١٨٠٥ ، وسنن الترمذي ٣ : ١٧ ، ح ٦٢١.

(٦) تقدّم في ص ٨٠٩.

(٧) البقرة (٢) : ١٨٤.

(٨) البقرة (٢) : ١٩٦.

(٩) النساء (٤) : ٩٢.

(١٠) سنن ابن ماجة ١ : ١٣٠ ، ح ٣٦٣ ، وصحيح مسلم ١ : ٢٣٤ ، ح ٩٢ / ٢٧٩.

٢٤٣

وروي : « اخراهنّ بالتراب » (١) ، وروي « أولاهنّ بالتراب » (٢). فعلى القاعدة ينبغي إسقاط قيدي الأوّلية والآخريّة ، وجعل المرّة الترابيّة إحدى السبع في أيّ مرتبة كانت ، لكنّ رواية « اولاهنّ » عندنا أشهر ، فترجّحت بهذا الاعتبار.

تنبيه

اعلم أنّ جميع ما ذكر في تخصيص العامّ ـ من المتّفق عليه ، والمختلف فيه ، والمختار ، والمزيّف ـ يجري في تقييد المطلق ، فتذكّر.

__________________

(١) سنن الدارقطني ١ : ٦٥.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٢٣٤ ، ح ٩١ / ٢٧٩.

٢٤٤

الباب الرابع في المجمل والمبيّن

المجمل لغة : المجموع (١) ، وجملة الشيء مجموعه ، ومنه : أجملت الحساب ، أي جمعته. واصطلاحا : ما دلّ على أحد محتملاته دلالة مساوية ، أو ما لا يستقلّ بنفسه في معرفة المراد به ، أو ما لم يتّضح دلالته. وقد حدّ بحدود أخر كلّها مزيّفة ، لم نر جدوى في إيرادها.

فصل [١]

المجمل إمّا فعل ، أو لفظ مفرد ، أو مركّب.

والفعل المجمل ما لا يقترن به ما ينبئ عن وجه وقوعه.

والمفرد المجمل ما يكون متردّدا بين معانيه بالأصالة أو بالإعلال ؛ والثاني كـ « المختار » المتردّد بين الفاعل والمفعول ؛ إذ لو لا الإعلال ، انتفى الإجمال ؛ والأوّل إمّا أن يكون متردّدا بين حقائقه وهو المشترك كـ « العين » أو أفراد حقيقة واحدة ، مثل : ( أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً )(٢) و ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ )(٣) أو مجازاته إذا انتفت الحقيقة وتساوت المجازات ، فإن ترجّح واحد لكونه أقرب إلى الحقيقة ، أو أعظم مقصودا ، كتحريم الأكل من ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ )(٤) ، حمل عليه.

__________________

(١) لسان العرب ١١ : ١٢٧ ، « ج م ل » ، والقاموس المحيط ٣ : ٣٦٢.

(٢) البقرة (٢) : ٦٧.

(٣) الأنعام (٦) : ١٤١.

(٤) المائدة (٥) : ٣.

٢٤٥

والمركّب المجمل إمّا أن يكون مجملا بجملته إمّا لهيئته ، مثل : ( أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ )(١) ؛ لتردّده بين الزوج والوليّ ، أو لتخصيصه بمخصّص مجهول ، مثل : ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ )(٢) ، و ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ )(٣) ؛ فإنّ تقييد الحلّ بالإحصان مع الجهل به أوجب الإجمال فيما احلّ ، أو يكون مجملا باعتبار مرجع الضمير حيث يتقدّمه أمران يصلح لكلّ واحد منهما ، نحو : « ضرب زيد عمرا فضربته » أو مرجع الصفة ، مثل : « زيد طبيب ماهر » لتردّده بين المهارة مطلقا ، أو المهارة في الطبّ (٤).

فصل [٢]

التحريم والتحليل المضافان إلى الأعيان ـ نحو : « حرّم عليكم لحم الخنزير أو الخمر ، أو الخنزير ، أو امّهاتكم » و « احلّ لكم بهيمة الأنعام أو القطن والكتّان ، أو ما ينزل من السماء من الماء ، أو غير المحارم من النساء » ـ ينصرفان إلى المنفعة المطلوبة من تلك العين عرفا ، فلا إجمال فيهما خلافا للبصري (٥).

لنا : أنّ تصفّح كلام العرب يعطي أنّ مرادهم ممّا أطلقوه منهما تحريم الفعل المقصود من تلك العين ، أو تحليله ، كالأكل من المأكول ، والشرب من المشروب ، واللبس من الملبوس ، والوطء من الموطوء. والذهن أيضا يسبق إلى ذلك حين الإطلاق وهو دليل الحقيقة ، فلا إجمال.

احتجّ المخالف بأنّ تحريم العين أو تحليله (٦) غير متصوّر ، فلا بدّ من إضمار فعل يصحّ متعلّقا لهما ، والأفعال كثيرة ولا يمكن إضمار جميعها ؛ لأنّ ما يقدّر للضرورة إنّما يقدّر

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٣٧.

(٢) الحجّ (٢٢) : ٣٠.

(٣) النساء (٤) : ٢٤.

(٤) وجه التردّد هو أنّ « ماهرا » هل هو صفة للخبر وهو طبيب أو خبر بعد خبر. وبعبارة اخرى هل الخبر في هذا الكلام مقيّد أو مركّب ، فعلى المقيّد يصير المهارة مختصّة بالطبّ ، وعلى التركيب تصير أوسع منه.

(٥) حكاه البصري عن أبي عبد الله البصري في المعتمد ١ : ٣٠٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٥.

(٦) الظاهر أنّ العين بمعنى الذات ممّا يذكّر ويؤنّث.

٢٤٦

بقدرها ، فتعيّن إضمار البعض وهو مبهم ؛ لعدم دليل على التعيين ، فلا يتّضح دلالته على البعض المراد ، وهو المراد من الإجمال (١).

والجواب : أنّ هذا البعض المراد قد اتّضح وتعيّن بالأولويّة البادئة بقضيّة العرف والتبادر.

وكيفيّة التفريع ظاهرة.

فصل [٣]

ذهب المرتضى رحمه‌الله من أصحابنا (٢) ، وبعض العامّة إلى أنّ آية السرقة (٣) مجملة ؛ لأنّ اليد تحتمل جملة العضو إلى المنكب ، وبعضه ، والقطع يحتمل الإبانة والجرح ، يقال لمن جرح يده بالسكّين : قطع يده ، فجاء الإجمال (٤).

والحقّ أنّ اليد حقيقة في الكلّ ؛ لظهورها فيه ، وسبق الذهن منها إليه ، وتطلق على البعض مجازا. والقطع حقيقة في إبانة الشيء عمّا كان متّصلا به ؛ لما ذكر ، والجرح إبانة ، ولو منع ذلك ، كان إطلاقه عليه مجازا ، فلا إجمال.

فصل [٤]

ما ينفى فيه الفعل ظاهرا ـ والمراد نفي صفته لا حقيقته ، مثل : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٥) و « لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من الليل » (٦) و « لا نكاح إلاّ بوليّ » (٧) ـ لا إجمال فيه مطلقا ، وفاقا للأكثر.

وقيل بإجماله مطلقا (٨).

__________________

(١) حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : ١٦٠ و ١٦١.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٣٣٢ ـ ٣٣٤.

(٣) المائدة (٥) : ٣٨ : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ... ).

(٤) نسبه السيّد المرتضى إلى عيسى بن أبان في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٣٣٢.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٤٩ ـ ٥٠ ، ح ١٤٤ ، و: ٢٠٩ ، ح ٦٠٥ ، والاستبصار ١ : ٥٥ ، ح ١٦٠.

(٦) سنن الدارقطني ٢ : ١٧٢ ، ح ٢ ، وعوالي اللآلئ ٣ : ١٣٢ ، ح ٥ ، مع تفاوت.

(٧) سنن ابن ماجة ١ : ٦٠٥ ، ح ١٨٨٠ ، ودعائم الإسلام ٢ : ٢١٨ ، ح ٨٠٧.

(٨) نسبه الفخر الرازي إلى أبي عبد الله البصري في المحصول ٣ : ١٦٦ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ١٦١.

٢٤٧

وقيل بالإجمال إن كان الفعل المنفيّ لغويّا له أكثر من حكم واحد (١) ، وعدمه إن كان شرعيّا ، كما في الأمثلة المذكورة ، أو لغويّا ذا حكم واحد.

لنا : أنّ النفي قد ورد على ذوات هذه الأفعال ، فإن ثبت كونها حقائق شرعيّة في الصحيحة منها ـ حتّى كان المعنى : « لا صلاة صحيحة » و « لا صيام صحيحا » ـ كان نفي المسمّى حينئذ ممكنا باعتبار فوات الجزء أو الشرط ، فيحمل عليه ؛ لأنّه إذا أمكن الحمل على الحقيقة لا يحمل على غيرها ، وحينئذ لا إجمال.

وإن لم يثبت ذلك ، فإن ثبت حقيقة عرفيّة في الفعل المنفيّ ـ وهو أنّ مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى ، نحو : « لا علم إلاّ ما نفع » و « لا كلام إلاّ ما أفاد » ـ كان متعيّن الحمل عليه ولا إجمال أيضا.

وإن لم يثبت ذلك ، يجب حمله على المجاز ، والمجازات كثيرة ، مثل نفي الصحّة ، ونفي الكمال وغيرهما ، إلاّ أنّ الحمل على نفي الصحّة أولى ؛ لأنّه أقرب إلى نفي الذات ـ التي هي الحقيقة (٢) ـ من البواقي ، وقد تقدّم (٣) أنّه إذا انتفت الحقيقة وتعدّدت المجازات وترجّح واحد ـ لكونه أقرب إلى الحقيقة ـ تعيّن الحمل عليه.

احتجّ القائل بإجماله مطلقا بأنّ مثله يمكن أن يراد منه نفي الصحّة ونفي الكمال ونفي الفائدة على السواء ، من دون ترجيح لأحدها ، فلزم الإجمال.

والجواب : منع التساوي ؛ لأنّ نفي الصحّة راجح ؛ لما ذكر.

واحتجّ المفصّل بأنّ الفعل إن كان شرعيّا يمكن انتفاؤه بانتفاء شرطه أو جزئه ، فيجري النفي فيه على ظاهره ، ولا يكون هناك إجمال ، وإن كان لغويّا ذا حكم واحد ، انصرف النفي إليه وانتفى الإجمال.

وأمّا إذا كان لغويّا له حكمان أو أكثر ، كالإجزاء ، والفضيلة وغيرهما ، فليس أحدهما أرجح من الآخر ، فيحصل الإجمال.

وجوابه : قد ظهر ممّا تقدّم.

__________________

(١) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٣٨.

(٢) حقّ العبارة أن تكون هكذا : « الذي هو الحقيقة » ، لأنّ مفاد « لا » لنفي الجنس حقيقة هو نفي الذات لا الذات نفسه.

(٣) تقدّم في ص ٨٢٩.

٢٤٨

فصل [٥]

ذهب الحنفيّة إلى أنّ نحو ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ )(١) مجمل (٢) ؛ لأنّه يحتمل مسح الكلّ والبعض ، وهو معنى الإجمال ، ومسح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ناصيته بيان له (٣).

والأكثر على أنّه لا إجمال فيه ، وهم بين قائلين بأنّ « الباء » للتبعيض ؛ لأنّه إذا دخل على اللازم كان للتعدية ، وإذا دخل على المتعدّي كان للتبعيض ، وإلاّ لم يكن لدخوله فائدة ، وهنا دخل على المتعدّي. وهم أكثر الإماميّة. وقد ورد به النصّ عن الصادق عليه‌السلام (٤) ، وإذا أفاد التبعيض انتفى الإجمال.

وذاهبين إلى أنّ « الباء » للإلصاق ، كما يقول : « امسح يدك بالمنديل » ، فإنّه يفيد إلصاق يده بالمنديل. وهم بين قائل بأنّه يقتضي حينئذ مسح الكلّ ؛ لأنّه أفاد مسح الرأس ، والرأس حقيقة في المجموع. وهو مالك ومن تبعه (٥).

وقائل بأنّه يقتضي مسح البعض ؛ لأنّ العرف يفهم من مثله البعض ، كما في مثال المسح بالمنديل ، فإنّه يتبادر البعض إلى الفهم عند إطلاقه (٦).

وربما اجيب عنه بأنّ « الباء » فيه للاستعانة ، والمنديل آلة ، والعرف في الآلة يقتضي التبعيض بخلاف غيره (٧).

وقائل بأنّه حقيقة فيما ينطلق عليه اسم المسح ـ أي في القدر المشترك بين الكلّ والبعض ـ دفعا للاشتراك والمجاز (٨).

وأنت خبير بأنّ حمله على التبعيض هنا ، والحكم بمسح البعض متعيّن عندنا ، سواء

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦.

(٢) حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول ٣ : ١٦٤ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ١٦١.

(٣) الفقيه ١ : ٥٦ ، ح ٢١٢ ، والحديث عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(٤) راجع : تهذيب الأحكام ١ : ٦١ ، ح ١٦٨ ، والاستبصار ١ : ٦٢ ، ح ١٨٦.

(٥) حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ١٧.

(٦) نسبه ابن الحاجب إلى الشافعيّة وعبد الجبّار وأبي الحسين في منتهى الوصول : ١٣٧.

(٧) أجاب به ابن الحاجب في المصدر.

(٨) حكاه ابن الحاجب في المصدر.

٢٤٩

ثبت مجيء الباء للتبعيض في اللغة أم لا ؛ لنصّ الصادق عليه‌السلام وحكمه بأنّه للتبعيض هنا (١). وأمّا عند غيرنا ، فإن ثبت مجيئه له في اللغة ، فالحكم كذلك ، وإلاّ فالظاهر حمله على القدر المشترك ، ووجهه ظاهر. وعلى التقادير لا إجمال.

فصل [٦]

إذا رفع صفة والمراد نفي لازم من لوازمه ، نحو « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان » (٢).

فالحقّ أنّه لا إجمال فيه ؛ لأنّ المتبادر من مثله رفع المؤاخذة والعقاب. ولذا لو قال المولى لعبده : « رفعت عنك الخطأ » كان المفهوم منه عرفا أنّي لا أؤاخذك به ، ولا اعاقبك عليه.

لا يقال : يلزم منه سقوط الضمان إذا أتلف مال الغير خطأ ؛ لأنّ (٣) إلزامه بالضمان من المؤاخذات والعقوبات وقد رفعت.

والجواب : أنّه مخصّص بدليل من خارج.

ويمكن أن يقال : إنّ المؤاخذة ما يقصد به الزجر والإيذاء ، وهما لا يقصدان بالضمان ، بل يقصد به جبر إتلاف مال الغير.

احتجّ المخالف بأنّ الخطأ نفسه لم يرفع ، فلا بدّ من إضمار لمتعلّق الرفع وهو متعدّد ، ولا يمكن إضمار الكلّ ؛ لأنّ ما يقدّر للضرورة يقدّر بقدرها ، فلا بدّ من إضمار البعض ولا دليل على تعيينه ، فتأتى الإجمال (٤).

والجواب : أنّه معيّن من التبادر العرفي.

فصل [٧]

كلّ لفظ يطلق على معنى واحد تارة وعلى معنيين اخرى ، كالدابّة تطلق على الفرس تارة واخرى عليه وعلى الحمار معا.

__________________

(١) تقدّم في ص ٨٣٣.

(٢) التوحيد للصدوق : ٣٥٣ ، ح ٢٤ ، والخصال ٢ : ٤١٧ ، ح ٩ ، ووسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، الباب ٥٦ ، ح ١.

(٣) تعليل للمنفيّ أو « يلزم » دون النفي.

(٤) حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٣٨.

٢٥٠

فالحقّ أنّه مجمل إن لم يكن ظاهرا في أحدهما خلافا للأكثر ؛ حيث قالوا : يجب حمله على المعنيين.

لنا : أنّه متردّد بينهما من غير ترجيح ، ولا نعني من المجمل إلاّ ذاك.

احتجّ الأكثر بأنّ وضع الكلام للإفادة ، وما يفيد معنيين أكثر فائدة ، فيتعيّن حمله عليه ؛ لتكثّر الفائدة.

وجوابه : أنّه إثبات اللغة بالترجيح ، مع أنّه معارض بأنّ أكثر الألفاظ موضوعة لمعنى واحد ، والمظنون إلحاق الشيء بالأعمّ الأغلب.

فصل [٨]

إذا ورد لفظ من الشرع له محمل لغوي ، ومحمل في حكم شرعي ، فالحقّ أنّه ليس مجملا ، بل ظاهر في المجمل الشرعي ؛ لأنّ دأب الشارع تعريف الأحكام الشرعيّة دون الموضوعات اللغويّة.

مثاله قوله : « الطواف بالبيت صلاة » (١) فإنّه يحتمل أن يكون المراد به أنّ الطواف يسمّى صلاة في اللغة ، وأنّه كالصلاة في بعض الشرائط والأحكام ، وقوله عليه‌السلام : « الاثنان فما فوقهما جماعة » (٢) فإنّه يحتمل أن يكون المراد به أنّ « الاثنان » (٣) يسمّى جماعة لغة ، وأنّه يحصل به فضيلة الجماعة.

احتجّ المخالف ، باحتمال اللفظ للمحملين.

وجوابه ظاهر ممّا تقدّم.

ويظهر منه أنّ كلّ لفظ له مسمّى لغوي ومسمّى شرعي ، كالمنقولات الشرعيّة ـ من الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، وغيرها ـ إذا ورد مطلقا في كلام الشارع ، يحمل على الشرعي ولا يكون مجملا ، سواء وقع في الإثبات أو النهي (٤).

__________________

(١) عوالي اللآلئ ١ : ٢١٤ ، ح ٧٠.

(٢) كنز العمّال ٧ : ٥٥٥ ، ح ٢٠٢٢٤.

(٣) كذا في النسختين ، وهو على الحكاية.

(٤) المقابل للإثبات هو النفي دون النهي.

٢٥١

وخلاف جماعة بأنّه مجمل مطلقا (١) ، وآخرين بأنّه مجمل في النهي دون الإثبات (٢) ؛ إذ فيه يحمل على الشرعي ، وآخرين بعدم إجماله مطلقا (٣) إلاّ أنّه في الإثبات للشرعي ، وفي النهي للّغوي ، لا اعتداد به ، وحججهم واهية.

فصل [٩]

الحقّ جواز التكليف بالمجمل ؛ فإنّه واقع ؛ لما ظهر من الآيات المتقدّمة (٤) ، والأخبار المشهورة (٥) ، ولما ثبت من وقوع المشترك في خطابات الشرع ، والوقوع دليل الجواز.

واحتجّ من لم يجوّزه بأنّه إن لم يقصد به الإفهام كان عبثا غير لائق بالحكيم ، وإن قصد به ، فإن قرنه بالبيان كان تطويلا بلا فائدة ؛ إذ التنصيص عليه أسهل وأبلغ ، وإن لم يقرنه كان تكليفا بالمحال (٦).

والجواب : أنّه قصد به الإفهام أمّا في صورة الاقتران بالبيان ، فمن كلّ وجه. ونمنع عدم الفائدة فيه ؛ إذ يجوز اشتماله على مصلحة لم نطّلع عليها ؛ لأنّ درك جميع حكم الشرع ليس في مقدرة البشر.

وأمّا في صورة عدم اقترانه به فمن بعض الوجوه ، وهو إفهامه بأنّه قد كلّف بشيء فيستعدّ للامتثال ، فيثاب عليه ، أو لعدمه فيعاقب به.

وتوضيح ذلك : أنّ الغرض (٧) الأصلي من التكليف الابتلاء وحصول ملكة الانقياد أو الطغيان ليتفرّع عليه الثواب والعقاب ، ويحدث في النفس النوريّة والصفاء ، أو الكدرة والظلمة ، وهو كما يحصل بالعمل يحصل بالاستعداد وتوطين النفس عليه.

__________________

(١) حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٣٩.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٧.

(٣) المصدر.

(٤) في ص ٨٢٩.

(٥) تقدّمت في ص ٨٣١.

(٦) حكاه العلاّمة في تهذيب الوصول : ١٥٩ ، والظاهر أنّ القول بعدم جوازه لداود الظاهري كما في هامش المصدر ، وإرشاد الفحول ٢ : ١٤.

(٧) أي ما يترتّب على الفعل سواء كان غرضا للفاعل أم لا.

٢٥٢

فصل [١٠]

« البيان » من « بان » إذا ظهر وهو يطلق على فعل المبيّن ـ وهو التبيين ـ كالكلام للتكليم ، والسلام للتسليم ، وبهذا الاعتبار قيل : إنّه الدلالة أو الإخراج من حيّز الإشكال إلى حيّز التجلّي والظهور (١).

وعلى ما يحصل به التبيين ، وبهذا الإطلاق قيل : إنّه الدليل (٢).

وعلى متعلّق التبيين ومحلّه ـ وهو المدلول ـ وبالنظر إليه قيل : إنّه العلم الحاصل عن الدليل (٣).

والمبيّن نقيض المجمل فهو المتّضح الدلالة ، سواء كان بنفسه ـ نحو ( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(٤) ؛ إذ إفادته شمول علمه لجميع الأشياء ليس إلاّ بنفس اللغة أو بغيره ، نحو ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(٥) ؛ فإنّ دلالته على المراد تتوقّف على قرينة العقل ، وذلك الغير يسمّى مبيّنا. هذا.

وفي معنى المبيّن ، المفسّر. والظاهر عدم الفرق بين المبيّن بنفسه والنصّ. لأنّ النصّ ـ كما تقدّم (٦) ـ ما لا يحتمل غير ما يفهم منه لغة.

فصل [١١]

البيان يقع بأشياء :

« القول » كقوله تعالى : ( صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها )(٧) ؛ فإنّه بيان لقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً )(٨) ، وقوله عليه‌السلام : « فيما سقت السماء العشر » (٩) ؛ فإنّه بيان لمقدار الزكاة.

__________________

(١) نسبه الآمدي إلى الصيرفي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٩.

(٢) نسبه الآمدي إلى القاضي أبي بكر والأكثر في المصدر.

(٣) نسبه الآمدي إلى أبي عبد الله البصري في المصدر.

(٤) البقرة (٢) : ٢٨٢.

(٥) يوسف (١٢) : ٨٢.

(٦) تقدّم في ج ١ ، ص ١٩٧.

(٧) البقرة (٢) : ٦٩.

(٨) البقرة (٢) : ٦٧.

(٩) عوالي اللآلئ ٢ : ٢٣١ ، ح ١٦.

٢٥٣

و « الكتابة » كما بيّن الله سبحانه لملائكته بما كتبه في اللوح ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما كتبه لعمّاله والأئمّة من بعده.

و « الإشارة » كما قال عليه‌السلام : « الشهر هكذا وهكذا وهكذا » (١) بأصابعه العشر (٢) ، ثمّ أعاد وحبس إصبعه في الثالثة. وهو لا يصحّ في حقّ الله ؛ لافتقاره إلى الأعضاء.

و « فعل النبيّ » صلى‌الله‌عليه‌وآله كما بيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلاة والوضوء والحجّ بفعله ، ويعلم كون الفعل بيانا بالضرورة من قصده أو بنصّه ، كقوله عليه‌السلام : « صلّوا كما رأيتموني » (٣) و « خذوا عنّي مناسككم » (٤) أو بالفعل ، كما لو ذكره مجملا وفعل وقت الحاجة إلى العمل فعلا يصلح بيانا له ولم يصدر عنه غيره.

ثمّ من الناس من قال : إنّ الفعل لا يصلح لأن يكون بيانا (٥) ، وهو ضعيف غير ملتفت إليه.

فصل [١٢]

إذا ورد بعد مجمل قول وفعل كلّ منهما يصلح لأن يكون بيانا له ، فإن اتّفقا وعلم تقدّم أحدهما ـ كأن يطوف بعد نزول آية الحجّ طوافا واحدا ويأمر بطواف واحد ـ فالمتقدّم هو « البيان » والثاني تأكيد ، وإن جهل فالبيان أحدهما من غير تعيين.

وقيل : القول ؛ لأنّه يدلّ بنفسه بخلاف الفعل (٦).

وإن اختلفا كأن يطوف بطوافين ويأمر بطواف واحد ، فالحقّ أنّ البيان هو « القول » ، سواء كان متقدّما أو متأخّرا ، والفعل محمول على الندب ، أو الوجوب عليه ، أو الرخصة له ؛ لأنّ القول يدلّ بنفسه ، ولأنّ جعله بيانا جمع بين الدليلين ، وهو أولى من طرح واحد.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١٦٢ ، ح ٤٥٨.

(٢) في « ب » : « العشرة ».

(٣) صحيح البخاري ١ : ٢٢٦ ، ح ٦٠٥ ، وسنن الدارمي ١ : ٢٨٦.

(٤) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥.

(٥) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٣ : ٣١ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٤٠ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ٥٢٧.

(٦) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٤١.

٢٥٤

فصل [١٣]

قد عرفت (١) أنّ العامّ أو المطلق إذا كان أقوى من الخاصّ أو المقيّد لا يجوز التخصيص والتقييد به ؛ للزوم إبطال الراجح بالمرجوح ، وإلغاء الأقوى بالأدنى ، وهو ترجيح المرجوح ، وإذا تساويا فالحقّ جوازهما ؛ لأولويّة الجمع على الطرح.

والقول بعدم جوازهما حينئذ أيضا للزوم التحكّم (٢) ، تحكّم ؛ ووجهه ظاهر.

وأمّا المجمل فيكفي في بيانه المساوي والمرجوح ؛ إذ لا تعارض ليلزم ترجيح المرجوح ، أو التحكّم.

فصل [١٤]

تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، وفاقا للعدليّة وسائر الامّة ـ سوى بعض الأشاعرة (٣) ـ لأنّه تكليف بما لا يطاق.

وفروعه كثيرة. وممّا يتفرّع عليه وجوب التفسير فورا على من أقرّ بمبهم ابتداء أو عقيب دعوى بعد المطالبة ، فلو امتنع من البيان فورا يحبس حتّى يجيب ، وكذا لو طلّق (٤) مبهمة.

وأمّا عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ، فالمختار جوازه مطلقا وفاقا للأكثر.

ومنعه قوم مطلقا (٥).

وقيل : يجوز فيما ليس له ظاهر كالمجمل ، ويمتنع فيما له ظاهر واريد به غير ظاهره ، كالعامّ والمطلق والمنسوخ (٦).

وقيل : يجوز في الأوّل ، ويمتنع في الثاني ؛ لكنّه في البيان الإجمالي (٧). وأمّا التفصيلي

__________________

(١) تقدّم في ص ٨٢٢.

(٢) القول لابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٤١.

(٣) حكاه عنهم العلاّمة في تهذيب الوصول : ١٦٥ ، والفخر الرازي في المحصول ٣ : ١٨٨.

(٤) أي طلّق امرأة مبهمة. وفي « ب » : « أطلق ».

(٥) نسبه ابن الحاجب إلى الكرخي في المصدر.

(٦ و ٧) حكاه الفخر الرازي عن أبي الحسين البصري في المحصول ٣ : ١٨٨ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٦ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ١٦٤.

٢٥٥

فيجوز تأخيره ، فيجب أن يقول : هذا العامّ مخصوص وهذا المطلق مقيّد ، وهذا الحكم سينسخ ، ولا يجب تفصيل ما خصّ عنه ، وذكر الصفة التي قيّد بها ، وتعيين وقت النسخ.

وقيل بمثل ذلك في غير النسخ (١) ، وأمّا فيه ، فحكمه حكم المجمل ، فلا يلزم بيانه تفصيلا ولا إجمالا.

لنا : عدم مانع من التأخير وإمكان مصلحة فيه يحسن (٢) لأجلها ، كالعزم وتوطين النفس على الفعل إلى وقت الحاجة ؛ لما عرفت من ترتّب الثواب عليه (٣). ويؤكّده أنّ البيان إنّما يراد ليتمكّن المكلّف من الإتيان بما كلّف به ، فلا حاجة إليه قبل الوقت.

وأيضا لا خلاف في عدم اشتراط قدرة المكلّف على الفعل حال الخطاب ، وإذا جاز تأخير إقداره على الفعل ، فتأخير علمه بتفاصيل بعض صفات الفعل أولى بالجواز.

ولنا أيضا : أنّه لو لم يجز تأخيره زمانا طويلا ، لم يجوز زمانا قصيرا مع أنّه جائز ؛ للإجماع على جواز تأخير القرينة عن وقت التلفّظ بالمجاز بحيث لا يخرج الكلام عن كونه واحدا عرفا. وأنت خبير بإمكان إبداء الفرق بينهما (٤).

ولنا : قوله تعالى : ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ )(٥).

وجه الاستدلال به أنّ « ثمّ » للتراخي ، فيدلّ على جواز تأخير البيان عن المبيّن.

ولنا : أنّه وقع ، والوقوع دليل الجواز.

أمّا الثاني ، فظاهر.

وأمّا الأوّل ، فلأنّه تعالى قال أوّلا في المغنم : ( فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى )(٦) ، ثمّ بيّن أنّ السلب للقاتل. و « ذي القربى » بنو هاشم دون بني اميّة وبني نوفل ، وهذا عامّ تأخّر عنه بيانه ؛ إذ لم يكن معه بيان تفصيلي ـ وهو ظاهر ـ ولا إجمالي ؛ لأنّ الأصل عدمه ، ولأنّه لو اقترن به لنقل ؛ لتوفّر الدواعي عليه.

__________________

(١) نسبه ابن الحاجب إلى الجبائي في منتهى الوصول : ١٤١.

(٢) في « أ » : « يحسّن ».

(٣) في ص ٨٣٦.

(٤) أي الزمانين. وهذا الأمر ـ من ردّ المستدلّ نفسه ما استدلّ به ـ غير معتاد.

(٥) القيامة (٧٥) : ١٩.

(٦) الأنفال (٨) : ٤١.

٢٥٦

وقال : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(١) ثمّ بيّن تفاصيلهما من الركعات ، والأركان ، والأجناس ، والنصاب ، والأوقات ، والشرائط ، والأحكام بالتدريج.

وقال : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما )(٢) ثمّ بيّن اشتراط الحرز والنصاب بتدريج.

وقال : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا )(٣) ثمّ بيّن أنّ المحصن يرجم. ونهى النبيّ عن بيع المزابنة (٤) ، ثمّ رخّص في العرايا (٥).

وقال الله : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً )(٦) وهي كانت معيّنة في الواقع ؛ لما سألوا عن التعيين ، ولو لم تكن معيّنة ، لما سألوا عنه بقولهم : ( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ )(٧) ، و ( ما لَوْنُها )(٨) ، ثمّ بيّنها بقوله : ( إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ )(٩) إلى قوله : ( فاقِعٌ لَوْنُها )(١٠).

واورد عليه بمنع كونها معيّنة بدليل قوله : ( أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) وهو ظاهر في غير معيّنة ، وقوله : ( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ )(١١) ، لدلالته على قدرتهم على الفعل ، ووقوع السؤال عن التعيين كان تعنّتا.

وبدليل قول ابن عبّاس : لو ذبحوا أيّة بقرة لأجزأتهم ، ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم (١٢).

وفساده ظاهر ؛ لأنّها لو كانت غير معيّنة ، لما أطال الله الكلام بحصر أوصافها. وذمّهم وتعنيفهم بقوله : ( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) ليس لعدم التعيين ، بل لتوانيهم بعد البيان.

وقول ابن عبّاس لم يثبت ، ولو ثبت لم يكن حجّة ؛ لمعارضته بالكتاب وقول سائر المفسّرين.

وقال : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ )(١٣) ، فنقض ابن الزبعري بالمسيح

__________________

(١) البقرة (٢) : ٤٣.

(٢) المائدة (٥) : ٣٨.

(٣) النور (٢٤) : ٢.

(٤ و ٥) تهذيب الأحكام ٧ : ١٤٣ ، ح ٦٣٣ و ٦٣٤ ، والاستبصار ٣ : ٩١ ، ح ٣٠٩ و ٣١١.

( ٦ ـ ٧ ـ ٨ ـ ٩ ـ ١٠ ). البقرة (٢) : ٦٧ ـ ٦٩.

(١١) البقرة (٢) : ٧١. في هامش « أ » : « الوارد في ذمّهم ».

(١٢) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٤٤٨ ، ذيل الآية ٦٨ من البقرة (٢).

(١٣) الأنبياء (٢١) : ٩٨.

٢٥٧

والملائكة (١) ، فنزل ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ... )(٢) ، فتأخّر البيان.

فإن قيل : « ما » لما لا يعقل ، فلا يتناولهم. وإن سلّم فنقول : خصّوا بالعقل (٣) ، وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ) ليس بيانا ؛ لظهور خروجهم ، بل زيادة توضيح احتيج إليه ؛ لجهل الناقض.

قلنا : « ما » يعمّ ما يعقل وغيره ؛ لقوله تعالى : ( وَالسَّماءِ وَما بَناها )(٤).

وما روي أنّ النبيّ قال له : « ما أجهلك بلغة قومك ، ألم تعلم أنّ « ما » لما لا يعقل » (٥) ، لم يثبت عندنا.

فإن قيل : النزاع في الأحكام لا في الأخبار.

قلنا : الفرق غير معقول.

احتجّ المانع مطلقا بأنّ التكليف بما ليس له ظاهر ، أو له ظاهر غير مراد من غير بيان في الحال ، خطاب بما لا يفهم ، وهو قبيح ، ولو جاز ذلك ، لجاز خطاب الزنجي بالعربيّة من غير بيان المراد في الحال ؛ لعدم الفرق بينهما (٦).

والجواب : منع كونه خطابا بما لا يفهم من كلّ وجه ، فإنّه يعلم أنّ المراد بعض المدلولات المعروفة عنده ، ويبيّن له وقت الحاجة إلى العمل ، فيثاب ويعاقب بالعزم على الفعل أو الترك وليس فيه قبح أصلا ، ولو قبح مثله ، لقبح أن يولّي الملك رجلا على بلد ويقول له : اخرج إليه في غد ، وسأكتب لك كتابا فيه تفصيل ما يلزم عليك أن تعمل به ، وانفذه إليك عند استقرارك في عملك مع أنّه لا يقبح بالضرورة.

احتجّ المفصّل الأوّل : أمّا على جواز تأخير بيان المجمل ، فبنحو ما ذكرناه ، ولا نزاع لنا معه فيه.

وأمّا على منع تأخير بيان العامّ المخصوص والمطلق المقيّد ولفظ المنسوخ ، فبأنّها

__________________

(١) حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٤٢ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ١٦٥.

(٢) الأنبياء (٢١) : ١٠١.

(٣) في « ب » : « بالعقلي ».

(٤) الشمس (٩١) : ٥.

(٥) رواه الطبرسي في مجمع البيان ٧ : ١١٦ ، ذيل الآية ١٠١ من الأنبياء (٢١).

(٦) حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٤٣ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ١٦٣.

٢٥٨

ألفاظ موضوعة لحقائق مفهومة منها عند إطلاقها وهي الاستغراق ، والشياع ، والدوام يحملها عليها كلّ مخاطب ، ولا يعدل عنها إلاّ بقرينة التجوّز ، فيقبح من الحكيم أن يراد (١) بها في حال الخطاب غيرها من غير دلالة ، بخلاف المجمل ؛ فإنّه ليس له معنى حقيقي مفهوم عند إطلاقه حتّى يلزم من تأخير بيانه العدول عمّا وضع.

وبأنّ الخطاب وضع للإفادة ومن سمع عامّا أو مطلقا أو حكما ، وجوّز أن يكون مخصوصا أو مقيّدا أو منسوخا ، ويبيّن له في المستقبل ، لم يستفد في هذه الحال شيئا ، ويكون وجوده كعدمه ، وهو ينافي وضع الخطاب.

وبأنّه لو جاز التأخير ، فإمّا إلى مدّة معيّنة ـ وهو تحكّم ، ولم يقل به أحد ـ أو إلى الأبد ، فيلزم التكليف بما لا يفهم (٢).

والجواب عن الأوّل : أنّه لا ريب في افتقار استعمال اللفظ في غير الموضوع له إلى القرينة عند الحاجة ؛ لئلاّ يلزم الإغواء ، وأمّا افتقاره إليها عند وقت التكلّم من دون بلوغ وقت الحاجة ، فلا دليل عليه ولا يلزم منه الإغواء ؛ لأنّه فيما انتفى احتمال التجوّز ، وانتفاؤه فيما قبل وقت الحاجة يتوقّف على ثبوت منع التأخير مطلقا ، وقد فرضنا عدمه.

وقولهم : « الأصل في الكلام الحقيقة » معناه أنّ اللفظ مع فوات وقت القرينة يحمل على الحقيقة لا مطلقا.

وممّا يؤكّده اتّفاقهم على جواز إسماع العامّ المخصوص بالعقل وإن لم يعلم المخاطب تخصيصه به ، واتّفاق أجلّة المحقّقين على إسماع العامّ المخصوص بالدليل السمعي من دون إسماع المخصّص ؛ لأنّه لو ثبت لزوم الإغواء هنا ، ثبت لزومه هناك أيضا ، لأنّ السامع للعامّ مجرّدا عن القرينة يحمله على الحقيقة.

فإن قالوا : لا يجوز الحمل عليها إلاّ بعد الفحص عن المخصّص.

قلنا : فيما نحن فيه لا يجوز الحمل على شيء حتّى يحضر وقت الحاجة ، ويوجد القرينة ويطّلع عليها ، فيعمل بمقتضاها.

__________________

(١) كذا في النسختين. والأولى : « يريد ».

(٢) حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٤٣ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ١٦٤.

٢٥٩

وبما ذكر ظهر الجواب عن الثاني من غير افتقار إلى بيان.

والجواب عن الثالث : أنّ التأخير إلى (١) مدّة معيّنة عند الله وهو الوقت الذي يعلم أنّه مكلّف فيه ، فلا تحكّم. هذا.

ومن العجب اللازم لهذا القول وجوب اقتران بيان المنسوخ به (٢) ، مع أنّ جماعة نقلوا الإجماع على حسن تأخير الناسخ (٣) ، بل المعروف بين القوم اشتراطه حتّى أنّهم عدّوه شرطا للنسخ. وممّن عدّه شرطا بعض القائلين بهذا القول (٤) ، وهو غريب.

واحتجّ المفصّل الثاني على جواز تأخير بيان المجمل مطلقا بنحو ما ذكرناه (٥). ولا مخالفة لنا معه فيه. وعلى امتناع تأخير بيان غيره ـ ممّا له ظاهر ـ في البيان الإجمالي دون التفصيلي بأنّه لو ارتفعا معا ، يلزم الإغراء بالجهل وهو باطل ؛ لأنّ المكلّف يحمل حينئذ على ظاهره ويعمل به.

وأمّا لو وجد البيان الإجمالي وإن لم يوجد التفصيلي ، فيعلم المكلّف أنّ ظاهره غير مراد ، فيثبت إلى أن

يحضر الوقت ، ويطّلع على البيان التفصيلي.

وجوابه : قد ظهر ممّا تقدّم ، فلا نطيل الكلام بإعادته.

واحتجّ المفصّل الثالث أمّا على جواز تأخير بيان المجمل بنحو ما ذكرناه (٦).

وأمّا على امتناع تأخير بيان ما له ظاهر سوى النسخ بأنّ تأخير بيان العامّ ، أو المطلق يوجب الشكّ في كلّ واحد واحد من أفرادهما ، هل هو مراد للمتكلّم أم لا؟ فلا يعلم تكليف واحد بعينه ، ويلزم منه انتفاء أصل التكليف الذي هو غرض الخطاب بخلاف النسخ ؛ فإنّ الكلّ داخلون إلى أن ينسخ (٧).

والجواب : أنّ الشكّ مشترك ، إلاّ أنّه في العامّ والمطلق في أفرادهما ، وفي النسخ في أفراد الزمان ، بل هو أولى بالشكّ ؛ لأنّ الشكّ في كلّ واحد من أفرادهما على البدل ، وفيه

__________________

(١) متعلّق بمقدّر خبر « أنّ » وليس متعلّقا بالتأخير.

(٢) أي بالمنسوخ.

(٣) راجع : الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٣ : ٤٩ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ١٤٤ و ١٤٥ ، ومعالم الدين : ١٦٧ و ١٦٩.

(٤) راجع الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٤٩.

( ٥ ـ ٦ ـ ٧ ). تقدّم في ص ٨٣٩.

٢٦٠