أنيس المجتهدين - ج ٢

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0282-0
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

الوضع والموضوع له إمّا خاصّ أو عامّ ، أو الوضع عامّ والموضوع له خاصّ :

لأنّ الواضع لا بدّ له من تصوّر معنى (١) في الوضع ، فإن تصوّر معنى جزئيّا ، وعيّن بإزائه لفظا مخصوصا ، أو ألفاظا مخصوصة ، متصوّرة إجمالا أو تفصيلا ، كان الوضع خاصّا ؛ لخصوص التصوّر المعتبر فيه أعني تصوّر المعنى ، والموضوع له أيضا خاصّا ومثاله ظاهر.

وإن تصوّر معنى عامّا في تحته جزئيّات إضافيّة أو حقيقيّة.

فإن عيّن له لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو الإجمال ، كان الوضع عامّا ؛ لعموم التصوّر المعتبر فيه ، والموضوع له عامّا أيضا كالمشتقّات ؛ فإنّ الواضع وضع صيغة « فاعل » مثلا من كلّ مصدر لمن قام به مدلوله ، وصيغة « مفعول » منه لمن وقع عليه. ومنه أسماء النكرات والأجناس ؛ فإنّ الواضع وضع لفظ « رجل » مثلا لكلّ من قام به معنى الرجوليّة. وكذا الكلام في البواقي.

وإن عيّن اللفظ أو الألفاظ بإزاء خصوصيّات الجزئيّات المندرجة تحت العامّ ؛ لكونها معلومة إجمالا إذا توجّه العقل بذلك العامّ نحوها والعلم الإجمالي كاف في الوضع ، كان الوضع عامّا ؛ لعموم التصوّر المعتبر فيه ، والموضوع له خاصّا ؛ لخصوصه ، كالمبهمات مثل : أسماء الإشارات ؛ فإنّ الواضع وضع لفظ « هذا » مثلا لخصوص كلّ فرد ممّا يشار به إليه ، لكن باعتبار تصوّره للمفهوم العامّ وهو كلّ مشار إليه مفرد مذكّر ، ولم يضع اللفظ بإزاء هذا المعنى العامّ ، بل لخصوصيّات تلك الجزئيّات المندرجة تحته ؛ فإنّ لفظ « هذا » مثلا لا يطلق إلاّ عليها ، فلا يقال :

« هذا » ويراد به واحد ممّا يشار إليه ، بل لا بدّ في إطلاقه من القصد إلى خصوصيّة معيّنة. وقس عليه البواقي.

ومن هذا القبيل وضع الحروف ، فإنّها موضوعة باعتبار معنى عامّ ـ وهو نوع من النسبة ـ لكلّ واحدة من خصوصيّاته ؛ فإنّ الواضع وضع لفظة « من » مثلا لخصوص كلّ ابتداء باعتبار تصوّره لمطلق الابتداء. وقس عليها البواقي.

__________________

(١) في المصدر : « المعنى ».

٢٠١

ومثلها الأفعال الناقصة ، فإنّها موضوعة باعتبار نوع من النسبة لكلّ واحد من خصوصيّاتها.

وأمّا التامّة ، فلها جهتان : وضعها من إحداهما عامّ ، ومن الاخرى خاصّ ، فالعامّ بالقياس إلى ما اعتبر فيها من النسب الجزئيّة ؛ فإنّها في حكم المعاني الحرفيّة ، فكما أنّ لفظة « من » موضوعة باعتبار المعنى العامّ ـ وهو مطلق الابتداء ـ لخصوص كلّ ابتداء ، كذلك لفظة « ضرب » موضوعة باعتبار المعنى العامّ ـ وهو نوع النسبة ، أي نسبة الحدث الذي دلّت (١) عليه إلى (٢) فاعل ـ لخصوصيّاتها.

وأمّا الخاصّ ، فبالنسبة إلى الحدث [ وهو واضح ] (٣).

وبعد تمهيد هذه المقدّمة قال :

إنّ أدوات الاستثناء كلّها موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات الإخراج.

أمّا الحرف منها ، فظاهر. وأمّا الفعل فلأنّ الإخراج به إنّما هو باعتبار النسبة ، وقد ظهر أنّ الوضع بالإضافة إليها عامّ. وأمّا الاسم ، فلأنّه من قبيل المشتقّ (٤).

وقد علمت أنّ الوضع بالنسبة إليه عامّ ، ولا ريب أنّ كلاّ من العود إلى الجميع وإلى الأخيرة خاصّة إخراج خاصّ فأيّهما اريد من الاستثناء كان حقيقة فيه ، وليس ذلك من الاشتراك في شيء. وبيّنه بنحو ما ذكرناه في تحرير مذهبه.

ثمّ قال :

واتّضح منه بطلان القول بالاشتراك ؛ لأنّه لا تعدّد في وضع المفردات ، ولا دليل على كون الهيئة التركيبيّة موضوعة وضعا متعدّدا لكلّ من الأمرين (٥).

وأنت تعلم أنّ ما به مناط تحقّق مطلبه عموم الوضع ، ولا خلاف في ثبوته في أدوات

__________________

(١) أي لفظة « ضرب ».

(٢) متعلّق إلى نسبة الحدث.

(٣) أضفناه من المصدر.

(٤) معالم الدين : ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٥) المصدر : ١٢٥.

٢٠٢

الاستثناء ، فكفى له أن يقول : إنّها موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات الإخراج من دون حاجة إلى التمهيد الذي مهّده ، والتطويل الذي ارتكبه. ويرد عليه ما تقدّم (١).

ولو قال : إنّ عموم الوضع محتمل ، فمن ادّعى أحد الأمرين أو الاشتراك فعليه البيان ، ليرجع إلى القول بالتوقّف مع توسّع دائرة الاحتمال. هذا.

وما ذكره من أنّ « وضع الأفعال التامّة بالنسبة إلى الحدث خاصّ » (٢) ظاهر الفساد ؛ إذ الحدث ـ كالضرب مثلا ـ أمر كلّي يندرج تحته جزئيّات ، فكلّ من الوضع والموضوع له فيه عامّ.

[ الدعوى ] الثالثة : كون العود إلى الجميع أظهر وأرجح عند الإطلاق.

ويدلّ عليه وجوه :

منها : أنّ الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلّقات ؛ إذ العطف يصيّر المتعدّد كالواحد ، فلا فرق بين قولنا : « رأيت زيد بن عمرو ، ورأيت زيد بن بكر » وبين قولنا : « رأيت الزيدين ». فإذا كان الاستثناء أو غيره من المتعلّقات عقيب الجملة الواحدة راجعا إليها ، فكذلك ما في حكمها (٣). وليس هذا قياسا في اللغة ، بل استدلال من قواعد أهل اللغة وموارد استعمالهم.

ومنها : أنّه قد علم بالاستقراء أنّ الاشتراك بينهما في المتعلّقات كلّها ـ كالحال والشرط وغيرهما سوى الاستثناء ـ ثابت ، فيلزم أن يكون الأمر فيه أيضا كذلك ؛ إلحاقا للفرد بالأعمّ الأغلب.

ومنها : أنّ التعلّق بالمشيّة (٤) إذا تعقّب جملا يعود إلى جميعها بإجماع الامّة (٥). وهو إمّا استثناء ، أو شرط وهو في معناه ؛ لأنّ قوله تعالى في آية القذف : ( إِلاَّ مَنْ تابَ )(٦) جار

__________________

(١) راجع ص ٧٨٣.

(٢) تقدّم في ص ٧٨٦.

(٣) أي في حكم الجملة الواحدة كالجمل المتعاطفة.

(٤) والمراد به قول : « إن شاء الله ».

(٥) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣٢٣ ، وتمهيد القواعد : ٢٠٥ ، القاعدة ٧٤.

(٦) مريم (١٩) : ٦٠.

٢٠٣

مجرى قوله : « إن لم يتوبوا » على أنّه لا يمكن كونه شرطا على الحقيقة ، وإلاّ لما صحّ دخوله على الماضي ، مع أنّه قد يذكر فيه ، كما يقال : « حججت وزرت إن شاء الله » فتعيّن كونه استثناء خاصّا ، فإذا عاد إلى الجميع البتّة ، فكذلك غيره ؛ لعدم فرق سوى أنّه استثناء بالمشيّة ، والآخر استثناء بغيره ، وهو لا يصلح لأن يكون سببا لاختلاف الأحكام.

والقول بأنّه ليس شرطا ولا استثناء وإنّما يذكر ليقف الكلام عن النفوذ والمضيّ لا لغير ذلك (١) ، كلام خال عن التحصيل.

ثمّ إنّه لو فرض أنّ كلّ واحد من هذه الأدلّة لا يفيد الظنّ بالمطلوب ، فلا ريب في إفادة المجموع له ، فجميعها يصلح لأن ينتهض حجّة لكون الاستثناء ظاهرا في العود إلى الجميع ، وإن كان حقيقة في العود إلى الأخيرة أيضا ، وقد ذكرنا أوّلا أنّه لا منافاة بين أن يكون لفظ حقيقة في معنيين ويكون ظاهرا في أحدهما ، فتذكّر (٢).

وإذ ثبت ذلك فقد اتّضح منه بطلان قول المرتضى ، وهو الاشتراك مع توقّف التعيين على القرينة (٣) ، بل قول بعض المتأخّرين (٤) أيضا ؛ لأنّه أيضا قال بتوقّفه على القرينة ، فثبت من إثبات الدعاوي الثلاث بطلان المذاهب الأربعة الاول ، وكذا القول بالتوقّف. والقولان الآخران قد عرفت (٥) أنّهما خارجان عن محلّ النزاع.

احتجّ القائل الأوّل ـ وهو من ذهب إلى أنّه حقيقة (٦) في العود إلى الجميع ، مجاز في العود إلى الأخيرة (٧) ـ ببعض ما ذكرناه في الدعوى الثالثة (٨). وهو لا يفيد إلاّ ظهوره في الجميع ونحن نقول به ، ولا ينفي كونه حقيقة في الأخيرة ليثبت مطلوبه.

__________________

(١) قاله الشيخ حسن في معالم الدين : ١٣٥.

(٢) تقدّم في ص ٧٨٢.

(٣) تقدّم في ص ٧٨٢.

(٤) تقدّم في ص ٧٨٣.

(٥) ص ٧٨٤.

(٦) والقائل الأوّل هو الشيخ والشافعي وهما يقولان بالظهور لا الحقيقة. راجع ص ٧٨١ ـ ٧٨٢.

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٧٨٤.

(٨) تقدّم في ص ٧٨٧.

٢٠٤

واحتجّ المخصّص بالأخيرة بوجوه :

منها : أنّ الاستثناء خلاف الأصل ؛ لأنّه موجب للتجوّز في لفظ العامّ والأصل الحقيقة ، ولأنّ الظاهر من المتكلّم بلفظ العامّ إرادة العموم ، والاستثناء مخالف لهذه القاعدة ، ولاستصحاب (١) هذه الإرادة ، خولف (٢) في الأخيرة للضرورة ، فبقي الباقي على أصله (٣).

والجواب عنه : أنّ الاستثناء لا يوجب التجوّز في لفظ العامّ ـ كما هو الحقّ المختار على ما عرفته (٤) ـ ولا يخالف القاعدة والاستصحاب ؛ للاتّفاق على أنّ للمتكلّم ما دام متشاغلا بالكلام أن يلحق به ما شاء من اللواحق ، وهذا يقتضي وجوب توقّف المخاطب عن الحكم بإرادة المتكلّم عن ظاهر لفظه حتّى يتحقّق الفراغ ، ولو كان مجرّد صدور اللفظ موجبا للحمل على الحقيقة ، لكان التصريح بخلافه قبل فوات وقته منافيا له ، ولزم ردّه ؛ على أنّ الدليل منقوض بالشرط والصفة.

وقيل : على القول بأنّ المراد بالمستثنى منه ما بقي بعد الاستثناء مجازا والاستثناء قرينة التجوّز ، لا يلزم التجوّز في العامّ أيضا ؛ لأنّ الحكم حينئذ لم يتعلّق بالأصالة إلاّ بالباقي ، فلا مخالفة بحسب الحقيقة (٥).

وهو كما ترى.

ومنها : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ )(٦) الآية ؛ حيث وقع الاستثناء فيه بعد ثلاث جمل ، ولو رجع إلى الجميع لوجب أن يسقط الجلد بالتوبة ، ولا يسقط به اتّفاقا.

والجواب : أنّ الظهور في العود إلى الجميع لا ينافي الصرف عنه لدليل ، وهنا كذلك.

__________________

(١) في « ب » : « والاستصحاب ».

(٢) أي العموم.

(٣) تقدّم في ص ٧٨٣.

(٤) تقدّم في ص ٧٨٣ ـ ٧٨٤.

(٥) قاله الشيخ حسن في معالم الدين : ١٣٢.

(٦) النور (٢٤) : ٤ ـ ٥.

٢٠٥

ومنها : أنّ الظاهر من حال المتكلّم أنّه لا ينتقل (١) إلى الجملة الثانية إلاّ بعد استيفاء غرضه من الاولى ، فكان الثانية حائلة بينها وبين الاستثناء ، فكانت كالسكوت المانع من تعلّق الاستثناء بها.

والجواب : أنّه مصادرة ، وكيف يسلّم كون الثانية حائلة مع أنّ المجموع بمنزلة جملة واحدة.

ومنها : أنّ المقتضي لرجوع الاستثناء إلى ما قبله الضرورة ، وهو عدم استقلاله ، وما يقتضيه الضرورة يقدّر بقدرها ، فيكتفى بالعود إلى ما يعود إليه قطعا وهو الجملة الأخيرة.

والجواب عنه : أنّ حصول الاستقلال بالأخيرة لا ينافي العود إلى غيرها سيّما إذا ثبت الدلالة عليه.

ومنها : أنّه لو عاد إلى الجميع فإن اضمر مع كلّ جملة استثناء لزم مخالفة الأصل (٢) ، وإن لم يضمر كان العامل فيما بعد الاستثناء أكثر من واحد ، ولا يجوز تعدّد العامل على معمول واحد في إعراب واحد ؛ لنصّ سيبويه عليه (٣) ، ولئلاّ يلزم اجتماع المؤثّرين على أثر واحد (٤).

والجواب : اختيار الشقّ الثاني ، ومنع لزوم تعدّد العامل فيما بعد الاستثناء ؛ لأنّ ذلك (٥) لو كان العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه ، وهو ممنوع ، بل العامل فيه « إلاّ » لقيام معنى الاستثناء بها كما ذهب إليه جماعة من النحاة (٦).

ولو سلّم فلا نسلّم عدم جواز اجتماع العاملين على معمول واحد ؛ لعدم حجّة يعتدّ بها عليه.

ونصّ سيبويه لا حجّة فيه ؛ على أنّه معارض بنصّ الكسائي على الجواز مطلقا (٧) ، وقول الفرّاء ؛ حيث ذهب إلى التشريك بينهما إن كان مقتضاهما واحدا (٨).

__________________

(١) في « ب » : « ينقل ».

(٢) أي أصالة عدم التقدير.

(٣) حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول ٣ : ٥٤.

( ٤ ـ ٦ ـ ٧ ـ ٨ ). حكاهم الشيخ حسن في معالم الدين : ١٣٥ و ١٣٦.

(٥) أي لأنّ ذلك يلزم لو كان.

٢٠٦

وحكاية عدم اجتماع العلل الإعرابيّة على معمول واحد ، واهية.

ويدلّ على الجواز قولهم : « قام زيد وذهب عمرو الظريفان » ؛ لأنّ العامل في الصفة هو العامل في الموصوف. وقد جوّزه سيبويه (١) ، وهو مخالف للحكم المنقول عنه.

ويدلّ عليه أيضا إخبارهم عن الشيء الواحد بأمرين متضادّين ، نحو : « هذا حلو حامض » ؛ إذ لا يجوز خلوّهما عن الضمير إجماعا ، فهو إمّا في كلّ منهما بخصوصه وهو باطل ؛ إذ يلزم منه كون كلّ منهما محكوما به على المبتدأ ، وهو جمع بين الضدّين ، أو في أحدهما بعينه دون الآخر ، فيلزم استقلال ما فيه الضمير بالخبريّة ، وانتفاؤها عن الخالي منه وهو خلاف المفروض ، أو فيهما ضمير واحد بالاشتراك ، فيلزم منه المطلوب.

ومنها : أنّه في الاستثناء من الاستثناء ـ كما لو قال : « عليّ عشرة إلاّ ستّة إلاّ ثلاثة » ـ يرجع الأخير إلى ما يليه دون ما تقدّمه ، فكذا في غيره ، دفعا للاشتراك (٢).

والجواب : أنّ الكلام في المتعدّد المعطوف بعضه على بعض ، وأين العطف هنا؟

واحتجّ المرتضى بصحّة الإطلاق (٣) ، والأصل فيه الحقيقة.

وهو لا ينافي ما اخترناه ، بل يؤكّده إلاّ أنّ كون الأصل في الاستعمال حقيقة ممنوع ، كما عرفت مرارا.

وبحسن (٤) الاستفهام (٥). وهو أيضا لا ينافيه ؛ لأنّ اللفظ لمّا كان حقيقة في الأمرين ، فيصحّ الاستفهام وإن كان ظاهرا في أحدهما ؛ لأنّ مجرّد الاحتمال يكفي لحسن الاستفهام.

ثمّ اعلم أنّ جميع ما ذكرناه من الخلاف ، والاختيار ، والأسئلة ، والأجوبة آت في كلّ استثناء متعقّب للمتعدّد إذا صحّ عوده إليه ، سواء كان المتعدّد جملا أو مفردات ، وسواء كان العامل فيها واحدا ، مثل : « اهجر بني فلان وبني فلان إلاّ الصالح منهم » أو كان مختلفا

__________________

(١) حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول ٣ : ٥٤.

(٢) حكاه الشيخ حسن في المصدر.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٢٥٠.

(٤) عطف على قوله : « بصحّة الإطلاق ».

(٥) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٢٥٠.

٢٠٧

مع اختلاف المعمول أيضا ، مثل : « اكس الفقراء وأطعم المساكين إلاّ الفسقة » وبدونه ، مثل « اضربوهم واشتموهم إلاّ فلانا ». وقد صرّح بعض النحاة بالعود إلى الأخير في الأخيرين (١).

هذا إذا صحّ العود إلى الجميع.

وأمّا إذا تأخّر عن مفردين أو أكثر يحتمل عوده إلى كلّ واحد ولا يمكن عوده إلى الجميع ، فعوده إلى الثاني (٢) أولى ، فاعلا كان أو مفعولا ؛ لأنّ الأصل فيه الاتّصال ، مثل « قتلت مائة مؤمن مائة كافر إلاّ اثنين ».

وإن تقدّم عليهما فالعود إلى الأوّل أولى ؛ لما ذكر ، نحو « استبدلت إلاّ زيدا أصحابنا بأصحابكم » و « ضرب إلاّ زيدا أصحابنا أصحابكم ».

وإذ عرفت ذلك ، فلا يخفى عليك تنزيل الفروع عليه في باب الأقارير ، كما إذا قال : « عليّ ألف درهم ومائة دينار إلاّ خمسين » و « عليّ عشرة وسبعة وخمسة إلاّ السبعة » ، وفي هذا المثال يرجع الأخير (٣) إلى الجميع دون ما قبله قطعا ؛ لاستغراقه له دونه.

تذنيب

قد عرفت (٤) أنّ محلّ النزاع ما لم يوجد فيه قرينة على إرادة العود إلى أحد الأمرين (٥) ، فلو وجدت ، يجب العمل بها بلا خلاف ، وهي كثيرة ، كبعض الضمائر ، والموصولات ، والإشارات في الاستثناء ؛ فإنّه قد يعلم منها اختصاصه بالأخيرة ، أو شموله للجميع.

ومن القرائن الدالّة على الرجوع إلى الأخيرة أن يتخلّل بينها وبين سابقها كلام طويل ، كما لو قال في صيغة الوقف : « وقفت على أولادي على أنّ من مات منهم وعقّب فنصيبه بين

__________________

(١) راجع المحصول ٣ : ٦٢.

(٢) أي فيما إذا كان المستثنى منه أمرين ، فالمراد به هو الأخير.

(٣) ليس لمفهوم « الأخير » هنا معنى محصّل ، لوحدة الاستثناء.

(٤) في ص ٧٨٢.

(٥) والمراد به الجميع والأخير.

٢٠٨

أولاده للذكر مثل حظّ الانثيين ، وإن لم يعقّب ، فنصيبه للذين في درجته. فإذا انقرضوا فهو مصروف إلى إخوتي إلاّ أن يفسق أحدهم » ، فالاستثناء يختصّ بـ « إخوتي ».

ومنها : ظهور الإضراب عن الاولى. والظاهر أنّه إنّما يتحقّق بأحد الأدوات الدالّة عليه ، أو بأن تختلفا نوعا بشرط عدم ضمير اسم الاولى في الثانية ، وعدم اشتراكهما في الغرض ، سواء اتّحدت القضيّة (١) ، مثل « أكرموهم ، وهؤلاء علماء إلاّ زيدا » فإنّ الاولى أمر والثانية خبر ، ومنه الجملة الأخيرة في آية القذف (٢) مع سابقها. أو لا ، مثل : « أكرم ربيعة ، والفقهاء هم الحجازيّون إلاّ زيدا ».

أو يختلفا اسما وحكما ، أو في أحدهما بالشرطين المذكورين وإن اتّحدتا نوعا ، مثل « أكرم ربيعة وأطعم مضر إلاّ الطوال » و « أكرم ربيعة وأكرم مضر إلاّ زيدا » و « أكرم ربيعة وأطعم ربيعة إلاّ زيدا ».

ثمّ اشتراط الاختلافات الثلاثة على سبيل منع الخلوّ لا منع الجمع ؛ فقد يجتمع الثلاثة وكلّ اثنين منها معا ، وتفصيل الأمثلة غير خفيّ.

وعلى ما ذكر يتحقّق عدم ظهور الإضراب إمّا بانتفاء الاختلافات الثلاثة ، سواء وجد الشرطان أو أحدهما ، أو لم يوجد شيء منهما ؛ لعدم تأثير الشرط بدون المشروط. وذلك بأن يتّحد الاسم الذي يصلح أن يكون مستثنى منه فيهما ، وكذا الحكم بمعنى المحكوم به ، ويختلف الاسم المحكوم عليه ؛ فإنّه يتعدّد الجملتان حينئذ مع عدم الاختلافات الثلاثة ، مثل « ضرب زيد ربيعة » و « ضرب عمرو ربيعة ».

أو بانتفاء الشرط الأوّل ، سواء اتّحدتا نوعا وحكما ، أو اختلفتا فيهما ، أو في أحدهما ، وسواء وجد الشرط الآخر أم لا ؛ لأنّ المشروط لا يؤثّر بدون شرطه ، نحو « أكرم ربيعة واستأجرهم ، وأكرم ربيعة وهم طوال ».

أو بانتفاء الشرط الثاني كذلك ، مثل « أكرم ربيعة ، واخلع عليهم » أو « وهم مقرّبون » فإنّ الغرض ـ وهو التعظيم ـ فيها متّحد.

__________________

(١) ومعيار اتّحاد القضيّة وتعدّدها هو اتّحاد الموضوع والمسند إليه وتعدّده.

(٢) النور (٢٤) : ٤ : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ... ).

٢٠٩

فصل [٤٣]

قد عرفت أنّ من المخصّصات المتّصلة الشرط ، وقد علم حدّه والفرق بينه وبين السبب فيما سبق (١).

وقد قسّموه إلى عقلي كالحياة للعلم ، وشرعي كالطهارة للصلاة ، ولغوي ، مثل « إن دخلت الدار فأنت طالق » فإنّ أهل اللغة وضعوا هذا التركيب وغيره ممّا يدخل فيه أحد أدوات الشرط المتقدّمة ؛ ليدلّ على أنّ ما دخلت عليه الأداة هو الشرط ، والآخر المعلّق به هو الجزاء (٢).

وأنت خبير بأنّ الشرط اللغوي ـ أي الشرط باصطلاح النحاة ـ لا يدخل في الشرط المعرّف في الاصول ـ وهو ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده وجوده ـ بل يدخل في السبب المعرّف في الاصول ـ وهو ما يلزم من وجوده الوجود ـ لأنّ المراد من التركيب المذكور أنّ الدخول سبب (٣) للطلاق يستلزم وجوده وجوده ، لا مجرّد كون عدمه مستلزما لعدمه من غير سببيّة ، فتقسيم الشرط المعرّف في الاصول إلى الأقسام الثلاثة خلط بين الاصطلاحين ، اللهمّ إلاّ أن يجعل المقسم ما يسمّى شرطا في الجملة.

فصل [٤٤]

الشرط اللغوي والجزاء إمّا يتّحدان أو يتعدّدان ، أو يتّحد أحدهما ويتعدّد الآخر. والمتعدّد إمّا على الجمع ، بأن يتوقّف المشروط (٤) على حصول الشرطين جميعا ، ويلزم من الشرط حصول المشروطين (٥) معا. أو على البدل ، بأن يحصل المشروط بحصول أيّ الشرطين كان ، ويلزم من الشرط حصول أحد المشروطين مبهما. فالأقسام تسعة (٦). وأمثلة الكلّ واضحة.

__________________

(١) سبق في ص ٧٦١.

(٢) راجع منتهى الوصول : ١٢٨.

(٣) في « أ ، ب » : « مسبّب ». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) هذا في صورة تعدّد الشرط.

(٥) هذا في صورة تعدّد المشروط والجزاء.

(٦) في هامش « أ » : « حاصلة من ضرب الثلاثة من أحدهما ـ أعني المتّحد والمتعدّد على الجمع والمتعدّد على البدل ـ في الثلاثة من الآخر ».

٢١٠

تفريع : إذا قال : « إن دخلتما الدار ، فأنتما طالقان » فدخلت إحداهما ، فقيل : تطلّق هي ؛ إذ العرف يحكم بأنّ كلاّ من الشرط والجزاء أحدهما (١).

وقيل : بل لا يطلّق شيء منهما ؛ إذ الشرط دخولهما معا (٢).

وقيل : بل تطلّقان معا ؛ لأنّ الشرط دخولهما بدلا (٣).

وممّا يتفرّع عليه أنّه لو قال : « إن كان زانيا ومحصنا فارجم » افتقر الرجم إليهما. وكذا لو قال : « إن شفيت ، فسالم وغانم حرّ » ـ وشفي ـ عتقا. ولو قال : « إن كان سارقا ، أو نبّاشا فاقطع » يكفي في القطع أحدهما. وكذا لو قال : « إن شفيت ، فسالم ، أو غانم [ حرّ ] (٤) » فشفي يعتق أحدهما فيعيّن (٥) أيّهما شاء.

تذنيب

الشرط إن وجد دفعة ، مثل « إن دخلت الدار ، فأنت طالق » فيتمّ المشروط عنده (٦) ، وإن وجد تدريجا ، مثل « إن قرأت هذه القصيدة ، فأنت طالق » فيوجد المشروط عند تكامل أجزائه (٧) ، وعند ارتفاع جزء إن شرط عدمه (٨).

فائدة

قيل : حكم الشرط حكم الاستثناء فيما ذكر من وجوب الاتّصال ، ورجوعه إلى الجميع ، أو الأخير (٩).

__________________

(١) راجع نهاية السؤل ٢ : ٤٤١.

(٢ و ٣) راجع شرح منتهى الوصول : ٢٦٨.

(٤) أضفناه لاستقامة العبارة.

(٥) في « ب » : « فتعيّن ».

(٦) أي عند الدخول.

(٧) أي أجزاء الشرط ، وهو في المثال بتكامل أجزاء القصيدة.

(٨) أي عدم الشرط ، أي شرط عدم القراءة. والمراد أنّه إذا قال : إن لم تقرئي القصيدة فأنت طالق ، فإذا قرأ القصيدة إلاّ جزءا منها ، تصير طالقا ، لأنّ عدم قراءة القصيدة ـ الذي هو الشرط ـ تحقّق حينئذ.

(٩) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣٣٥.

٢١١

والظاهر من كلام بعض دعوى الإجماع على عوده إلى الجميع (١).

وصرّح أبو حنيفة بالفرق بينهما ؛ حيث جعل الشرط للجميع ، والاستثناء للأخير (٢). وهو تحكّم.

وكيفيّة التفريع واضحة.

فصل [٤٥]

ومن المخصّصات المتّصلة ـ كما عرفت (٣) ـ الصفة ، وقصرها العامّ على بعض أفراده ظاهر من اللغة (٤) والعرف ، سواء كانت أخصّ منه مطلقا ، مثل : « أكرم قريشا الهاشميين » أو من وجه ، مثل : « أكرم بني تميم الطوال » ، وهي كالشرط في العود على متعدّد خلافا ، واختيارا.

ومن فروعه ما لو قال : « وقفت على أولادي وأولاد أولادي المحتاجين ». وجليّة الحال واضحة على ما اخترناه. وكذا لو تقدّمت الصفة عليهما ، كأن يقول : « وقفت على المحتاجين من كذا وكذا ».

فصل [٤٦]

ومنها ـ كما عرفت (٥) ـ : « الغاية » وألفاظها : « حتّى » و « إلى » مثل : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ )(٦). فالغاية ، وهي ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ) قصرت العامّ ، وهو ( النِّساءَ ) على بعض أفراده ، وهو غير الطاهرات.

و « حتّى » كما تكون مخصّصة للعموم فقد تكون مؤكّدة له ، مثل : « أعتق عبيدي حتّى الأصاغر ».

__________________

(١) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٢٨.

(٢) حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول ٣ : ٤٢ و ٤٣ ، وابن الحاجب في المصدر.

(٣) تقدّم في ص ٧٦١. وراجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٢٣٥ و ٢٨٠ ، والمحصول ٣ : ٢٧ و ٢٨ و ٦٩.

(٤) راجع البهجة المرضية ٢ : ٥١ ، باب النعت.

(٥) تقدّم في ص ٧٦١.

(٦) البقرة (٢) : ٢٢٢.

٢١٢

وكلّ واحد من الغاية وما قيّد بها قد يكون متّحدا ومتعدّدا على الجمع أو البدل ، فتأتى الأقسام التسعة كما في الشرط.

ومنع جماعة من تعدّد الغاية (١) ؛ لأنّ الشيء الواحد لا يعقل له نهايتان ، فالأشياء المتعدّدة التي يتوهّم كون كلّ منها غاية إن ترتّبت في الوقوع ، كان الأخير غاية ، وإن اتّفقت فيه ، فالمجموع هو الغاية. ثمّ الغاية كالصفة في العود على المتعدّد.

ومنها ـ كما عرفت (٢) ـ : « بدل البعض » مثل : « أكرم الناس ، العلماء منهم » ، ووجه كونه مخصّصا ظاهر. وحكمه في الرجوع على المتعدّد حكم سابقه.

فصل [٤٧]

قد أشرنا ـ فيما سبق (٣) ـ أنّ ممّا يصلح لأن يخصّص به « الحال » ؛ لأنّه وصف من جهة المعنى ، والتقييد به لو لم يفد لكان لغوا ، ولم يأت في فصيح الكلام ، فيفهم من قول القائل :

« أكرم زيدا صالحا » توقّف الإكرام على صلاحه ، ولو قال : « أنت طالق مريضة » لم تطلّق إلاّ في حال المرض.

وعلى هذا في قول القائل : « أكرم ربيعة صالحين » قصر الحال ـ وهو « صالحين » ـ العامّ ـ وهو « ربيعة » ـ على بعض أفراده وهو « الصلحاء ». وحكمه في الرجوع إلى متعدّد حكم سابقه.

تذنيب

التمييز وظرفا الزمان والمكان كما يمكن أن يحصل بها تقييد المطلقات ـ مثل : « أكرم زيدا تكلّما » أو « في هذا اليوم » أو « في هذا المكان » فإنّها قيّدت الإكرام بالإكرام اللساني ، وفي هذا الوقت الخاصّ والمكان الخاصّ ـ يمكن أن يحصل بها تخصيص العمومات أيضا ،

__________________

(١) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٣ : ٦٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣٣٧ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ١٤٤.

(٢) عرفت في ص ٧٦١.

(٣) سبق في ص ٧٦١.

٢١٣

مثل : « ضرب زيد قوّة » أو « في هذا اليوم » أو « المكان خير من ضرب عمرو » فإنّها خصّصت (١) العامّ وهو « ضرب زيد » ببعض أفراده. وحكمها في الرجوع على المتعدّد حكم الحال.

فصل [٤٨]

قد أشرنا فيما تقدّم (٢) أنّ المخصّصات المنفصلة تسعة :

الأوّل : العقل

والحقّ جواز التخصيص به خلافا لطائفة (٣).

لنا : قوله تعالى : ( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(٤) ، وقوله : ( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(٥) ؛ فإنّ العقل يحكم بامتناع خلقه لذاته ، وعدم قدرته على إيجاد مثله من كلّ جهة.

ولنا أيضا : قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٦) لحكم العقل بخروج من لا يفهم الخطاب ، كالصبيّ والمجنون.

واحتجّوا بأنّ المخصّص متأخّر ؛ لأنّ التخصيص بيان ، والبيان متأخّر عن المبيّن ، والعقل مقدّم على الخطاب ؛ وبالقياس على النسخ بجامع كونهما بيانا ؛ وبأنّ مثله لو كان تخصيصا لصحّت إرادة العموم لغة ؛ إذ التخصيص فرع كون المخصّص والباقي مسمّيات اللفظ ، وإطلاق اللفظ على مسمّياته صحيح قطعا مع أنّه لو اريد من العمومات المذكورة ما أخرجتم يخطأ لغة (٧).

والجواب عن الأوّل : أنّه إن اريد بتأخّر المخصّص تأخّر ذاته ، منعنا الصغرى ، وإن اريد به تأخّر وصفه ـ أعني كونه مبيّنا ـ منعنا الكبرى.

__________________

(١) في « ب » : « مخصّصة ».

(٢) تقدّم في ص ٧٦١.

(٣) حكاه الآمدي عن طائفة شاذّة من المتكلّمين في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣٣٩.

(٤) الرعد (١٣) : ١٦.

(٥) المائدة (٥) : ١٢٠.

(٦) آل عمران (٣) : ٩٧.

(٧) حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٢٩.

٢١٤

وعن الثاني بالفرق أوّلا ؛ لأنّ النسخ إمّا بيان انتهاء مدّة الحكم أو رفع الحكم ، وكلاهما ما لا يطّلع عليه عقول البشر بخلاف التخصيص ؛ فإنّ خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل.

وثانيا : بمنع علّيّة الجامع.

وثالثا : بإبطال أصل القياس بمقطوع اليد ، فإنّ غسلها كان واجبا ، وارتفع الوجوب بقطعها عقلا ، فهو نسخ مستفاد من العقل.

وعن الثالث : بصحّة إرادة الجميع لغة من غير لزوم تخطئة لغة ، وإنّما يلزم الكذب في المعنى ، والحاكم بأنّه كذب يجب الاحتراز عنه بالتخصيص هو العقل دون اللغة ، والخطأ لغة غير الكذب عقلا.

الثاني : الحسّ

مثل : ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ )(١) ، فإنّه عامّ يتناول السماء والشمس والقمر والعرش والكرسي. والحسّ يخصّصه ؛ إذ يعلم حسّا أنّه لم تؤت من هذه المذكورات شيئا.

وبعضهم لم يعدّه مخصّصا برأسه (٢) ؛ لأنّ الحاكم في الحقيقة هو العقل ، وهو آلة له.

الثالث : العادة والعرف الاستعمالي ، وهو على قسمين :

أحدهما : أن يغلب استعمال اسم العامّ في بعض أفراده حتّى صار حقيقة عرفيّة. ولا خلاف في تخصيص العموم به ؛ لأنّ بناء المحاورات على الفهم العرفي ، والمفروض تخصيص الاسم بذلك المسمّى عرفا ، كتخصيص « الدابّة » بذوات الأربع بعد كونها في اللغة لكلّ ما يدبّ (٣) ، و « الشواء » باللحم المشويّ بعد كونه في اللغة لكلّ ما يشوى من البيض وغيره (٤) ، و « الدار » و « السقف » و « الشمس » و « السراج » و « الوتد » بالمعاني المتعارفة ،

__________________

(١) النمل (٢٧) : ٢٣.

(٢) قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٢ : ٤٥٢.

(٣) القاموس المحيط ١ : ٦٧ ، « د ب ب ».

(٤) لسان العرب ١٤ : ٤٤٦ ، « ش. و. ي ».

٢١٥

دون سائر ما يسمّى بها أيضا ، كالشعريّ والآدمي والسماء والجبل (١).

وكيفيّة التفريع غير خفيّة في أبواب الأيمان والنذور.

وثانيهما : أن يطلق اسم العامّ عليه ، إلاّ أنّ الغالب أن لا يذكر معه إلاّ بقرينة ، أو قيد ، وكان المعتاد عند المخاطبين غيره ، ولا يكادون يفهمون عند الإطلاق دخوله فيه.

والحقّ أنّ هذا ـ أيضا ـ يخصّ به العامّ ، كتخصيص « أكل الرءوس » بغير رءوس العصافير ونحوها ، و « الأكل من الشجرة » بثمرها ؛ لأنّهما تنصرفان عادة إلى ما ذكر ، ولا يفهم العرف عند إطلاقهما إلاّ ذلك.

ويدلّ على ما اخترناه أنّه لو قال : « اشتر خبزا أو لحما » والمعتاد في البلد تناول خبز البرّ ولحم الضأن لم يفهم سواهما. فغلبة العادة تستلزم غلبة الاسم ، وهي تقتضي تخصّص الحكم بالغالب واعتبار خصوص العادة ، دون عموم العبارة.

ثمّ في اعتبار البلد أو المتكلّم وجهان.

وكيفية التفريع ظاهرة.

واحتجّ الخصم ـ وهو الأكثر ـ بأنّ اللفظ عامّ لغة ؛ لأنّه المفروض ، فيجب العمل به حتّى يثبت تخصّصه بدليل ، ولا دليل بالأصل ؛ لأنّه لم يوجد سوى العادة وليست بدليل (٢).

والجواب : منع عدم كونها دليلا فيما نحن فيه ، لما عرفت مرارا أنّ بناء التخاطب غالبا على ما يفهمه (٣) الناس في عرفهم.

الرابع : العرف الشرعي ، وتخصيص العامّ به ظاهر ، كتخصيص الصلاة بالأفعال المخصوصة بعد كونها لغة لمطلق الدعاء (٤).

__________________

(١) الشعريّ راجع إلى استعمال الدار فيه ، والآدمي إلى استعمال الدابّة فيه ، والسماء إلى استعمال السقف فيه ، والجبل إلى استعمال الوتد فيه. وجعل الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢١١ ، القاعدة ٧٦ ، الشمس ممّا قد يستعمل فيه السراج.

(٢) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٣٣.

(٣) في « ب » : « يفهم ».

(٤) الصحاح ٤ : ٢٤٠٢ ، « ص ل و ».

٢١٦

الخامس : النيّة ، والحقّ جواز تخصيص العامّ وتعميم الخاصّ به (١) ما لم يقم دلالة على خلافه ؛ لأنّ النيّة مؤثّرة في الأفعال ؛ لاعتبارها في العبادات ومعظمها أفعال.

مثال الأوّل : أن يقول : « نسائي طوالق » ويستثني بقلبه واحدة ، أو يقول : « إن لبست الثوب الفلانيّ فأنت عليّ كظهر امّي » ونوى به وقتا مخصوصا ؛ فإنّه يختصّ به ، ويقبل قوله في نيّة ذلك ، أو يحلف أن لا يسلّم على زيد ، فسلّم على جماعة هو فيهم واستثناه بقلبه ، بخلاف ما لو حلف على أن لا يدخل عليه فدخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه ؛ لأنّ الدخول فعل واحد في نفسه فلا يقبل التخصيص.

ومثال الثاني : أن يحلف أن لا يضربه ، ونوى أن لا يؤلمه ، حنث بكلّ ما يؤلمه من خنق وعضّ وغيرهما ، أو يحلف أن لا يدخل هذا البيت ، وأراد به هجران قوم ساكنين فيه ، فدخل عليهم في بيت آخر ، حنث على ما قيل (٢) ، أو حلفت المرأة أن لا تخرج في تهنئة وتعزية ونوت أن لا تخرج أصلا ، حنثت بخروجها لغيرهما.

السادس : فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كأن يقول : « الوصال في الصوم » أو « استقبال القبلة عند قضاء الحاجة حرام » ، ثمّ يفعل ذلك. وقد صرّح أكثر المسلمين كالإماميّة والحنفيّة والشافعيّة والحنابلة على أنّ العموم يخصّص به ، إلاّ أنّ فيه إجمالا (٣).

والتفصيل أن يقال : إنّ حكم الخطاب إمّا يخصّه ، أو يخصّ الامّة ، أو يتناولهما. وعلى التقادير إمّا يقال بوجوب التأسّي مطلقا ، أو في تلك الواقعة ، أو لا.

فإن اختصّ به كأن يقول : « الوصال حرام عليّ دائما » ثمّ واصل كان ذلك تخصيصا في حقّه ، سواء قيل بوجوب التأسّي أم لا ، وهو في الحقيقة نسخ لتحريمه ؛ لارتفاع حكم العامّ (٤) بالكلّيّة.

__________________

(١) أي بالخامس ، وهو النيّة.

(٢) راجع المغني لابن قدامة ١١ : ٢٨٣.

(٣) راجع : العدّة في أصول الفقه ١ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣٥٤.

(٤) أي حكم القول العامّ كما يأتي في ص ٨٠٣.

٢١٧

وإن اختصّ بالامّة ، أو تناولهما كأن يقول : « استقبال القبلة للحاجة حرام عليكم » أو « على كلّ مكلّف » ثمّ استقبل ، فعلى القول بعدم وجوب التأسّي لا يكون تخصيصا ولا نسخا على الأوّل (١) لا بالنسبة إليه ولا إلينا ، ووجهه ظاهر ، ويكون نسخا في حقّه دون الامّة على الثاني ، وسرّه واضح.

وعلى القول بوجوبه لا يكون تخصيصا ولا نسخا في حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأوّل ؛ لعدم اندراجه تحت الخطاب. إنّما الكلام في كونه تخصيصا ، أو نسخا في حقّ الامّة فقط على الأوّل ، وفي حقّه وحقّ الامّة على الثاني ، فذهب جماعة إلى أنّه تخصيص للحكم في حقّ الامّة على الأوّل وفي حقّ الجميع على الثاني (٢) ، ويجب عليهم العمل بالفعل سواء ثبت التأسّي في ذلك الفعل بدليل خاصّ ، أو في جميع أفعاله بدليل عامّ.

واحتجّوا عليه بأنّ الفعل خاصّ والحكم عامّ ، والعمل بالخاصّ متعيّن (٣).

وأنت خبير بأنّ لزوم العمل بالفعل للجميع نسخ للحكم لا تخصيص له ؛ إذ لا يبقى التحريم حينئذ لا في حقّه ولا في حقّ الغير ، ويرتفع الحكم العامّ بالكلّيّة ، ولا يبقى معمولا به في مادّة ، فلا يكون تخصيصا ، بل نسخا ، فالقائل بوجوب الاتّباع ولزوم العمل بالفعل على الجميع يلزمه القول بكون الفعل ناسخا لا مخصّصا.

ومن قال : إنّه مخصّص فقد غفل ، أو أراد من التخصيص النسخ. وحينئذ يلزم من قول هذه الجماعة إلغاء القول الدالّ على الحكم بالكلّيّة.

وذهب طائفة إلى أنّه إن ثبت الاتّباع في ذلك الفعل بدليل خاصّ فهو نسخ لتحريمه ، وإن ثبت بدليل عامّ في جميع أفعاله ، صار هذا الدليل العامّ مخصّصا بالحكم العامّ (٤) ؛ لأنّ الأوّل أعمّ من الثاني ؛ لدلالته على وجوب متابعته في جميع الأفعال ، واختصاص الثاني ببعضها ، فيخرج هو عن الحكم العامّ دون امّته ، فيجب عليهم مقتضى دليل الاتّباع ، ولا يلزم عليهم

__________________

(١) وهو صورة الاختصاص بالامّة.

(٢) راجع : المحصول ٣ : ٨٢ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٣) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٣٢.

(٤) راجع : المستصفى : ٢٧٦ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣٥٥.

٢١٨

التأسّي في ذلك الفعل ، فلو قال : « كشف الفخذ حرام على كلّ مكلّف » ثمّ كشف ، وثبت وجوب اتّباعه بمثل قوله تعالى : ( فَاتَّبِعُوهُ )(١) لصارت الآية مخصّصة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حتّى يحرم على الامّة كشف الفخذ ، ولا يلزم عليهم اتّباعه في فعله المخالف له. وهذا هو الحقّ ؛ لأنّ فيه عملا بالعمومين ، أعني قوله الدالّ على الحكم العامّ ؛ حيث ثبت منه حرمة الكشف علينا ، والدليل العامّ على الاتّباع ؛ حيث خصّص بغير ذلك الفعل ، فيثبت منه وجوب التأسّي في غيره ، بخلاف ما لو ابقي الثاني على عمومه وجوّز الكشف للامّة أيضا ؛ فإنّه يلزم إلغاء الأوّل بالكلّيّة.

ولا ريب أنّ الجمع مهما أمكن أولى من إلغاء أحدهما رأسا. وحاصله أنّ ما اخترناه قول بالتخصيص ، وما ذهب إليه من خالفنا (٢) قول بالنسخ ، والتخصيص راجح على النسخ.

وعلى ما قرّرناه يظهر أنّ جواب المخالف بأنّ المخصّص مجموع دليل الاتّباع والفعل وهو أخصّ من الحكم العامّ فلا يلزم ما ذكر (٣) ، فاسد ؛ لأنّ المجموع يرفع حكم القول العامّ بالكلّيّة فلا يبقى معمولا به في مادّة ليكون مخصّصا بالمجموع ويكون المجموع أخصّ منه ، بل يكون منسوخا ، فيلزم ما ذكر من إلغائه رأسا.

وكيفيّة التفريع أنّ الزاني المحصن يرجم مع أنّ مقتضى عموم قوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا )(٤) أن يجلد ؛ لتخصيصه برجمه الماعز (٥).

السابع : تقريره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو فعل أحد بحضرته ما ينافي العامّ ولم ينكره ، كان مخصّصا للفاعل ؛ لأنّ سكوته دليل جواز الفعل ؛ إذ علم من عادته صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لو لم يكن جائزا لما سكت ، وإذا كان تقريره دليل جواز الفعل لزم التخصيص به ؛ جمعا بين الدليلين.

ثمّ لو تبيّن معنى هو العلّة لتقريره ، حمل على الفاعل من توافقه فيه ، وإلاّ اختصّ به.

والتفريع عليه ظاهر.

__________________

(١) الأنعام (٦) : ١٥٣.

(٢) تقدّما في ص ٨٠٢.

(٣) تقدّما في ص ٨٠٢.

(٤) النور (٢٤) : ٢.

(٥) تقدّم في ص ٤٤٩ و ٤٦٧.

٢١٩

الثامن : الإجماع ، والحجّة على كونه مخصّصا للعموم ـ مضافا إلى الإجماع ـ : أنّه دليل معتبر قطعي يجب العمل بمقتضاه ، فيجب التخصيص به جمعا بين الدليلين ، وقد وقع التخصيص به ، كتخصيص آية القذف (١) ؛ فإنّها تدلّ على وجوب ثمانين جلدة للحرّ والعبد ، وأوجبوا على العبد نصف الثمانين ، فخصّوها بالحرّ (٢) ، والمخصّص ليس إلاّ الإجماع ؛ لأنّ قوله تعالى : ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ )(٣) إنّما ورد في حقّ الإماء ، وقياس العبيد عليها باطل ، ولو سلّم صحّته لم يصلح ناسخا. غاية الأمر أن يكون سندا للإجماع. هذا.

وقد صرّح جماعة بأنّ التخصيص بالإجماع عند التحقيق يكون لتضمّنه نصّا مخصّصا (٤) ، فعمل المجمعين على خلاف العامّ مبنيّ على تضمّنه النصّ المخصّص ، حتّى لو أجمعوا على العمل بخلاف ما هو نصّ من غير عموم ، كان إجماعهم متضمّنا لنصّ ناسخ لذلك النصّ ؛ لامتناع عملهم على خلاف النصّ من غير عثورهم على ناسخ له ، ولذا قالوا : إنّ الإجماع لا يكون ناسخا ، وإنّما الناسخ ما يتضمّنه من النصّ. فما قالوا من أنّ الإجماع يكون مخصّصا ولا يكون ناسخا (٥) ، مجرّد اصطلاح ، مبنيّ على أنّ النسخ لا يكون إلاّ بخطاب الشرع ، والتخصيص قد يكون بغيره من العقل والعرف وغيرهما. وعند التحقيق لا فرق ؛ إذ كلّ من النسخ والتخصيص في الظاهر بالإجماع ، وفي الواقع بما يتضمّنه من النصّ. وعلى هذا ينبغي أن لا يعدّ الإجماع مخصّصا برأسه.

التاسع : الدليل السمعي من الآيات والأخبار. وفي تخصيص كلّ منهما به أو بالآخر يتصوّر أقسام :

[ القسم ] الأوّل : تخصيص الكتاب بالكتاب. والحقّ جوازه مطلقا.

__________________

(١) النور (٢٤) : ٤ : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ... ).

(٢) حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٣٢.

(٣) النساء (٤) : ٢٥.

(٤ و ٥) راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٣٢ ، ونهاية السؤل ٢ : ٤٥٩.

٢٢٠