عين الحياة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

عين الحياة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد هاشم الميلاني
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

والديباج بألوان مختلفة ، وحشوها المسك والكافور والعنبر ، وذلك قول الله عزّوجلّ : ( وَفُرُشٍ مَّرفُوعَةٍ ) (١).

إذا أدخل المؤمن إلى منازله في الجنة ، ووضع على رأسه تاج الملك والكرامة ، ألبس حلل الذهب والفضة والياقوت والدر المنظوم في الاكليل تحت التاج.

قال : والبس سبعين حلّة حرير بألوان مختلفة ، وضروب مختلفة منسوجة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت الأحمر ، فذلك قوله عزّوجلّ : ( يُحَلَّونَ فِيهَا مِن أََسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤلُؤاً وَلِبَاسُهُم فِيهَا حَرِيرٌ ) (٢).

فاذا جلس المؤمن على سريره اهتز سريره فرحاً ، فاذا استقر لولي الله جلّ وعزّ منازله في الجنان استأذن عليه الملك الموكلّ بجنانه ليهنّئه بكرامة الله عزّوجلّ ايّاه ، فيقول له خدّام المؤمن من الوصفاء والوصائف : مكانك فإنّ وليّ الله قد اتكأ على أريكته ، وزوجته الحوراء تهيّأ له ، فاصبر لوليّ الله.

قال : فتخرج عليه زوجته الحوراء من خيمة لها تمشي مقبلة وحولها وصائفها ، وعليها سبعون حلّة منسوجة بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد ، وهي من مسك وعنبر ، وعلى رأسها تاج الكرامة ، وعليها نعلان من ذهب مكلّلتان بالياقوت واللؤلؤ ، شراكهما ياقوت أحمر ، فاذا دنت من وليّ الله فهمّ أن يقوم إليها شوقاً فتقول له : يا وليّ الله ليس هذا يوم تعب ولا نصب ، فلا تقم أنا لك وأنت لي.

قال : فيعتنقان مقدار خمسمائة عام من أعوام الدنيا لا يملّها ولا تملّه ، قال :

__________________

١ ـ الواقعة : ٣٤.

٢ ـ الحج : ٢٣.

٦١

فاذا فتر بعض الفتور من غير ملالة نظر إلى عنقها ، فاذا عليها قلائد من قصب من ياقوت أحمر ، وسطها لوح صفحته درّة مكتوب فيها : أنت ياوليّ الله حبيبي ، وأنا الحوراء حبيبتك ، إليك تناهت نفسي ، واليّ تناهت نفسك ، ثم يبعث الله إليه ألف ملك يهنّئونه بالجنّة ويزوّجونه بالحوراء.

قال : فينتهون إلى أوّل باب من جنانه ، فيقولون للملك الموكلّ بأبواب جنانه : استأذن لنا على وليّ الله فإنّ الله بعثنا إليه نهنّئه ، فيقول لهم الملك : حتى أقول للحاجب فيعلمه بمكانكم.

قال : فيدخل الملك إلى الحاجب وبينه وبين الحاجب ثلاث جنان حتى ينتهي إلى أول باب ، فيقول للحاجب : انّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم رب العالمين تبارك وتعالى ليهنّئوا وليّ الله ، وقد سألوني أن آذن لهم عليه.

فيقول الحاجب : انّه ليعظم عليّ أن أستأذن لأحد على وليّ الله وهو مع زوجته الحوراء ، قال : وبين الحاجب وبين وليّ الله جنتان.

قال : فيدخل الحاجب إلى القيم فيقول له : انّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم ربّ العزّة يهنّئون وليّ الله فاستأذن لهم ، فيتقدّم القيّم إلى الخدام فيقول لهم : ان رسل الجبّار على باب العرصة ، وهم ألف ملك أرسلهم الله يهنّئون وليّ الله فأعلموه بمكانهم.

قال : فيعلمونه ، فيؤذن للملائكة فيدخلون على وليّ الله وهو في الغرفة ، ولها ألف باب ، وعلى كلّ باب من أبوابها ملك موكلّ به ، فاذا أذن للملائكة بالدخول على وليّ الله فتح كلّ ملك بابه الموكل به.

قال : فيدخل القيّم كل ملك من باب من أبواب الغرفة ، قال : فيبلّغونه رسالة

٦٢

الجبار جلّ وعزّ ، وذلك قول الله تعالى : ( وَالمَلاَئِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيكُم ... ) (١).

قال : وذلك قوله جلّ وعزّ : ( وَإذَا رَأَيتَ ثَمَّ رَأيتَ نَعِيمَاً وَمُلكاً كَبِيراً ) (٢) يعني بذلك وليّ الله وما هو فيه من الكرامة والنعيم والملك العظيم الكبير ، انّ الملائكة من رسل الله عزّ ذكره يستأذنون عليه ، فلا يدخلون عليه الاّ باذنه ، فلذلك المُلك العظيم الكبير قال : والأنهار تجري من تحت مساكنهم ، وذلك قول الله عزّوجلّ : ( تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأنهَارُ ) (٣).

والثمار دانية منهم ، وهو قوله عزّوجلّ : ( وَدَانِيَةً عَلَيهِم ظِلاَلُها وَذُلَّلَت قُطُوفُهَا تَذلِيلاً ) (٤) من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه وهو متكىء ، وانّ الأنواع من الفاكهة ليقلن لوليّ الله : يا وليّ الله كلني قبل أن تأكل هذا قبلي.

قال : وليس من مؤمن في الجنة الاّ وله جنان كثيرة ، معروشات وغير معروشات ، وأنهار من خمر ، وأنهار من ماء ، وأنهار من لبن ، وأنهار من عسل ، فاذا دعا وليّ الله بغذائه اُتي بما تشتهي نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمّى شهوته.

قال : ثم يتخلّى مع اخوانه ويزور بعضهم بعضاً ، ويتنعّمون في جنّاتهم في ظل ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وأطيب من ذلك لكل مؤمن سبعون زوجة حوراء ، أربع نسوه من الآدميين ، والمؤمن ساعة مع الحوراء ،

__________________

١ ـ الرعد : ٢٣ ـ ٢٤.

٢ ـ الانسان : ٢٠.

٣ ـ الكهف : ٣١.

٤ ـ الانسان : ١٤.

٦٣

وساعة مع الآدميّة ، وساعة يخلو بنفسه على الأرائك متكئاً ينظر بعضهم إلى بعض.

وانّ المؤمن ليغشاه شعاع نور وهو على أريكته ، ويقول لخدّامه : ما هذا الشعاع اللامع لعلّ الجبار لحظني؟ فيقول له خدّامه : قدوس قدوس جلّ جلال الله ، بل هذه حوراء من نسائك ممن لم تدخل بها بعد ، قد أشرقت عليك من خيمتها شوقاً إليك وقد تعرّضت لك ، وأحبّت لقاءك ، فلما أن رأتك متكئاً على سريرك تبسّمت نحوك شوقاً إليك ، فالشعاع الذي رأيت والنور الذي غشيك هو من بياض ثغرها وصفائه ونقائه ورقته.

قال : فيقول وليّ الله ، أئذنوا لها فتنزل إليّ ، فيبتدر إليها ألف وصيف وألف وصيفة يبشرونها بذلك ، فتنزل إليه من خيمتها وعليها سبعون حلّة منسوجة بالذهب والفضة ، مكلّلة بالدر والياقوت والزبرجد ، صبغهنّ المسك والعنبر بألوان مختلفة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلّة طولها سبعون ذراعاً ، وعرض ما بين منكبيها عشرة أذرع.

فاذا دنت من وليّ الله أقبل الخدّام بصحائف الذهب والفضة ، فيها الدر والياقوت والزبرجد ، فينثرونها عليها ، ثم يعانقها وتعانقه ، فلا يملّ ولا تملّ.

قال : ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : أما الجنان المذكورة في الكتاب فانّهن جنّة عدن ، وجنّة الفردوس ، وجنّة نعيم ، وجنّة المأوى.

قال : انّ لله عزّوجلّ جناناً محفوفة بهذه الجنان ، وانّ المؤمن ليكون له من الجنان ما أحبّ واشتهى ، يتنعّم فيهنّ كيف يشاء ، وإذا أراد المؤمن شيئاً أو اشتهى انّما دعواه فيها إذا أراد أن يقول : « سبحانك اللهم » فاذا قالها تبادرت إليه الخدم بما اشتهى من غير أن يكون طلبه منهم أو أمر به ، وذلك قول الله عزّوجلّ : ( دَعوَاهُم

٦٤

فِيها سُبحَانَكَ اللّهمّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا السَّلاَمٌ ) (١) يعني الخدام.

قال : ( وَآخِرُ دَعوَاهُم اَنِ الحَمدُ لله رَبِّ العَالَمِين ) (٢) يعني بذلك عندما يقضون من لذّاتهم من الجماع والطعام والشراب يحمدون الله عزّوجلّ عند فراغتهم ... (٣).

وروي بسند صحيح عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه سئل عن قوله تعالى : ( فِيهِنَّ خَيرَاتٌ حِسَانٌ ) (٤) قال : هنّ صوالح المؤمنات العارفات.

قال : قلت : ( حُورٌ مَّقصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ ) (٥) قال : الحور هنّ البيض المضمومات المخدّرات في خيام الدر والياقوت والمرجان ، لكلّ خيمة أبواب ، على كلّ باب سبعون كاعباً (٦) حجّاباً لهنّ ، ويأتيهنّ في كلّ يوم كرامة الله عزّ ذكره ليبشر الله عزّوجلّ بهنّ المؤمنين (٧).

وروي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : أحسنوا الظن بالله واعلموا انّ للجنّة ثمانية أبواب ، عرض كلّ باب منها مسيرة أربعين سنة (٨).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : ما في الجنّة شجرة الاّ ساقها من ذهب.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ أهل الجنة لا يتغوّطون ، ولا يبولون ، طعامهم جشأ

__________________

١ ـ يونس : ١٠.

٢ ـ يونس : ١٠.

٣ ـ الكافي ٨ : ٩٧ ضمن حديث ٦٩ ـ عنه البحار ٨ : ١٥٨ ضمن حديث ٩٨ باب ٢٣.

٤ ـ الرحمن : ٧٠.

٥ ـ الرحمن : ٧٢.

٦ ـ الكاعب : الجارية حين تبدو ثديها للنبود أي الارتفاع عن الصدر.

٧ ـ الكافي ٨ : ١٥٦ ح ١٤٧ ـ عنه البحار ٨ : ١٦١ ح ١٠٠ ح ٢٣.

٨ ـ الخصال : ٤٠٨ ح ٧ باب ٨ ـ عنه البحار ٨ : ١٣١ ح ٣٢ باب ٢٣.

٦٥

ورشح كالمسك.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي أنزل الكتاب على محمد انّ أهل الجنة ليزدادون جمالاً وحسناً كما يزدادون في الدنيا قباحة وهرماً.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ أدنى أهل الجنّة منزلاً من له ثمانون ألف خادم ، واثنان وتسعون درجة ... (١).

وروي بسند معتبر انّه سأل الزنديق أبا عبدالله عليه‌السلام ، فقال : من أين قالوا : انّ أهل الجنة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها ، فاذا أكلها عادت كهيئتها؟ قال : نعم ذلك على قياس السراج يأتي القابس فيقتبس منه فلا ينقص من ضوئه شيء وقد امتلأت الدنيا منه سرجاً.

قال : أليسوا يأكلون ويشربون؟ وتزعم انّه لا تكون لهم الحاجة ، قال : بلى لانّ غذاءهم رقيق لا ثقل له ، بل يخرج من أجسادهم بالعرق.

قال : فكيف تكون الحوراء في كلّ ما أتاها زوجها عذراء؟ قال : انّها خلقت من الطيب لا تعتريها عاهة ، ولا تخالط جسمها آفة ، ولا يجري في ثقبها شيء ، ولا يدنّسها حيض ، فالرحم ملتزقة ، إذ ليس فيه لسوى الإحليل مجرى.

قال : فهي تلبس سبعين حلّة ويرى زوجها مخّ سقاها من وراء حللها وبدنها؟ قال : نعم كما يرى أحدكم الدراهم إذا اُلقيت في ماء صاف قدره قيد رمح (٢).

وروي بسند معتبر عن عبدالله بن عليّ انّه لقى بلال مؤذن رسول الله صلّى الله

__________________

١ ـ روضة الواعظين : ٥٠٥ ـ مجلس في ذكر الجنّة وكيفيتها.

٢ ـ البحار ٨ : ١٣٦ ح ٤٨ باب ٢٣ ـ عن الاحتجاج.

٦٦

عليه وآله وسلّم ، فسأله فيما سأله عن وصف بناء الجنّة ، قال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : انّ سور الجنّة لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة ، ولبنة من ياقوت ، وملاطها المسك الأذفر ، وشرفها الياقوت الأحمر والأخضر والأصفر.

قلت : فما أبوابها؟ قال : أبوابها مختلفة ، باب الرحمة من ياقوتة حمراء ، قلت : فما حلقته؟ قال : ويحك كفّ عني فقد كلّفتني شططاً ، قلت : ما أنا بكاف عنك حتى تؤدي إليّ ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك.

قال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم أما باب الصبر فباب صغير ، مصراع واحد من ياقوتة حمراء لا حلق له ، وأما باب الشكر فانّه من ياقوتة بيضاء لها مصراعان مسيرة ما بينهما خمسمائة عام ، له ضجيج وحنين ، يقول : اللهم جئني بأهلي ، قلت : هل يتكلّم الباب؟ قال : نعم ينطقه ذو الجلال والاكرام ، وأما باب البلاء ، قلت : أليس باب البلاء هو باب الصبر؟

قال : لا ، قلت : فما البلاء؟ قال : المصائب والأسقام والأمراض والجذام ، وهو باب من ياقوتة صفراء مصراع واحد ما أقلّ من يدخل منه ، قلت : رحمك الله زدني وتفضّل عليّ فانّي فقير.

قال : يا غلام لقد كلّفتني شططاً ، أما الباب الأعظم فيدخل منه العباد الصالحون ، وهم أهل الزهد والورع والراغبون إلى الله عزّوجلّ المستأنسون به ، قلت : رحمك الله فاذا دخلو الجنة ماذا يصنعون؟

قال : يسيرون على نهرين في مصافّ في سفن الياقوت ، مجاذيفها (١) اللؤلؤ ،

__________________

١ ـ المجذاف : ما يجذف به السفينة.

٦٧

فيها ملائكة من نور ، عليهم ثياب خضر شديدة خضرتها ، قلت : رحمك الله هل يكون من النور أخضر؟ قال : انّ الثياب هي خضر ولكن فيها نور من نور ربّ العالمين جلّ جلاله ، يسيرون على حافتي ذلك النهر ، قلت : فما اسم ذلك النهر؟

قال : جنة المأوى ، قلت : هل وسطها غير هذا؟ قال : نعم ، جنّة عدن وهي في وسط الجنان ، فأما جنة عدن فسورها ياقوت أحمر ، وحصباؤها اللؤلؤ ، قلت : فهل فيها غيرها؟

قال : نعم جنة الفردوس ، قلت : وكيف سورها؟ قال : ويحك كفّ عني حيّرت عليّ قلبي ، قلت : بل أنت الفاعل بي ذلك ، ما أنا بكاف عنك حتى تتمّ لي الصفة وتخبرني عن سورها.

قال : سورها نور ، فقلت : والغرف التي هي فيها ، قال : هي من نور ربّ العالمين ، قلت : زدني رحمك الله ، قال : ويحك إلى هذا انتهى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، طوبى لك إن أنت وصلت إلى بعض هذه الصفة ، وطوبى لمن يؤمن بهذا(١).

عزيزي هذه سعة رحمة الله وتلك التي مرّت شدّة غضبه ، وهذا العيش المشوب بمئات الآلاف من أوساخ الدنيا الفانية لا يجدر به أن تحرم نفسك هذه الرحمة ، وتبليها بذلك العذاب الشديد ، ولم يُجعل طريق نجاة إلى أحد سوى العمل الصالح.

وقد طلب العمل الصالح من الشريف والوضيع ، والعالم والجاهل ، والشاب والشيخ ، وان اطمأننت برحمة الله فقد لا نكون مؤهّلين لها ، وان اعتمدت على

__________________

١ ـ البحار ٨ : ١١٦ ح ١ باب ٢٣ ـ عن أمالي الصدوق : ١٧٧ ضمن حديث ١ مجلس ٣٨.

٦٨

الشفاعة من أين لك العلم بشمولها لك ، وان قلت انّي من الشيعة ، فأيّ أوصاف الشيعة التي بُيّنت وذُكرت في محلّها تكون فيك؟

انّ الشيعة بمعنى التابع ، فبأيّ شيء تابعنا أئمتنا كما ينبغي؟ لقد أفنينا عمرنا بالآمال والغفلة ، ولا ينفع الندم عند حلول الموت ، ألا تفكر انّ هذا الجسم الذي لا يطيق حرّ الشمس كيف يطيق ذلك العذاب؟ أنت لا تتحمل ألم الشوك إذا دخل في جسمك أو لدغ النحل ، فكيف بك بسمّ الحيّات والعقارب ، نرجو أن يهدي الله تعالى جميع المؤمنين إلى طريق النجاة ويفيقهم عن نوم الغلفة بمحمد وآله الطاهرين.

٦٩

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر اخفض صوتك عن الجنائز ، وعند القتال ، وعند القرآن.

يا أباذر إذا تبعت جنازة فليكن عملك فيها التفكر والخشوع ، واعلم انّك لا حق به.

اعلم انّه يمكن أن يكون المراد من خفض الصوت هو التكلم بصوت هادىء في هذه المواطن الثلاث لأنّها زمان الانتباه ، والصياح يدلّ على الغفلة ، أو يكون كناية عن ترك الكلام سوى ذكر الله والدعاء ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال :

اغتنموا الدعاء عند خمسة مواطن ، عند قراءة القرآن ، وعند الأذان ، وعند نزول الغيث ، وعند إلتقاء الصفين للشهادة ، وعند دعوة المظلوم ، فانّه ليس لها حجاب دون العرش (١).

ويحتمل أن يكون كناية عن السكوت المطلق ، لأنّ عند تشييع الجنازة والقتال يكون التفكر والاعتبار ، فلابدّ أن يفكر في قلبه ويذكر الله ، وأن يسكت عند قراءة القرآن وينصت له لأنّ ظاهر الآية الكريمة وبعض الأحاديث وجوب السكوت والانصات عند قراءة القرآن وحرمة التكلّم.

وذهب أكثر العلماء إلى انّ وجوبه يختصّ بمن اقتدى بإمام الجماعة الذي يقرأ بصوت عال ، فيجب السكوت والانصات ، وان لم يكن واجباً فسنّة مؤكّدة وله

__________________

١ ـ أمالي الصدوق : ٩٧ ح ٧ مجلس ٢٣ ـ عنه البحار ٩٣ : ٣٤٣ ح ١ باب ٢١.

٧٠

ثواب عظيم.

فقد روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : من استمع إلى حرفاً
من كتاب الله عزّوجلّ من غير قراءة كتب الله له حسنة ، ومحا عنه سيئة ، ورفع له
درجة ... (١).

ويحتمل أن يكون المراد منه في الجنائز ترك الجزع والفزع والصياح المنافي للصبر والرضى بالقضاء ، كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : صوتان ملعونان يبغضهما الله ، إعوال عند مصيبة ، وصوت عند نعمة ، يعني النوح والغناء (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد تبع جنازه ، فسمع رجلاً يضحك ، فقال : كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب ، وكأنّ الذي نرى من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نبوّئهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم ، كأنّا مخلّدون بعدهم.

ثم قد نسينا كلّ واعظ وواعظة ، ورُمينا بكلّ فادح وجائحة (٣) ، طوبى لمن ذلّ في نفسه ، وطاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وحسنت خليقته ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من لسانه ، وعزل عن الناس شرّه ، ووسعته السنّة ، ولم يُنسب الى البدعة(٤).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٦١٢ ح ٦ باب ثواب قراءة القرآن.

٢ ـ البحار ٨٢ : ١٠١ ضمن حديث ٤٨ باب ٥٩.

٣ ـ الجائحة : الآفة تهلك الأصل والفرع.

٤ ـ نهج البلاغة قصار الحكم رقم ١٢٢ و١٢٣ ـ عنه البحار ٨١ : ٢٦٨ ح ٢٧ باب ٥٠.

٧١

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر انّ فيكم خلقين ، الضحك من غير عجب ، والكسل من غير سهو.

لقد ذمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الفقرة خصلتين :

الأولى : كثرة الضحك ، وهذا ناشىء من الغفلة والغرور ، والاّ فمن اطلع على أحوال نفسه وذنوبه وحذر الأهوال التي أمامه فهو قليل الضحك كثير الحزن ، كما جاء في صفات المؤمن انّ بشره في وجهه وحزنه في قلبه.

ولقد ذمّ أيضاً أن يكون الانسان عبوساً بحيث ينفر الناس منه ، بل المؤمن لابد أن يكون مرحاً متبسّماً ، ولا بأس بالمزاح والطبع الحسن لكن الإكثار من الضحك والمزاح مذموم.

فقد روي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : كثرة المزاح يذهب بماء الوجه ، وكثرة الضحك يمحو الايمان ، وكثرة الكذب يذهب بالبهاء(١).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : لا تمزح فيذهب نورك ... (٢).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : انّ داود قال لسليمان عليه‌السلام : يا بنيّ اياك وكثرة الضحك ، فإنّ كثرة الضحك تترك العبد فقيراً يوم القيامة ... (٣).

____________

١ ـ أمالي الصدوق : ٢٢٣ ح ٤ مجلس ٤٦ ـ عنه البحار ٧٦ : ٥٨ ح ١ باب ١٠٦.

٢ ـ البحار ٧٦ : ٥٨ ح ٢ باب ١٠٦ ـ عن أمالي الصدوق.

٣ ـ قرب الاسناد : ٦٩ ح ٢٢١ ـ عنه البحار ٧٦ : ٥٨ ح ٣ باب ١٠٦.

٧٢

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : ثلاث فيهنّ المقت من الله عزّوجلّ ، نوم من غير سهر ، وضحك من غير عجب ، وأكل على الشبع (١).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : ... عجب لمن أيقن بالنار كيف يضحك (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اياك وكثرة الضحك فانّه يميت القلب (٣).

وقال أبو عبدالله عليه‌السلام : كم ممن أكثر ضحكه لاعباً يكثر يوم القيامة بكاؤه ، وكم ممن أكثر بكاؤه على ذنبه خائفاً يكثر يوم القيامة في الجنة سروره وضحكه (٤).

وقال عليه‌السلام : كان ضحك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التبسم ، فاجتاز ذات يوم بفئةٍ من الأنصار وإذا هم يتحدّثون ويضحكون بملء أفواههم ، فقال : يا هؤلاء من غرّه منكم أمله ، وقصر به في الخير عمله ، فليطلع في القبور ، وليعتبر بالنشور ، واذكروا الموت فانّه هادم اللذات (٥).

وقال أبو عبدالله عليه‌السلام : كثرة الضحك تميث الدين كما يميث الماء الملح (٦).

وقال عليه‌السلام : انّ من الجهل الضحك من غير عجب ، قال : وكان يقول : لا

__________________

١ ـ الخصال : ٨٩ ح ٢٥ باب ٣ ـ عنه البحار ٧٦ : ٥٨ ح ٤ باب ١٠٦.

٢ ـ معاني الأخبار : ٣٣٤ ضمن حديث ١ ـ عنه البحار ٧٦ : ٥٩ ح ٦ باب ١٠٦.

٣ ـ البحار ٧٦ : ٥٩ ح ٦ باب ١٠٦.

٤ ـ البحار ٧٦ : ٥٩ ح ٧ باب ١٠٦ ـ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام.

٥ ـ أمالي الطوسي : ٥٢٢ ح ٦٣ مجلس ١٨ ـ عنه البحار ٧٦ : ٥٩ ح ٨ باب ١٠٦.

٦ ـ الكافي ٢ : ٦٦٤ ح ٦ ـ الوسائل ٨ : ٤٨١ ح ٢ باب ٨٣.

٧٣

تبدينّ عن واضحة (١) وقد عملت الأعمال الفاضحة ، ولا يأمن البيات من عمل السيئات(٢).

وقال عليه‌السلام : إذا أحببت رجلاً فلا تمازحه ولا تماره (٣).

وقال عليه‌السلام : القهقهة من الشيطان (٤).

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : اياكم والمزاح ، فانّه يجرّ السخيمة ، ويورث الضغينة ، وهو السب الأصغر (٥).

وروي عن أبي الحسن عليه‌السلام انّه قال في وصيّة له لبعض ولده : اياك والمزاح فانّه يذهب بنور ايمانك ، ويستخف بمروءتك (٦).

وروي بسند صحيح عن معمر بن خلاد انّه قال : سألت أبا الحسن [ الرضا ] عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟ فقال : لا بأس ما لم يكن ، فظننت انّه عنى الفحش.

ثم قال : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتيه الأعرابي فيهدي له الهدية ثم يقول مكانه : أعطنا ثمن هديتنا ، فيضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان إذا اغتمّ يقول : ما فعل الأعرابي ليته أتانا (٧).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : ما من مؤمن الاّ وفيه دعابة ، قلت : وما

__________________

١ ـ الواضحة : الاسنان التي تبدو عند الضحك.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٦٤ ح ٧ ـ الوسائل ٨ : ٤٧٩ ح ١ باب ٨٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٦٦٤ ح ٩ ـ الوسائل ٨ : ٤٨١ ح ٣ باب ٨٣.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٦٤ ح ١٠ ـ الوسائل ٨ : ٤٧٩ ح ١ باب ٨١.

٥ ـ الكافي ٢ : ٦٦٤ ح ١٢ ـ الوسائل ٨ : ٤٨٢ ح ٩ باب ٨٣.

٦ ـ الكافي ٢ : ٦٦٥ ح ١٩ ـ الوسائل ٨ : ٤٨١ ح ٨ باب ٨٣.

٧ ـ الكافي ٢ : ٦٦٣ ح ١ ـ الوسائل ٨ : ٤٧٧ ح ١ باب ٨٠.

٧٤

الدعابة؟ قال : المزاح (١).

وروي عن يونس الشيباني انّه قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟ قلت : قليل ، قال : فلا تفعلوا فإنّ الداعبة من حسن الخلق ، وانّك لتدخل بها السرور على أخيك ، ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يداعب الرجل يريد أن يسرّه (٢).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : ضحك المؤمن التبسم (٣).

وروي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : إذا قهقهت فقل حين تفرغ : « اللهم لا تمقتني » (٤).

وروي عن أبي الحسن الاوّل عليه‌السلام انّه قال : كان يحيى بن زكريّا عليه‌السلام يبكي ولا يضحك ، وكان عيسى بن مريم عليه‌السلام يضحك ويبكي ، وكان الذي يصنع عيسى عليه‌السلام أفضل من الذي كان يصنع يحيى عليه‌السلام (٥).

الخصلة الثانية : الكسل والضعف في العبادة ، وهو من صفات المنافقين ، وناشىء من ضعف الايمان واليقين ، وموجب الحرمان من السعادات الأبدية ، بل انّ المؤمن لابدّ أن يكون نشطاً في العبادة ، متوجهاً نحوها بكلّ جدّ ، وأن يعمل الأعمال الصالحة بشوق وشعف ، ولا يؤخرها فإن للتأخير آفات.

روي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : كان أبي يقول : إذا هممت بخير فبادر ،

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٦٦٣ ح ٢ ـ الوسائل ٨ : ٤٧٧ ح ٣ باب ٨٠.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٦٣ ح ٣ ـ الوسائل ٨ : ٤٧٨ ح ٤ باب ٨٠.

٣ ـ الكافي ٢ : ٦٦٤ ح ٥ ـ الوسائل ٨ : ٤٧٩ ح ٣ باب ٨١.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٦٤ ح ١٣ ـ الوسائل ٨ : ٤٧٩ ح ٢ باب ٨١.

٥ ـ الكافي ٢ : ٦٦٥ ح ٢٠ ـ الوسائل ٨ : ٤٧٧ ح ٢ باب ٨٠.

٧٥

فانّك لا تدري ما يحدث (١).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : من همّ بخير فليعجّله ولا يؤخّره ، فإنّ العبد ربما عمل العمل فيقول الله تبارك وتعالى : قد غفرت لك ولا أكتب عليك شيئاً أبداً ، ومن همّ بسيّئة فلا يعملها ، فانّه ربما عمل العبد السيئة فيراه الله سبحانه فيقول : لا وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً (٢).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : من همّ بشيء من الخير فليعجّله ، فإنّ كلّ شيء فيه تأخير فإنّ للشيطان فيه نظرة (٣).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : انّ الله ثقّل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينهم يوم القيامة ، وانّ الله عزّوجلّ خفّف الشرّ على أهل الدنيا كخفته في موازينهم يوم القيامة (٤).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : اياك وخصلتين ، الضجر والكسل ، فانّك ان ضجرت لم تصبر على حق ، وان كسلت لم تؤدّ حقّاً (٥).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ١٤٢ ح ٣ ـ عنه البحار ٧١ ـ ٢٢٢ ح ٣٢ باب ٦٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ١٤٢ ح ٦ ـ عنه البحار ٧١ : ٢٢٣ ح ٣٥ باب ٦٢ ـ أمالي المفيد : ١٢٧.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٤٣ ح ٩ ـ عنه البحار ٧١ : ٢٢٥ ح ٣٨ باب ٦٢.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٤٣ ح ١٠ ـ عنه البحار ٧١ : ٢٢٥ ح ٣٩ باب ٦٢.

٥ ـ البحار ٧٣ : ١٥٩ ح ٢ باب ١٢٧ ـ عن أمالي الصدوق.

٧٦

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه.

يا أباذر الحق ثقيل مرّ ، والباطل خفيف حلو ، وربّ شهوة ساعة تورث حزناً طويلاً.

يا أباذر لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يرى الناس في جنب الله تعالى أمثال الأباعر ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حاقر لها.

يا أباذر لا تصيب حقيقة الايمان حتى ترى الناس كلّهم حمقى في دينهم ، عقلاء في دنياهم.

لقد مضى في أوّل الكتاب ذكر بعض شرائط العبادة وحضور القلب ، والظاهر عند كل أحد انّ الحق يثقل استماعه وعمله على الانسان ، كما انّ أكثر الناس لو قيل لهم انّ هذا العمل خير لكم ينزعجون وإن كان صلاحهم فيه.

وانّ الأعمال الباطلة سواء أكانت في المعاصي والشهوات أم في إحداث البدع سهلة على الطبع ، حلوة في المذاق ، وأكثر الناس يأنسون بسماع الباطل كما يفرح أرباب العزة بالمدح وان علموا بكذبه ، وانّ ذكر أعمالهم السيئة بالحسن ، ومدحهم بالخير والصلاح ملائم لطبعهم مع علمهم بأنّ هذا لا ينفعهم ولا يصلحهم ، ولا يدفع العذاب عنهم.

واعلم انّ لعدم الاعتناء بالناس وجهين : أحدهما ممدوح والآخر مذموم ، أما الممدوح الذي هو من أرفع الكمالات أن يرى الله مالك نفعه وضرره ، ولا دخل للناس في ذلك ، فلا يلتفت إليهم في العبادات ، ولا يخشى لومهم في الأعمال

٧٧

الحسنة التي يريد فعلها ، ويختار رضى الله فيما لو دار الأمر بين رضاه ورضى المخلوق ، ويحصل هذا المعنى من طريق معرفة عظمة الله تعالى ، وكلّما ازداد الانسان يقيناً ازدادت هذه الصفة كمالاً.

وأما المذموم هو أن يحتقر الناس ، ولا يعتبرهم شيئاً مذكوراً ويتكبّر عليهم ، وهذا ناشىء عن العجب والغفلة عن عيوب نفسه والاعتقاد بكمال نفسه ، وهذا من أقبح الصفات الذميمة ، وقد أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلامه هذا إلى كلا القسمين ، بأن يرى الناس في جنب الله أباعر لا يلاحظهم في طاعة الله تعالى ، كما لو صلّى شخص وإلى جنبه أباعر فلا يلاحظها البتة ، فلابدّ أن تسهل عنده عظمة الناس في جنب عظمة الله سبحانه.

ثم أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المعنى الثاني بأنّه لو رجع إلى نفسه يكون أحقر حاقر لها ، أي لا يكون الباعث له على عدم الاعتناء بالناس الاعتقاد بعظمة نفسه.

روي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله (١).

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : ... لا دين لمن دان بطاعِة مَن عَصى الله تبارك وتعالى ... (٢).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : من طلب رضا الناس بسخط الله ، جعل الله حامده من الناس ذاماً (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث آخر : لا تسخطوا الله برضا أحد من خلقه ،

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣٧٣ ح ٥ ـ عنه البحار ٧٣ : ٣٩٣ ح ٥ باب ١٤٢.

٢ ـ البحار ٢ : ١١٧ ضمن حديث ١٩ باب ١٦.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٧٢ ح ١ ـ عنه البحار ٧٣ : ٣٩١ ح ١ باب ١٤٢.

٧٨

ولا تتقربوا إلى أحد من الخلق بتباعد من الله عزّوجلّ ، فإنّ الله ليس بينه وبين أحد من الخلق شيء يعطيه به خيراً أو يصرف به عنه سوءاً الاّ بطاعته وابتغاء مرضاته.

انّ طاعة الله نجاح كلّ خير يبتغى ، ونجاة من كلّ شرّ يتقى ، وانّ الله يعصم من أطاعه ولا يعتصم منه من عصاه ، ولا يجد الهارب من الله مهرباً فإنّ أمر الله نازل باذلاله ولو كره الخلائق (١).

انّ الله تعالى قد مدح أمير المؤمنين عليه‌السلام وخواصه بأنّهم يجاهدون في سبيله ولا يخافون في الله لومة لائم.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تأخذكم في الله لومة لائم ، يكفكم الله من أرادكم وبغى عليكم (٢).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : من حقّر مؤمناً مسكيناً أو غير مسكين لم يزل الله عزّوجلّ حاقراً له ماقتاً حتى يرجع عن محقرته اياه (٣).

وقد مضت بعض أحايث هذا الموضوع وستذكر بعضها ، وما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الناس كلّهم حمقى في دينهم ، عقلاء في دنياهم » يمكن أن يكون المراد أغلب الناس ، أو يكون المراد من لفظ الناس أهل الدنيا.

__________________

١ ـ البحار ٧٣ : ٣٩٤ ح ١٠ باب ١٤٢ ـ عن أمالي الصدوق.

٢ ـ البحار ٧٣ : ٣٦٠ ح ٣ باب ٨٩ ـ عن أمالي الطوسي.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٥١ ح ٤.

٧٩

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب ، فهو أهون لحسابك غداً ، وزن نفسك قبل أن توزن ، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله منك خافية.

اعلم انّ الذي يريد النجاة من عذاب الله والفوز بالسعادة الأبدية لابدّ أن لا يأمن من نفسه ولا ينخدع بها ، ويكون متفحّصاً لعيوبها دائماً كما يتفحّص عيوب أعدائه لأنّ العيوب مختفية في النفس ، وتظهر له عيوب اخرى بعد ازالة كلّ عيب من نفسه ، كما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من انّ المؤمن لا ينتفي عنه عيب الاّ بدا له عيب آخر.

ولابدّ أن يكون الانسان محاسباً لنفسه دائماً ، وليعلم انّه سيجيء يوم يحاسب على أعماله ، فليحاسب نفسه اليوم وليعد الجواب لأنّ التغافل لا يفيد في رفع حساب الآخرة ، كالطير الذي يغمض عينيه إذا اريد اصطياده.

واعلم انّ العمر رأس المال في تحصيل السعادة الأبدية ، فليحاسب نفسه كلّ يوم وانّه بماذا صرف دقائق عمره ، ان صرفها في الطاعة نفعته ، وإن صرفها في المعصية ضرّته ، وان لم يصرفها في أيّ شيء فلقد أتلف رأس المال وضيّعه وأعطاه للشيطان.

ففي الصورة الأولى يشوق نفسه ويرغبها في الزيادة ، وفي الصورة الثانية والثالثة يلومها ويؤذيها ، ويأخذ منها غرامة مهما أمكن من توبة وإنابة ، ويتدارك ما

٨٠