عين الحياة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

عين الحياة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد هاشم الميلاني
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر من أحبّ أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوّء مقعده من النار.

يا أباذر من مات وفي قلبه مثقال ذرّة من كبر لم يجد رائحة الجنة الاّ أن يتوب قبل ذلك ، فقال رجل : يا رسول الله انّي ليعجبني الجمال حتى وددت انّ علاقة سوطي وفتال نعلي حسن ، فهل يرهب على ذلك؟ قال : كيف تجد قلبك؟

قال : أجده عارفاً للحق ، مطمئنّاً إليه ، قال : ليس ذلك بالكبر ولكن الكبر ان تترك الحق وتتجاوزه إلى غيره ، وتنظر إلى الناس ولا ترى انّ احداً عرضه كعرضك ، ولا دمه كدمك.

يا أباذر أكثر من يدخل النار المستكبرون ، فقال رجل : وهل ينجو من الكبر أحد يا رسول الله؟ قال : نعم من لبس الصوف ، وركب الحمار ، وحلب العنز ، وجالس المساكين.

يا أباذر من حمل بضاعته فقد برىء من الكبر ، يعني ما يشترى من السوق.

يا أباذر من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله عزوجل إليه يوم القيامة.

يا أباذر من رفع ذيله ، وخصف نعله ، وعفر وجهه فقد برىء من الكبر.

يا أباذر من كان له قميصان فليلبسنّ أحدهما ، وليلبسنّ الآخر أخاه.

يا أباذر سيكون ناس من أمتي يولدون في النعيم ، ويغذون به ، همتهم ألوان الطعام والشراب ، ويمدحون بالقول أولئك شرار أمتي.

يا أباذر من ترك لبس الجمال وهو يقدر عليه تواضعاً لله عزّوجلّ فقد كساه حلّة الكرامة.

يا أباذر طوبى لمن تواضع لله تعالى في غير منقصة ، وأذلّ نفسه في غير مسكنة ،

٣٨١

وأنفق مالاً جمعه في غير معصية ، ورحم أهل الذلّ والمسكنة ، وخالط أهل الفقه والحكمة ، طوبى لمن صلحت سريرته ، وحسنت علانيته ، وعزل عن الناس شرّه ، طوبى لمن عمل بعلمه ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله.

يا أباذر البس الخشن من اللباس ، والضيق من الثياب لئلاّ يجد الفخر فيك مسلكاً.

بما أنّ أكثر مطالب هذه الفقرات الشريفة قد مرّت سابقاً فنوضّح باقي الأمور في طيّ مصابيح :

( المصباح الأول )

في ذمّ التكبر

وقد مرّ مجملاً منه في باب التواضع ، فاعلم انّ التكبّر من أقبح الصفات الذميمة ، ويوجب الذل في الدنيا والآخرة ، وهو السبب لكفر وعناد كفّار كلّ قوم ، وانّ أول معصية عُصي بها الرب لهي معصية الشيطان حيث تكبر ولم يسجد لآدم عليه‌السلام ، فلعن أبد الآباد.

وكما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة القاصعة :

الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى (١) وحرماً على غيره ، واصطفاهما لجلاله.

وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم

__________________

١ ـ الحمى : ما حميته عن وصول الغير إليه والتصرف فيه.

٣٨٢

بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : ( اِنّى خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَاذِا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُّوحي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسجَدَ المَلاَئِكَةُ كُلُّهُم أَجمَعُونَ * اِلاَّ اِبلِيسَ ) (١).

إعترضَتهُ الحميّة فافتخر على آدم بخَلقِهِ ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ الله امام المتعصّبين ، وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبيّة ، ونازع الله رداء الجبريّة ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل ، ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره ، ووضعه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً ، وأعدّ له في الآخرة سعيراً.

ولو أراد الله أن يخلق آدم من نورٍ يخطف الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رواؤه (٢) ، وطيبٍ يأخذ الأنفاس عَرفُهُ (٣) لفعل ، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة ، ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله ، تمييزاً بالاختبار لهم ، ونفياً للاستكبار عنهم ، وإبعاداً للخُيلاء منهم.

فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس إذ أحبط عمله الطويل ، وجَهدُه الجهيد ، وكان قد عبدالله ستة آلاف سنة ، لا يُدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة ، عن كبر ساعةٍ واحدةٍ ، فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته؟

[ كلاّ ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً ، انّ حكمه في أهل السماء والأرض لواحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة (٤) في اباحة حمى حرّمه على العالمين ] (٥).

__________________

١ ـ ص : ٧٤ و٧١.

٢ ـ الرواء ـ بضم ففتح ـ : حسن المنظر.

٣ ـ العرف ـ بالفتح ـ : الرائحة.

٤ ـ الهوادة ـ بالفتح ـ : اللين والرخصة.

٥ ـ لم يكن ما وضعناه بين المعكوفتين في المتن الفارسي.

٣٨٣

فاحذروا عباد الله عدوّ الله أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم (١) بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، [ فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد (٢) ، وأغرق (٣) إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال : ( رَبِّ بِمَا أَغوَيتَنِي لاَُزَيِّنَنَّ لَهُم في الأَرضِ وَلأغوِيَنَّهُم أََجمَعِينَ ) (٤).

قذفاً بغيب بعيد ، ورجماً بظنّ غير مصيب ، صدّقه به أبناء الحميّة ، واخوان العصبيّة ، وفرسان الكبر والجاهلية ، حتى اذا انقادت له الجامحة منكم ، واستحكمت الطماعيّة منه فيكم ، فنجمت الحال من السرّ الخفي إلى الأمر الجلي ، واستفحل سلطانه عليكم ، ودلف (٥) بجنوده نحوكم.

فأقحموكم (٦) ولجات (٧) الذّل ، وأحلّوكم ورطات القتل ، وأوطؤوكم اثخان الجراحة ، طعناً في عيونكم ، وحزّاً في حلوقكم ، ودقّاً لمناخركم ، وقصداً لمقاتلكم ، وسوقاً بخزائم القهر إلى النار المعدّة لكم.

فأصبح أعظم في دينكم حرجاً ، وأورى (٨) في دنياكم قدحاً ، من الذين أصبحتم لهم مناصبين ، وعليهم متألّبين ، فاجعلوا عليه حدّكم (٩) وله جدّكم.

فلعمر الله لقد فخر على أصلكم ، ووقع في حسبكم ، ودفع في نسبكم ،

__________________

١ ـ يستفزكم : يستنهضكم لما يريد.

٢ ـ فوق السهم : جعل له فوقاً ، والفوق موضع الوتر من السهم.

٣ ـ أغرق النازع : إذا استوفى مدّ قوسه.

٤ ـ الحجر : ٣٩.

٥ ـ دلفت الكتيبة في الحرب : تقدّمت.

٦ ـ أقحموكم : أدخلوكم بغتة.

٧ ـ الولجات : جمع ولجة ـ بالتحريك ـ : كهف يستتر فيه المارة من مطر ونحوه.

٨ ـ أورى : أي أشدّ قرحاً للنار.

٩ ـ حدّكم : غضبكم وحدّتكم.

٣٨٤

وأجلب بخيله عليكم ، وقصد برجله سبيلكم ، يقتنصونكم بكلّ مكان ، ويضربون منكم كلّ بنان ، لا تمتنعون بحيلة ، ولا تدفعون بعزيمة ، في حومة ذلّ ، وحلقة ضيق ، وعرصة موت ، وجولة بلاء.

فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبيّة وأحقاد الجاهليّة ، فأنّما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ونزعاته ونفثاته ] (١).

واعتمدوا على وضع التذلّل على رؤوسكم ، والقاء التعزّز تحت أقدامكم ، وخلع التكبر من أعناقكم ، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوّكم ابليس وجنوده ، فإنّ له من كلّ أمّة جنوداً وأعواناً ورجلاً وفرساناً.

ولا تكونوا كالمتكبّر (٢) على ابن أمّه من غير ما فضلٍ جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب ، ونفخ في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة ، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة.

[ ألا وقد أمعنتم (٣) في البغي ، وأفسدتم في الأرض مصارحة (٤) لله بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة ، فالله الله في كبر الحميّة ، وفخر الجاهلية فانّه ملاقح الشنآن ، ومنافخ الشيطان التي خدع بها الامم الماضية ، والقرون الخالية ، حتى أعنقوا في حنادس جهالته ، ومهاوي ضلالته ، وذللاً عن سياقه ، سلساً في قياده ، أمراً تشابهت القلوب فيه ، وتتابعت القرون عليه ، وكبراً تضايقت الصدور به.

__________________

١ ـ ليس ما وضعناه بين المعكوفتين من المتن الفارسي.

٢ ـ يعني به قابيل.

٣ ـ أمعنتم : بالغتم.

٤ ـ المصارحة : التظاهر.

٣٨٥

ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبّروا عن حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم ، وألقوا الهجينة (١) على ربهم ، وجاحدوا الله على ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، مغالبة لآلائه ، فانّهم قواعد أساس العصبية ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف اعتزاء الجاهلية ] (٢).

فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أصداداً ، ولا لفضله عندكم حسّاداً ، [ ولا تطيعوا الأعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحتكم مرضهم ، وأدخلتم في حقكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، وأحلاس (٣) العقوق.

اتخذتم ابليس مطايا ضلال ، وجنداً بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم ، استراقاً لعقولكم ، ودخولاً في عيونكم ، ونفثاً في أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله ، وموطئ قدمه ، ومأخذ يده ].

فاعتبروا بما أصاب الأُمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ، ووقائعه ومثلاته ، واتعظوا بمثاوي خدودهم ، ومصارع جنوبهم ، واستعيذوا بالله من لواقح الكبر ، كما تستعيذونه من طوارق الدهر.

فلو رخّص الله في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه ، ولكنّه سبحانه كرّه إليهم التكابر ، ورضي لهم التواضع ، فألصقوا بالأرض خدودهم ، وعفّروا في التراب وجوههم ، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين ، وكانوا قوماً

__________________

١ ـ الهجينة : الفعلة القبيحة المستهجنة.

٢ ـ اعتزاء الجاهلية : تفاخرهم بأنسابهم ، كلّ منهم يعتزي أي ينتسب إلى أبيه وما فوقه من أجداده.

٣ ـ الأحلاس جمع حلس ـ بالكسر ـ : كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازماً له ، فقيل لكلام ملازم لشيء : حلسه.

٣٨٦

مستضعفين ، قد اختبرهم الله بالمخمصة (١) ، وابتلاهم بالمجهدة (٢) ، وامتحنهم بالمخاوف ، ومخضهم بالمكاره.

فلا تعتبروا الرضى والسخط بالمال والولد جهلاً بمواقع الفتنة ، والاختبار في موضع الغنى والاقتدار ، فقد قال سبحانه وتعالى : ( أَيَحسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَالٍ وَبَنِينَ * نُسارِعُ لَهُم فِي الخَيرَاتِ بَل لا يَشعُرُونَ ) (٣) فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم.

ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما‌السلام على فرعون ، وعليهما مدارع الصوف ، وبأيديهما العصي ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ، ودوام عزّه ، فقال : ( ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ ، وبقاء الملك ، وهما بما ترون من حال الفقر والذل ، فهلاّ ألقى عليهما أساورة من ذهب؟ ) اعظاماً للذهب وجمعه ، واحتقاراً للصوف ولبسه.

ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العقيان (٤) ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرضين لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلّت الأنباء ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها.

ولكنّ الله سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى

__________________

١ ـ المخمصة : الجوع.

٢ ـ المجهدة : المشقة.

٣ ـ المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦.

٤ ـ العقيان : نوع من الذهب ينمو في معدنه.

٣٨٧

الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى.

ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا تُرام ، وعزّة لا تُضام ، وملك تمدّ نحوه أعناق الرجال ، وتشدّ إليه عقد الرحال ، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار ، وأبعد لهم في الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيات مشتركة ، والحسنات مقتسمة.

ولكنّ الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أُموراً له خاصة ، لا تشوبها من غيرها شائبة ، وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل.

ألا ترون انّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً ، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقلّ نتائق (١) الدنيا مدراً (٢) ، وأضيق بطون الأودية قطراً ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة (٣) ، وعيون وشلة (٤) ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خفّ ، ولا حافر ، ولا ظِلف.

ثم أمر آدم عليه‌السلام وولده أن يثنوا أعطافهم (٥) نحوه ، فصار مثابة لمنتجع (٦)

__________________

١ ـ النتائق جمع نتيقة : البقاع المرتفعة.

٢ ـ المدر : قطع الطين اليابس.

٣ ـ دمثة : لينة يصعب السير فيها والاستنبات منها.

٤ ـ وشلة كفرحة : قليلة الماء.

٥ ـ ثنى عطفه إليه : مال وتوجه إليه.

٦ ـ منتجع الاسفار : محلّ الفائدة منها.

٣٨٨

أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم ، تهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة (١) ، مهاوي (٢) وفجاج (٣) عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتى يهزّوا مناكبهم ذللاً يهلّلون لله حوله ، ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له.

قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم ، وشوّهوا بأعفاء الشعور محاسن خَلقهم ، ابتلاء عظيماً ، وامتحاناً شديداً ، واختباراً مبيناً ، وتمحيصاً بليغاً ، جعله الله سبباً لرحمته ، ووصلة إلى جنّته.

ولو أراد سبحانه ان يضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام ، بين جنات وأنهار وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البنى ، متصل القرى ، بين برّة (٤) سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف (٥) محدقة ، وعراص مغدقة (٦) ، ورياض ناظرة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء.

ولو كان الأساس المحمول عليها ، والأحجار المرفوع بها ، بين زمرّدةٍ خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّفت ذلك مصارعة الشك في الصدور ، ولوضع مجاهدة ابليس عن القلوب ، ولنقى معتلج الريب من الناس.

ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، اخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، واسكاناً للتذلّل في نفوسهم ، وليجلع ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله ، وأسباباً ذللا لعفوه.

__________________

١ ـ السحيقة : البعيدة.

٢ ـ المهاوي : منخفضات الأراضي.

٣ ـ الفجاج : الطرق الواسعة بين الجبال.

٤ ـ البرّة : الحنطة ، والسمراء أجودها.

٥ ـ الارياف : الاراضي الخصبة.

٦ ـ المغدقة : من أغدق المطر كثر ماؤه.

٣٨٩

[ فالله الله في عاجل البغي ، وآجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكبر ، فانّها مصيدة ابليس العظمى ، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة ، فما تكدي أبداً ، ولا تشوي أحداً ، لا عالماً لعلمه ، ولا مقلاًّ في طِمره (١) ].

وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيّام المفروضات ، تسكيناً لأطرافهم (٢) ، وتخشيعاً لأبصارهم ، وتذليلاً لنفوسهم ، وتخفيضاً لقلوبهم ، واذهاباً للخيلاء عنهم ، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً ، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً ، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذلّلاً مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر.

انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر ، وقدع طوالع الكبر ... (٣).

وبما انّ خطبة القاصعة طويلة جداً ذكرنا هنا حاصل بعض مضامينها لكثرة فوائدها ، ومن أراد الاطلاع على مفاسد الكبر كما هو حقّه لابدّ أن يطالع تمام الخطبة الشريفة (٤).

__________________

١ ـ الطِمر : الثوب الخلق أو الكساء البالي من غير الصوف.

٢ ـ الأطراف : الأيدي والأرجل.

٣ ـ نهج البلاغة خطبة رقم ١٩٢ ( القاصعة ).

٤ ـ أقول : نورد تمام الخطبة هنا لمزيد الفائدة والاطلاع على مفاسد الكبر كما هو حقه :

فقال عليه‌السلام : « ... ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء الاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم ، فانكم تتعصّبون لامر ما يعرف له سبب ولا علّة ، أما ابليس

٣٩٠

__________________

فتعصّب على آدم لاصله ، وطعن عليه في خلقته ، فقال : أنا ناريّ وأنت طينيّ.

واما الاغنياء من مترفة الامم ، فتعصّبوا لآثار مواقع النعم ، فقالوا : ( نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بعذّبيين ) فإن كان لابدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الافعال ، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل ، بالاخلاق الرغيبه والاحلام العظيمة ، والاخطار الجليلة ، والآثار المحمودة.

فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذمام ، والطاعة للبر ، والمعصية للكبر ، والاخذ بالفضل ، والكف عن البغي ، والاعظام للقتل ، والانصاف للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد في الأرض ، واحذروا ما نزل بالأُمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال ، وذميم الأعمال ، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم ، واحذروا أن تكونوا أمثالهم.

فاذا تفكرتم في تفاوت حاليهم ، فألزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم ، وزاحت الاعداء له عنهم ، ومدّت العافية به عليهم ، وانقادت النعمة له معهم ، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة ، واللزوم للاُلفة ، والتحاضّ عليها ، والتواصي بها ، اجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم ، وأوهن منهم من تضاغن القلوب وتشاحن الصدور وتدابر النفوس ، وتخاذل الأيدي ، وتدبرّوا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم ، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء ، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء ، وأجهد العباد بلاء ، وأضيق أهل الدنيا حالاً.

اتخذتهم الفراعنة عبيداً فساموهم سوء العذاب ، وجرّعوهم المرار ، فلم تبرح الحال بهم في ذلّ الهلكة ، وقهر الغلبة ، لا يجدون حيلة في امتناع ، ولا سبيلاً إلى دفاع ، حتى إذا رأى الله سبحانه جدّ الصبر منهم على الأذى في محبته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً ، فأبدلهم العزّ مكان الذل ، والأمن مكان الخوف ، فصاروا ملوكاً حكّاماً ، وأئمة أعلاماً ، وقد بلغت الكرامة من الله لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم.

فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة ، والاهواء مؤتلفة ، والقلوب معتدلة ، والأيدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم واحدة ، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين ، وملوكاً على رقاب العالمين ، فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتت الالفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعبوا مختلفين ، وتفرّقوا متحاربين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين.

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني اسرائيل عليهم‌السلام ، فما أشدّ اعتدال الأحوال ، وأقرب اشتباه الأمثال ، تأمّلوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرّقهم ليالي كانت الاكاسرة والقياصرة أرباباً لهم ، يحتازونهم عن ريف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا ، إلى منبت الشيح ، ومها في الريح ونكد المعاش ، فتركوهم عالة

٣٩١

____________

مساكين اخوان دبرٍ ووبرٍ ، أذلّ الاُمم داراً ، وأجدبهم قراراً لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها ، فالاحوال مضطربة ، والايدي مختلفة ، والكثرة متفرّقة ، في بلاء أزل واطباق جهل من بنات موؤدة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة.

فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، والتفت الملّة بهم في عوائد بركتها ، فأصبحوا في نعمتها غرقين ، وفي خضرة عيشها فكهين ، قد تربّعت الأمور بهم في ظلّ سلطان قاهر ، وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب ، وتعطّفت الأمور عليهم في ذُرى ملك ثابت ، فهم حكام على العالمين ، وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم ، ويمضون الاحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تغمز لهم قناة ، ولا تقرع لهم صفاة.

ألا وانكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية ، فإنّ الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الاُمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلّها ، ويأوون إلى كنفها بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجل من كلّ خطر ، واعلموا انكم صرتم بعد الهجرة أعراباً ، وبعد الموالاة أحزاباً ، ما تتعلّقون من الإسلام الاّ باسمه ، ولا تعرفون من الايمان الاّ رسمه.

تقولون : النار ولا العار ، كأنّكم تريدون أن تُكفئو الإسلام على وجهه انتهاكاً لحريمه ، ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه ، وأمناً بين خلقه ، وانكم ان لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم الاّ المقارعة بالسيف حتى يحكم الله بينكم.

وانّ عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه ، وأيامه ووقائعه ، فلا تستبطئوا وعيده جهلاً بأخذه ، وتهاوناً ببطشه ، ويأساً من بأسه ، فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم الاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي ، والحلماء لترك التناهي.

ألا وقد قطعتم قيد الإسلام ، وعطّلتم حدوده ، وأمتم أحكامه ، ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض ، فأما الناكثون فقد قاتلت ، وأما القاسطون فقد جاهدت ، وأما المارقة فقد دوّخت ، وأما شيطان الردهة فقد كُفيته بصعقة سُمعت لها وجبة قلبه ، ورجّة صدره ، وبقيت بقية من أهل البغي ، ولئن أذن الله في الكرّة عليهم لاُديلنّ منهم الاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّراً.

أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب ، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر ، وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويُمسّني جسده ، ويشمّني عَرفه ، وكان يمضع الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في

٣٩٢

__________________

قول ، ولا خطلة في فعل.

لقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة.

ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله ما هذه الرّنة؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، انّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى ، الاّ انّك لست بنبيّ ولكنّك لوزير وانّك لعلى خير.

ولقد كنت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا آتاه الملأ من قريش ، فقالوا له : يا محمد انّك قد ادعيت عظيماً لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمراً ان أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا انّك نبيّ ورسول ، وان لم تفعل علمنا انّك ساحر كذّاب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما تسألون؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ الله على كلّ شيء قدير ، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم.

قال : فانّي سأوريكم ما تطلبون ، وانّي لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير ، وان فيكم من يطرح في القَليب ، ومن يحزّب الأحزاب ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيتها الشجرة ان كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر ، وتعلمين انّي رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ باذن الله.

فو الذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها ، وجاءت ولها دويّ شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علّواً واستكباراً : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك ، فأقبل إليه نصفها كأعجب اقبال وأشدّه دويّاً ، فكادت تلتفّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقالوا كفراً وعتوّاً : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع ، فقلت أنا : لا اله الاّ الله وانّي أوّل مؤمن بك يا رسول الله ، وأوّل من أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك ، واجلالاً لكلمتك ، فقال القوم كلّهم : بل ساحر كذّاب ، عجيب السحر خفيف فيه ، وهل يصدّقك في أمرك الاّ مثل هذا ( يعنوني ).

وانّي لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، سيماهم سيماء الصديقين ، وكلامهم كلام الأبرار ، عمّار الليل

٣٩٣

وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه سئل عن أدنى الالحاد ، قال : انّ الكبر أدناه (١).

وقال عليه‌السلام : الكبر قد يكون في شرار الناس من كلّ جنس ، والكبر رداء الله فمن نازع الله عزّوجلّ رداءه لم يزده الله الاّ سفالاً ... (٢).

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : العزّ رداء الله ، والكبر ازاره ، فمن تناول شيئاً منه أكبه الله في جهنم (٣).

وقال عليه‌السلام : لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر (٤).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : انّ في جهنّم لوادياً للمتكبرين يقال له : سقر ، شكا إلى الله عزّوجلّ شدّة حرّه وسأله أن يأذن له أن يتنفّس ، فتنفّس فأحرق جهنّم (٥).

وقال عليه‌السلام : انّ المتكبرين يجعلون في صور الذر ، يتوطّأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب (٦).

وقال عليه‌السلام : ما من عبد الاّ وفي رأسه حَكَمة (٧) وملك يمسكها ، فاذا تكبّر

__________________

ومنار النهار متمسكون بحبل القرآن ، يُحيون سنن الله وسنن ورسوله ، لا يستكبرون ولا يعلون ، ولا يغلّون ولا يفسدون ، قلوبهم في الجنان ، وأجسادهم في العمل ».

١ ـ الكافي ٢ : ٣٠٩ ح ١ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ١٩٠ ح ١ باب ١٣٠.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٠٩ ح ٢ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٠٩ ح ٢ باب ١٣٠.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٠٩ ح ٣ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢١٣ ح ٣ باب ١٣٠.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣١٠ ح ٦ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢١٥ ح ٦ باب ١٣٠.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣١٠ ح ١٠ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢١٨ ح ١٠ باب ١٣٠.

٦ ـ الكافي ٢ : ٣١١ ح ١١ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢١٩ ح ١١ باب ١٣٠.

٧ ـ الحكمة ـ بالتحريك ـ : اللجام ما أحاط بالحنك.

٣٩٤

قال له : اتضع وضعك الله ، فلا يزال أعظم الناس في نفسه ، وأصغر الناس في أعين الناس ، وإذا تواضع رفعه الله عزّ وجلّ ، ثم قال له : انتعش نعشك الله ، فلا يزال أصغر الناس في نفسه ، وأرفع الناس في أعين الناس (١).

( المصباح الثاني )

في بيان أنواع التكبّر

اعلم انّ التكبر ترفّع النفس واظهار الكبرياء والعظمة وله أنواع :

فالأول الذي هو من أقبح الأنواع ، ويوجب الكفر ، وقد فسّر التكبر به في كثير من الأحاديث أن يتكبر عن عبادة الله ومتابعة الأنبياء والأوصياء والعلماء وأهل الحق ، وعن متابعة نفس الحق ، وعن قبول فضل من فضلّهم الله تعالى ، كتكبر الكفار عن متابعة الأنبياء ، وتكبر المنافقين عن متابعة الأوصياء ، لأنّ أهواءهم كانت تمنعهم من اتباع شخص أقلّ شأناً منهم بحسب عقولهم الناقصة ، وأبصارهم العمياء وأن يقرّوا بفضله كما مرّ في الخطبة القاصعة.

والثاني أن يحقّر الناس ويزعم انّه أفضل منهم.

والثالث الذي تكون نتيجته بناء الدور الرفيعة اظهاراً للزيادة ، ولبس الثياب الفاخرة ، وركوب الجياد الأصيلة وكثرة الخدم بقصد التفوّق والرفعة على أمثاله وأقرانه والفقراء والمساكين.

والرابع أن يتوقع الاحترام والتواضع من الناس لنفسه ويرتفع عليهم ، ويميل طبعهم إلى كون الناس أذلاّء ، ويطلبون العزّة والرفعة في المشي والجلوس

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣١٢ ح ١٦ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٢٤ ح ١٦ باب ١٣٠.

٣٩٥

والقيام وسائر الحركات والسكنات ، ويطلبون من المجالس صدورها ، ويجتنبون الأعمال الحسنة المنافية لوقارهم.

فالأنواع كلّها تتشابه فيما بينها ، وهناك أنواع أخر ترجع إلى ما ذكرناه ، والأخبار على هذه المضامين كثيرة.

روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : أعظم الكبر أن تسفه الحقّ ، وتغمص الناس ، قلت : وما سفه الحقّ؟ قال : يجهل الحقّ ويطعن على أهله (١).

وروى أيضاً انّ رجلاً قال له عليه‌السلام : انني آكل الطعام الطيب ، وأشمّ الريح الطيبة ، وأركب الدابة الفارهة ، ويتبعني الغلام ، فترى في هذا شيئاً من التجبّر فلا أفعله؟

فأطرق أبو عبدالله عليه‌السلام ثمّ قال : انّما الجبار الملعون من غمص الناس ، وجهل الحق ، قال [ الراوي ] : فقلت : أما الحقّ فلا أجهله ، والغمص لا أدري ما هو ، قال : من حقّر الناس وتجبر عليهم فذلك الجبار (٢).

وقال عليه‌السلام : لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من الكبر ، قال [ الراوي ] : فاسترجعت ، فقال : ما لك تسترجع؟ قلت : لما سمعت منك ، فقال : ليس حيث تذهب انّما أعني الجحود ، انّما أعني الجحود (٣).

وروي بسند معتبر انّه مرّ رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جماعة فقال : على ما اجتمعتم؟ قالوا : يا رسول الله هذا مجنون يصرع فاجتمعنا عليه ، فقال : ليس هذا بمجنون ولكنّه المبتلى ، ثم قال : ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟ قالوا : بلى يا

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣١١ ح ١٢ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٢٠ ح ١٢ باب ١٣٠.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣١١ ح ١٣ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٢٠ ح ١٣ باب ١٣٠.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣١٠ ح ٧ باب الكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢١٦ ح ٧ باب ١٣٠.

٣٩٦

رسول الله.

قال : [ انّ المجنون حق المجنون ] المتبختر في مشيته ، الناظر في عطفيه ، المحرّك جنبيه بمنكبيه ، يتمنّى على الله جنّته وهو يعصيه ، الذي لا يؤمن شرّه ، ولا يرجى خيره ، فذلك المجنون ، وهذا المبتلى (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا مشت أمتي المطيطاء ، وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم. والمطيطاء التبختر ومدّ اليدين في المشي (٢).

وروي بسند معتبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : أخبرني جبرئيل عليه‌السلام انّ ريح الجنّة يوجد من مسيرة ألف عام ما يجدها عاقّ ولا قاطع رحم ، ولا شيخ زان ، ولا جارّ ازاره خيلاء ، ولا فتان ، ولا منّان ، ولا جعظري ، قال : قلت : فما الجعظري؟ قال : الذي لا يشبع من الدنيا (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسند آخر : ... من بنى بنياناً رياء وسمعة حمله يوم القيامة من الأرض السابعة وهو نار تشتعل ثم يطوّق في عنقه ويلقى في النار ، ... قيل : يا رسول الله كيف يبني رياء وسمعة؟ قال : يبني فضلاً على ما يكفيه استطالة منه على جيرانه ، ومباهاة لاخوانه.

ونهى أن يختال الرجل في مشيه وقال : من لبس ثوباً فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنّم ، وكان قرين قارون ، لأنّه أوّل من اختال ، فخسف الله به وبداره الأرض ، ومن اختال فقد نازع الله في جبروته (٤).

__________________

١ ـ الخصال : ٣٣٢ ح ٣١ باب ٦ ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٣٣ ح ٣٢ باب ١٣٠.

٢ ـ معاني الأخبار : ٣٠١ ح ١ ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٣٤ ح ٣٥ باب ١٣٠.

٣ ـ معاني الأخبار : ٣٣٠ ح ١ ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٣٧ ح ٤٥ باب ١٣٠.

٤ ـ البحار ٧٦ : ٣٣٢ و٣٣٣ ضمن حديث ١ باب ٦٧ ـ عن أمالي الصدوق.

٣٩٧

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من بغى على فقير أو تطاول عليه أو استحقره حشره الله يوم القيامة مثل الذّرة في صورة رجل حتى يدخل النار (١).

( المصباح الثالث )

في علاج التكبر

اعلم انّ علاج الكبر يتم بأمور :

أولاً : بالتفكر في دناءة أصله وعاقبته ، وخسة أحوال البدن وتزلزل بنيانه ، وعدم الاعتماد على الحياة ، وكونه في معرض الفناء والزوال ، وبالتأمّل في صفاته الذميمة وجهله وعجزه.

كما روي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : عجباً للمختال الفخور ، وانّما خلق من نطفة ثم يعود جيفة ، وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يُصنع به(٢).

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : عجبت لابن آدم أوّله نطفة ، وآخره جيفة ، وهو قائم بينهما وعاء للغائط ، ثم يتكبّر (٣).

ثانياً : الممارسة على أمور يحصل من خلالها على ملكة التواضع كالجلوس في المجالس ، والكلام مع الفقراء والمساكين ، وترك صحبة الأغنياء واتيان أمور تنافي التكبر ، كما نقل انّ من خاف الكبر فليأكل مع خادمه ، وليحلب الشاة بيده ، كما روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : من رقّع جيبه ، وخصف نعله ،

__________________

١ ـ البحار ٧٦ : ٣٦٤ ضمن حديث ٣٠ باب ٦٧ ـ عن ثواب الأعمال.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٢٩ ح ٤ باب الفخر والكبر ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٢٩ ح ٢٢ باب ١٣٠.

٣ ـ البحار ٧٣ : ٢٣٤ ح ٣٣ باب ١٣٠ ـ عن علل الشرائع.

٣٩٨

وحمل سلعته ، فقد أمن من الكبر (١).

ثالثاً : التفكر في انّ نتيجة الكبر تكون خلاف مقصود الانسان ، لأنّ المتكبر يطلب العزّة وقد علم بخبر المخبر الصادق وبالتجربة انّ المتكبر من أذلّ الناس في الدنيا والآخرة ، وانّ المتواضع من أعزّ الخلق ، والتفكر أيضاً في أطوار أئمة الدين وكيف كان تواضعهم ، وأن يتذكّر الأحاديث الذامة للكبر ، وقد ذكر بعض هذا الكلام في باب التواضع.

( المصباح الرابع )

في اصلاح السريرة

نعني باصلاح السريرة اصلاح الباطن وعدم الاكتفاء بحسن الظاهر ، كما أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا المعنى ، وانّ اصلاح الظاهر مع سوء الباطن شعبة من شعب النفاق ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال لنوف البكالي : يا نوف اياك أن تتزيّن للناس وتبارز الله بالمعاصي ، فيفضحك الله يوم تلقاه (٢).

وقال عليه‌السلام : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله له فيما بينه وبين الناس (٣).

وروي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : ... من كان ظاهره أرجح من باطنه خفّ ميزانه (٤).

__________________

١ ـ البحار ٧٣ : ٢٣٣ ح ٣٠ باب ١٣٠ ـ عن الخصال.

٢ ـ البحار ٧١ : ٣٦٤ ح ٦ باب ٩٠ ـ عن أمالي الصدوق.

٣ ـ البحار ٧١ : ٣٦٤ ح ٧ باب ٩٠ ـ عن أمالي الصدوق.

٤ ـ البحار ٧١ : ٣٦٥ ح ٩ باب ٩٠ ـ عن أمالي الصدوق.

٣٩٩

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : من أسرّ ما يرضي الله عزّوجلّ أظهر الله له ما يسرّه ، ومن أسرّ ما يسخط الله تعالى أظهر الله له ما يخزيه ... (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تزيّن للناس بما يحبّ الله ، وبارز الله في السرّ بما يكره الله ، لقى الله وهو عليه غضبان ، وله ماقت (٢).

والأحاديث بهذا المضمون كثيرة ، واعلم انّ الانسان مأمور باصلاح ظاهره وباطنه معاً ، والسعي بجعل الباطن موافقاً في الصلاح للظاهر ، لا أن يقبّح الظاهر مثل الباطن ، أو يجعله أقبح من الباطن ، أو يجعل نفسه في معرض التهم كي يسيء الخلق الظنّ به ، كما نسب هذه الأمر إلى ال ـ ( ملامتية ) من الصوفية ، [ فهذا غير جائز ] لأنّ الذنب الظاهر أقبح من الذنب المخفي ، والذنب المخفي أسرع للمغفرة من الظاهر.

والأحاديث في هذا الباب كثيرة ومرّ بعضها ، مضافاً إلى انّ العقل يحكم انّ المولى لا يغضب لمعصية عبده في الخلوة مثلما يغضب لها في العلانية وعند حضور الناس ، بأن يعرّف العبد نفسه عاصياً لمولاه ، وكذلك ورد نهي كثير عن اتهام النفس والتعرض لمواضع التهم ، ومرّت أحاديثه.

( المصباح الخامس )

في لبس الصوف

اعلم انّ الأحاديث اختلفت في لبس الصوف ، فوردت أحاديث أهل السنة

__________________

١ ـ أمالي الطوسي : ١٨٢ ح ٨ مجلس ٧ ـ عنه البحار ٧١ : ٣٦٥ ح ١٠ باب ٩٠.

٢ ـ قرب الاسناد : ٩٢ ح ٣٠٩ ـ عنه البحار ٧١ : ٣٦٤ ح ٤ باب ٩٠.

٤٠٠