عين الحياة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

عين الحياة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد هاشم الميلاني
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

الناس إلى حمله وقالوا : يا أمير المؤمنين نحن نحمله ، فقال عليه‌السلام : ربّ العيال أحقّ بحمله.

وكان يقول :

لا ينقص الكامل من كماله

ما جرّ من نفع إلى عياله

وجاء في رواية اُخرى انّه عليه‌السلام كان يمشي في خمسة حافياً ويعلّق نعليه بيده اليسرى ، يوم الفطر ، والنحر ، والجمعة ، وعند عيادة المريض ، وتشيع الجنازة ، ويقول : انّها مواضع الله وأحبّ أن أكون فيها حافياً.

ونقل انّه عليه‌السلام كان يمشي في الأسواق وحده ، وهو ذاك يرشد الضال ، ويعين الضعيف ، ويمرّ بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ :

( تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِين (١)) (٢).

وروي عن إبراهيم بن العباس انّه قال : ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام جفا أحداً بكلامه قط ، وما رأيت قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه ، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها.

ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قط ، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط ، ولا رأيته تفل قط ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط بل كان ضحكه التبسم.

وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب

__________________

١ ـ القصص : ٨٣.

٢ ـ البحار ٤١ : ٥٤ ح ١ باب ١٠٥ ـ عن المناقب.

٢١

والسائس ، وكان عليه‌السلام قليل النوم بالليل ، كثير السهر ، يحيى أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح ، وكان كثير الصيام ... وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ... (١).

ونقل عن محمد بن عباد انّه قال : كان جلوس الرضا عليه‌السلام في الصيف على حصير ، وفي الشتاء على مسح ، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيّن لهم (٢).

وروي انّه دخل الرضا عليه‌السلام الحمام فقال له بعض الناس : دلكني ، فجعل يدلكه فعرفوه ، فجعل الرجل يستعذر منه وهو يطيّب قلبه ويدلّكه (٣).

____________

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٤ ح ٧ ـ عنه البحار ٤٩ : ٩٠ ح ٤ ـ العوالم ٢٢ : ١٧٤ ح ٣.

٢ ـ البحار ٤٩ : ٨٩ ح ١ باب ٧ ـ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام.

٣ ـ البحار ٤٩ : ٩٩ ح ١٦ باب ٧ ـ عن المناقب.

٢٢

قال [ أبوذر ] قلت : يا رسول الله الخائفون ، الخاضعون ، المتواضعون ، الذاكرون لله كثيراً أهم يسبقون الناس إلى الجنّة؟

قال : لا ولكن فقراء المسلمين ، فانّهم يتخطفون رقاب الناس فيقول لهم خزنة الجنة : كما أنتم حتى تحاسبوا ، فيقولون : بم نحاسب ، فوالله ما ملكنا فنجور ونعدل ، ولا أفيض علينا فنقبض ونبسط ، ولكنا عبدنا ربنا حتى دعانا فأجبنا.

اعلم انّ الأحاديث في مدح الفقر والفقراء ومعاشرتهم وذمّ اهانتهم واذلالهم كثيرة ، ووردت أحاديث أيضاً في ذمّ الفقراء ، وكذلك في الأغنياء وردت أحاديث في مدحهم وأحاديث في ذمهم ، وجمع أكثر المحققين بين هذه الأحاديث بأنّ الفقر الممدوح هو الفقر إلى الله ، والفقر المذموم هو الفقر إلى الناس ، والغنى الممدوح هو غنى النفس ، والغنى المذموم هو الغنى بكثرة الأموال مع الحرص والطمع.

ويظهر من بعض الأحاديث انّ الفقر المذموم هو أن يكون الانسان قليل البضاعة في الدين ، وذلك انّ أيّ شيء خلقه الله تعالى في الدنيا وجعله بين الناس فهو لطف ورحمة ، وبما انّ العالم عالم تكليف واختيار فلكل شيء جهتان ، وخلق الله تعالى ذلك الشيء لجهة فيها الصلاح ، والناس يجعلونه وسيلة لجهة الشرّ.

كما في المال فإنّ الله تعالى جعله في الدنيا لتحصيل السعادة ، والقوّة على العبادة ، والوصول إلى الكمالات لمن تركه ، فلولاه لما كانت القوّة على العبادة ، ولما ترتب الثواب على الصدقات والخيرات ، ولما ترتب الثواب على تركه ،

٢٣

ولكن جعله أيضاً فتنة يجلب أنواع القبائح وانّما جعل هذه الجهة فيه ليكون تاركه مأجوراً.

لكن البعض يستفيد منه في غير ما وضع له فيسبب شقائهم ، فكلّما ذمّ المال والغنى فانّما هو لجهة الشر التي فيه حيث يأخذ الناس بها ، وإلاّ فالله تعالى جعل أصله وسيلة للخير ، وكلّما مدح فانّما هو لأجل جهة الصلاح التي فيه.

وكذلك الفقر والاحتياج انّما هما وسيلة لتحصيل السعادة بالصبر على مشاقهما ونيل الثواب العظيم ، والتوجه إلى الله والاستعانة به والقرب منه بسببه ، وبتركه المحرمات لله في عين احتياجه اليهما حتى ينال أعلى درجات الزهد والورع.

لكن قد لا يصبر الانسان على ذلك ويبتلى بسؤال المخلوق وهذا من أقبح النقائص والعيوب ، وقد يرتكب المحرمات ، وقد يسيء الظن بالله تعالى وينسبه إلى الظلم والجور فيكفر لذلك كما جاء في الحديث انّه : كاد الفقر أن يكون كفراً (١).

فعلم انّ أصل الفقر نعمة ورحمة ولكن قد يجعله الانسان باختياره وسيلة الشقاء ، فكلّما ورد المدح انّما هو لجهة الخير ، وكلّما ورد الذمّ فهو لجهة الشر ، وبما انّ الفقر والاحتياج يوجبان اصلاح النفوس اكثر ، وانّ الغنى يورث الطغيان والفساد مدح الفقر أكثر ، وذمّ الغنى أكثر أيضاً ، كما يقول الله تعالى :

( اِنَّ الاِنسَانَ لَيَطغَى * أَن رَّآَهُ استَغنَى ) (٢).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣٠٧ ح ٤ ـ عنه البحار ٧٣ : ٢٤٦ ح ٤ باب ١٣١.

٢ ـ العلق ٦ و٧.

٢٤

وهنا التفاتة لطيفة وهو انّ من المستحيل استغناء الانسان بل كلّما ازداد غنىً ازداد احتياجاً ، فلذا لم يقل : لما استغنى ، بل قال : أن رآه استغنى ، أي زعم انّه استغنى.

وطلب الله العبادة لجعلها وسيلة للسعادة ، وقرّر المعاصي كي يصل الانسان إلى السعادة بتركها ، وربما جعل شخص العبادة وسيلة الشقاء وجعل المعصية وسيلة السعادة بتركها أو بالتوبة والندامة ان ارتكبها غفلة وجهلاً ، فيصل إلى أعلى مراتب الكمال ، ولولا خلق المعصية لا يؤجر الناس بتركها ويثابون ، وأنّي يكون العجز والانكسار من التائبين؟ ولولا ترك الأولى من آدم وداود وسائر الأنبياء عليهم‌السلام فمن أين يحصل ذلك البكاء والنحيب الموجب للقرب والكمالات اللامتناهية؟

ولقد جاء في الأثر إنّكم إن لم تذنبوا ولم تقدروا على الذنب لخلق الله خلقاً آخر قادراً على الذنب كي يعصي ويذنب ، انّ الكلام هنا دقيق جداً والعقول قاصرة عن ادراك هذا المعنى على الأكثر.

لكن لو تفكّرت مليّاً لوجدت انّ كلّما خلقه الله في هذا العالم فهو لطف وخير وعين الصلاح للعباد ، لكن العباد يستعملونه في غير ما وضع له ، كما لو أعطى كريماً إلى رجل داراً كبيراً وجعل فيه كل ما يحتاج إليه وبنى له إلى جنب ذلك جبّاً ، فلو ترك هذا الرجل الدار المنيفة وجعل من الجبّ سكناً له فأيّ لوم على هذا الكريم؟

وعدم التفكر في هذه المسائل التي هي من فروع مسائل القضاء والقدر أفضل ، والعلم الاجمالي بانّ الله تعالى عليم حكيم لا يظلم ، وما يفعله عين الصواب والحكمة ، لأنّ التفكر في هذا الباب يوجب الزلل ، وانّ أكثر العقول لم

٢٥

تحط به علماً ، وقد نهى الأئمة عليهم‌السلام عن الخوض في هذه المسائل ، وبعد جمعنا بين الأخبار على وجه الاجمال ننقل بعض الأخبار.

روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : انّ فقراء المسلمين يتقلّبون في رياض الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً ، ثم قال : سأضرب لك مثل ذلك ، انّما مثل ذلك مثل سفينتين مرّ بهما على عاشر ، فنظر في احداهما فلم ير فيها شيئاً ، فقال : أسربوها ، ونظر في الأخرى فإذا هي موقورة ، فقال : احبسوها (١).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : شيئان يكرههما ابن آدم ، يكره الموت والموت راحة للمؤمن من الفتنة ، ويكره قلّة المال وقلّة المال أقلّ للحساب (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أهلك الناس اثنان ، خوف الفقر ، وطلب الفخر (٣).

وروي بسند معتبر عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام انّه قال : لا تستخفوا بفقراء شيعة عليّ وعترته من بعده ، فإنّ الرجل منهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر(٤).

وقال أبو عبدالله عليه‌السلام : المصائب منح من الله والفقر مخزون عند الله (٥).

وروي في حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : ... انّ الله

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٢٦٠ ح١ ـ عنه البحار ٧٢ : ٦ ح ٤ باب ٩٤.

٢ ـ الخصال : ٧٤ ح ١١٥ باب ٢ ـ عنه البحار ٧٢ : ٣٩ ح٣٣ باب ٩٤.

٣ ـ الخصال : ٦٨ ح ١٠٢ باب ٢ ـ عنه البحار ٧٢ : ٣٩ ح ٣٤ باب ٩٤.

٤ ـ أمالي الصدوق : ٢٥٢ ح ١٦ مجلس ٥٠ ـ عنه البحار ٧٢ : ٣٥ ح ٢٧ باب ٩٤.

٥ ـ الكافي ٢ : ٢٦٠ ح ٢ ـ عنه البحار ٧٢ : ٧ ح ٥ باب ٩٤.

٢٦

جعل الفقر أمانة عند خلقه ، فمن ستره أعطاه الله مثل أجر الصائم القائم ، ومن أفشاه إلى من يقدر على قضاء حاجته فلم يفعل فقد قتله ، أما انّه ما قتله بسيف ولا رمح ولكنّه قتله بما نكى من قلبه (١).

وقال أبو عبدالله عليه‌السلام : كلّما ازداد العبد ايماناً ازداد ضيقاً في معيشته ، وقال : لولا الحاح المؤمنين على الله في طلب الرزق لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى حال أضيق منها ، وقال : ما اُعطي عبد من الدنيا الاّ اعتباراً ، وما زوي عنه الاّ اختباراً (٢).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : ليس لمصاص (٣) شيعتنا في دولة الباطل الاّ القوت ، شرّقوا ان شئتم أو غرّبوا لن ترزقوا الاّ القوت (٤).

وقال في حديث آخر : انّ الله عزّوجلّ يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيهاً بالمعتذر إليهم ( وفي حديث آخر : ليعتذر إلى عبده المؤمن المحوج في الدنيا كما يعتذر الأخ إلى أخيه ) (٥).

فيقول : وعزّتي وجلالي ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم عليّ ، ولترونّ ما أصنع بكم اليوم ، فمن زوّد أحداً منكم في دار الدنيا معروفاً فخذوا بيده فادخلوه الجنة.

قال : فيقول رجل منهم : يا رب انّ أهل الدنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٢٦٠ ح ٣ ـ عنه البحار ٧٢ : ٨ ح ٦ باب ٩٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٦١ ح ٤ و٥ و٦ ـ عنه البحار ٧٢ : ٨ ح ٧ و٨ باب ٩٤.

٣ ـ المصاص : خالص كلّ شيء ، يقال : فلان مصاص قومه ، إذا كان أخلصهم نسباً.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٦١ ح ٧ ـ عنه البحار : ٧٢ : ١٠ ح ١٠ باب ٩٤.

٥ ـ الكافي ٢ : ٢٦٤ ح ١٨ ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٥ ح ٢٠ باب ٩٤.

٢٧

النساء ، ولبسوا الثياب اللينة ، وأكلوا الطعام ، وسكنوا الدور ، وركبوا المشهور من الدواب ، فأعطني مثل ما أعطيتهم.

فيقول تبارك وتعالى : لك ولكل عبد منكم مثل ما أعطيت أهل الدنيا منذ كانت الدنيا إلى أن انقضت الدنيا سبعون ضعفاً (١).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : جاء رجلٌ موسر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقيّ الثوب ، فجلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء رجلٌ معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر ، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخفت أن يمسّك من فقره شيء؟ قال : لا ، قال : فخفت أن يصيبه من غناك شيء؟ قال : لا ، قال : فخفت أن يوسّخ ثيابك؟ قال : لا ، قال : فما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله انّ لي قريناً يزيّن لي كلّ قبيح ، ويقبح لي كلّ حسن ، وقد جعلت له نصف مالي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمعسر : أتقبل؟ قال : لا ، فقال له الرجل : ولم؟ قال : أخاف أن يدخلني ما دخلك (٢).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : في مناجاة موسى عليه‌السلام : يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنب عجّلت عقوبته (٣).

وروي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : طوبى للمساكين

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٢٦١ ح ٩ ـ عنه البحار ٧٢ : ١١ ح ١١ باب ٩٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٦٢ ح ١١ ـ عنه البحار ٧٢ : ح١٣ باب ٩٤.

٣ ـ الكافي ٢ : ٢٦٣ ح ١٢ ـ عنه البحار ٧٢ : ١٥ ح ١٤ باب ٩٤.

٢٨

بالصبر ، وهم الذين يرون ملكوت السماوات والأرض (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر المساكين طيبوا نفساً ، وأعطوا الله الرضا من قلوبكم ، يثبكم الله عزّوجلّ على فقركم ، فإن لم تفعلوا فلا ثواب لكم (٢).

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : إذا كان يوم القيامة أمر الله تبارك وتعالى منادياً ينادي بين يديه : أين الفقراء؟ فيقوم عنق من الناس كثير ، فيقول : عبادي ، فيقولون : لبيك ربنا.

فيقول : انّي لم اُفقركم لهوان بكم عليّ ، ولكنّي انّما اخترتكم لمثل هذا اليوم ، تصفّحوا وجوه الناس فمن صنع إليكم معروفاً لم يصنعه الاّ فيّ ، فكافوه عنّي بالجنة (٣).

وروي عن محمد بن الحسين بن كثير الخزاز ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال لي : أما تدخل السوق؟ أما ترى الفاكهة تباع ، والشيء مما تشتهيه؟ فقلت : بلى ، فقال : أما انّ لك بكلّ ما تراه فلا تقدر على شرائه حسنة (٤).

وروي بسند صحيح عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : إذا كان يوم القيامة قام عنق من الناس حتى يأتوا باب الجنة فيضربوا باب الجنة ، فيقال لهم : من أنتم؟ فيقولون : نحن الفقراء.

فيقال لهم : أقبل الحساب؟ فيقولون : ما أعطيتمونا شيئاً تحاسبونا عليه ، فيقول الله عزّوجلّ : صدقوا ، أدخلوا الجنة (٥).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٢٦٣ ح ١٣ ـ عنه البحار ٧٢ : ١٥ ح ١٥ باب ٩٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٦٣ ح ١٤ ـ عنه البحار ٧٢ : ١٧ ح ١٦ باب ٩٤.

٣ ـ الكافي ٢ : ٢٦٣ ح ١٥ ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٤ ح ١٧ باب ٩٤.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٦٤ ح ١٧ ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٥ ح ١٩ باب ٩٤.

٥ ـ الكافي ٢ : ٢٦٤ ح ١٩ ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٥ ح ٢١ باب ٩٤.

٢٩

وقال أبو الحسن موسى عليه‌السلام : انّ الله عزّوجلّ يقول : انّي لم اُغن الغنيّ لكرامة به عليّ ، ولم اُفقر الفقير لهوان به عليّ ، وهو مما ابتليت به الأغنياء بالفقراء ، ولولا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة (١).

وقال أبو عبدالله عليه‌السلام : مياسير شيعتنا اُمناؤنا على محاويجهم ، فاحفظونا يحفظكم الله (٢).

وروي بسند صحيح انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : الفقر أزين للمؤمن من العذار على خدّ الفرس (٣).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : الفقر هو الموت الأكبر (٤).

وقال أبو عبدالله عليه : الفقر الموت الأحمر ، فقلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال : لا ، ولكن من الدين (٥).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : ... ألا ومن استخفّ بفقير فقد استخفّ بحق الله ، والله يستخف به يوم القيامة الاّ أن يتوب .. من أكرم فقيراً مسلماً لقى الله يوم القيامة وهو عنه راض (٦).

وقال عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام : من لقى فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني لقى الله عزّوجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان (٧).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٢٦٥ ح ٢٠ ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٦ ح ٢٢ باب ٩٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٦٥ ح ٢١ ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٧ ح ٢٣ باب ٩٤.

٣ ـ الكافي ٢ : ٢٦٥ ح ٢٢ ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٨ ح ٢٤ باب ٩٤.

٤ ـ البحار ٧٢ : ٤٢ ح ٤٥ باب ٩٤ ـ عن الخصال حديث الأربعمائة.

٥ ـ الكافي ٢ : ٢٦٦ ح ٢ ـ عنه البحار ٧٢ : ٥ ح ٣ باب ٩٤.

٦ ـ البحار ٧٢ : ٣٧ ح ٣٠ ـ عن أمالي الصدوق في مناهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٧ ـ أمالي الصدوق : ٣٥٩ ح ٥ مجلس ٦٨ ـ عنه البحار ٧٢ : ٣٨ ح ٣١ باب ٩٤.

٣٠

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر انّ الدنيا مشغلة للقلوب والأبدان ، وانّ الله تبارك وتعالى سائلنا عمّا نعّمنا في حلاله ، فكيف بما نعّمنا في حرامه؟

يا أباذر انّي قد دعوت الله جلّ ثناؤه أن يجعل رزق من يحبني الكفاف ، وأن يعطي من يبغضني كثرة المال والولد.

اعلم انّ هذا الحديث يدلّ على انّ في الحلال حساب أيضاً ، وقد مضت الأحاديث على انّ المؤمنين لا يحاسبون على التصرف في الحلال ، ويمكن أن يكون المراد من المؤمنين هم الخلّص من المؤمنين ، والمراد من السؤال عن الحلال هنا هو السؤال من بعض أفراد المسليمن ، أو يكون المراد من عدم الحساب عدم انتقاص الحسنات بازاء تلك الأمور ، والمراد من السؤال هو التفحص عنها.

واعلم انّ الأحاديث في مدح الكفاف كثيرة كما نقل عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام انّه قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم براعي ابل فبعث يستسقيه ، فقال : أمّا ما في ضروعها فصبوح الحيّ (١) ، وأمّا ما في آنيتنا فغبوقهم (٢) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم اكثر ماله وولده.

ثم مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه ، فحلب له ما في ضروعها واكفأ ما في

__________________

١ ـ الصبوح ـ بالفتح ـ : شرب الغداة أو ما حلب أول النهار.

٢ ـ الغبوق ـ بالفتح ـ : الشرب بالعشي أو ما حلب آخر النهار.

٣١

إنائه في إناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعث إليه بشاة وقال : هذا ما عندنا وان أحببت أن نزيدك زدناك.

قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللهم ارزقه الكفاف ، فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله دعوت للذي ردّك بدعاء عامّتنا نحبّه ، ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاءٍ كلّنا نكرهه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ ما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى ، اللهم ارزق محمداً وآل محمد الكفاف (١).

وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم ارزق محمداً وآل محمد ومن أحبّ محمداً وآل محمد العفاف والكفاف ، وارزق من أبغض محمداً وآل محمد المال والولد (٢).

وروي بسند آخر عنه عليه‌السلام انّه قال : انّ الله عزّوجلّ يقول : يحزن عبدي المؤمن ان قتّرت عليه وذلك أقرب له منّي ، ويفرح عبدي المؤمن ان وسّعت عليه وذلك أبعد له منّي (٣).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : ... قال الله عزّوجلّ : انّ من أغبط أوليائي عندي عبداً مؤمناً ذا حظّ من صلاح ، أحسن عبادة ربّه ، وعبدالله في السريرة ، وكان غامضاً في الناس ، فلم يشر إليه بالأصابع ، وكان رزقه كفافاً ، فصبر عليه فعجلت به المنية ، فقلّ تراثه ، وقلّت بواكيه (٤).

____________

١ ـ الكافي ٢ : ١٤٠ ح ٤ ـ عنه البحار ٧٢ : ٦١ ح ٤ باب ٩٥.

٢ ـ الكافي ٢ : ١٤٠ ح ٤ ـ عنه البحار ٧٢ : ٥٩ ح ٣ باب ٩٥.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٤١ ح ٥ ـ عنه البحار ٧٢ : ٦١ ح ٥ باب ٩٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٤١ ح ٦ ـ عنه البحار ٧٢ : ٦٢ ح ٦ باب ٩٥.

٣٢

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر طوبى للزاهدين في الدنيا ، الراغبين في الآخرة الذين اتخذوا أرض الله بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، واتخذوا كتاب الله شعاراً ، ودعاءه دثاراً ، يقرضون الدنيا قرضاً.

يا أباذر حرث الآخرة العمل الصالح ، وحرث الدنيا المال والبنون.

وقد أشار إلى تفسير قوله تعالى :

( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الاَخِرَةِ نَزِد لَهُ فِي حَرثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الدُنيَا نُؤتِهِ مِنهَا وَمَالَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) (١).

والحاصل انّ من عمل للآخرة يوفّق في أعماله ، وتصبّ البركات على حياته ، وتضاعف حسناته في الآخرة ، ومن كان عمله للدنيا فانّه يصل إليه رزقه المقرر لكن لا على وجه يدّعيه ، ويجد ثواب عمله في الدنيا كالشيطان ، ولم يكن له في الآخرة من نصيب ، فلذا ترى انّ أعمال المرائين وأصحاب البدع في الدنيا تنفعهم أياماً قليلة بتسويل الشيطان لكنّهم يحرمون في الآخرة.

والذين أخلصوا نياتهم في الدنيا فقد لا تترتب ثمرة على أعمالهم في الدنيا وذلك ليجدوا أُجورهم في الآخرة كاملة ، ولم يشب عملهم بالأغراض الفاسدة الدنيوية لأنّ الله لم يجعل أيّ عمل من دون أجر ، حتى انّ كفار الهند الذين

__________________

١ ـ الشورى : ٢٠.

٣٣

يتحملون تلك المشاق والرياضات للأُمور الفاسدة الدنيوية يصلون إليها كما نسمع.

مثلاً يريدون أن تكشف لهم السفليات ، وقد يصلون إليه لكن يحرمون من السعادة الأخروية ، وربما تعبّد مسلم سنين متمادية مع الاخلاص ولم يعطه الله تعالى ذلك الأمر لأنّ ثوابه في الآخرة ، ولم ير من مصلحته اعطاءه في الدنيا لأنّه يقع في الأنانية والعجب ويبتعد عن الله تعالى ، حتى انّه ورد إذا كمل ايمان المؤمن يسلب الله منه حتى الرؤيا.

وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : انّ المؤمن مكفّر ، وذلك انّ معروفه يصعد إلى الله عزّوجلّ فلا ينتشر في الناس ، والكافر مشهور وذلك انّ معروفه للناس ينتشر في الناس ولا يصعد إلى السماء (١).

وروي عن موسى بن جعفر عليه‌السلام انّه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكفّراً لا يشكر معروفه ، ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي ، ومن كان أعظم معروفاً من رسول الله على هذا الخلق؟ وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكر معروفنا ، وخيار المؤمنين مكفرون لا يشكر معروفهم (٢).

وروي أيضاً عن المفضل بن عمر انّه قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انّ من قبلنا يقولون : انّ الله تبارك وتعالى إذا أحبّ عبدا نوّه به منوّهٌ من السماء أنّ الله يحبّ فلاناً فأحبّوه فتلقى له المحبة في قلوب العباد ، فاذا أبغض الله تعالى عبداً نوّه منوّهٌ من السماء انّ الله يبغض فلاناً فأبغضوه ، قال : فيلقى الله له البغضاء في

__________________

١ ـ البحار ٧٥ : ٤٢ ح ٢ باب ٣٦ عن علل الشرائع.

٢ ـ البحار ٧٥ : ٤٢ ح ٣ باب ٣٦ ـ عن علل الشرائع.

٣٤

قلوب العباد.

قال : كان عليه‌السلام متكئاً فاستوى جالساً ، فنفض يده ثلاث مرّات يقول : لا ، ليس كما يقولون ، ولكنّ الله عزّوجلّ إذا أحبّ عبداً أغرى به الناس في الأرض ليقولوا فيه ، فيؤثمهم ويؤجره ، وإذا أبغض الله عبداً حبّبه إلى الناس ليقولوا فيه فيؤثمهم ويؤثمه.

ثم قال عليه‌السلام : من كان أحبّ إلى الله من يحيى بن زكريا عليه‌السلام؟ أغراهم به حتى قتلوه ، ومن كان أحبّ إلى الله عزّوجلّ من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟ فلقى من الناس ما قد علمتم ، ومن كان أحبّ إلى الله تعالى من الحسين بن عليّ صلوات الله عليه؟ فأغراهم به حتى قتلوه (١).

واعلم انّ في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشعار بأفضلية القرآن على الدعاء حيث قال : « واتخذوا كتاب الله شعاراً ، ودعاءه دثاراً » والشعار اللباس الملاصق للجسم ، والدثار يطلق على ما يلبس فوق ثياب أُخرى ، وانّ ما يلاصق الجسم أكثر اختصاصاً بالانسان من غيره.

والأحاديث هنا مختلفة ، ففي بعضها ترجيح قراءة القرآن وأفضليتها ، وفي بعضها أفضلية الدعاء ، وجمع البعض بينها بأنّه ان عرف معنى القرآن فهو أفضل والاّ فالدعاء أفضل ، وقال البعض على عكسه.

والذي يوافق الصواب هو انّ الأمر يختلف بالنسبة إلى أحوال العباد ، والانسان لابد أن يكون طبيب نفسه فيلزمها ما يناسبها في كلّ وقت وحين ، ففي مقام الخوف مثلاً فإن كان قليلاً في نفس المؤمن فليقرأ الأدعية المشتملة على

__________________

١ ـ معاني الأخبار : ٣٨١ ح ١١ باب نوادر المعاني ـ عنه البحار ٧١ : ٣٧١ ح ٢ باب ٩١.

٣٥

التخويف كي تكمل هذه الصفة فيه لوجود جذورها في النفس ، وان كان زائداً فليقرأ أدعية الرجاء فإنّ الخوف الكثير يوجب اليأس والقنوط ، وكذلك في باب الرجاء وسائر الصفات النفسية ، وكذلك الأمر في قراءة القرآن.

وربما يقرأ الانسان آية أو دعاء دائماً ولا يؤثر في نفسه ، لكن إذا قرأها في وقت مناسب لحاله ، لأثرت في نفسه تأثيراً لا يتصور مثله ، وتفاض عليه معارف لا تحصى ، والكلام هنا كثير سنبينه في مكان آخر إن شاء الله تعالى.

٣٦

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر انّ ربي أخبرني ، فقال : وعزتي وجلالي ما أدرك العابدون درك البكاء عندي ، وانّي لأبني لهم في الرفيق الأعلى قصراً لا يشركهم فيه أحد ، قال : قلت : يا رسول الله أيّ المؤمنين أكيس؟ قال : أكثرهم للموت ذكراً ، وأحسنهم له استعداداً.

يا أباذر إذا دخل النور القلب انفسح القلب واتسع ، قلت : فما علامة ذلك بأبي أنت واُمي يا رسول الله؟ قال : الانابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله.

اعلم اننا ذكرنا الأحاديث التي جاءت في فضل البكاء لله سابقاً ، ومن المعلوم عقلاً وشرعاً كون التضرّع إلى الله تعالى يورث خير الدنيا والآخرة ، وللبكاء مراتب كثيرة وكلّ يقتبس منها حسب رتبته ومقامه.

فمنهم من يبكي طلباً للخبز من الله ، ومنهم من يبكي للخلاص من جهنم أو الدخول في الجنة ، ومنهم من يطلب القرب حتى يصل الأمر إلى درجة المحبين الملتذين بكل دمعة آلاف اللذائذ التي لا تقاس بغيرها ، وكما انّ في الآخرة لا شريك لهم في قصورهم كذلك في الدنيا لا يعلم أحد مدى لذتهم.

وكذلك مضت الأحاديث في ذكر الموت والاستعداد له بالأعمال الصالحة كي لا يتحسّر الانسان حين حلوله ، وشرحنا أيضاً معنى القلب وانّ ضياءه بالعلم والمعرفة والمحبة والنيات الصادقة ، والصفات الحسنة ، وكما انّ الضياء الظاهري يزيد رؤية العين ولا ينقصها ، كذلك العلم والمعارف يوجبان البصيرة في القلب ،

٣٧

ويمكن للنفس الناطقة ـ المعبّر عنها بالقلب ـ التمييز بين الحق والباطل ، والأخذ بطريق الحق.

وكذلك كلٌّ من الصفات الحسنة والنيات الصحيحة الدالة والهادية نحو الأعمال الحسنة تكون بمنزلة مصابح بل شمس للنفس ، وقلوب الكمل مملوءة بمصابيح العلم والمعرفة ، وأنواع الكمالات الروحانية.

وانشراح القلب كناية عن الاستعداد لقبول الحقّ والمعارف الالهيّة ، لأنّ قلوب الأشقياء كالظرف المملوّ الذي لا يسع لأيّ شيء ، فلذا لا يمكن للهداية أن تجد طريقها إليه ، وانّ قلوب المؤمنين مختلفة في السعة والانشراح لتقبل المعارف وذلك بسبب كمال الدين ونقصه ، فبعضها بمنزلة كأس تسع لقليل من العلوم والمعارف ولو أُفيض عليها أكثر من ظرفيتها لا تطيقه فتفيض.

والانشراح يكثر بالعبادات والكمالات ، فيكون الانسان مستعداً لقبول المعارف أكثر حتى يصبح كالبحر لا يتأثر بكثرة صبّ أنهار الحقائق ، فتلك الأنوار تسبب الانشراح وهو يسبب الادراك ومعرفه قبائح الدنيا وأضرارها حتى يتركها ، ويعلم محاسن الأعمال الحسنة والدرجات الأخروية الرفيعة والكمالات المعنوية فيكون طالباً لها ومستعداً للموت بتحصيلها.

٣٨

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر اتق الله ولا ترى الناس انّك تخشى الله فيكرموك وقلبك فاجر.

يا أباذر ليكن لك في كل شيء نية [ صالحة ] حتى في النوم والأكل.

يا أباذر ليعظم جلال الله في صدرك ، فلا تذكره كما يذكره الجاهل عند الكلب : « اللهم اخزه » وعند الخنزير : « اللهم اخزه ».

لقد ذكر أحاديث ذمّ الرياء في أوّل الكتاب ، وروي عن أبي الحسن موسى ابن جعفر عليه‌السلام أنّه قال : قال عيسى عليه‌السلام للحواريين : ... بحق أقول لكم : لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً ، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم.

وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة ، لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغلّ في صدوركم.

يا عبيد الدنيا انّما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ، يا بني اسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثواً على الركب ، فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر (١).

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : طوبى لكلّ عبد

__________________

١ ـ البحار ١ : ١٤٦ ضمن حديث ٣٠ باب ٤ ـ عن تحف العقول.

٣٩

نؤمة (١) لا يؤبه له ، يعرف الناس ولا يعرفه الناس ، يعرفه الله منه (٢) برضوان ، اولئك مصابيح الهدى ، ينجلي عنهم كل فتنة مظلمة ، ويفتح لهم باب كلّ رحمة ، ليسوا بالبذر المذاييع ، ولا الجفاة المرائين (٣).

واعلم انّ من استقرت عظمة الله في نفسه ، وظهر له دناءة الدنيا وأهلها وحقارتها ، وعرف قدر أوقات عمره العزيز لا يعمل أيّ عمل حتى يعلم رضى الله فيه وانّه مفيد لآخرته ، فلا يضيّع عمره بالبطالة.

فاذا أكل وكان هدفه الأولى تحصيل الآخرة ولكي لا يضعف عن عبادة الله تعالى ويتقوى على الطاعة ، فلو كان هدفه هذا المعنى واقعاً من دون خطور في الذهن ، يكون أكله بهذه النية عبادة ويصير كلّه نوراً ، والقوّة الحاصلة منه تصرف نحو العبادة وطاعة الله تعالى.

وكذلك ينام كي يكون له حضور القلب عند العبادة ، ويكون عاملاً بقول الله تعالى حتى لا يضعف بدنه وعقله ، وإذا ذهب إلى بيت الخلاء قصد الطهارة من النجاسات والخبائث حتى يصير عند العبادة طاهراً مصفّاً ، ويقيم الصلاة بحضور القلب ، وقد مضى مجمل من تحقيق هذا المقام في أول الكتاب ، ويشير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنا إلى أنّه لابدَّ لك في كلّ عمل من نية ولا تفعل شيئاً من دون قصد القربة حتى النوم والأكل.

وما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليعظم جلال الله في صدرك فلا تذكره كما يذكره الجاهل ... » فالمراد لا ينبغي ذكر الله تعالى في أيّ مقام من دون اعتناء واحترام ،

__________________

١ ـ النومة بوزن الهمزة : الخامل الذكر الذي لا يؤبه له.

٢ ـ أي من لدنه.

٣ ـ الكافي ٢ : ٢٢٥ ح ١٢ عنه البحار ٧٥ : ٨٠ ح ٢٩ باب ٨١.

٤٠