عين الحياة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

عين الحياة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد هاشم الميلاني
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

المعاصي ويأتي بالطاعات لذلك فهو محض الشرك والرياء ولا يكون تقوى ، ونسب الله تعالى التقوى إلى القلب حيث قال : ( وَمَن يُعظِّم شَعَائِرً اللهِ فَانَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ ) (١).

وبما انّه ذكر من قبيل هذا الكلام مفصّلاً وانّ بسط الكلام يوجب التطويل فنكتفي بهذا المقدار ونجمل الكلام.

__________________

١ ـ الحج : ٣٢.

٣٤١

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر أربع لا يصيبهنّ الا مؤمن ، الصمت وهو أوّل العبادة ، والتواضع لله سبحانه ، وذكر الله تعالى على كلّ حال ، وقلّة الشيء يعني قلّة المال.

يا أباذر همّ بالحسنة وان لم تعملها لكيلا تكتب من الغافلين.

يا أباذر من ملك ما بين فخذيه وما بين لحييه دخل الجنة قلت : يا رسول الله انّا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا؟ قال : يا أباذر وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار الاّ حصائد ألسنتهم ، انّك لا تزال سالماً ما سكتّ فإن تكلّمت كتب لك أو عليك.

يا أباذر انّ الرجل يتكلّم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها فيهوى في جهنّم ما بين السماء والأرض.

يا أباذر ويل للذي يحدث ويكذب ليضحك به القوم ، ويل له ويل له.

يا أباذر من صمت نجا ، فعليك بالصدق لا تخرجنّ من فيك كذبة أبداً ، قلت : يا رسول الله فما توبة الرجل الذي يكذب متعمدّاً؟ فقال : الاستغفار ، والصلوات الخمس تغسل ذلك.

اعلم انّ الصدق من الصفات الجامعة والشاملة لأكثر الصفات والأعمال الحسنة لأنّه يكون في القول وفي العمل ، فصدق الحديث هو أن لا يكذب في كلامه لا على الله ولا على الناس ، ولا يكون عمله مخالفاً لقوله ، لادعائه الطاعة لله ولرسوله ، واليقين بالجنة والنار ، وصدق هذا الادعاء مترتب على عدم ارتكابه الذنوب لأنها منافية لطاعة الله واليقين بالجنة والنار.

٣٤٢

ومن لوازم الصدق أيضاً عدم ترك المستحبات وعدم اتيان المكروهات لأنّه ما من أحد الاّ ويدّعي متابعة رضا الله وترك القبائح ، وهذا ما يقتضيه تصديق الجنة وعظمة الله ، وكونه مطلعاً على دقائق الأمور أيضاً ، كما لو كان الانسان عند عظيم فانّه لا يرتكب خلاف الآداب رعايةً لعظمته وتوقّعاً للنفع القليل منه ولا يترك عنده الأولى.

فحريّ بالانسان أن لا يرتكب أيّ خلاف وترك أولى عند ملك الملوك وأعظم العظماء كي يحصل له القرب أكثر ، وتنزل عليه فوائد ومنافع غير متناهية ، فكلّ خلاف وترك أولى بل أيّ توجه إلى غيره ينافي هذا التصديق.

انّ الانسان على الأقل يكرر في اليوم عشر مرّات في الصلاة ( اياك نعبد واياك نستعين ) فلو عصى معصية أو توجه إلى غير الله في أمر من الأمور واستعان بغيره لكان كاذباً في قوله ذلك ، وكذلك الرياء في العبادة امام الناس واتيانها بشرائطها ولكنه يكسل اذا خلى لنفسه.

وكذا اتيان سائر الأعمال غير الخالصة يكون من كذب الأفعال ، لأنّ الانسان بهذا العمل يظهر ما ليس متصفاً به ، فلو نظرنا بهذا المنظار لرأينا انّ جميع الأعمال والأخلاق ترجع إلى الصدق ، وقد مدح الله تعالى الصادقين مدحاً كثيراً ....

كما انّ الكذب أصل أكثر الصفات الذميمة ، ويظهر في كثير من الأخبار وقول بعض الأصحاب انّه من الذنوب الكبيرة ، ويظهر من بعض الأخبار حرمته كاذباً وجاداً وهازلاً.

وينبغي أن يعلم هنا أن من الصدق ما هو قبيح ومن الكذب ما هو حسن بل واجب ، فلو سبّب الصدق ضرراً على مؤمن أو قتل نفس محترمة لكان حراماً ، كما

٣٤٣

يجب الكذب اذا كان سبباً لنجاة مؤمن من القتل أو الضرر ، وكذلك الكذب على الظالم لو أراد أخذ مال مؤمن ائتمنك عليه بل يجوز القسم بالله بعدم وجود أمانة عندك منه ، وان كانت التورية واجبة مع الامكان كأن ينوي عدم وجود مال أو أمانة يجوز له اعطاؤها ، وكذلك يجوز الكذب عند العشار أو الظالم أو الحاكم اذا سبب الاقرار فوت مال منه.

وكذلك يجوز الكذب لأجل الاصلاح بين مؤمنين بأن تقول لكلّ واحد منهما انّ فلان كان يذكرك بخير ويمجّدك ، وإن كان ذلك الشخص قد ذمّه في الواقع أو شتمه.

وكذلك جوّز الكذب في خلف الوعد مع النساء اللواتي يتوقّعن منه أكثر من اللازم بأن تعدها بشيء ثم لا تفي به ، وإن كان اطلاق الكذب على هذا الفرد مجاز ، وسيظهر بعضها في ضمن الأحاديث.

روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : من صدق لسانه زكا عمله(١).

وقال عليه‌السلام : ... انّ عليّاً عليه‌السلام انّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة (٢).

وقال عليه‌السلام : ... انّ الصادق أوّل من يصدّقه الله عزّوجلّ يعلم انّه صادق ، وتصدّقه نفسه تعلم انّه صادق (٣).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ١٠٤ ح ٣ باب الصدق ـ عنه البحار ٧١ : ٣ ح ٣ باب ٦٠.

٢ ـ الكافي ٢ : ١٠٤ ح ٥ باب الصدق ـ عنه البحار ٧١ : ٤ ح ٥ باب ٦٠.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٠٤ ح ٦ باب الصدق ـ عنه البحار ٧١ : ٥ ح ٦ باب ٦٠.

٣٤٤

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : زينة الحديث الصدق (١).

وقال عليه‌السلام : ألا فاصدقوا فإنّ الله مع الصادقين ، وجانبوا الكذب فإنّ الكذب مجانب الايمان ، ألا وانّ الصادق على شفا منجاة وكرامة ، ألا وانّ الكاذب على شفا مخزاة وهلكة (٢).

وروي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام انّه كان يقول لولده : اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كلّ جدّ وهزل ، فإنّ الرجل اذا كذب في الصغير اجترىء على الكبير ، أما علمتم انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقاً ، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذّاباً (٣).

وروي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : انّ الله عزّوجلّ جعل للشر أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرّ من الشراب (٤).

وقال عليه‌السلام : انّ الكذب هو خراب الايمان (٥).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : الكذب على الله وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكبائر (٦).

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : انّ أوّل من يكذّب الكذاب الله

__________________

١ ـ البحار ٧١ : ٩ ح ١٢ باب ٦٠ وهي مروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ البحار ٧٢ : ٢٦٠ ح ٢٧ باب ١١٤.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٣٨ ح ٢ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٣٥ ح ٢ باب ١١٤.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣٣٨ ح ٣ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٣٦ ح ٣ باب ١١٤.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٣٩ ح ٤ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٤٧ ح ٨ باب ١١٤.

٦ ـ الكافي ٢ : ٣٣٩ ح ٥ باب الكذب ـ الوسائل ٨ : ٥٧٥ ح ٣ باب ١٣٩.

٣٤٥

عزّوجلّ ، ثم الملكان اللذان معه ، ثم هو يعلم انّه كاذب (١).

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : لا يجد عبد طعم الايمان حتى يترك الكذب هزله وجده (٢).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : قال عيسى بن مريم عليه‌السلام : من كثر كذبه ذهب بهاؤه (٣).

وقال عليه‌السلام : انّ ممّا أعان الله به على الكذابين النسيان (٤).

وقال عليه‌السلام : الكلام ثلاثة : صدق وكذب واصلاح بين الناس ، قال : قيل له : جعلت فداك ما الاصلاح بين الناس؟ قال : تسمع من الرجل كلاماً يبلغه فتخبث نفسه فتلقاه فتقول : سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا ، خلاف ما سمعت منه(٥).

وقال عليه‌السلام : انّ الله أحبّ ... الكذب في الاصلاح (٦).

وقال عليه‌السلام : كلّ كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً الاّ كذباً في ثلاثة : رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه ، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الاصلاح ما بينهما ، أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتم لهم (٧).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣٣٩ ح ٦ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٤٧ ح ٩ باب ١١٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٤٠ ح ١١ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٤٩ ح ١٤ باب ١١٤.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٤١ ح ١٣ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٥٠ ح ١٦ باب ١١٤.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣٤١ ح ١٥ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٥١ ح ١٨ باب ١١٤.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٤١ ح ١٦ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٥١ ح ١٩ باب ١١٤.

٦ ـ الكافي ٢ : ٣٤١ ضمن حديث ١٧ باب الكذب.

٧ ـ الكافي ٢ : ٣٤٢ ح ١٨ باب الكذب ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٤٢ ح ٥ باب ١١٤.

٣٤٦

وقال عليه‌السلام : المصلح ليس بكذّاب (١).

وروي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : ثلاث يحسن فيهنّ الكذب : المكيدة في الحرب ، وعدتك زوجتك ، والاصلاح بين الناس.

وثلاث يقبح فيهنّ الصدق : النميمة ، وإخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه ، وتكذيب الرجل عن الخبر ... (٢).

وقد مرّت أحاديث الصمت ، وما جاء من التهديد في من أضحك الناس ، فيمكن حمله فيما لو كذب في قوله أو أغتاب مسلماً ، وليعلم انّ من الأمور المذمومة بل التي لها شائبة الحرمة نقل الكذب كقصة حمزة وسائر القصص الكاذبة كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : شرّ الرواية رواية الكذب (٣).

بل ذهب بعض العلماء إلى حرمة القصص الصادقة لما فيها من اللغو والباطل كال ـ ( شاهنامة ) (٤) وغيرها من قصص المجوس والكفار.

وروي في بعض كتب الامامية المعتبرة عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذكر عليّ بن أبي طالب عبادة ، ومن علامات المنافق أن يتنفر عن ذكره ، ويختار استماع القصص الكاذبة ، وأساطير المجوس على استماع فضائله ، ثم قرأ عليه‌السلام : ( وَاِذَا ذُكِرَ اللهَ وَحدَهُ اشمَأَزَّت قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالاَخِرَةٍ وَاِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ اِذَا هُم يَستَبشِرُون ) (٥).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣٤٢ ح ١٩ باب الكذب ـ الوسائل ٨ : ٥٧٨ ح ٣ باب ١٤١.

٢ ـ الخصال : ٨٧ ح ٢٠ باب ٣ ـ عنه البحار ٧١ : ٨ ح ١١ باب ٦٠.

٣ ـ البحار ٧٢ : ٢٥٩ ح ٢٥ باب ١١٤ ـ عن أمالي الصدوق.

٤ ـ هي مجموعة شعريّة حماسيّة لشاعرها الشهير الفردوسي.

٥ ـ الزمر : ٤٥.

٣٤٧

فسئل صلوات الله عليه عن تفسيرها ، قال : أما تدرون انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : اذكروا عليّ بن أبي طالب في مجالسكم فإنّ ذكره ذكري وذكري ذكر الله ، فالذين اشمأزّت قلوبهم عن ذكره ، واستبشروا عن ذكر غيره اولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة ولهم عذاب مهين (١).

وذكر ابن بابويه في كتابه ( الاعتقادات ) انّه : سئل الصادق عليه‌السلام عن القصاص أيحلّ الاستماع لهم؟ فقال : لا.

وقال الصادق عليه‌السلام : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق عن ابليس فقد عبده (٢).

وروى الكليني هذا المضمون عن الامام الباقر عليه‌السلام.

__________________

١ ـ لم نعثر عليها.

٢ ـ الاعتقادات : ٨٤ ـ عنه البحار ٧٢ : ٢٦٤ ح ١ باب ١١٥.

٣٤٨

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر اياك والغيبة فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا ، قلت : يا رسول الله ولم ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال : لأنّ الرجل يزني ويتوب إلى الله فيتوب الله عليه ، والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها.

يا أباذر سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه من معاصي الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، قلت : يا رسول الله وما الغيبة؟ قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قلت : يا رسول الله فإن كان فيه ذلك الذي يذكر به؟ قال : اعلم انّك اذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته ، واذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته.

يا أباذر من ذب عن أخيه المسلم الغيبة كان حقّاً على الله عزّوجلّ أن يعتقه من النار.

يا أباذر من اغتيب عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فنصره نصره الله عزّوجلّ في الدنيا والآخرة ، وان خذله وهو يستطيع نصره خذله الله في الدنيا والآخرة.

وتوضيح هذه المطالب يتم في فصول :

( الفصل الأول )

في ذم الغيبة وحرمتها

اعلم انّه لا خلاف بين العلماء في حرمة غيبة المسلمين ، ويدل عليها الآيات والأخبار المتواترة ، وظاهر بعضها انّ الغيبة من الذنوب الكبيرة ، وذهب

٣٤٩

بعض العلماء إليه ، وظاهر هذا الحديث حيث ذكر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّها أشدّ من الزنا يدلّ على انّها من أكبر الكبائر ، وأكثر شياعاً من سائر الذنوب.

لأنّ الصفات الذميمة التي تسبب الغيبة كالحسد والحقد والعداوة توجد في أكثر الخلق على وجه كامل ، ولا تختص بالشيخ والشاب والجاهل والعالم والشريف والوضيع ، لأنّ لكلّ شخص عدوّ أو منافسة أو اتحاد مهنةٍ ، والمانع والحاجز الموجود في سائر الذنوب مفقود في الغيبة.

لأنّ الحاجز من ارتكاب الذنوب عند أكثر الناس أمّا القبح العرفي أو عدم القدرة ، ولقد ذهبت قباحة هذا الذنب بالكلّية بل انّ جزءاً من كمال الانسان في هذا الزمان أن يكون لبقاً يسرد الكلام جيداً ، وله القدرة على الاغتياب بشكل جيد.

وقد عمل الشيطان خدعه وأحابيله لتجويز الغيبة ، فتجد أنّ أهل العلم يغتابون مثلاً وذلك بالتلبس بلباس النصيحة والشفقة وكمال المحبة والتدين والخوف من الله.

ولا يحتاج هذا الذنب إلى القدرة أيضاً لأنّه لا يحتاج إلى دينار أو درهم أو معين أو آلة ، والتكلّم في غاية السهولة ، فلذا أصبح أكثر شياعاً من سائر الذنوب ، مع انّ التهديد والتحذير فيه أكثر من سائر الذنوب ، كما قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَأ الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ اِنَّ بَعضَ الظَّنِّ اِثمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغتَب بَّعضُكُم بَعضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيه مَيتاً فَكَرِهتُموهُ وَاتَّقُوا اللهِ اِنَّ اللهَ تَوّابٌ رَّحِيمٌ ) (١).

روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّوجلّ : ( اِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ

__________________

١ ـ الحجرات : ١٢.

٣٥٠

الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ اَليِمٌ ) (١) (٢).

وقال عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه.

قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الجلوس في المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم يحدث ، قيل : يا رسول الله وما يحدث؟ قال : الاغتياب (٣).

وروي بسند معتبر عنه عليه‌السلام انّه قال : من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان (٤).

وعن أبي عبدالله عليه‌السلام فيما جاء في الحديث « عورة المؤمن على المؤمن حرام » قال : ما هو أن ينكشف فترى منه شيئاً ، انّما هو أن تروي عليه أو تعيبه (٥).

وروي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسبّ فيه امام ، أو يغتاب فيه مسلم (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من اغتاب امرءً مسلماً بطل صومه ، ونقض وضوؤه ، وجاء يوم القيامة تفوح منه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّى به أهل الموقف ، فان مات قبل أن يتوب مات مستحلاً لما حرّم الله ....

__________________

١ ـ النور : ١٩.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٥٧ ح ٢ باب الغيبة والبهت ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٤٠ ح ٢ باب ٦٦.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٥٦ ح ١ باب الغيبة والبهت ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٢٠ ح ١ باب ٦٦.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣٥٨ ح ١ باب الرواية على المؤمن.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٥٩ ح ٣ باب الرواية على المؤمن.

٦ ـ البحار ٧٥ : ٢٤٦ ح ٩ باب ٦٦ ـ عن تفسير القمي.

٣٥١

ألا ومن تطوّل على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ الله منه ألف باب من السوء في الدنيا والآخرة ، فإن هو لم يردّها وهو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة (١).

واعلم انّهم حملوا بطلان الصوم والوضوء على زوال كما لهما لا بطلانهما بمعنى قضائهما واعادتهما فيما بعد.

وروي بسند صحيح آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : أحقّ الناس بالذنب السفيه المغتاب ، وأذلّ الناس من أهان الناس (٢).

وروي بسند معتبر انّه قال رجل لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام : انّ فلاناً ينسبك إلى انّك ضاع مبتدع.

فقال له عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : ما رعيت حقّ مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه ، ولا أديت حقّي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه ، انّ الموت يعمّنا ، والبعث محشرنا ، والقيامة موعدنا ، والله يحكم بيننا ، اياكم والغيبة فانّها ادام كلاب النار ، واعلم انّ من أكثر [ من ذكر ] عيوب الناس شهد عليه الاكثار انّه انّما يطلبها بقدر ما فيه (٣).

وروي بسند معتبر عن علقمة انّه قال : قال الصادق عليه‌السلام وقد قلت له : يا ابن رسول الله أخبرني عمّن تقبل شهادته ومن لا تقبل.

فقال : يا علقمة كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته ، قال : فقلت له : تقبل شهادة مقترف للذنوب؟ فقال : يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين

____________

١ ـ البحار ٧٥ : ٢٤٧ ح ١٠ باب ٦٦ ـ عن أمالي الصدوق.

٢ ـ البحار ٧٥ : ٢٤٧ ح ١١ باب ٦٦ ـ عن أمالي الصدوق.

٣ ـ الاحتجاج ٢ : ١٤٥ ح ١٨٣ ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٤٦ ح ٨ باب ٦٦.

٣٥٢

للذنوب لما قبلت الاّ شهادات الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم ، لأنّهم هم المعصومون دون سائر الخلق.

فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة ، وان كان في نفسه مذنباً ، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله عزّوجلّ ، داخل في ولاية الشيطان.

ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من اغتاب مؤمناً بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنّة أبداً ، ومن اغتاب مؤمناً بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما ، وكان المغتاب في النار خالداً فيها وبئس المصير (١).

وروي بسند آخر انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لنوف البكالي : اجتنب الغيبة فانّها ادام كلاب النار ، ثم قال عليه‌السلام : يا نوف كذب من زعم انّه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة (٢).

وروي بسند صحيح عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : لا تغتب فتغتب ، ولا تحفر لأخيك حفرة فتقع فيها ، كما تدين تدان (٣).

وروي انّ من صفات المنافقين : « ان خالفته اغتابك » (٤).

وروي بسند معتبر عن رسول الله انّه قال : الصائم في عبادة الله ... ما لم يغتب مسلماً (٥).

__________________

١ ـ البحار ٧٥ : ٢٤٧ ح ١٢ باب ٦٦ ـ عن أمالي الصدوق.

٢ ـ البحار ٧٥ : ٢٤٨ ح ١٣ باب ٦٦ ـ عن أمالي الصدوق.

٣ ـ أمالي الصدوق : ٣٤٢ ح ١٠ مجلس ٦٥ ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٤٨ ح ١٦ باب ٦٦.

٤ ـ البحار ٧٢ : ٢٠٥ ضمن حديث ٥ باب ١٠٦ ـ عن أمالي الصدوق : ٣٩٩ ح ١٢ مجلس ٧٤.

٥ ـ أمالي الصدوق : ٤٤٢ ح ١ مجلس ٨٢ ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٤٩ ح ١٨ باب ٦٦.

٣٥٣

وروي بسند معتبر آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : من مدح أخاه المؤمن في وجهه واغتابه من ورائه فقط انقطع ما بينهما من العصمة (١).

وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : من اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما فهو شرك شيطان ... (٢).

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : اياكم وغيبة المسلم ، فإنّ المسلم لا يغتاب أخاه ، وقد نهى الله عزّوجلّ عن ذلك فقال : ( وَلاَ يَغتَب بَّعضُكُم بَعضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتاً ) (٣).

وقال عليه‌السلام : من قال لمؤمن قولاً يريد به انتقاض مروّته حبسه الله في طينة خبال حتى يأتي ممّا قال بمخرج (٤).

وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : انّ الله تبارك وتعالى ليبغض البيت اللحم واللحم السمين ، قال له بعض أصحابه : يا ابن رسول الله انّا لنحب اللحم ، وما تخلو بيوتنا منه ، فكيف ذاك؟

فقال : ليس حيث تذهب انّما البيت اللحم البيت الذي يؤكل فيه لحوم الناس بالغيبة ، وأمّا اللحم السمين فهو المتكبّر المتبختر المختال في مشيه (٥).

وروي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : اياكم والظن فإنّ الظن أكذب الكذب ، وكونوا اخواناً في الله كما أمركم الله ، لا تتنافروا ، ولا تجسسوا ،

__________________

١ ـ أمالي الصدوق : ٤٦٦ ح ٢١ مجلس ٨٥ ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٤٩ ح ١٩ باب ٦٦.

٢ ـ معاني الأخبار : ٤٠٠ ضمن حديث ٦٠ ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٥٠ ح ٢١ باب ٦٦.

٣ ـ الحجرات : ١٢.

٤ ـ البحار ٧٥ : ٢٥٠ ح ٢٢ باب ٦٦ ـ عن الخصال ، حديث الأربعمائة.

٥ ـ معاني الأخبار : ٣٨٨ ح ٢٤ نوادر المعاني ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٥١ ح ٢٤ باب ٦٦.

٣٥٤

ولا تتفاحشوا ، ولا يغتب بعضكم بعضاً ، ولا تتنازعوا ، ولا تتباغضوا ، ولا تتدابروا ، ولا تتحاسدوا ، فإن الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب اليابس (١).

وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : اذكروا أخاكم اذا غاب عنكم بأحسن ما تحبّون أن تذكروا به اذا غبتم عنه (٢).

وقال عليه‌السلام : اعلم انّه لا ورع أنفع من تجنّب محارم الله ، والكف عن أذى المؤمنين واغتيابهم (٣).

وقال عليه‌السلام : أوحى الله عزّوجلّ إلى موسى بن عمران عليه‌السلام : المغتاب ان تاب فهو آخر من يدخل الجنّة ، وان لم يتب فهو أوّل من يدخل النار (٤).

وروي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى ، يسقون من الحميم والجحيم ، ينادون بالويل والثبور ، يقول أهل النار بعضهم لبعض : ما بال هؤلاء الأربعة قد آذونا على ما بنا من الأذى؟

فرجل معلّق في تابوت من جمر ، ورجل يجرّ أمعاءه ، ورجل يسيل فوه قيحاً ودماً ، ورجل يأكل لحمه ، فقيل لصاحب التابوت : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول : انّ الأبعد قد مات وفي عنقه أموال الناس لم يجد لها في نفسه أداء ولا وفاء.

ثم يقال للذي يجرّ أمعاءه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول : انّ الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول من جسده ، ثم يقال للذي يسيل

__________________

١ ـ قرب الاسناد : ٢٩ ح ٩٤ ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٥٢ ح ٢٨ باب ٦٦.

٢ ـ البحار ٧٥ : ٢٥٣ ح ٣٠ باب ٦٦ ـ عن أمالي الطوسي.

٣ ـ البحار ٧٥ : ٢٥٣ ح ٣١ باب ٦٦ ـ عن علل الشرائع.

٤ ـ البحار ٧٥ : ٢٥٧ ضمن حديث ٤٨ باب ٦٦ ـ عن مصباح الشريعة.

٣٥٥

فوه قيحاً ودماً : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول : انّ الأبعد كان يحاكى فينظر إلى كلّ كلمة خبيثة فيسندها ويحاكى بها.

ثم يقال للذي يأكل لحمه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول : انّ الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ، ويمشي بالنميمة (١).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة واكتفينا بنقل ما كان سنده معتبراً.

( الفصل الثاني )

في معنى الغيبة

لقد عرّف البعض الغيبة طبقاً لما ورد في الأحاديث ، أعني ذكر المؤمن على نحو الغيبة بحيث لو سمع ساءه وآذاه ، وعرّفها الأكثر بأنّها التنبيه على أمر في انسان معين غائب ، أو كان في حكم المعين وهو يكره نسبة ذلك الأمر إليه مع وجوده فيه ، ويُعدّ ذلك الأمر نقصاً وعيباً في العرف ، سواء أكان هذا التنبيه بالقول أم الاشارة أو الكناية أو التصريح أو الكتابة.

وقيدنا الانسان بكونه معيناً لأنّه لا غيبة لغير المعين ، كما لو قال : انّ في أحد أهالي هذا البلد كذا عيب ، فلا حرمة فيه الاّ أن يقول بنحو يعرفه السامع بالقرائن وان لم يسمّه له ، والمراد من الذي في حكم المعين بأن يقول انّ العيب الفلاني في أحد شخصين مثلاً في زيد أو عمرو ، وذهب البعض إلى هذا النوع من الكلام يعدّ غيبة لكلا الشخصين ، لأنّ جعلهما في معرض هذا الاحتمال نقص لشأنهما ، ولو سمعا ساءهما.

__________________

١ ـ أمالي الصدوق : ٤٦٥ ح ٢٠ مجلس ٨٥ ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٤٩ ح ٢٠ باب ٦٦.

٣٥٦

وقولنا : أن يكون العيب فيه ، لاخراج البهتان ، لأن المشهور بناين الغيبة والبهتان وان كان البهتان أسوء ، فالغيبة ذكر عيب في الشخص ، والبهتان اثتات عيب له مع عدم وجوده ، كما روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال : الغيبة أن تقول في اخيك ما ستره الله عليه ... والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه (١).

وقد تطلق الغيبة على معنى يشمل البهتان أيضا ، كما روي بسند معتبر عن داود بن سرحان أنه قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الغيبة ، قال : هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتثبت عليه أمرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ (٢).

وقيدنا كون ذلك الأمر عيبا بحسب العرف لأننا ذكرنا كملا لشخص وساءه لم يكن غيبة ، كما لو قلنا أن فلان يصلي الليل وساءه ، لكن أذا ساءه ذكر أيّ نحو من العيوب سواء في خلقه أو خلقه أو أعماله أو نسبه كان غيبة ، الاّ العيوب الظاهرة وسوف نذكرها.

وظهر من التعريف أن الغيبة لا تختص بالقول الصريح بل تشمل حتى الكناية بأن يذكر شخص فيقول الانسان : الحمد لله حيث لم أبتل بحبّ الرئاسة ، وغرضه الكناية على ذلك الشخص المبتلى ، أو يقول : عافانا الله واياه من حب الدنيا وغرضه اثبات هذا العيب لذلك الشخص ويشرك نفسه لدفع المظنة ، وأمثال هذه الكلمات من التلبيسات الشائعة في الغيبة حيث يظهر الانسان عيوب الغير على وجه أتم وأكمل في طيّ الحمد والثناء واظهار الانكسار والتواضع والنصيحة للناس.

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣٥٨ ح ٧ باب الغيبة ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٤٦ ح باب ٦٦.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٥٧ ح ٣ باب الغيبة ـ عنه البحار ٧٥ : ٢٤٠ ح ٣ باب ٦٦.

٣٥٧

وظهر كذلك انّها لا تختص بالكلام فتشمل فيما لو كتب الانسان ذمّ شخص إلى غيره ، أو ظهر عيبه باشارة العين أو الحاجب أو اليد أو المشي أو نوع تكلّمه أو غيرها من الاشارات والحركات الدالة على اظهار نقص شخص وتقليده.

( الفصل الثالث )

في مستثنيات الغيبة

وهي عشرة ـ كما استثناها العلماء ـ :

أولاً : تظلّم المظلوم حيث يأتي إلى شخص ويظهر ظلم من ظلمه كي يدفع هذا الشخص الظلم عنه ، وجوّزه العلماء بأنّ تظلّم المظلوم وسماع ظلامته جائز ، لكن بشرط أن يكون ذلك الشخص قادراً على دفع الظلم ، وكان هذا غرض المظلوم أيضاً بأن يتظلّم عند من يتوقّع نفعه.

ثانياً : في النهي عن المنكر بأن يعلم الانسان أمراً قبيحاً في شخص فيذكره رجاء أن يتركه ، هذا القسم مشروط بشرائط النهي عن المنكر بأن يقطع بقبح ذلك الفعل أولاً وانّه منكر ، ثم يحتمل التأثير وعدم الخوف من الضرر.

فان لم يعلم بقبح ذلك العمل وإن كان خلافاً ، واحتمل انّ هذا الشخص يعمل هذا العمل برأي مجتهد حيث حلّل هذا العمل فحينئذٍ لا يمكنه ذمّه ، وكذلك لو علم انّ قوله لا يؤثّر ولا يفيد ولا يكون باعثاً على ترك العمل القبيح ، وكذلك لا تجوز الغيبة لو خاف ضرراً في جسمه أو ماله أو في عرضه أو خاف ذلك على أحد المؤمنين والمؤمنات.

وكذلك لا يجوز لو أمكن نصحه في الخلوة وعلم انّه سيقبل نصحه فلا

٣٥٨

يجوز له هتك ستره في المجالس ، ومع هذه الشرائط فليسعَ أن يكون غرضه رضى الله تعالى وترك المعاصي لا اظهار اغراضه الباطلة بهذه الصورة.

ثالثاً : أن يذكر شخصاً ويذمّه في ضمن مسألة يريد أن يسألها من عالم بأن يقول مثلاً : انّ أبي أخذ مالي أيجوز لي المنازعة معه؟ وليكن سؤاله هنا مهما أمكن بشكل لا يفهم انّ المذموم أبوه ، بأن يقول : ما حكم أب أخذ مال ابنه؟ وان لم يمكنه ذلك فليسع أن لا يسمعه غير ذلك العالم.

رابعاً : نصيحة المستشير ، بأن يستشير شخصٌ آخر في اعطاء ماله لشخص على نحو القرض أو المضاربة ، وكذا لو استشاره في رجل قدم على ابنته مثلاً ، فيجب عليه هنا أن يقول ما يعلم ، ولو علم انّه لو قال بشكل مجمل لا تفعل لم يفعل يجب الاكتفاء به ، ولو لم يرض هذا الشخص المستشير الاّ بالتفصيل حول ذلك العيب الذي له دخل في تلك المعاملة مثلاً فليقل ولا يذكر أكثر منه.

ولا بأس لو منعه من باب الاخوة من المعاملة مع شخص معيّن من دون أن يستشيره ، وهذا فيما لو علم وصول ضرر عظيم على أخيه من قبل ذلك الشخص.

خامساً : ذكر بدع أرباب البدع الضارّة بدين الناس والخادعة لهم بل يجب بيان بدعهم ويلزم منع الناس عن متابعتهم سيما على العلماء ، كما روي بسند صحيح عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة ، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ، ويحذرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم ، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة (١).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣٧٥ ح ٤ باب مجالسة أهل المعاصي ـ الوسائل ١١ : ٥٠٨ ح ١ باب ٣٩.

٣٥٩

وروي في حديث صحيح آخر عنه عليه‌السلام انّه قال : لا تصحبوا أهل البدع ، ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المرء على دين خليله وقرينه (١).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، ومرّ بعضها في باب البدعة ، ولا ضرر على الايمان وأهل الايمان مثل ضرر أرباب البدع ، لأنّ الناس تحترز عن الكفار لظهور كفرهم ، لكنّهم ينخدعون بأهل البدع المتلبسين بالتصنع والرياء وهيئة أهل الخير ، فيجب على العلماء وغيرهم اظهار بطلانهم ، والسعي في خراب بنيانهم ، كي لا يضلّ الجهلاء بمتابعتهم.

سادساً : تبيين خطأ اجتهاد المجتهدين ، فيجوز أن يخطىء مجتهد رأى مجتهد آخر يعتقد بطلانه مع اقامة الأدلة على بطلانه ، كما انّ دأب علماء السلف رضوان الله عليهم بيان أخطاء العلماء المعاصرين لهم والماضين ، وهذا لا يعني نقص أيّ واحد منهم وكلّ منهم يثاب ويؤجر على مساعيه الحميدة لاحياء الدين.

ولابد أن يكتفى في تبيين الخطأ في مسألة على قدر الضرورة ولا يبالغ ولا يشنّع ، وليكن الغرض الوحيد بيان الحق ورضى الله تعالى لا الحسد وسائر الأغراض الباطلة ، وللشيطان هنا طرق وحيل كثيرة.

سابعاً : جرح رواة الأخبار والأحاديث كما ذمّ علماؤنا في كتب رجالهم بعض الرواة لحفظ السنّة والشريعة والتمييز بين الصحيح وغيره ، والمعتبر وغيره ، فهذا جائز لتعلّق الغرض الديني به.

ثامناً : لو كان شخص مشهوراً بصفة ظاهرة ، فيذكر بتلك الصفة لمعرفته

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٣٧٥ ح ٣ باب مجالسة أهل المعاصي ـ الوسائل ١١ : ٥٠٢ ح ١ باب ٣٨.

٣٦٠