عين الحياة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

عين الحياة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد هاشم الميلاني
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : انّ الغنى والعزّ يجولان فاذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا (١).

وقال عليه‌السلام : أوحى الله عزّوجلّ إلى داود عليه‌السلام : ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهنّ الا جعلت له المخرج من بينهنّ.

وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته الاّ قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه ، وأسخت الأرض من تحته ، ولم أبال بأيّ واد هلك (٢).

وقال عليه‌السلام : أيما عبد أقبل قبل ما يحبّ الله عزّوجلّ أقبل الله قبل ما يحبّ ، ومن اعتصم بالله عصمه الله ، ومن أقبل الله قبله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض ، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بليّة ، كان في حزب الله بالتقوى من كلّ بليّة ، أليس الله عزّوجلّ يقول : ( اِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ) (٣) (٤).

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإنّ موسى بن عمران عليه‌السلام خرج يقتبس لأهله ناراً فكلّمه الله عزَّوجلّ فرجع نبياً ، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان ، وخرج سحرة فرعون يطلبون العزّة لفرعون فرجعوا مؤمنين (٥).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٦٤ ح ٣ باب التفويض إلى الله ـ عنه البحار ٧١ : ١٢٦ ح ٣ باب ٦٣.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٣ ح ١ باب التفويض إلى الله ـ عنه البحار ٧١ : ١٢٥ ح ٢ باب ٦٣.

٣ ـ الدخان : ٥١.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٥ ح ٤ باب التفويض إلى الله ـ عنه البحار ٧١ : ١٢٧ ح ٤ باب ٦٣.

٥ ـ أمالي الصدوق : ١٥٠ ح ٧ مجلس ٣٣ ـ عنه البحار ٧١ : ١٣٤ ح ٩ باب ٦٣.

٣٢١

وروي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : انّ موسى بن عمران عليه‌السلام قال : يا ربّ رضيت بما قضيت ، تميت الكبير وتبقى الطفل الصغير ، فقال الله جلّ جلاله : يا موسى أما ترضاني لهم رازقاً وكفيلاً؟ قال : بلى يا رب فنعم الوكيل أنت ونعم الكفيل (١).

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قال : كان فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال له : يا بنيّ ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيته في طلب الرزق انّ الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال من أمره ، وآتاه رزقه ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة ، انّ الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة.

أمّا أول ذلك فانّه كان في رحم أمّه يرزقه هناك في قرار مكين حيث لا يؤذيه حرّ ولا برد ، ثم أخرجه من ذلك وأجرى له رزقاً من لبن أمّه يكفيه به ويربيه وينعشه من غير حول به ولا قوة.

ثم فطم من ذلك فأجرى له رزقاً من كسب أبويه برأفة ورحمة له من قلوبهما لا يملكان غير ذلك حتى انّهما يؤثرانه على أنفسهما في أحوال كثيرة حتى اذا كبر وعقل واكتسب لنفسه ضاق به أمره ، وظنّ الظنون بربّه ، وجحد الحقوق في ماله ، وقتر على نفسه وعياله مخافة اقتار رزق ، وسوء يقين بالخلف من الله تبارك وتعالى في العاجل والاجل ، فبئس العبد هذا يا بنيّ (٢).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : قال ابليس : خمسة أشياء لي فيهنّ حيلة وسائر الناس في قبضتي ، من اعتصم بالله عن نيّة صادقة واتكل عليه

____________

١ ـ أمالي الصدوق : ١٦٥ ح ٣ مجلس ٣٦ ـ عنه البحار ٧١ : ١٣٤ ح ١٠ باب ٦٣.

٢ ـ الخصال : ١٢٢ ح ١١٤ باب ٣ ـ عنه البحار ٧١ : ١٣٦ ح ١٧ باب ٦٣.

٣٢٢

في جميع أموره ، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره ، ومن رضى لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه ، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبه ، ومن رضى بما قسم الله له ولم يهتمّ لرزقه(١).

وروي بسند معتبر عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام انّه قال : سأل الصادق عليه‌السلام عن بعض أهل مجلسه ، فقيل : عليل ، فقصده عائداً وجلس عن رأسه فوجده دنفاً (٢) ، فقال له : أحسن ظنّك بالله.

قال : أمّا ظنّي بالله حسن ولكن غمّي لبناتي ، ما أمرضني غير غمّي بهنّ ، قال الصادق عليه‌السلام : الذي ترجوه لتضعيف حسناتك ومحو سيئاتك فارجه لاصلاح حال بناتك ، أما علمت انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لما جاوزت سدرة المنتهى ، وبلغت أغصانها وقضبانها رأيت بعض ثمار قضبانها أثداؤه معلّقة يقطر من بعضها اللبن ، ومن بعضها العسل ، ومن بعضها الدهن ، ويخرج عن بعضها شبه دقيق السميذ ، وعن بعضها النبات ، وعن بعضها كالنبق ، فيهوى ذلك نحو الأرض.

فقلت في نفسي : أين مقرّ هذه الخارجات عن هذه الأثداء ، وذلك انّه لم يكن معي جبرئيل لأنّي كنت جاوزت مرتبته واختزل دوني ، فناداني ربي عزّوجلّ في سرّي : يا محمد هذه أبنتها من هذا المكان الأرفع لأغذو منها بنات المؤمنين من أمتك وبنيهم ، فقل لآباء البنات : لا تضيقنّ صدوركم على فاقتهنّ ، فانّي كما خلقتهنّ أرزقهنّ (٣).

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : أوحى الله عزّوجلّ

__________________

١ ـ الخصال : ٢٨٥ ح ٣٧ باب ٥ ـ عنه البحار ٧١ : ١٣٦ ح ١٨ باب ٣٦.

٢ ـ الدنف : المرض اللازم.

٣ ـ البحار ٧١ : ١٣٧ ح ١٩ باب ٦٣ ـ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام.

٣٢٣

إلى داود عليه‌السلام : يا داود تريد وأُريد ولا يكون الاّ ما أُريد ، فإن أسلمت لما أُريد أعطيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أُريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون الاّ ما أريد (١).

وروي بأسانيد معتبرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : قال الله جلّ جلاله : من لم يرض بقضائي ، ولم يؤمن بقدري فليلتمس إلهاً غيري (٢).

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : من رضى من الله بما قسم له استراح بدنه (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الدنيا دول ، فما كان لك منها أتاك على ضعفك ، وما كان عليك لم تدفعه قوّتك ، ومن انقطع رجاؤه ممّا فات استراح بدنه ، ومن رضى بما رزقه الله قرّت عينه (٤).

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : العبد بين ثلاثة ، بلاء وقضاء ونعمة ، فعليه في البلاء من الله الصبر فريضة ، وعليه في القضاء من الله التسليم فريضة ، وعليه في النعمة من الله عزّوجلّ الشكر فريضة (٥).

واعلم انّ الأحاديث في فضل هذه الخصال الحميدة والتحريض والترغيب نحوها كثيرة ، ولابد من تبيين مجمل من معانيها.

فاعلم انّ التوكل هو أن يفوّض الانسان أموره إلى الله تعالى ويرجو منه الخيرات ودفع الشرور ، وليعلم انّ كل ما يكون فانما هو بتقدير الله تعالى ، ولو شاء

__________________

١ ـ التوحيد للصدوق : ٣٣٧ ح ٤ باب ٥٥ ـ عنه البحار ٧١ : ١٣٨ ح ٢٤ باب ٦٣.

٢ ـ البحار ٧١ : ١٣٨ ح ٢٥ باب ٦٣ ـ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام.

٣ ـ البحار ٧١ : ١٣٩ ح ٢٧ باب ٦٣ ـ عن الخصال ، حديث الأربعمائة.

٤ ـ أمالي الطوسي : ٢٢٥ ح ٤٣ مجلس ٨ ـ عنه البحار ٧١ : ١٣٩ ح ٢٩ باب ٦٣.

٥ ـ الخصال : ٨٦ ح ١٧ باب ٣ ـ عنه البحار ٧١ : ١٤١ ح ٣٥ باب ٦٣.

٣٢٤

الله نفع شخص لن يتمكن أحد دفع هذا النفع عنه ، ولو منع عنك خيراً فلو اتفق جميع العالم على ايصاله لك لما تمكّنوا ، ومعنى التفويض يقرب عن هذا أيضاً.

فلابد حينئذٍ أن ييأس الانسان عما في أيدي المخلوقين ، ولا يختار رضاهم على رضى الله تعالى ، ولا يعتمد في جميع الأمور على نفسه وعلى غيره ، وليكن جلّ اعتماده على الله سبحانه ، وهذا من أعلى مراتب التوحيد حيث يجعل القدرة والتصرف والتدبير خاصّاً بالله ، وانّ قدرة المخلوقين مقهورة بقدرته.

روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : انّ الشرك أخفى من دبيب النمل ، وقال : منه تحويل الخاتم ليذكر الحاجة وشبه هذا (١).

وكون هذا شركاً لاعتماد الانسان على غير الله تعالى ، وعدم التوكل عليه بل اعتمد على تحويل الخاتم ، فالحاصل انّ كلّ التفات عن الله والتوسل والاعتماد على غيره مرتبة من مراتب الشرك.

روي بسند معتبر انّه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل ما التوكل على الله عزّوجلّ؟ فقال : العلم بانّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق ، فاذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ، ولم يرج ولم يخف سوى الله ، ولم يطمع في أحد سوى الله ، فهذا هو التوكل (٢).

وسئل الرضا عليه‌السلام عن معنى التوكل ، فقال : أن لا تخاف مع الله أحداً...(٣).

ومعنى الرضا بالقضاء انّه بعد التوكل على الله ، والعلم بأنّ أعماله مطابقة لما أمر الله فكلما حدث من الابتلاءات والمحن لابد أن يكون على يقين من وجود

__________________

١ ـ معاني الأخبار : ٣٧٩ ح ١ باب نوادر المعاني ـ عنه البحار ٧١ : ١٤٢ ح ٣٦ باب ٦٣.

٢ ـ معاني الأخبار : ٢٦١ ضمن حديث ١ ـ عنه البحار ٧١ : ١٣٨ ح ٢٣ باب ٦٣.

٣ ـ البحار ٧١ : ١٣٤ ح ١١ باب ٦٣ ـ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام.

٣٢٥

الخير والصلاح فيه لحدوثه بتقدير الله ، وهو تعالى قادر على دفعه ولم يكن ظالماً حتى يريد ظلم الانسان ، ولم يكن بخيلاً بأن لا يريد وصول الخير إلى الانسان.

ولم يكن جاهلاً حتى يخفى عليه مصلحة عبده ، وليس بعاجز عن ايصال ما هو خير له إليه ، فكمال الايمان بهذه الصفات الكمالية الالهية يقتضي الرضا من صميم القلب بما يصل إليه من قبل الله تعالى ، ولا يجزع ولا يشتكي ، وليعلم انّه عيّن الخير والصلاح.

روي بسند معتبر انّه سئل أبو الحسن الأول عليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ ) (١) فقال : التوكل على درجات ، منها أن تتوكل على الله في أمورك كلّها ، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم انّه لا يألوك خيراً وفضلاً ، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له ، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه ، وثق به فيها وفي غيرها (٢).

ومعنى التسليم أن لا يكون ما جاء من الله ورسوله والأئمة عليهم‌السلام من الأحكام والأوامر والنواهي وغيرها ثقيلاً عليه ، وليعتقد بحسنها ولينقاد لها في العمل ويذلّ من دون عناد وعدم رضاية ، كما قال الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيماً ) (٣).

واعلم انّ كون هذه الصفات من أصول وأركان الايمان لارتباط أكثر الأعمال والأخلاق بها ، لأنّ التوكل لو كمل في شخص أيس من الخلق ، ولذا يترك

__________________

١ ـ الطلاق : ٣.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٥ ح ٥ باب التفويض إلى الله ـ عنه البحار ٧١ : ١٢٩ ح ٥ باب ٦٣.

٣ ـ النساء : ٦٥.

٣٢٦

أكثر المعاصي الحاصلة من الوثوق بالمخلوقين والرجاء منهم ، ولا يختار حينئذٍ المعاصي لرضاهم ولا يداهن في الدين ، وتكون له جرأة لاجراء أحكام الله تعالى ، ولا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من ذهاب نفع عنه من قبل المخلوق ، ولا يغيّر أحكام الله لرضاهم.

واذا علم انّ الرزق من الله فلا يرتكب الحرام لتحصيله ، ولا يذلّ نفسه عند الخلق بالسؤال ، وهكذا رويداً رويداً يعظم الله في نفسه ويصغر المخلوق في عينه ، وبما انّه يرى أن المعطي هو الله تعالى فلذا يزداد حبّاً له بكلّ نعمة أنعمها عليه ، وفوائد هذه الخصلة لا نهاية لها.

واذا رضى بقضاء الله وعلم انّ هذه الأمور من قبله وهي خير محض له ، فيطمئن ولا يجزع من البلاء بل يصبر ويكون من الشاكرين ، ولا تشغله الآلام ، ولا تحجزه عن العبادة ، ولا يعادي الناس لعدم إعطائهم شيئاً له ، ولا يفتتن بمحبة الناس ، ولا ينسى الله اذا أعطي ، ولا يحسد الناس على ما آتاهم الله ، ولا ينازع ولا يجادل في أمور الدنيا ، ويحبّ الجميع في الله ، ويعبد الله خالصاً ، ولا يتبرّم من تغيّر أحوال الزمان.

ولقد سئل بهلول ما حالك؟ قال : كيف يكون حال من تدور السماوات برضاه ، وتسكن الأرض برضاه ، وكلّ ما وقع في السماوات والأرضين فبرضاه واجازته ، قالوا : ما أعظم ادعاؤك؟ قال : لقد علمت من اليوم الأول انّ ما يفعله الله القادر الحكيم انّما هو خير وصلاح فلذا وافقت رضاي برضاه ، وأوكلت أموري إليه ، وجعلت ارادتي ارادته ، فكلّ ما يحدث انّما هو برضاي.

ولهذه الخصلة أيضاً فوائد غير متناهية ، لأن عند انقيادك إلى أحكام الله

٣٢٧

يذهب الشك والشبهة عنك ، وتقبل كلّ ما يجيء من قبل الله من الحجج والآيات والأخبار وتؤمن بها ، وتبعّد القيل والقال ـ الذي هو من أهمّ نوافذ الشيطان ـ عن ايمانك ، وهذا ركن أصيل من أركان الايمان ، وضلّ أكثر الناس بسبب تركه ، وقد ذكر سابقاً مجمل منه.

ومن الواضح انّ معنى التوكل ليس هو بالجلوس في الدار واغلاق الباب وترك العمل والكسب بحجة توكلك على الله ، بل التوكل أن تسعى فيما أمره الله ، وتطيع ما قاله ، وتعمل بقدر ما أمرك به ، ولا تطلب الحرام ، ولا تترك الواجبات والمستحبات ، ولا تجمع أكثر من الضرورة حرصاً ، مع الالتفات إلى أن ذلك من الله فلا تعتمد على سعيك وكسبك.

واعلم بأنّ الله يقدر على تأييد عينك وأذنك ولسانك ويدك ورجلك وعقلك وروحك وسائر قواك وأعضائك ، فسعيك هذا بأسباب الله وتوفيقه.

واعلم انّ الله لو لم يهدك إلى ما هو في نفعك لكنت أعجز الناس ، ولتكن على يقين بأنّ المشتري الذي يأتيك انّما قدر مجيئه إليك الرازق الحقيقي قبل خلقك بآلاف السنين ، وجعل مقداراً من رزقك منه ، فلو لم تذهب إلى محلّ كسبك لما وصل هذا الرزق إليك ، وحتى بعد ذهابك إلى محل كسبك فلو لم يرد الله لما أتاك مشتر قط ، ولو لم يقذف الله في قلب ذلك الرجل لما مدّ يده إلى كيسه ، ولما أعطاك ديناراً.

وقد قالوا : افتح باب دكانك واجلس للبيع وتوكل على الله ، ولو تركت الطلب الضروري أثمت ، ولو أوقعت نفسك في التهلكة خالفت قول الله تعالى ، واستحق عليك العقاب ، لأنّ الله أمرك بالتقية وحفظ النفس.

٣٢٨

وينبغي اصطحاب الرفيق حين السفر ، وكذا مراجعة الطبيب حين المرض لأجل السلامة لكن يجب أن لا يغيب عن الذهن ان الأمن والسلامة من الله وكثيراً ما نجد أن بعض الناس يُقتل أو يُسرق مع حرصه الشديد على نفسه وماله.

وكذلك الأمر في مسألة حفظ الأموال والأمتعة والدواب ، فالتوكل فيها ليس معناه تركها عرضة للسارقين بحجة التوكل بل لابد من مراعاة شرائط الحفظ ، فقد روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : لا تدع طلب طلب الرزق من حلّه فانّه أعون لك على دينك ، وأعقل راحلتك وتوكل (١).

وكذلك في العبادة والطاعة فاسع سعيك ثم اعلم انّ ما يتوقف عليه هذا الأمر من أعضاء وجوارح ومشاعر وقوى ورزق ومسكن ولباس وقوت وسائر الأمور من الله تعالى ، واعلم انّ لهداية الله دخلاً في أمورك.

ولا تنف قدرتك بالكلّية ، حيث لابد من الاعتقاد بأن المعاصي من الانسان ، ويعترف بسوء حاله وذنوبه واستحقاقه العذاب.

واقتصر في مسألة القضاء والقدر على ما قاله أئمة الدين ، فافهمه واعلمه ولا تطلب أكثر منه فإنّ فيه الضلالة ، وقد نهى عنه الأئمة عليهم‌السلام ، وقليل ممن فكّر وبحث في هذه المسألة من فحول العلماء وغيرهم ولم يضل ولم ينحرف.

ومن فروع خصلة التسليم ، الانقياد والتسليم في المسائل العويصة التي لا يحيطها العقل ، وليؤمن بمجمل ما قالوه ولا يسبب لنفسه اللعن الأبدي بالقيل والقال كالشيطان ، والكلام في هذا الباب واسع ، ولا تسعه هذه الرسالة المكتوبة على الاستعجال وتشويش الحال.

__________________

١ ـ أمالي الطوسي : ١٩٣ ح ٢٨ مجلس ٧ ـ عنه البحار ١٠٣ : ٥ ح ١٨ باب ١.

٣٢٩

ولو ظهر خطأ في هذه الكتابات فأستغفر الله لي ولمن قرأها ، وأرجو شفاعة الرسول والأئمة عليهم‌السلام الذين لذت بكلامهم في كلّ باب من هذه الأبواب ، والحمد لله على نعمائه علينا وعلى جميع خلقه كما هو أهله.

٣٣٠

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر لو انّ ابن آدم فرّ من رزقه كما يفرّ من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت.

يا أباذر الا أعلّمك كلمات ينفعك الله عزّوجلّ بهنّ؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واذا سألت فاسأل الله عزّوجلّ ، واذا استعنت فاستعن بالله ، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.

فلو انّ الخلق كلّهم جهدوا أن ينفعوك بشيء لم يكتب لك ما قدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل لله عزّوجلّ بالرضا واليقين فافعل ، وان لم تستطع فإنّ في الصبر على ما يكره خيراً كثيراً ، وانّ النصر مع الصبر ، والفرج مع الكرب ، وانّ مع العسر يسراً.

انّ الله تعالى أنزل هذه الفقرة الأخيرة في سورة ( ألم نشرح ) لتسلّي نبيه ، وعلّمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر ، لأنّه كان يعلم بعلمه الرباني ما يلاقي أبو ذر من المشاق والشدائد بسبب جور المنافقين من أمته ، فعلّمه ذلك كي يقدر على اظهار الحق والصبر لو عجز ، فعمل أبو ذر بذلك كما ذكر في أوّل الكتاب.

واعلم انّ الصبر من فروع الرضا بالقضاء ، ويوجب الفرج والراحة في الدنيا والعقبى وله أجر جزيل ، وانّ أفضل الصبر الصبر على ترك الذنوب فانّه ثقيل على النفس ، ثم الصبر على الطاعة ، ثم الصبر على البلاء والمصائب.

روي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : الصبر من الايمان بمنزلة

٣٣١

الرأس من الجسد ، فاذا ذهب الرأس ذهب الجسد ، كذلك اذا ذهب الصبر ذهب الايمان(١).

وروي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة ، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار (٢).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : اذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه ، والزكاة عن يساره ، والبرّ : مظلٌّ عليه ، ويتنحّى الصبر ناحية ، فاذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ. دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فأنا دونه (٣).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه الاّ بالقتل والتجبر ، ولا الغنى الاّ بالغصب والبخل ، ولا المحبة الاّ باستخراج الدين واتباع الهوى ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى ، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبّة ، وصبر على الذلّ وهو يقدر على العزّ ، آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممن صدّق بي (٤).

وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : لما حضرت أبي عليّ بن الحسين عليهما‌السلام الوفاة ضمّني إلى صدره وقال : [ يا بنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ، وبما ذكر انّ أباه أوصاه به ] يا بنيّ اصبر على الحقّ وان كان مرّاً (٥).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٨٧ ح ٢ باب الصبر ـ عنه البحار ٧١ : ٨١ ح ١٧ باب ٦٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٨٩ ح ٧ باب الصبر ـ عنه البحار ٧١ : ٧٢ ح ٤ باب ٦٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٩٠ ح ٨ باب الصبر ـ عنه البحار ٧١ : ٧٢ ح ٥ باب ٦٢.

٤ ـ الكافي ٢ : ٩١ ح ١٢ باب الصبر ـ عنه البحار ٧١ : ٧٥ ح ٩ باب ٦٢.

٥ ـ الكافي ٢ : ٩١ ح ١٣ باب الصبر ـ عنه البحار ٧١ : ٧٦ ح ١٠ باب ٦٢.

٣٣٢

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : الصبر ثلاثة ، صبر عند المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية.

فمن صبر على المصيبة حتى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش (١).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد (٢).

وروي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : اذا كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد وينادي مناد من عند الله يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، يقول : أين أهل الصبر؟

فيقوم عنق من الناس ، فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم : ما كان صبركم هذا الذي صبرتم؟ فيقولون : صبّرنا أنفسنا على طاعة الله ، وصبّرناها عن معصية الله ، قال : فينادي مناد من عند الله : صدق عبادي خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنّة بغير حساب(٣).

واعلم انّ اليقين من أعلى درجات الايمان ، ويطلق على معانٍ :

الأول : اليقين بالقضاء والقدر بحيث يترتب عليه آثار الايمان ويورث

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٩١ ح ١٥ باب الصبر ـ عنه البحار ٧١ : ٧٧ ح ١٢ باب ٦٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٩٢ ح ١٧ باب الصبر ـ عنه البحار ٧١ : ٧٨ ح ١٤ باب ٦٢.

٣ ـ أمالي الطوسي : ١٠٢ ح ١٢ باب ٤ ـ عنه البحار ٧١ : ٨٦ ح ٣٦ باب ٦٢.

٣٣٣

الانقطاع إلى الله والتوكل والتفويض والرضا والتسليم ، كما روي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : ليس شيء الاّ وله حد ، قال [ الراوي : ] قلت : جعلت فداك فما حدّ التوكل؟ قال : اليقين ، قلت : فما حدّ اليقين؟ قال : ألاّ تخاف مع الله شيئاً (١).

وقال عليه‌السلام : من صحة يقين المرء المسلم أن لا يُرضي الناس بسخط الله ، ولا يلومهم على ما لم يؤته الله ، فإنّ الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يردّه كراهية كاره ، ولو انّ أحدكم فرّ من رزقه كما يفرّ من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت.

ثم قال : ان الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا ، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط (٢).

وقال عليه‌السلام : انّ العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين (٣).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يجد عبد طعم الايمان حتى يعلم انّ ما أصابه لم يكن ليخطأه ، وانّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وانّ الضار النافع هو الله عزّوجلّ (٤).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه جلس إلى حائط مائل يقضي بين الناس ، فقال بعضهم : لا تقعد تحت هذا الحائط فانّه معور (٥).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٥٧ ح ١ باب فضل اليقين ـ عنه البحار ٧٠ : ١٤٢ ح ٦ باب ٥٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٥٧ ح ٢ باب فضل اليقين ـ عنه البحار ٧٠ : ١٤٣ ح ٧ باب ٥٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٥٧ ح ٣ باب فضل اليقين ـ عنه البحار ٧٠ : ١٤٧ ح ٨ باب ٥٢.

٤ ـ الكافي ٢ : ٥٨ ح ٧ باب فضل اليقين ـ عنه البحار ٧٠ : ١٥٤ ح ١٢ باب ٥٢.

٥ ـ العوار : العيب.

٣٣٤

فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : حرس امرأً أجله ، فلما قام سقط الحائط ، قال [ الصادق ] (١) : وكان أمير المؤمنين ممّا يفعل هذا وأشباهه وهذا اليقين (٢).

وروي عن سعيد بن قيس [ الهمداني ] انّه قال : نظرت يوماً في الحرب إلى رجل عليه ثوبان ، فحرّكت فرسي فاذا هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقلت : يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضع؟ فقال : نعم يا سعيد بن قيس انّه ليس من عبد الاّ وله من الله حافظ وواقية ، معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل ، أو يقع في بئر ، فاذا نزل القضاء خليّا بينه وبين كلّ شيء (٣).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : كان قنبر غلام عليّ يحبّ علياً حباً شديداً ، فاذا خرج عليّ صلوات الله عليه خرج على أثره بالسيف ، فرآه ذات ليلة فقال : يا قنبر ما لك؟ فقال : جئت لأمشي خلفك يا أمير المؤمنين.

قال : ويحك أمن أهل السماء تحرسني أو من أهل الأرض؟ فقال : لا بل من أهل الأرض ، فقال : انّ أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً الاّ باذن الله من السماء فارجع ، فرجع (٤).

الثاني : اليقين بثواب وعقاب الآخرة بحيث يظهر أثره كاملاً على الأعضاء والجوارح ، كما يظهر ذلك من بعض روايات حارثة حيث قال في وصف يقينه : ... كأني أنظر إلى عرش ربّي وقد وضع للحساب ... وكأنّي أسمع عواء أهل النار في النار ... (٥). ( ولقد مرّ سابقاً )

__________________

١ ـ لم يكن ما بين المعقوفتين من أصل الرواية.

٢ ـ الكافي ٢ : ٥٨ ح ٥ باب فضل اليقين ـ عنه البحار ٧٠ : ١٤٩ ح ١٠ باب ٥٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٥٨ ح ٨ باب فضل اليقين ـ عنه البحار ٧٠ : ١٥٤ ح ١٣ باب ٥٢.

٤ ـ الكافي ٢ : ٥٩ ح ١٠ باب فضل اليقين ـ عنه البحار ٧٠ : ١٥٨ ح ١٥ باب ٥٢.

٥ ـ الكافي ٢ : ٥٤ ح ٣ باب حقيقة الايمان واليقين.

٣٣٥

الثالث : اليقين في جميع الأمور التي لابد من الايمان بها ، وانّ الايمان اذا وصل إلى حدّه الكامل ، وظهر أثره على الأعضاء والجوارح وخلص من الشوائب يسمّى يقيناً.

روي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام انّه قال : الايمان فوق الإسلام بدرجة ، والتقوى فوق الايمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، ولم يقسّم بين العباد أقلّ شيئاً من اليقين (١).

وروي بسند معتبر انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قلت لجبرئيل : ما تفسير اليقين؟ قال : المؤمن يعمل لله كأنّه يراه ، فإن لم يكن يرى الله فإنّ الله يراه ، وأن يعلم يقيناً انّ ما أصابه لم يكن ليخطأه ، وانّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه ... (٢).

وسئل الامام الرضا عليه‌السلام : ... أيّ شيء اليقين؟ قال : التوكل على الله ، والتسليم لله ، والرضا بقضاء الله ، والتفويض إلى الله (٣).

وروي عن أحد صحابة أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : بينا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يعبّىء الكتائب يوم صفين ومعاوية مستقبله على فرس له يتأكل تحته تاكّلاً ، وعليّ عليه‌السلام على فرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرتجز ، وبيده حربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو متقلّد سيفه ذوالفقار.

فقال رجل من أصحابه : احترس يا أمير المؤمنين فانّا نخشى أن يغتالك هذا الملعون ، فقال عليه‌السلام : لئن قلت ذاك انّه غير مأمون على دينه ، وانّه لأشقى القاسطين ، وألعن الخارجين على الأئمة المهتدين ، ولكن كفى بالأجل حارساً.

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٥٢ ح ٦ باب فضل الايمان على الإسلام ـ عنه البحار ٧٠ : ١٣٩ ح ٥ باب ٥٢.

٢ ـ البحار ٧٠ : ١٧٣ ح ٢٧ باب ٥٢ ـ عن معاني الأخبار.

٣ ـ الكافي ٢ : ٥٢ ضمن حديث ٥ باب فضل الايمان على الإسلام.

٣٣٦

ليس أحد من الناس الاّ ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردّى في بئر ، أو يقع عليه حائط ، أو يصيبه سوء ، فاذا حان أجله خلّوا بينه وبين ما يصيبه ، وكذلك أنا اذا حان أجلي انبعث أشقاها فخضب هذه بهذه ـ وأشار إلى لحيته ورأسه ـ عهداً معهوداً ووعداً غير مكذوب (١).

وحمل اليقين على القسم الأخير من المعاني أظهر لشموله ، ويمكن حمل الأحاديث الدالة على المعنى الأول والثاني عليه أيضاً بأنّ المراد تبيين فرد من أفراد اليقين ، وبما انّه قد ذكر مجمل عن معنى الايمان نكتفي هنا بهذا المقدار.

__________________

١ ـ التوحيد للصدوق : ٣٦٧ ح ٥ باب ٦٠ ـ عنه البحار ٧٠ : ١٧٢ ح ٢٣ باب ٥٢.

٣٣٧

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر استغن بغنى الله يغنك الله ، فقلت : وما هو يا رسول الله؟ قال : غداء يوم ، وعشاء ليلة ، فمن قنع بما رزقه الله فهو أغنى الناس.

اعلم انّ الغنى وعدم الاحتياج لا يحصل بدون القناعة ، والغنى هو غنى النفس ، وربما كان الانسان غنيّاً بغنى نفسه مع فقره المادي وذلك بالتوكل على الله فلم يحرص على المال ولم ينظر ما في أيدي الناس.

وقد يكون الانسان صاحب ثروة لكنّه تجده ذليلاً بين الناس لجشعه في جمع المال ، فيكون أحوج الناس طبقاً لهوى نفسه وميلها ، واغلب الناس على هذه الشاكلة وقد مرّ سابقاً أن الدنيا كماء البحر المالح كلّما ازداد الانسان منه شرباً ازداد عطشاً ، فكذلك طالب الدنيا كلّما جمع أكثر ازداد حرصه.

روي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : من رضي من الدنيا بما يجزيه كان أيسر ما فيها يكفيه ، ومن لم يرض من الدنيا بما يجزيه لم يكن فيها شيء يكفيه(١).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام (٢) انّه قال : من رضي من الله باليسير من المعاش رضي الله عنه باليسير من العمل (٣).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ١٤٠ ح ١١ باب القناعة ـ عنه البحار ٧٣ : ١٧٨ ح ٢٣ باب ١٢٩.

٢ ـ رويت الراوية في المتن الفارسي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم نجدها.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ ح ٣ باب القناعة ـ عنه البحار ٧٣ : ١٧٥ ح ١٥ باب ١٢٩.

٣٣٨

وقال : من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس (١).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة ونقنع بهذا المقدار ومن لم يكتف بهذا لم يكتف بأكثر منه.

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ١٣٩ ح ٩ باب القناعة ـ عنه البحار ٧٣ : ١٧٨ ح ٢١ باب ١٢٩.

٣٣٩

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر انّ الله عزّوجلّ يقول : اني لست كلام الحكيم أتقبّل ، ولكن همّه وهواه ، فإن كان همّه وهواه فيما أحبّ وأرضى جعلت صمته حمداً لي ووقاراً وإن لم يتكلم.

يا أباذر انّ الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

يا أباذر التقوى هاهنا ـ وأشار إلى صدره ـ

اعلم انّ مفاد هذه الكلمات قد تكرر سابقاً في بيان النية وغيرها ، وذلك انّ أصل الذكر والشكر والحمد والحكمة والمعرفة والتقوى شيء واحد وهو في قلب الانسان ، فالحكمة الجارية على اللسان من دون اتصاف بها لا تكون الاّ رياء وسمعة ولم تكن لله تعالى ، أما لو كان متصفاً بها وصارت من جبّلته فحينئذٍ يكون كلامه حكمة ، وقوله نافعاً للناس ، وصمته وقاراً ، وأفعاله وأطواره وعظاً للناس.

وتتكلّم جميع أعضائه وجوارحه بالحكمة ، وتنبع من قلبه عيون الحكمة وتجري على لسانه وجوارحه ، ويصل فيضها إلى العالمين ، ويهتدى أناس برؤيته كما ورد في الأحاديث المعتبرة بأنّه كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم بل بأعمالكم الصالحة المأتيّ بها لله.

وكذلك التقوى الحقيقية فهي ما نبع من صميم القلب ، وكان سببه في السرّ والجهر كمال الايمان ، وتصديق عظمة الله ، وتصديق الآخرة ، وغاية درجة الخوف والرجاء ، أما لو كان خوفاً من تشنيع الخلق أو سائر الأغراض الفاسدة فيترك

٣٤٠