عين الحياة - ج ٢

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

عين الحياة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد هاشم الميلاني
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

من الندامة على العقوبة (١).

وروي عن علي بن الحسين عليهما‌السلام انّه قال : ... ما تجرّعت جرعة أحبّ إليّ من جرعة غيظ أُكافي بها صاحبها (٢).

وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : قال لي أبي : يا بنيّ ما من شيء أقرّ لعين أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر ... (٣).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : ما من عبد كظم غيظاً الاّ زاده الله عزّوجلّ في الدنيا والآخرة ، وقد قال الله عزّوجلّ : ( وَالكَاظِمينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاس وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ ) (٤) واثابه الله مكان غيظه ذلك (٥).

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمناً وايماناً يوم القيامة (٦).

وروي بسند معتبر عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : اصبر على أعداء النعم ، فانّك لن تكافي من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه (٧).

وروي عن علي بن الحسين عليهما‌السلام انّه قال : انّه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه (٨).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ١٠٨ ح ٦ باب العفو ـ عنه البحار ٧١ : ٤٠١ ح ٦ باب ٩٣.

٢ ـ الكافي ٢ : ١٠٩ ح ١ باب كظم الغيظ ـ عنه البحار ٧١ : ٤٠٦ ح ٢٠ باب ٩٣.

٣ ـ الكافي ٢ : ١١٠ ح ١٠ باب كظم الغيظ ـ عنه البحار ٧١ : ٤١٢ ح ٢٨ باب ٩٣.

٤ ـ آل عمران : ١٣٤.

٥ ـ الكافي ٢ : ١١٠ ح ٥ باب كظم الغيظ ـ عنه البحار ٧١ : ٤٠٩ ح ٢٤ باب ٩٣.

٦ ـ الكافي ٢ : ١١٠ ح ٧ باب كظم الغيظ ـ عنه البحار ٧١ : ٤١١ ضمن حديث ٢٥ باب ٩٣.

٧ ـ أمالي الصدوق : ٨٨ ح ٥ مجلس ٢١ ـ عنه البحار ٧١ : ٤١٦ ح ٣٨ باب ٩٣.

٨ ـ الكافي ٢ : ١١٢ ح ٣ باب الحلم ـ عنه البحار ٧١ : ٤٠٤ ح ١٣ باب ٩٣.

٣٠١

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : انّ الله عزّوجلّ يحبّ الحييّ الحليم(١).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : ما أعزّ الله بجهل قط ، ولا أذلّ بحلم قط (٢).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : كفى بالحلم ناصراً ، وقال : اذا لم تكن حليماً فتحلّم (٣).

وقال عليه‌السلام : اذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان ، فيقولان للسفيه منهما : قلت وقلت وأنت أهل لما قلت ، ستجزى بما قلت ، ويقولان للحليم منهما : صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أتممت ذلك ، قال : فإن ردّ الحليم عليه ارتفع الملكان (٤).

وقال عليه‌السلام : انّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا (٥).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : قال عيسى بن مريم ليحيى بن زكريا عليهم‌السلام : اذا قيل فيك ما فيك فاعلم انّه ذنب ذكرته فاستغفر الله منه ، وان قيل فيك ما ليس فيك فاعلم انّه حسنة كتبت لك لم تتعب فيها (٦).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة : شريف من وضيع ،

____________

١ ـ الكافي ٢ : ١١٢ ح ٤ باب الحلم ـ عنه البحار ٧١ : ٤٠٤ ح ١٤ باب ٩٣.

٢ ـ الكافي ٢ : ١١٢ ح ٥ باب الحلم ، عنه البحار ٧١ : ٤٠٤ ح ١٦ باب ٩٣.

٣ ـ الكافي ٢ : ١١٢ ح ٦ باب الحلم ـ عنه البحار ٧١ : ٤٠٤ ح ١٥ باب ٩٣.

٤ ـ الكافي ٢ : ١١٢ ح ٩ باب الحلم ـ عنه البحار ٧١ : ٤٠٦ ح ١٩ باب ٩٣.

٥ ـ البحار ٧١ : ٤١٤ ح ٣١ باب ٩٣ ـ عن أمالي الصدوق.

٦ ـ البحار ٧١ : ٤١٥ ح ٣٧ باب ٩٣ ـ عن أمالي الصدوق.

٣٠٢

وحليم من سفيه ، وبرّ من فاجر (١).

وقال أبو عبدالله عليه‌السلام : ثلاث من كنّ فيه زوّجه الله من الحور العين كيف يشاء : كظم الغيظ ، والصبر على السيوف لله عزّوجلّ ، ورجل أشرف على مال حرام فتركه لله عزّوجلّ (٢).

وقال عليه‌السلام : ثلاث خصال من كنّ فيه استكمل خصال الايمان : من صبر على الظلم ، وكظم الغيظ ، واحتسب وعفى وغفر ، كان ممن يدخله الله عزّوجلّ الجنّة بغير حساب ، ويشفّعه في مثل ربيعة ومضر (٣).

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : من ملك نفسه اذا رغب ، واذا رهب ، واذا غضب حرّم الله جسده على النار (٤).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله عزّوجلّ ، قيل : يا رسول الله وما هنّ؟ قال : حلم يردّ به جهل الجاهل ، وحسن خلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن معاصي الله عزّوجلّ (٥).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ العفو يزيد صاحبه عزّاً ، فاعفوا يعزّكم الله ... (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كظم غيظاً ملأ الله جوفه ايماناً ، ومن عفى من

__________________

١ ـ الخصال : ٨٦ ح ١٦ باب ٣ ـ عنه البحار ٧١ : ٤١٦ ح ٤٢ باب ٩٣.

٢ ـ الخصال : ٨٥ ح ١٤ باب ٣ ـ عنه البحار ٧١ : ٤١٧ ح ٤٣ باب ٩٣.

٣ ـ الخصال : ١٠٤ ح ٦٣ باب ٣ ـ عنه البحار ٧١ : ٤١٧ ح ٤٤ باب ٩٣.

٤ ـ البحار ٧١ : ٤١٧ ح ٤٥ باب ٩٣ ـ عن تفسير القمي.

٥ ـ الخصال : ١٤٥ ح ١٧٢ باب ٣ ـ عنه البحار ٧١ : ٤١٨ ح ٤٦ باب ٩٣.

٦ ـ البحار ٧١ : ٤١٩ ح ٤٩ باب ٩٣ ـ عن أمالي الطوسي.

٣٠٣

مظلمة أبدله الله بها عزّاً في الدنيا والآخرة (١).

وروي بسند معتبر انّه سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام : أيّ الخلق أقوى؟ قال : الحليم ، وسئل من أحلم الناس؟ قال : الذي لا يغضب (٢).

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأحزم الناس أكظمهم للغيظ (٣).

وروي بأسانيد معتبرة في تفسير قوله تعالى : ( فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ ) (٤) قال : العفو من غير عتاب (٥).

وروي بسند معتبر عن أبي الحسن الثالث [ عليّ النقي ] عليه‌السلام انّه قال : كان فيما ناجى الله موسى بن عمران عليه‌السلام أن قال : الهي ما جزاء من صبر على أذى الناس وشتمهم فيك؟ قال : أُعينه على أهوال يوم القيامة (٦).

وروي بسند معتبر عن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام انّه قال : أوحى الله عزّوجلّ إلى نبيّ من أنبيائه : اذا أصحبت فأوّل شيء يستقبلك فكله ، والثاني فاكتمه ، والثالث فاقبله ، والرابع فلا تؤيسه ، والخامس فاهرب منه.

قال : فلمّا أصبح مضى فاستقبله جبل أسود عظيم ، فوقف وقال : أمرني ربي عزّوجلّ أن آكل هذا ، وبقي متحيّراً ثم رجع إلى نفسه فقال : انّ ربّي جلّ جلاله لا

__________________

١ ـ البحار ٧١ : ٤١٩ ح ٥١ باب ٩٣ ـ عن أمالي الطوسي.

٢ ـ البحار ٧١ : ٤٢٠ ح ٥٢ باب ٩٣ ـ عن أمالي الصدوق.

٣ ـ البحار ٧١ : ٤٢٠ ح ٥٥ باب ٩٣ ـ عن معاني الأخبار.

٤ ـ الحجر : ٨٥.

٥ ـ البحار ٧١ : ٤٢١ ح ٥٦ باب ٩٣ ـ عن معاني الأخبار.

٦ ـ البحار ٧١ : ٤٢١ ح ٥٦ باب ٩٣ ـ عن معاني الأخبار.

٣٠٤

يأمرني الاّ بما أطيق ، فمشى إليه ليأكله ، فلمّا دنا منه صغر حتى انتهى إليه فوجده لقمة ، فأكلها فوجدها أطيب شيء أكله.

ثم مضى فوجد طشتاً من ذهب ، فقال : أمرني ربي عزّ وجلّ أن أكتم هذا ، فحفر له وجعله فيه وألقى عليه التراب ، ثم مضى فالتفت فاذا الطشت قد ظهر ، فقال : قد فعلت ما أمرني ربيّ عزّوجلّ.

فمضى فاذا هو بطير وخلفه بازيّ فطاف الطير حوله ، فقال : أمرني ربّي عزّوجلّ أن أقبل هذا ، ففتح كمّه فدخل الطير فيه ، فقال له البازيّ : أخذت منّي صيدي وأنا خلفه منذ أيام ، فقال : أمرني ربي عزّوجلّ أن لا أويس هذا ، فقطع من فخذه قطعة فالقاها إليه ثم مضى ، فلمّا مضى فاذا هو بلحم ميتة منتن مدود ، فقال : أمرني ربي عزّ وجلّ أن أهرب من هذا ، فهرب منه.

فرجع فرأى في المنام كأنّه قد قيل له : انّك قد فعلت ما أمرت به فهل تدري ماذا كان؟ قال : لا ، قيل له : أمّا الجبل فهو الغضب ، انّ العبد اذا غضب لم ير نفسه وجهل قدره من عظم الغضب ، فاذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكّن غضبه كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي أكلتها.

وأمّا الطشت فهو العمل الصالح اذا كتمه العبد وأخفاه أبى الله عزّوجلّ الاّ أن يظهره ليزيّنه به مع ما يدّخر له من ثواب الآخرة ، وأمّا الطير فهو الرجل الذي يأتيك بنصيحة فاقبله واقبل نصيحته ، وأمّا البازي فهو الرجل الذي يأتيك في حاجة فلا تؤيسه ، وأمّا اللحم المنتن فهي الغيبة فاهرب منها (١).

عزيزي ، لو أردت العلم بفضل الحلم وكظم الغيظ فانظر إلى أحوال انبياء

__________________

١ ـ البحار ٧١ : ٤١٨ ح ٤٧ باب ٩٣ ـ عن الخصال : ٢٦٧ ح ٢ باب ٥.

٣٠٥

الله وكيف لاقوا المتاعب والأذى من فجار أممهم من المنحرفين ، ولكنهم كظموا الغيظ سيّما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ما لقى من كفّار قريش وغيرهم من الأذى والمحن ومع كلّ هذا لم يدع عليهم ولو مرّة واحدة.

وانظر إلى معدن الآداب ومفخر أولي الألباب كيف سلك مع أجلاف العرب وما لقى منهم من الاهانة والتجاسر وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعفو ويصفح ، كما روي انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدركه أعرابيّ فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة ... وقد أثرت به حاشية الرداء من شدّه جبذته ، ثم قال له : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضحك وأمر له بعطاء (١).

وبعد هذا أنزل الله تعالى : ( وَاِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢).

انّ قريش مع ما صنعت به من الأذى لكن لما فتح مكة وأسروا وحضروا مسجد الحرام من دون سلاح وقف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند باب الكعبة وهم ينتظرون العقوبة فسألوه عمّا يصنع بهم ، فقال : أفعل ما فعل يوسف باخوته ، لا تثريب عليكم اليوم ولو أسلمتم يغفر الله لكم (٣).

روي بسند معتبر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها : ما حملك على ما صنعت؟ فقالت : قلت : إن كان نبياً لم يضرّه ، وإن كان ملكاً أرحت الناس منه ، قال : فعفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها (٤).

__________________

١ ـ البحار ١٦ : ٢٣٠ ضمن حديث ٣٥ باب ٩ ـ عن مكارم الاخلاق.

٢ ـ القلم : ٤.

٣ ـ مضمون النص.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٠٨ ح ٩ باب العفو ـ عنه البحار ١٦ : ٢٦٥ ح ٦٢ باب ٩.

٣٠٦

وروي بسند معتبر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : انّ يهودياً كان له على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دنانير فتقاضاه ، فقال له : يا يهوديّ ما عندي ما أعطيك ، فقال : فانّي لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني ، فقال : اذاً أجلس معك.

فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة ، وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهدّدونه ويتواعدونه ، فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم فقال : ما الذي تصنعون به؟ فقالوا : يا رسول الله يهوديّ يحبسك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يبعثني ربّي عزّوجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره.

فلما علا النهار قال اليهوديّ : أشهد أن لا اله الاّ الله ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، وشطر مالي في سبيل الله ، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت الاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة ، فانّي قرأت نعتك في التوراة :

« محمد بن عبدالله مولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، وليس بفظّ ولا غليظ ، ولا سخّاب ، ولا متزيّن بالفحش ، ولا قول الخناء ».

وأنا أشهد أن لا اله الاّ الله ، وأنّك رسول الله ، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله ، وكان اليهودي كثير المال.

ثم قال عليه‌السلام : كان فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عباءة ، وكانت مرفقته أدم حشوها ليف ، فثنّيت له ذات ليلة فلمّا أصبح قال : لقد منعني الفراش الليلة الصلاة ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل بطاق واحد (١).

وانظر ما لقى أمير المؤمنين عليه‌السلام من المحن من أصحاب رسول الله صلّى الله

__________________

١ ـ البحار ١٦ : ٢١٦ ح ٥ باب ٩ ـ عن أمالي الصدوق.

٣٠٧

عليه وآله وسلّم ومن أصحابه لكنه عفا عنهم عند القدرة ، كما عفا عن أصحاب الجمل الذين قاتلوه وقتلو أصحابه ، وأرسل عائشة إلى المدينة في غاية الاحترام ، وأرسل معها سبعين امرأة.

وأخلى سبيل مروان بن الحكم مع ما لقى منه من الأذى ، وكذلك صنع مع أصحاب النهروان وغيرهم ، وأوصى عليه‌السلام ابنه الحسن عليه‌السلام أن لا يضرب ابن ملجم اللعين أكثر من ضربة واحدة ، وأن لا يمثّل به ، وأن يُعطى من الماء والغذاء الذي كان هو عليه‌السلام يأكله.

وقد كان آلاف الخوارج في اصحابه ونسبوه عليه‌السلام ـ وهو مفخر الايمان ـ إلى الكفر علانية ، لكنّه كان يعفي ويصفح ولم يتعرّض لهم.

روي انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّ بأصحاب التمر ، فاذا هو بجارية تبكي ، فقال : يا جارية ما يبكيك؟ فقالت : بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه ، فلمّا أتيته به أبى أن يقبله.

قال : يا عبدالله انّها خادم وليس لها أمر فاردد إليها درهما وخذ التمر ، فقام إليه الرجل فلكزه (١) ، فقال الناس : هذا أمير المؤمنين ، فربا الرجل واصفر وأخذ التمر وردّ إليها درهمها ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ارض عنّي ، فقال : ما أرضاني عنك ان أصلحت أمرك.

ودعا عليه‌السلام غلاماً له مراراً فلم يجبه ، فخرج فوجده على باب البيت ، فقال : ما حملك على ترك اجابتي؟ قال : كسلت عن اجابتك وأمنت عقوبتك ، فقال : الحمد لله الذي جعلني ممّن يأمنه خلقه ، امض فأنت حرّ لوجه الله (٢).

__________________

١ ـ اللكز : الدفع والضرب بجمع الكف.

٢ ـ البحار ٤١ : ٤٨ ح ١ باب ١٠٤ ـ عن مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ١١٢ في حلمه وشفقته.

٣٠٨

وروي انّه لما أدرك عمرو بن عبد ود لم يضربه ، فوقعوا في عليّ عليه‌السلام فردّ عنه حذيفة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مه يا حذيفة فإنّ عليّاً سيذكر سبب وقفته ، ثمّ انّه ضربه ، فلمّا جاء سأله النبي عن ذلك ، فقال : قد كان شتم أمّي وتفل في وجهي ، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي ، فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله (١).

وروي أيضاً انّه نظر عليّ عليه‌السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء ، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها ، فقالت : بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك عَلَيَّ صبياناً يتامى ، وليس عندي شيء ، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس.

فانصرف وبات ليلته قلقاً ، فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام ، فقال بعضهم : أعطني أحمله عنك ، فقال : من يحمل وزري عنّي يوم القيامة؟ فأتى وقرع الباب ، فقالت : من هذا؟ قال : أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة فافتحي فإنّ معي شيئاً للصبيان.

فقالت : رضي الله عنك وحكم بيني وبين عليّ بن أبي طالب ، فدخل وقال : انّي أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعلّلين الصبيان لأخبز أنا ، فقالت : أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ، ولكن شأنك والصبيان ، فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز.

قال : فعمدت إلى الدقيق فعجنته ، وعمد عليّ عليه‌السلام إلى اللحم فطبخه وجعل يلقّم الصبيان من اللحم والتمر وغيره ، فكلّما ناول الصبيان من ذلك شيئاً

__________________

١ ـ المناقب لابن شهرآشوب ٢ : ١١٥ فصل في حلمه وشفقته.

٣٠٩

قال له : يا بنيّ اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا أمر في أمرك.

فلمّا اختمر العجين قالت : يا عبدالله اسجر التنور ، فبادر لسجره ، فلمّا أشعله ولفح في وجهه جعل يقول : ذق يا عليّ هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى ، فرأته امرأة تعرفه فقالت : ويحك هذا أمير المؤمنين ، قال : فبادرت المرأة وهي تقول : واحيائي منك يا أمير المؤمنين ، فقال : بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك (١).

وروي أيضاً انّه دخل ضرار بن ضمرة الليثي على معاوية فقال له : صف لي عليّا فقال : أو تعفني من ذلك ، فقال : لا أعفيك.

فقال : كان والله بعيد المدى (٢) ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته.

كان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّيه ويخاطب نفسه ، ويناجي ربّه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، كان والله فينا كأحدنا ، يدنينا اذا أتيناه ، ويجيبنا اذا سألناه.

وكان مع دنوّه منّا وقربنا معه لا نكلّمه لهيبته ، ولا نرفع عيننا لعظمته ، فان تبسم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظّم أهل الدين ، ويحبّ المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الفقير من عدله.

فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت

__________________

١ ـ البحار ٤١ : ٥٢ ضمن حديث ٣ باب ١٠٤ ـ عن مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ١١٥ فصل في حلمه وشفقته.

٢ ـ بعيد المدى : المدى الغاية وهو كناية عن علوّ همته في تحصيل الكمالات ، أو عن رفعة محلّه في السعادات حيث لا يصل إليه أحد في شيء من فضائله ( البحار ).

٣١٠

نجومه وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأنّي الآن أسمعه وهو يقول : يا دنيا دنيّة أبي تعرّضت؟ أم اليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات غريّ غيري لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها ، فعمرك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آه آه من قلّة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق ، وعظم المورد.

فوكفت (١) دموع معاوية على لحيته فنشفها بكمّه ، واختنق القوم بالبكاء ، ثم قال : كان والله أبو الحسن كذلك ، فكيف صبرك عنه يا ضرار؟ قال : صبر من ذبح ولدها على صدرها ، فهي لا ترقى عبرتها ولا تسكن حسرتها ، ثم قام وخرج وهو باك ... (٢).

وروي بسند معتبر عن أبي ذر انّه قال : ... أهديت لجعفر جارية قيمتها أربعة آلاف درهم ، فلمّا قدمنا المدينة أهداها لعليّ عليه‌السلام تخدمه ، فجعلها عليّ في منزل فاطمة ، فدخلت فاطمة عليها‌السلام يوماً فنظرت إلى رأس عليّ عليه‌السلام في حجر الجارية ، فقالت : يا أبا الحسن فعلتها ، فقال : لا والله يا بنت محمد ما فعلت شيئاً فما الذي تريدين؟ قالت : تأذن لي في المصير إلى منزل أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال لها : قد أذنت لك.

فتجلّلت بجلالها ، وتبرقعت ببرقعها ، وأرادت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهبط جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد انّ الله يقرئك السلام ويقول لك : انّ هذه فاطمة قد اقبلت تشكو عليّاً فلا تقبل منها في عليّ شيئاً.

__________________

١ ـ وكفت : أي سالت.

٢ ـ البحار ٤١ : ١٢٠ ح ٢٨ باب ١٠٧ ـ عن ارشاد القلوب.

٣١١

فدخلت فاطمة ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جئت تشكين علياً؟ قالت : اي وربّ الكعبة ، فقال لها : ارجعي إليه فقولي له : رغم أنفي لرضاك ، فرجعت إلى علي عليه‌السلام فقالت له : يا أبا الحسن رغم أنفي لرضاك ـ تقولها ثلاثاً ـ فقال لها عليّ : شكوتني إلى خليلي وحبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واسوأتاه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أشهد الله يا فاطمة انّ الجارية حرّة لوجه الله وأنّ الأربعمائة درهم التي فضلت من عطائي صدقة على فقراء أهل المدينة.

ثم تلبس وانتعل وأراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهبط جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد انّ الله يقرئك السلام ويقول لك : قل لعليّ : قد أعطيتك الجنّة بعتقك الجارية في رضى فاطمة ، والنار بالأربعمائة درهم التي تصدّقت بها ، فأدخل الجنّة من شئت برحمتي وأخرج من النار من شئت بعفوي ، فعندها قال عليّ عليه‌السلام : أنا قسيم الله بين الجنّة والنار (١).

وروي أيضاً عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة وعليها كساء من أجلّة الابل وهي تطحن بيديها وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة.

فقالت : يا رسول الله الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه ، فأنزل الله

____________

١ ـ البحار ٤٣ : ١٤٧ ح ٣ باب ٦ ـ عن علل الشرائع ص ١٦٣ ح ٢ باب ١٣٠ ـ أقول : لا يخفى استبعاد المتتبع لأحوال أهل البيت لصحة هذه الرواية فإنّ فيها انّ أباذر كان مسافراً إلى الحبشة ولم يثبت هذا بل ورد في حديث انّه بعد ما أسلم ذهب إلى بلده ثم عاد بعدما ظهر أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأيضاً يستبعد صدور أعمال من الزهراء عليها‌السلام ( وهي سيدة نساء العالمين ) لا يليق بشأنها ومرتبتها ، زهراء التي لم تخالف عليّاً ولم تعمل خلاف رضاه طرفة عين كيف يمكن أن تأتي أبيها وتشتكي عنه عليه‌السلام وهي أجلّ شأناً من هذا ، والله العالم.

٣١٢

( وَلَسوفَ يُعطِيكَ رَبُّكَ فَتَرضَى ) (١) (٢).

وروي بسند معتبر انّ شاميّا رآه [ أي رأى الامام الحسن عليه‌السلام ] راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّه ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه‌السلام فسلّم عليه وضحك ، فقال : أيها الشيخ أظنّك غريباً ولعلّك شبّهت ، فلو استعتبتنا أعتبناك ، ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا أحملناك.

وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عرياناً كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك ، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك ، لأنّ لنا موضعاً رحباً ، وجاهاً عريضاً ، ومالاً كثيراً.

فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ثم قال : أشهد أنك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ ، وحوّل رحله إليه ، وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم (٣).

وروي انّه جرى بينه [ أي بين الامام الحسين عليه‌السلام ] وبين محمد بن الحنفية كلام ، فكتب ابن الحنفية إلى الحسين : « أما بعد يا أخي فإنّ أبي وأباك عليّ لا تفضلني فيه ولا أفضلك ، وأمك فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو كان ملؤ الأرض ذهباً ملك أمّي ما وفت بأمّك ، فاذا قرأت كتابي هذا فصر إليّ حتى تترضاني ، فانّك أحقّ بالفضل منّي ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ».

__________________

١ ـ الضحى : ٥.

٢ ـ البحار ٤٣ : ٨٥ ضمن حديث ٨ باب ٤.

٣ ـ البحار ٤٣ : ٣٤٤ باب ١٦ ـ عن مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ١٩ ـ عن كامل المبرد.

٣١٣

ففعل الحسين عليه‌السلام ذلك ، فلم يجر بعد ذلك بينهما شيء (١).

وروي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام انّه قال : خرجنا مع الحسين فما نزل منزلاً ولا ارتحل عنه الاّ وذكر يحيى بن زكريّا ، وقال يوماً : من هوان الدنيا على الله انّ رأس يحيى اُهدي إلى بغيّ من بغايا بني اسرائيل (٢).

ومن وفور حلمه ( وهو معدن الجود والكرم ) عدم دعائه على قاتليه وقاتلي أبنائه وإخوانه وأصحابه ، والحال انّ الله تعالى سخّر له السماوات والأرضين والجنّ والانس والوحوش والطيور وجميع المخلوقات.

ولقد أصابه طبقاً لرواية : ثلاثمائة وستين جرحاً ، وفي رواية : ألف وتسعمائة جرحاً وفي رواية أخرى مائة وثمانين طعنة بالسيف والرمح ، وأربعة آلاف جرح بالسهام ، ومع هذا لم يدع عليهم ، وكان يترحم عليهم ، ويسعى في هدايتهم ، وقد قتل عليه‌السلام بقوّته الربانية جمعاً منهم كما في بعض الروايات بأنّه عليه‌السلام قتل ألفاً وتسعمائة وخمسين نفراً غير من جرح.

روي بسند معتبر آخر انّه وجد على ظهر الحسين بن عليّ عليه‌السلام يوم الطف أثر ، فسألوا زين العابدين عن ذلك ، فقال : هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين (٣).

وروي انّ الحسين عليه‌السلام كان يقعد في المكان المظلم فيهتدى إليه ببياض جبينه ونحره (٤).

__________________

١ ـ مناقب بن شهرآشوب ٤ : ٦٦ ـ عنه البحار ٤٤ : ١٩١ ضمن حديث ٣ باب ٢٦.

٢ ـ مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ٨٥.

٣ ـ مناقب بن شهرآشوب ٤ : ٦٦ ـ عنه البحار ٤٤ : ١٩٠ ح ٣ باب ٢٦.

٤ ـ مناقب بن شهرآشوب ٤ : ٧٥ في معالي أموره.

٣١٤

وروي بسند معتبر انّه جعلت جارية لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام تسكب الماء عليه وهو يتوضّأ للصلاة ، فسقط الابريق من يد الجارية على وجهه فشجه ، فرفع عليّ بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية : ان الله عزّوجل يقول : ( وَالكَاظِمينَ الغَيظَ ) (١) فقال لها : قد كظمت غيظي ، قالت : ( وَالعَافِين عِنِ النَّاسِ ) قال لها : قد عفى الله عنك ، قالت : ( وَالله يُحِبُّ المُحسِنِينَ ) قال : اذهبي فأنت حرّة (٢).

وروي انّه كسرت جارية له قصعة فيها طعام فاصفرّ وجهها ، فقال لها : اذهبي فأنت حرّة لوجه الله (٣).

وروي انّه شتم بعضهم زين العابدين عليه‌السلام فقصده غلمانه ، فقال : دعوه فإنّ ما خفي منّا أكثر مما قالوا ، ثم قال له : ألك حاجة يا رجل؟ فخجل الرجل ، فأعطاه ثوبه وأمر له بألف درهم ، فانصرف الرجل صارخاً : أشهد أنّك ابن رسول الله (٤). وروي انّه سبّه عليه‌السلام رجل ، فسكت عنه ، فقال : اياك أعني ، فقال عليه‌السلام : وعنك أغضي.

وشتمه آخر فقال : يا فتى انّ بين أيدينا عقبة كؤداً ، فإن جزت منها لا أبالي بما تقول ، وان أتحيّر فيها فأنا شرٌ مما تقول (٥).

وروي بسند آخر انّ مولى لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام يتولى عمارة ضيعة له ، فجاء ليطلعها فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيراً غاظه من ذلك ما رآه وغمّه ، فقرع

__________________

١ ـ آل عمران : ١٣٤.

٢ ـ البحار ٤٦ : ٦٧ ح ٣٦ باب ٥ ـ عن أمالي الصدوق.

٣ ـ مناقب بن شهرآشوب ٤ : ١٥٨ ـ عنه البحار ٤٦ : ٩٦ ضمن حديث ٨٤ باب ٥.

٤ ـ مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ١٥٧ عنه البحار ٤٦ : ٩٥ ضمن حديث ٨٤ باب ٥.

٥ ـ مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ١٥٧ ـ عنه البحار ٤٦ : ٩٦ ضمن حديث ٨٤ باب ٥.

٣١٥

المولى بسوط كان في يده فأصاب وندم على ذلك.

فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى فأتاه فوجده عارياً والسوط بين يديه ، فظنّ انّه يريد عقوبته ، فاشتد خوفه ، فأخذ عليّ بن الحسين السوط ومدّ يده إليه وقال : يا هذا قد كان منّي إليك ما لم يتقدّم منّي مثله ، وكانت هفوة وزلّة فدونك السوط واقتص منّي.

فقال المولى : يا مولاي والله ان ظننت الاّ انّك تريد عقوبتي وأنا مستحق للعقوبة فكيف اقتص منك ، قال : ويحك اقتصّ ، قال : معاذ الله أنت في حل وسعة ، فكرر ذلك عليه مراراً والمولى كلّ ذلك يتعاظم قوله ويحلّله ، فلمّا لم يره يقتص له قال : أما اذا أبيت فالضيعة صدقة عليك ، وأعطاه اياها (١).

وروي انّه كان عنده عليه‌السلام قوم أضياف فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود منه على رأس بنيّ لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله.

فقال عليّ للغلام وقد تحيّر الغلام واضطرب : أنت حرّ فانّك لم تعتمده ، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه (٢).

وانتهى عليه‌السلام إلى قوم يغتابونه فوقف عليهم فقال لهم : ان كنتم صادقين فغفر الله لي ، وان كنتم كاذبين فغفر الله لكم (٣).

وروي بسند معتبر انّه بعث أبو عبدالله عليه‌السلام غلاماً له في حاجة فأبطأ ، فخرج أبو عبدالله عليه‌السلام على أثره لما أبطأ عليه فوجوده نائماً ، فجلس عند رأسه

__________________

١ ـ مناقب ابن شهرآشوب ٤ : ١٥٨ ـ عنه البحار ٤٦ : ٩٦ ضمن حديث ٨٤ باب ٥.

٢ ـ البحار ٤٦ : ٩٩ ح ٨٧ باب ٥ ـ عن كشف الغمة.

٣ ـ مناقب بن شهرآشوب ٤ : ١٥٨ ـ عنه البحار ٤٦ : ٩٦ ضمن حديث ٨٤ باب ٥.

٣١٦

يروّحه حتى انتبه ، فلما انتبه قال له أبو عبدالله عليه‌السلام : يا فلان والله ما ذاك لك تنام الليل والنهار ، لك الليل ولنا منك النهار (١).

وروي انّه دخل سفيان الثوري على الصادق عليه‌السلام فرآه متغيّر اللون فسأله عن ذلك ، فقال : كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت ، فدخلت فاذا جارية من جواريّ ممّن ترّبي بعض ولدي قد صعدت في سلّم والصبيّ معها ، فلمّا بصرت بي ارتعدت وتحيّرت وسقط الصبيّ إلى الأرض فمات ، فما تغيّر لوني لموت الصبيّ وانّما تغيّر لوني لما أدخلت عليها من الرعب ، وكان عليه‌السلام قال لها : أنت حرّة لوجه الله لا بأس عليك مرّتين(٢).

وروي انّه نام رجل من الحاج في المدينة فتوهّم انّ هميانه سرق ، فخرج فرأى جعفر الصادق عليه‌السلام مصلّياً ولم يعرفه ، فتعلّق به وقال له : أنت أخذت همياني ، قال : وما كان فيه؟ قال : ألف دينار.

قال : فحمله إلى داره ووزن له ألف دينار ، وعاد إلى منزله ووجد هميانه فعاد إلى جعفر معتذراً بالمال ، فأبى قبوله وقال : شيء خرج من يدي لا يعود إليّ ، قال : فسأل الرجل عنه فقيل : هذا جعفر الصادق ، قال : لا جرم هذا فعال مثله (٣).

وقد ملأ صيت حلم موسى بن جعفر عليه‌السلام وكظم غيظه الآفاق ، ووصلت أخبار مكارم أخلاقه إلى مسامع الخاص والعام ، ولقد كان كلّ واحد من أئمتنا صلوات الله عليهم مقبولاً ومحبوباً لدى الخاص والعام بجميع محاسن الشيم ومحامد الخصال ، واعترف بكمالهم الصديق والعدوّ ، ولو كانت البحار مداداً لما أحصيت

__________________

١ ـ الكافي ٨ : ٨٧ ح ٥٠ ـ عنه البحار ٤٧ : ٥٦ ح ٩٧ باب ٢٦.

٢ ـ مناقب بن شهرآشوب ٤ : ٢٧٤ ـ عنه البحار ٤٧ : ٢٤ ضمن حديث ٢٦ باب ٢٦.

٣ ـ مناقب بن شهرآشوب ٤ : ٢٧٤ ـ عنه البحار ٤٧ : ٢٣ ضمن حديث ٢٦ باب ٢٦.

٣١٧

فضائلهم ، ولو أمهلني الأجل ففي ذهني أن أُءلّف كتاباً في سيرهم وسننهم عليهم‌السلام.

والغرض من ذكر هذا أن تلاحظ قادتك وهم زبدة الكائنات كيف كانوا في الحلم والصبر والتواضع ، وكيف كانت معاملتهم مع الخلق كي تتأسى بهم وتُخرج الغرور والعجب من نفسك ولا يخدعك الشيطان بأنّ الانسان لابدّ أن يراعي حرمة نفسه ولا يُهين العلم ، وانّ العمل الفلاني لا يناسب شأننا ... نعوذ بالله من وساوس الشيطان وشروره.

٣١٨

[ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمه‌الله ] :

يا أباذر ان سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكّل على الله ، وان سرّك أن تكون أكرم الناس فاتق الله ، وان سرّك أن تكون أغنى الناس فكن بما في يد الله عزّوجلّ أوثق منك بما في يديك.

يا أباذر لو انّ الناس كلّهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم ( وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجاَ * وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لاَ يَحتَسِب وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ اِنَّ اللهَ بَالِغ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىءٍ قَدراً ) (١).

يا أباذر يقول الله جلّ ثناؤه : وعزتي وجلالي لا يؤثر عبدي هواي على هواه الاّ جعلت غناه في نفسه ، وهمومه في آخرته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ، وكففت عليه ضيعته ، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر.

اعلم انّ التوكل والتفويض والرضا والتسليم من عظيم أركان الايمان ، والآيات والأخبار في فضل هذه الخصال لا تعدّ ولا تحصى ، كما روي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه قال : رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحبّ العبد أو كره ، ولا يرضى عبد من الله فيما أحبّ أو كره الاّ كان خيراً له فيما أحبّ أو كره (٢).

وقال عليه‌السلام : انّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عزّوجلّ (٣).

__________________

١ ـ الطلاق : ٢ و ٣.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٠ ح ١ باب الرضا بالقضاء.

٣ ـ الكافي ٢ : ٦٠ ح ٢ باب الرضا بالقضاء.

٣١٩

وقال عليه‌السلام : قال الله عزّوجلّ : عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء الاّ جعلته خيراً له ، فليرض بقضائي ، وليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي اكتبه يا محمد من الصديقين عندي (١).

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انّه قال : أحقّ خلق الله أن يسلّم لما قضى الله عزّوجلّ ، من عرف الله عزّوجلّ ، ومن رضى بالقضاء أتى عليه القضاء وعظّم الله أجره ، ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء وأحبط الله أجره (٢).

وروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام انّه سئل : بأيّ شيء يعلم المؤمن بأنّه مؤمن؟ قال : بالتسليم لله ، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط (٣).

وقال عليه‌السلام : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لشيء قد مضى : لو كان غيره (٤).

وعنه عليه‌السلام : ... كيف يكون المؤمن مؤمناً وهو يسخط قسمه ، ويحقّر منزلته ، والحاكم عليه الله ، وأنا ضامن لمن لم يهجس في قلبه الاّ الرضا أن يدعو الله فيستجاب له (٥).

وروي بسند معتبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : قال الله جلّ جلاله : يا ابن آدم أطعني فيما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك (٦).

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٦١ ح ٦ باب الرضا بالقضاء ـ عنه البحار ٧٢ : ٣٣٠ ح ١٣ باب ١١٩.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٢ ح ٩ باب الرضا بالقضاء ـ عنه البحار ٧٢ : ٣٣٢ ح ١٦ باب ١١٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ٦٢ ح ١٢ باب الرضا بالقضاء ـ عنه البحار ٧٢ : ٣٣٦ ح ٢٤ باب ١١٩.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٣ ح ١٣ باب الرضا بالقضاء.

٥ ـ الكافي ٢ : ٦٢ ح ١١ باب الرضا بالقضاء ـ عنه البحار ٧٢ : ٣٣٥ ح ٢٣ باب ١١٩.

٦ ـ أمالي الصدوق : ٢٦٣ ح ٧ مجلس ٥٢ ، عنه البحار ٧١ : ١٣٥ ح ١٢ باب ٦٣.

٣٢٠