الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

فقال اليهود عند ذلك : ( ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها )؟ فأجابهم الله أحسن جواب فقال ( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) ـ وهو يملكهما وتكليفه التحويل إلى جانب كتحويله لكم إلى جانب آخر : ( يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) وهو أعلم بمصلحتهم وتؤديهم طاعتهم إلى جنات النعيم.

قال أبو محمد عليه‌السلام وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن أفحقا كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل فإن ما يخالف الحق باطل أو باطلا كان ذلك فقد كنت عليه طول هذه المدة فما يؤمننا أن تكون الآن على باطل؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بل ذلك كان حقا وهذا حق يقول الله : ( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إذا عرف صلاحكم أيها العباد في استقبالكم المشرق أمركم به وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به فلا تنكروا تدبير الله في عباده وقصده إلى مصالحكم.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد تركتم العمل يوم السبت ثم عملتم بعده سائر الأيام ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده أفتركتم الحق إلى الباطل أو الباطل إلى الحق أو الباطل إلى الباطل أو الحق إلى الحق؟ قولوا كيف شئتم؟ فهو قول محمد وجوابه لكم قالوا بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق ثم قبلة الكعبة في وقته حق.

فقالوا له يا محمد أفبدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس حتى نقلك إلى الكعبة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما بدا له عن ذلك فإنه العالم بالعواقب والقادر على المصالح لا يستدرك على نفسه غلطا ولا يستحدث رأيا بخلاف المتقدم جل عن ذلك ولا يقع عليه أيضا مانع يمنعه من مراده وليس يبدو إلا لمن كان هذا وصفه وهو عز وجل يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا.

ثم قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيها اليهود أخبروني عن الله أليس يمرض ثم يصح ويصح ثم يمرض أبدا له في ذلك أليس يحيي ويميت أبدا له في كل واحد من ذلك؟ قالوا لا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك الله تعبدنبيه محمدا بالصلاة إلى الكعبة بعد أن كان تعبده بالصلاة إلى بيت المقدس وما بدا له في الأول.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أليس الله يأتي بالشتاء في أثر الصيف والصيف في أثر الشتاء أبدا له في كل واحد من ذلك؟

قالوا لا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك لم يبد له في القبلة.

قال ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أليس قد ألزمكم في الشتاء أن تحترزوا من البرد بالثياب الغليظة وألزمكم في الصيف أن تحترزوا من الحر أفبدا له في الصيف حين أمركم بخلاف ما كان أمركم به في الشتاء؟ قالوا لا.

__________________

(١) البقرة ـ ١٤٢.

٤١

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلكم الله تعبدكم في وقت لصلاح يعلمه بشيء ثم تعبدكم في وقت آخر بصلاح يعلمه بشيء آخر فإذا أطعتم الله في الحالتين استحققتم ثوابه فأنزل الله تعالى ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (١) يعني إذا توجهتم بأمره فثم الوجه الذي تقصدون منه الله وتأملون ثوابه ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عباد الله أنتم كالمرضى والله رب العالمين كالطبيب فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب ويدبره به لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين.

فقيل يا ابن رسول الله فلم أمر بالقبلة الأولى؟

فقال لما قال الله تعالى ( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ) وهي بيت المقدس : ( إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) (٢) إلا لنعلم ذلك منه وجودا بعد أن علمناه سيوجد وذلك أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبعي محمد ممن خالفه باتباع القبلة التي كرهها ومحمد يأمر بها ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليبين من يوافق محمدا فيما يكرهه فهو مصدقه وموافقه.

ثم قال ( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) إن كان التوجه إلى بيت المقدس في ذلك الوقت لكبيرة إلا على من يهدي الله فعرف أن لله أن يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلي طاعته في مخالفة هواه.

وقال أبو محمد عليه‌السلام قال جابر بن عبد الله الأنصاري ـ سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن صوريا غلام يهودي أعور تزعم اليهود أنه أعلم يهودي بكتاب الله وعلوم أنبيائه عن مسائل كثيرة يعنته فيها (٣) فأجابه عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما لم يجد إلى إنكار شيء منه سبيلا.

فقال له يا محمد من يأتيك بهذه الأخبار عن الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرئيل قال لو كان غيره يأتيك بها لآمنت بك ولكن جبرئيل عدونا من بين الملائكة فلو كان ميكائيل أو غيره سوى جبرئيل يأتيك لآمنت بك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم اتخذتم جبرئيل عدوا قال لأنه ينزل بالبلاء والشدة على بني إسرائيل ودفع دانيال عن قتل بخت نصر (٤) حتى قوي أمره وأهلك بني إسرائيل وكذلك كل بأس وشدة لا ينزلها إلا جبرئيل وميكائيل يأتينا بالرحمة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحك أجهلت أمر الله وما ذنب جبرئيل إلا أن أطاع الله فيما يريده بكم أرأيتم ملك الموت هل هو عدوكم وقد وكله الله بقبض أرواح الخلق أرأيتم الآباء والأمهات إذا أوجروا الأولاد (٥) الدواء الكريهة لمصالحهم أيجب أن يتخذهم أولادهم أعداء من أجل ذلك لا ولكنكم بالله جاهلون وعن حكمه

__________________

(١) البقرة ـ ١١٥.

(٢) البقرة ـ ١٤٣.

(٣) يعنته فيها : يطلب زلته ويشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه

(٤) بخت اصله بوخت وهو بمعنى ابن ، نصر اسم صنم كان قد وجد عنده ولم يعرف له أب فنسب إليه ، وخرب بيت المقدس وقتل من اليهود مقتلة عظيمة عند ما أصبح ملكا.

(٥) أوجره : جعل الوجور في فيه ، والوجور : الدواء يجعل في وسط الفم.

٤٢

غافلون أشهد أن جبرئيل وميكائيل بأمر الله عاملان وله مطيعان وأنه لا يعادي أحدهما إلا من عادى الآخر وأن من زعم أنه يحب أحدهما ويبغض الآخر فقد كفر وكذب وكذلك محمد رسول الله وعلي أخوان كما أن جبرئيل وميكائيل أخوان فمن أحبهما فهو من أولياء الله ومن أبغضهما فهو من أعداء الله ومن أبغض أحدهما وزعم أنه يحب الآخر فقد كذب وهما منه بريئان والله تعالى وملائكته وخيار خلقه منه براء.

وقال أبو محمد عليه‌السلام كان سبب نزول قوله تعالى : ( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ) (١) الآيتين ما كان من اليهود أعداء الله من قول سيئ في جبرئيل وميكائيل وما كان من أعداء الله النصاب من قول أسوأ منه في الله وفي جبرئيل وميكائيل وسائر ملائكة الله أما ما كان من النصاب ـ فهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما كان لا يزال يقول في علي عليه‌السلام الفضائل التي خصه الله عز وجل بها والشرف الذي نحله الله (٢) تعالى وكان في كل ذلك يقول أخبرني به جبرئيل عليه‌السلام عن الله ويقول في بعض ذلك جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ويفتخر جبرئيل على ميكائيل في أنه عن يمين علي عليه‌السلام الذي هو أفضل من اليسار كما يفتخر نديم ملك عظيم في الدنيا يجلسه الملك عن يمينه على النديم الآخر الذي يجلسه على يساره ويفتخران على إسرافيل الذي خلفه بالخدمة وملك الموت الذي أقامه بالخدمة وأن اليمين واليسار أشرف من ذلك كافتخار حاشية الملك على زيادة قرب محلهم من ملكهم.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في بعض أحاديثه إن الملائكة أشرفها عند الله أشدها لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام حبا وإنه قسم الملائكة فيما بينها والذي شرف عليا على جميع الورى بعد محمد المصطفى ويقول مرة إن ملائكة السماوات والحجب ليشتاقون إلى رؤية علي بن أبي طالب عليه‌السلام كما تشتاق الوالدة الشفيقة إلى ولدها البار الشفيق آخر من بقي عليها بعد عشرة دفنتهم فكان هؤلاء النصاب يقولون إلى متى يقول محمد جبرئيل وميكائيل والملائكة كل ذلك تفخيم لعلي وتعظيم لشأنه ويقول الله تعالى لعلي خاص من دون سائر الخلق برئنا من رب ومن ملائكة ومن جبرئيل ومن ميكائيل هم لعلي بعد محمد مفضلون وبرئنا من رسل الله الذين هم لعلي بعد محمد مفضلون.

وأما ما قاله اليهود فهو أن اليهود أعداء الله لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة أتوه بعبد الله بن صوريا فقال يا محمد كيف نومك؟ فإنا قد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان فقال تنام عيني وقلبي يقظان قال صدقت يا محمد.

ثم قال فأخبرني يا محمد الولد يكون من الرجل أو من المرأة؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والشعر فمن المرأة قال صدقت يا محمد.

ثم قال يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه من شبه أخواله شيء ويشبه أخواله ليس فيه من شبه أعمامه شيء ـ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيهما علا ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له.

قال صدقت يا محمد فأخبرني عمن لا يولد له ومن يولد له فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا مغرت النطفة لم يولد له أي إذا حمرت وكدرت فإذا كانت صافية ولد له.

__________________

(١) البقرة ـ ٩٧ ٩٨.

(٢) نحله الله : وهب له الله. وفي يبعض النسخ « اهله الله » ومعناه : رآه اهلا لذلك.

٤٣

فقال أخبرني عن ربك ما هو؟ فنزلت ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) إلى آخرها.

فقال ابن صوريا صدقت خصلة بقيت لي إن قلتها آمنت بك واتبعتك أي ملك يأتيك بما تقوله عن الله.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرئيل قال ابن صوريا ذاك عدونا من بين الملائكة ينزل بالقتل والشدة والحرب ورسولنا ميكائيل يأتي بالسرور والرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك لأن ميكائيل كان مسدد ملكنا وجبرئيل كان مهلك ملكنا فهو عدونا لذلك.

فقال له سلمان الفارسي رضي الله عنه وما بدء عداوته لكم؟ قال نعم يا سلمان عادانا مرارا كثيرة وكان من أشد ذلك علينا أن الله أنزل على أنبيائه أن بيت المقدس يخرب على يد رجل يقال بخت نصر وفي زمانه وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه والله يحدث الأمر بعد الأمر فيمحو ما يشاء ويثبت فلما بلغنا ذلك الخبر الذي يكون فيه هلاك بيت المقدس بعث أوائلنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل وأفاضلهم نبيا كان يعد من أنبيائهم يقال له دانيال في طلب بخت نصر ليقتله فحمل معه وقر مال (١) لينفقه في ذلك فلما انطلق في طلبه لقيه ببابل غلاما ضعيفا مسكينا ليس له قوة ولا منعة فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبرئيل وقال لصاحبنا إن كان ربكم هو الذي أمر بهلاككم فإن الله لا يسلطك عليه وإن لم يكن هذا فعلى أي شيء تقتله فصدقه صاحبنا وتركه ورجع إلينا فأخبرنا بذلك وقوي بخت نصر وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوا وميكائيل عدو لجبرئيل.

فقال سلمان يا ابن صوريا فبهذا العقل المسلوك به غير سبيله ضللتم أرأيتم أوائلكم كيف بعثوا من يقتل بخت نصر ـ وقد أخبر الله تعالى في كتبه على ألسنة رسله أنه يملك ويخرب بيت المقدس أرادوا تكذيب أنبياء الله في إخبارهم أو اتهموهم في إخبارهم أو صدقوهم في الخبر عن الله ومع ذلك أرادوا مغالبة الله هل كان هؤلاء ومن وجهوه إلا كفارا بالله وأي عداوة يجوز أن يعتقد لجبرئيل وهو يصده عن مغالبة الله عز وجل وينهى عن تكذيب خبر الله تعالى.

فقال ابن صوريا ـ قد كان الله تعالى أخبر بذلك على ألسن أنبيائه ولكنه يمحو ( ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ).

قال سلمان فإذا لا تثقون بشيء مما في التوراة من الأخبار عما مضى وما يستأنف فإن الله يمحو ( ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) وإذا لعل الله قد كان عزل موسى وهارون عن النبوة وأبطلا في دعواهما لأن الله يمحو ( ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) ولعل كلما أخبراكم به عن الله أنه يكون لا يكون وما أخبراكم به أنه لا يكون لعله يكون وكذلك ما أخبراكم أنه لم يكن لعله كان ولعل ما وعده من الثواب يمحوه ولعل ما توعد به من العقاب يمحوه فإنه يمحو ( ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) إنكم جهلتم معنى ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) ـ فلذلك أنتم بالله كافرون ولإخباره عن الغيوب مكذبون وعن دين الله منسلخون.

ثم قال سلمان فإني أشهد أنه من كان عدوا لجبرئيل فإنه عدو لميكائيل وأنهما جميعا عدوان لمن عاداهما مسالمان لمن سالمهما فأنزل الله تعالى عند ذلك موافقا لقول سلمان ( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ) في مظاهرته

__________________

(١) الوقر ـ بكسر الواو ـ : الحمل الثقيل.

٤٤

لأولياء الله على أعداء الله ونزوله بفضائل علي عليه‌السلام ولي الله من عند الله ( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ) فإن جبرئيل نزل هذا القرآن ( عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) من سائر كتب الله : ( وَهُدىً ) من الضلالة : ( وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) بنبوة محمد وولاية علي عليه‌السلام ومن بعده من الأئمة الاثني عشر بأنهم أولياء الله حقا إذا ماتوا على موالاتهم لمحمد وعلي وآلهما الطيبين.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا سلمان ـ إن الله صدق قولك ووافق رأيك وإن جبرئيل عن الله تعالى يقول يا محمد سلمان والمقداد أخوان متصافيان في ودادك ووداد علي أخيك ووصيك وصفيك وهما في أصحابك كجبرئيل وميكائيل في الملائكة عدوان لمن أبغض أحدهما وليان لمن والى محمدا وعليا عدوان لمن عادى محمدا وعليا وأولياءهما ولو أحب أهل الأرض سلمان والمقداد كما تحبهما ملائكة السماوات والحجب والكرسي والعرش لمحض ودادهما لمحمد وعلي وموالاتهما لأوليائهما ومعاداتهما لأعدائهما لما عذب الله أحدا منهم بعذاب البتة.

وقال أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام : لما نزلت هذه الآية ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) (٢) في حق اليهود والنواصب فغلظ على اليهود ما وبخهم به رسول الله فقال جماعة رؤسائهم وذوي الألسن والبيان منهم يا محمد إنك تهجونا وتدعي على قلوبنا ما الله يعلم منها خلافه إن فيها خيرا كثيرا نصوم ونتصدق ونواسي الفقراء.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما الخير ما أريد به وجه الله وعمل على ما أمر الله تعالى وأما ما أريد به الرياء والسمعة ومعاندة رسول الله وإظهار الغنى له والتمالك والتشرف عليه فليس بخير بل هو الشر الخالص ووبال على صاحبه ويعذبه الله به أشد العذاب.

فقالوا له يا محمد أنت تقول هذا ونحن نقول بل ما ننفقه إلا لإبطال أمرك ودفع رئاستك ولتفريق أصحابك عنك وهو الجهاد الأعظم نأمل به من الله الثواب الأجل العظيم فأقل أحوالنا أنك تساوينا في الدعاوي فأي فضل لك علينا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا إخوة اليهود إن الدعاوي يتساوى فيها المحقون والمبطلون ولكن حجج الله ودلائله تفرق بينهم فتكشف عن تمويه المبطلين وتبين عن حقائق المحقين ورسول الله محمد لا يغتم بجهلكم ولا يكلفكم التسليم له بغير حجة ولكن يقيم عليكم حجة الله التي لا يمكنكم دفاعها ولا تطيقون الامتناع عن موجبها ولو ذهب محمد ويريكم آية من عنده لشككتم وقلتم إنه متكلف مصنوع محتال فيه معمول أو متواطأ عليه وإذا اقترحتم أنتم فأراكم ما تقترحون لم يكن لكم أن تقولوا معمول أو متواطأ عليه أو متأت بحيلة أو مقدمات فما الذي تقترحون فهذا رب العالمين قد وعدني أن يظهر لكم ما تقترحون ليقطع معاذير الكافرين منكم ويزيد في بصائر المؤمنين منكم.

قالوا قد أنصفتنا يا محمد فإن وفيت بما وعدت من نفسك من الإنصاف فأنت أول راجع عن دعواك للنبوة

__________________

(١) البقرة : ٩٦

(٢) البقرة : ٧٤.

٤٥

وداخل في غمار الأمة ومسلم لحكم التوراة لعجزك عما نقترحه عليك وظهور باطل دعواك فيما ترومه من حجتك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصدق ينبئ عنكم لا الوعيد اقترحوا ما تقترحون ليقطع معاذيركم فيما تسألون فقالوا له يا محمد زعمت أنه ما في قلوبنا شيء من مواساة الفقراء ومعاونة الضعفاء والنفقة في إبطال الباطل وإحقاق الحق وأن الأحجار ألين من قلوبنا وأطوع لله منا وهذه الجبال بحضرتنا فهلم بنا إليها أو إلى بعضها فاستشهدها على تصديقك وتكذيبنا فإن نطقت بتصديقك فأنت المحق يلزمنا اتباعك وإن نطقت بتكذيبك أو صمتت فلم ترد جوابك فاعلم بأنك المبطل في دعواك المعاند لهواك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نعم هلموا بنا إلى أيما جبل شئتم استشهدوه ليشهد لي عليكم فخرجوا إلى أوعر جبل رأوه فقالوا يا محمد هذا الجبل فاستشهده.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للجبل إني أسألك بجاه محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم خفف الله العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه وهم خلق كثير لا يعرف عددهم غير الله عز وجل وبحق محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم تاب الله على آدم وغفر خطيئته وأعاده إلى مرتبته وبحق محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم وسؤال الله بهم رفع إدريس في الجنة ( مَكاناً عَلِيًّا ) لما شهدت لمحمد بما أودعك الله بتصديقه على هؤلاء اليهود في ذكر قساوة قلوبهم وتكذيبهم في جحدهم لقول محمد رسول الله (ص).

فتحرك الجبل وتزلزل وفاض عنه الماء ونادى يا محمد أشهد أنك رسول رب العالمين وسيد الخلق أجمعين وأشهد أن قلوب هؤلاء اليهود كما وصفت أقسى من الحجارة لا يخرج منها خير كما قد يخرج من الحجارة الماء سيلا أو تفجرا وأشهد أن هؤلاء كاذبون عليك فيما به يقرفونك من الفرية على رب العالمين.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسألك أيها الجبل أمرك الله بطاعتي فيما ألتمسه منك بجاه محمد وآله الطيبين الذين بهم نجى الله نوحا ( مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* ) وبرد الله النار على إبراهيم وجعلها عليه ( بَرْداً وَسَلاماً ) ومكنه في جوف النار على سرير وفراش وثير لم ير تلك الطاغية مثله لأحد من ملوك الأرض أجمعين وأنبت حواليه من الأشجار الخضرة النظرة [ النضرة ] النزهة وعما حوله من أنواع النور مما لا يوجد إلا في فصول أربعة من جميع السنة.

قال الجبل بلى أشهد لك يا محمد بذلك ـ وأشهد أنك لو اقترحت على ربك أن يجعل رجال الدنيا قرودا وخنازير لفعل أو يجعلهم ملائكة لفعل أو يقلب النيران جليدا أو الجليد نيرانا لفعل أو يهبط السماء إلى الأرض أو يدفع الأرض إلى السماء لفعل أو يصير أطراف المشارق والمغارب والوهاد كلها صرة كصرة الكيس لفعل وأنه قد جعل الأرض والسماء طوعك والجبال والبحار تتصرف بأمرك وسائر ما خلق من الرياح والصواعق وجوارح الإنسان وأعضاء الحيوان لك مطيعة وما أمرتها به من شيء ائتمرت.

فقالت اليهود يا محمد علينا تلبس وتشبه قد أجلست مردة من أصحابك خلف صخور من هذا الجبل فهم ينطقون بهذا الكلام ونحن لا ندري أنسمع من الرجال أم من الجبل لا يغتر بمثل هذا إلا ضعفاؤك الذين تبجبج في عقولهم (١) فإن كنت صادقا فتنح عن موضعك هذا إلى ذلك القرار وأمر هذا الجبل

__________________

(١) تبجبج في عقولهم : تلعب فيها ، يقال « بجبج الصبي » اذا لاعبه وسكته عن المناغاة.

٤٦

أن ينقلع من أصله فيسير إليك إلى هناك فإذا حضرك ونحن نشاهده فأمره أن ينقطع نصفين من ارتفاع سمكه ثم ترتفع السفلى من قطعتيه فوق العليا وتنخفض العليا تحت السفلى فإذا تجعل أصل الجبل قلته وقلته أصله لنعلم أنه من الله لا يتفق مثله بمواطأة ولا بمعاونة مموهين متمردين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشار إلى حجر فيه قدر خمسة أرطال يا أيها الحجر تدحرج فتدحرج ثم قال لمخاطبه خذه وقربه من أذنك فسيعيد عليك ما سمعت فإن هذا جزء من ذلك الجبل فأخذه الرجل فأدناه إلى أذنه فنطق الحجر بمثل ما نطق به الجبل أولا من تصديق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما ذكره عن قلوب اليهود ومما غبر به (١) من أن نفقاتهم في دفع أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله باطل ووبال عليهم.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسمعت هذا أخلف هذا الحجر أحد يكلمك ويوهمك أن الحجر يكلمك؟

قال فائتني بما اقترحت في الجبل فتباعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى فضاء واسع ثم نادى الجبل وقال يا أيها الجبل بحق محمد وآله الطيبين بجاههم ومساءلة عباد الله بهم أرسل الله على قوم عاد ( رِيحاً صَرْصَراً ) عاتية لنزع الناس ( كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) وأمر جبرئيل أن يصيح صيحة هائلة في قوم صالح حتى صاروا ( كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) لما انفصلت من مكانك بإذن الله وجئت إلى حضرتي هذه ووضع يده على الأرض بين يديه.

فتزلزل الجبل وصار كالفارع الهملاج (٢) حتى دنا من إصبعه أصله فلزق بها ووقف ونادى ها أنا سامع لك مطيع يا رسول رب العالمين وإن رغمت أنوف هؤلاء المعاندين مرني بأمرك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن هؤلاء اقترحوا علي أن آمرك أن تنقلع من أصلك فتصير نصفين ثم ينحط أعلاك ويرتفع أسفلك فتصير ذروتك أصلك وأصلك ذروتك.

فقال الجبل أتأمرني بذلك يا رسول رب العالمين قال بلى فانقطع نصفين وانحط أعلاه إلى الأرض وارتفع أسفله فوق أعلاه فصار فرعه أصله وأصله فرعه ثم نادى الجبل يا معاشر اليهود هذا الذي ترون دون معجزات موسى الذي تزعمون أنكم به مؤمنون.

فنظر اليهود بعضهم إلى البعض فقال بعضهم ما عن هذا محيص وقال آخرون منهم هذا رجل منجوت [ مبخوت ] مؤتى له ما يريد والمنجوت [ المبخوت ] يتأتى له العجائب فلا يغرنكم ما تشاهدون.

فناداهم الجبل يا أعداء الله قد أبطلتم بما تقولون نبوة موسى هلا قلتم لموسى إن قلب العصا ثعبانا وانفلاق البحر طرقا ووقوف الجبل كالظلة فوقكم إنما تأتى لك لأنك مؤتى لك يأتيك جدك بالعجائب فلا يغرنا ما نشاهده فألقمتهم الجبال بمقالتها والصخور ولزمتهم حجة رب العالمين

وعن معمر بن راشد قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أتى يهودي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقام بين يديه يحد النظر إليه فقال يا يهودي ما حاجتك ـ؟

فقال أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي كلمه الله عز وجل وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر

__________________

(١) غبر به : مضى به وذهب.

(٢) الفارع : الصاعد المرتفع ، والهملاج : السريع السير.

٤٧

وأظله بالغمام؟

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه ولكني أقول إن آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي فغفرها الله له وإن نوحا لما ركب السفينة وخاف الغرق قال اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق فأنجاه الله عز وجل وإن إبراهيم لما ألقي في النار قال اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني فجعلها ( بَرْداً وَسَلاماً ) وإن موسى لما ألقى عصاه وأوجس ( فِي نَفْسِهِ خِيفَةً ) قال اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني قال الله تعالى ( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ).

يا يهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئا ولا نفعته النبوة يا يهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى ابن مريم عليه‌السلام لنصرته فقدمه ويصلي خلفه.

وعن ابن عباس قال : خرج من المدينة أربعون رجلا من اليهود قالوا انطلقوا بنا إلى هذا الكاهن الكذاب حتى نوبخه في وجهه ونكذبه فإنه يقول أنا رسول رب العالمين وكيف يكون رسولا وآدم خير منه ونوح خير منه وذكروا الأنبياء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعبد الله بن سلام التوراة بيني وبينكم فرضيت اليهود بالتوراة.

فقال اليهود آدم خير منك لأن الله عز وجل خلقه بيده و ( نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ).

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آدم النبي أبي وقد أعطيت أنا أفضل مما أعطي آدم قالت اليهود وما ذاك؟ ـ قال إن المنادي ينادي كل يوم خمس مرات أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم يقل آدم رسول الله ولواء الحمد بيدي يوم القيامة وليس بيد آدم فقالت اليهود صدقت يا محمد وهو مكتوب في التوراة قال هذه واحدة.

قالت اليهود موسى خير منك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم؟ قالوا لأن الله عز وجل كلمه بأربعة آلاف كلمة ولم يكلمك بشيء.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك قالوا وما ذاك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله هو قوله عز وجل : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ) (١) وحملت على جناح جبرئيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى ( عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش إني ( أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ) الرءوف الرحيم ورأيته بقلبي وما رأيته بعيني فهذا أفضل من ذلك قالت اليهود صدقت يا محمد وهو مكتوب في التوراة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه اثنتان.

قالوا نوح أفضل منك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم ذاك؟ قالوا لأنه ركب السفينة فجرت على الجودي.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك قالوا وما ذاك؟ قال إن الله عز وجل أعطاني

__________________

(١) الإسراء : ١.

٤٨

نهرا في السماء مجراه من العرش وعليه ألف ألف قصر لبنة من ذهب ولبنة من فضة حشيشها الزعفران ورضراضها (١) الدر والياقوت وأرضها المسك الأبيض فذلك خير لي ولأمتي وذلك قوله تعالى ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) (٢) قالوا صدقت يا محمد هو مكتوب في التوراة وهذا خير من ذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه ثلاثة.

قالوا إبراهيم خير منك قال ولم ذاك؟ قالوا لأن الله اتخذه خليلا.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إن كان إبراهيم خليله فأنا حبيبه محمد قالوا ولم سميت محمدا؟ قال سماني الله محمدا وشق اسمي من اسمه هو المحمود وأنا محمد وأمتي الحامدون على كل حال فقالت اليهود صدقت يا محمد هذا خير من ذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه أربعة.

قالت اليهود عيسى خير منك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم ذاك؟ قالوا إن عيسى ابن مريم كان ذات يوم بعقبة بيت المقدس فجاءه الشياطين ليحملوه فأمر الله جبرئيل أن اضرب بجناحك الأيمن وجوه الشياطين وألقهم في النار فضرب بأجنحته وجوههم وألقاهم في النار.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك.

قالوا وما هو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أقبلت يوم بدر من قتال المشركين وأنا جائع شديد الجوع فلما وردت المدينة استقبلتني امرأة يهودية وعلى رأسها جفنة وفي الجفنة جدي مشوي وفي كمها شيء من سكر فقالت الحمد لله الذي منحك السلامة وأعطاك النصر والظفر على الأعداء وإني قد كنت نذرت لله نذرا ـ إن أقبلت سالما غانما من غزاة بدر لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكله.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت عن بغلتي الشهباء فضربت بيدي إلى الجدي لآكله فاستنطق الله الجدي فاستوى على أربع قوائم وقال يا محمد لا تأكلني فإني مسموم قالوا صدقت يا محمد هذا خير من ذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه خمسة.

قالوا بقيت واحدة ثم نقوم من عندك قال هاتوا قالوا سليمان خير منك قال ولم ذاك؟ قالوا لأن الله عز وجل سخر له الشياطين والإنس والجن والطير والرياح والسباع.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد سخر الله لي البراق وهو خير من الدنيا بحذافيرها ـ وهي دابة من دواب الجنة وجهها مثل وجه آدمي وحوافرها مثل حوافر الخيل وذنبها مثل ذنب البقر وفوق الحمار ودون البغل وسرجه من ياقوتة حمراء وركابه من درة بيضاء مزمومة بألف زمام من ذهب عليه جناحان مكللان بالدر والياقوت والزبرجد مكتوب بين عينيه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله.

قالت اليهود صدقت يا محمد وهو مكتوب في التوراة وهذا خير من ذلك يا محمد نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد أقام نوح في قومه ودعاهم ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) ـ ثم وصفهم الله عز وجل

__________________

(١) الرضراض : ما دق من الحصى.

(٢) الكوثر : ١.

٤٩

فقللهم فقال : ( وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (١) ولقد تبعني في سني القليلة وعمري اليسير ما لم يتبع نوحا في طول عمره وكبر سنه وإن في الجنة عشرين ومائة صف أمتي منها ثمانون صفا وإن الله عز وجل جعل كتابي المهيمن على كتبهم الناسخ لها ولقد جئت بتحليل ما حرموا وبتحريم ما أحلوا من ذلك أن موسى جاء بتحريم صيد الحيتان يوم السبت حتى إن الله تعالى قال لمن اعتدى منهم في صيدها يوم السبت ( كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (٢) فكانوا ـ ولقد جئت بتحليل صيدها حتى صار صيدها حلالا قال الله تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ ) (٣) وجئت بتحليل الشحوم كلها وكنتم لا تأكلونها.

ثم إن الله عز وجل صلى علي في كتابه العزيز قال الله عز وجل : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤) ثم وصفني الله عز وجل بالرأفة والرحمة وذكر في كتابه : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (٥) وأنزل الله تعالى أن لا يكلموني حتى يتصدقوا بصدقة وما كان ذلك لنبي قط قال الله عز وجل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) (٦) ثم وضعها عنهم بعد أن افترضها عليهم برحمته ومنه

وعن ثوبان قال : إن يهوديا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا محمد أسألك فتخبرني فركض ثوبان برجله وقال قل يا رسول الله فقال لا أدعوه إلا بما سماه أهله فقال أرأيت قوله عز وجل : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) (٧) أين الناس يومئذ؟ فقال في الظلمة دون المحشر فقال فما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوها؟ قال كبد الحوت قال فما طعامهم على أثر ذلك؟ قال كبد الثور قال فما شرابهم على أثر ذلك؟ قال السلسبيل قال صدقت أفلا أسألك عن شيء لا يعلمه إلا نبي؟ قال وما هو؟ قال عن شبه الولد أباه وأمه قال ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله تعالى ومن تشبه أباه قبل ذلك يكون الشبه وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل خرج الولد أنثى بإذن الله عز وجل ومن تشبه أمه قبل ذلك يكون الشبه.

ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي نفسي بيده ما كان عندي مما سألتني عنه حتى أنبأنيه الله عز وجل في مجلسي هذا على لسان أخي جبرئيل.

ذكر ما جرى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الاحتجاج على المنافقين في طريق تبوك وغير ذلك من كيدهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على العقبة بالليل

قال أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على العقبة (٨)

__________________

(١) هود : ٤٠.

(٢) البقرة : ٦٥.

(٣) المائدة : ٩٦.

(٤) الأحزاب : ٥٦.

(٥) التوبة : ١٢٨.

(٦) المجادلة : ١٢.

(٧) إبراهيم : ٤٨.

(٨) عقبة ـ بالتحريك ـ : هو الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه ، وهو طويل صعب الى صعود الجبل. « والعقبة » منزل في طريق مكة بعد واقصة وقبل القاع لمن يريد مكة ، وهو ماء لبني عكرمة من بكر بن وائل. مراصد الاطلاع : ٢ ـ ٩٤٨.

٥٠

ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب عليه‌السلام فما قدروا على مغالبة ربهم حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام لما فخم من أمره وعظم من شأنه.

من ذلك أنه لما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له جبرئيل أتاني وقال لي يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي أو تقيم أنت ويخرج علي لا بد من ذلك ـ فإن عليا قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا مله وسئمه وكره صحبته فتبعه علي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لحقه وقد وجد غما شديدا عما قالوا فيه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أشخصك يا علي عن مركزك فقال بلغني عن الناس كذا وكذا فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فانصرف علي إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعا ثم غطوها بخص رقاق ونثروا فوقها يسيرا من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص وكان ذلك على طريق علي الذي لا بد له من سلوكه ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.

فلما بلغ علي عليه‌السلام قرب المكان لوى فرسه عنقه وأطاله الله فبلغت جحفلته (١) أذنيه وقال يا أمير المؤمنين قد حفر لك هاهنا ودبر عليك الحتف وأنت أعلم لا تمر فيه فقال له علي عليه‌السلام جزاك الله من ناصح خيرا كما تدبر تدبيري وإن الله عز وجل لا يخليك من صنعه الجميل وسار حتى شارف المكان فوقف الفرس خوفا من المرور على المكان فقال علي عليه‌السلام سر بإذن الله سالما سويا عجيبا شأنك بديعا أمرك فتبادرت الدابة فإن الله عز وجل قد متن الأرض (٢) وصلبها كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض فلما جاوزها علي عليه‌السلام لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال ما أكرمك على رب العالمين أجازك على هذا المكان الخاوي (٣) ـ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام جازاك الله بهذه السلامة عن نصيحتك التي نصحتني بها.

ثم قلب وجه الدابة إلى ما يلي كفلها والقوم معه بعضهم أمامه وبعضهم خلفه وقال اكتشفوا عن هذا المكان فكشفوا فإذا هو خاو لا يسير عليه أحد إلا وقع في الحفرة فأظهر القوم الفزع والتعجب مما رأوا منه فقال علي عليه‌السلام للقوم أتدرون من عمل هذا؟ قالوا لا ندري.

قال عليه‌السلام لكن فرسي هذا يدري يا أيها الفرس كيف هذا ومن دبر هذا فقال الفرس يا أمير المؤمنين إذا كان الله عز وجل يبرم ما يروم جهال القوم نقضه أو كان ينقض ما يروم جهال الخلق إبرامه فالله هو الغالب والخلق هم المغلوبون فعل هذا يا أمير المؤمنين فلان وفلان إلى أن ذكر العشرة بمواطأة من أربعة وعشرين هم

__________________

(١) الجحفلة لذي الحافر كالشفة للإنسان.

(٢) متن الأرض : صلب متنه وقواه.

(٣) الخاوي : الخالي ، القفر.

٥١

مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في طريقه ثم دبروا رأيهم على أن يقتلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على العقبة والله عز وجل من وراء حياطة رسول الله وولي الله لا يغلبه الكافرون.

فأشار بعض أصحاب أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يكاتب رسول الله بذلك ويبعث رسولا مسرعا فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن رسول الله إلى محمد رسوله أسرع وكتابه إليه أسبق فلا يهمنكم هذا إليه.

فلما قرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من العقبة التي بإزائها فضائح المنافقين والكافرين نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم هذا جبرئيل الروح الأمين يخبرني أن عليا دبر عليه كذا وكذا فدفع الله عز وجل عنه من ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا ثم إنه صلب الأرض تحت حافر دابته وأرجل أصحابه ثم انقلب على ذلك الموضع علي وكشف عنه فرئيت الحفيرة ثم إن الله عز وجل لأمها كما كانت لكرامته عليه وإنه قيل له كاتب بهذا وأرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال رسول الله إلى رسول الله أسرع وكتابه إليه أسبق.

ثم لم يخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما قال علي عليه‌السلام على باب المدينة إن مع رسول الله منافقين سيكيدونه ويدفع الله عنه فلما سمع الأربعة والعشرون أصحاب العقبة ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمر علي عليه‌السلام قال بعضهم لبعض ما أمهر محمدا بالمخرقة (١) وإن فيجا (٢) مسرعا أتاه أو طيرا من المدينة من بعض أهله وقع عليه أن عليا قتل بحيلة كذا وكذا وهو الذي واطأنا عليه أصحابنا فهو الآن لما بلغه كتم الخبر وقلبه إلى ضده يريد أن يسكن من معه لئلا يمدوا أيديهم عليه وهيهات والله ما لبث عليا بالمدينة إلا حينه ولا أخرج محمدا إلى هاهنا إلا حينه وقد هلك علي وهو هاهنا هالك لا محالة ولكن تعالوا حتى نذهب إليه ونظهر له السرور بأمر علي ليكون أسكن لقلبه إلينا إلى أن نمضي فيه تدبيرنا فحضروه وهنئوه على سلامة علي من الورطة التي رامها أعداؤه.

ثم قالوا له يا رسول الله أخبرنا عن علي عليه‌السلام أهو أفضل أم ملائكة الله المقربون؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهل شرفت الملائكة إلا بحبها لمحمد وعلي وقبولها لولايتهما وإنه لا أحد من محبي علي قد نظف قلبه من قذر الغش والدغل ونجاسات الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة وهل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم أنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوا عنها إلا وهم يعنون أنفسهم أفضل منه في الدين فضلا وأعلم بالله وبدينه علما فأراد الله أن يعرفهم أنهم قد أخطئوا في ظنونهم واعتقاداتهم فخلق آدم وعلمه الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَ عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها فأمر آدم عليه‌السلام أن ينبئهم بها وعرفهم فضله في العلم عليهم.

ثم أخرج من صلب آدم ذريته منهم الأنبياء والرسل والخيار من عباد الله أفضلهم محمد ثم آل محمد والخيار الفاضلون منهم أصحاب محمد وخيار أمة محمد وعرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إذا احتملوا ما حملوه من الأثقال وقاسوا ما هم فيه بعرض يعرض من أعوان الشياطين ومجاهدة النفوس واحتمال أذى ثقل العيال والاجتهاد في طلب الحلال ومعاناة مخاطرة الخوف من الأعداء من لصوص مخوفين ومن سلاطين

__________________

(١) خرق الكذب : صنعه. ومعنى هذه الجملة : ما أمهر محمدا بصنع الكذب ووضعه.

(٢) الفيج : السريع السير الذي يأتي بالأخبار.

٥٢

جورة قاهرين وصعوبة في المسالك في المضايق والمخاوف والأجراع (١) والجبال والتلاع (٢) لتحصيل أقوات الأنفس والعيال من الطيب الحلال فعرفهم الله عز وجل أن خيار المؤمنين يحتملون هذه البلايا ويتخلصون منها ويحاربون الشياطين ويهزمونهم ويجاهدون أنفسهم بدفعها عن شهواتها ويغلبونها مع ما ركب فيهم من شهوات الفحولة وحب اللباس والطعام والعز والرئاسة والفخر والخيلاء ومقاساة العناء والبلاء من إبليس وعفاريته وخواطرهم وإغوائهم واستهوائهم ودفع ما يكابدونه من أليم الصبر على سماعهم الطعن من أعداء الله وسماع الملاهي والشتم لأولياء الله ومع ما يقاسونه في أسفارهم لطلب أقواتهم والهرب من أعداء دينهم أو الطلب لمن يأملون معاملته من مخالفيهم في دينهم.

قال الله عز وجل يا ملائكتي وأنتم من جميع ذلك بمعزل لا شهوات الفحولة يزعجكم ولا شهوة الطعام تحفزكم (٣) ولا خوف من أعداء دينكم ودنياكم تنجب (٤) [ ينخب ] في قلوبكم ولا لإبليس في ملكوت سماواتي وأرضي ـ شغل على إغواء ملائكتي الذين قد عصمتهم منه ـ يا ملائكتي فمن أطاعني منهم وسلم دينه من هذه الآفات والنكبات فقد احتمل في جنب محبتي ما لم تحتملوا واكتسب من القربات إلي ما لم تكتسبوا.

فلما عرف الله ملائكته فضل خيار أمة محمد وشيعة علي وخلفائه عليهم‌السلام واحتمالهم في جنب محبة ربهم ما لا تحتمله الملائكة أبان بني آدم الخيار المتقين بالفضل عليهم ثم قال فلذلك فاسجدوا لآدم لما كان مشتملا على أنوار هذه الخلائق الأفضلين ولم يكن سجودهم لآدم إنما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عز وجل وكان بذلك معظما له مبجلا ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله ـ ويخضع له خضوعه لله ويعظم بالسجود له كتعظيمه لله ولو أمرت أحدا أن يسجد هكذا لغير الله لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلفين من شيعتنا أن يسجدوا لمن توسط في علوم علي وصي رسول الله ومحض وداد خير خلق الله علي بعد محمد رسول الله واحتمل المكاره والبلايا في التصريح بإظهار حقوق الله ولم ينكر علي حقا أرقبه عليه (٥) قد كان جهله أو غفله.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عصى الله إبليس فهلك لما كان معصيته بالكبر على آدم وعصى آدم الله بأكل الشجرة فسلم ولم يهلك لما لم يقارن بمعصيته التكبر على محمد وآله الطيبين وذلك أن الله تعالى قال له يا آدم عصاني فيك إبليس وتكبر عليك فهلك ولو تواضع لك بأمري وعظم عز جلالي لأفلح كل الفلاح كما أفلحت وأنت عصيتني بأكل الشجرة وعظمتني بالتواضع لمحمد وآل محمد فتفلح كل الفلاح وتزول عنك وصمة الزلة فادعني بمحمد وآله الطيبين لذلك فدعا بهم فأفلح كل الفلاح لما تمسك بعروتنا أهل البيت.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بالرحيل في أول نصف الليل الأخير وأمر مناديه فنادى ألا لا يسبقن رسول الله (ص)

__________________

(١) الجرعة : رملة مستوية لا تنبت شيئا.

(٢) التلاع : جمع التلعة ، وهو ما علا من الأرض وما سفل وفي بعض النسخ « الطلاع » وهو جمع الطلع بكسر الطاء : المكان المشرف الذي يطلع منه.

(٣) الحفز : الدفع من الخلف ، والحفر بالرمح : الطعن به.

(٤) النحب : السير السريع ، وفي بعض النسخ « تنخب » ومعناه تجبن قلوبكم وتجعلكم بلا فؤاد. يقال : « رجل نخب » اي الجبان الذي لا فؤاد له.

(٥) ارقبه عليه : انظره منه.

٥٣

أحد إلى العقبة ولا يطأها حتى يجاوزها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمر بها ويخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان رسول الله أمره أن يتشبه بحجر فقال حذيفة يا رسول الله إني أتبين الشر في وجوه القوم من رؤساء عسكرك وإني أخاف إن قعدت في أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك للتدبير عليك يحس بي ويكشف عني فيعرفني ويعرف موضعي من نصيحتك فيتهمني ويخافني فيقتلني.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنك إذا بلغت أصل العقبة فاقصد أكبر صخرة هناك إلى جانب أصل العقبة وقل لها إن رسول الله يأمرك أن تنفرجي لي حتى أدخل جوفك ثم يأمرك أن تثقبي فيك ثقبة أبصر منها المارين وتدخل علي منها الروح لئلا أكون من الهالكين فإنها تصير إلى ما تقول لها بإذن الله رب العالمين.

فأدى حذيفة الرسالة ودخل جوف الصخرة ـ وجاء الأربعة والعشرون على جمالهم وبين أيديهم رجالتهم يقول بعضهم لبعض من رأيتموه هنا كائنا من كان فاقتلوه لأن لا يخبروا محمدا أنهم قد رأونا هاهنا فينكص محمد ولا يصعد هذه العقبة إلا نهارا فيبطل تدبيرنا عليه وسمعها حذيفة واستقصوا فلم يجدوا أحدا وكان الله قد ستر حذيفة بالحجر عنهم فتفرقوا فبعضهم صعد على الجبل وعدل عن الطريق المسلوك وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال وهم يقولون الآن ترون جبن محمد كيف أغراه بأن يمنع الناس عن صعود العقبة حتى يقطعها هو لنخلو به هاهنا فنمضي فيه تدبيرنا وأصحابه عنه بمعزل وكل ذلك يوصله الله تعالى من قريب أو بعيد إلى أذن حذيفة ويعيه حذيفة فلما تمكن القوم على الجبل حيث أرادوا كلمت الصخرة حذيفة وقالت له انطلق الآن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بما رأيت وبما سمعت قال حذيفة كيف أخرج عنك وإن رآني القوم قتلوني مخافة على أنفسهم من نميمتي عليهم قالت الصخرة إن الذي مكنك من جوفي وأوصل إليك الروح من الثقبة التي أحدثها في هو الذي يوصلك إلى نبي الله وينقذك من أعداء الله.

فنهض حذيفة ليخرج فانفرجت الصخرة بقدرة الله تعالى فحوله الله طائرا فطار في الهواء محلقا حتى انقض بين يدي رسول الله ثم أعيد على صورته فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما رأى وسمع.

فقال رسول الله أوعرفتهم بوجوههم فقال يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم فلما فتشوا المواضع فلم يجدوا أحدا أحدروا اللثام فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم فلان وفلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا حذيفة إذا كان الله يثبت محمدا لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه إن الله تعالى بالغ في محمد أمره ( وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ).

ثم قال يا حذيفة فانهض بنا أنت وسلمان وعمار وتوكلوا على الله فإذا جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتبعونا فصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على ناقته وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بحطام ناقته يقودها والآخر خلفها يسوقها وعمار إلى جانبها والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثون حوالي الثنية على تلك العقبات وقد جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب ـ فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقع به في المهوى الذي يهول الناظر إليه من بعده فلما قربت الدباب من ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أذن الله لها فارتفعت ارتفاعا عظيما فجاوزت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم سقطت في جانب المهوى ولم يبق منها شيء إلا صار كذلك وناقة

٥٤

رسول الله كأنها لا تحس بشيء من تلك القعقعات التي كانت للدباب.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمار اصعد إلى الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه رواحلهم فارم بها ففعل ذلك عمار فنفرت بهم رواحلهم وسقط بعضهم فانكسر عضده ومنهم من انكسرت رجله ومنهم من انكسر جنبه واشتدت لذلك أوجاعهم فلما انجبرت واندملت بقيت عليهم آثار الكسر إلى أن ماتوا ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حذيفة وأمير المؤمنين عليه‌السلام إنهما أعلم الناس بالمنافقين لقعوده في أصل الجبل ومشاهدته من مر سابقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكفى الله رسوله أمر من قصد له وعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة سالما فكسا الله الذل والعار من كان قعد عنه وألبس الخزي من كان دبر عليه وعلى علي ما دفع الله عنه عليه‌السلام.

احتجاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الغدير على الخلق كلهم وفي غيره من الأيام بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ومن بعده من ولده من الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين

حدثني السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي رضي الله عنه (١) قال أخبرنا الشيخ أبو علي الحسن بن الشيخ السعيد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (٢) رضي الله عنه قال أخبرني الشيخ السعيد الوالد أبو جعفر (٣) قدس الله روحه قال أخبرني جماعة عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري (٤) قال أخبرنا أبو علي محمد بن همام (٥) قال أخبرنا علي السوري (٦) قال أخبرنا أبو محمد العلوي (٧) من ولد الأفطس وكان من عباد الله الصالحين قال حدثنا محمد بن موسى الهمداني (٨) قال حدثنا محمد بن خالد

__________________

(١) مضت ترجمته في هذا الكتاب ص ٦.

(٢) الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي ، كان عالما فاضلا فقيها محدثا جليلا ثقة ، له كتاب الأمالي وشرح النهاية ، قرأ على والده جميع تصانيفه وإليه ينتهي أكثر الاجازات عن الشيخ الطوسي تنقيح المقال ١ ـ ٣٠٦.

(٣) شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ولد في شهر رمضان سنة ٣٨٥ وقدم العراق سنة ٤٠٨ وبقي في بغداد مدة ثم هاجر الى النجف الأشرف وبقي الى ان توفي ليلة الاثنين الثاني والعشرين من محرم سنة ٤٦٠ ، كان جهبذة من جهابذة الإسلام وعظيما من عظماء امة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صنف في علوم عصره فكانت مصنفاته هي الام والمرجع ، ولم يجرأ على الافتاء بعده أحد من علماء الشيعة الى سنين متمادية لقوته في الفقه واضطلاعه في العلوم الإسلامية وكان فضلاء تلامذته الذين كانوا مجتهدين من الخاصة يزيدون على ثلاثمائة. الكنى والألقاب ٢ / ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

(٤) أبو محمد هارون بن موسى الشيباني ثقة جليل القدر عظيم المنزلة واسع الرواية عديم النظير وجه أصحابنا معتمد عليه لا يطعن عليه في شيء توفي سنة ٣٨٥. الكنى والألقاب ٢ / ١٠٨.

(٥) أبو علي محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب الإسكافي شيخ أصحابنا ومتقدمهم ، له منزلة عظيمة ، كثير الحديث ، ولد يوم الاثنين ٦ ذي الحجة سنة ٢٥٨ وتوفى يوم الخميس ١٩ جمادي الثانية سنة ٣٣٦ رجال النجاشي ص ٢٩٤.

(٦) لم نقف على ترجمة له ـ فليراجع.

(٧) يحيى المكنى أبا محمد العلوي من بني زيارة علوي سيد متكلم فقيه من أهل نيشابور له كتب كثيرة ، منها كتاب في المسح على الرجلين في ابطال القياس وكتاب في التوحيد. رجال النجاشي ص ٣٤٥.

(٨) محمد بن موسى بن عيسى أبو جعفر الهمداني السمان ، ضعفه القميون بالغلو له كتاب ما روى في أيام الأسبوع وكتاب الرد على الغلاة رجال النجاشي ص ٢٦٠ وأقول : كيف يقال في هذا انه غال مع العلم ان من مؤلفاته كتاب الرد على الغلاة ـ فلاحظ.

٥٥

الطيالسي (١) قال حدثنا سيف بن عميرة (٢) وصالح بن عقبة (٣) جميعا عن قيس بن سمعان (٤) عن علقمة بن محمد الحضرمي (٥) عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام أنه قال : حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة وقد بلغ جميع الشرائع قومه غير الحج والولاية فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فقال له يا محمد إن الله جل اسمه يقرؤك السلام ويقول لك إني لم أقبض نبيا من أنبيائي ولا رسولا من رسلي إلا بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي وقد بقي عليك من ذاك فريضتان مما تحتاج أن تبلغهما قومك فريضة الحج وفريضة الولاية والخلافة من بعدك فإني لم أخل أرضي من حجة ولن أخليها أبدا فإن الله جل ثناؤه يأمرك أن تبلغ قومك الحج وتحج ويحج معك ( مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) من أهل الحضر والأطراف والأعراب وتعلمهم من معالم حجهم مثل ما علمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وتوقفهم من ذلك على مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم من الشرائع فنادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس ألا إن رسول الله يريد الحج وأن يعلمكم من ذلك مثل الذي علمكم من شرائع دينكم ويوقفكم من ذاك على ما أوقفكم عليه من غيره فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج معه الناس وأصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله فحج بهم وبلغ من حج مع رسول الله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألف الذين أخذ عليهم بيعة هارون فنكثوا واتبعوا العجل والسامري وكذلك أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البيعة لعلي بالخلافة على عدد أصحاب موسى فنكثوا البيعة واتبعوا العجل والسامري سنة بسنة ومثلا بمثل واتصلت التلبية ما بين مكة والمدينة (٦) فلما وقف بالموقف أتاه جبرئيل عليه‌السلام عن الله عز وجل فقال يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك إنه قد دنا أجلك ومدتك وأنا مستقدمك على ما لا بد منه ولا عنه محيص فاعهد عهدك وقدم وصيتك ـ واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء فسلمه إلى وصيك وخليفتك من بعدك حجتي البالغة على خلقي علي بن أبي طالب عليه‌السلام فأقمه للناس علما وجدد عهده وميثاقه وبيعته وذكرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم وعهدي الذي عهدت إليهم من ولاية وليي ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالب عليه‌السلام فإني لم أقبض نبيا من الأنبياء إلا من بعد إكمال ديني وحجتي وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي وذلك كمال توحيدي وديني وإتمام نعمتي على خلقي باتباع وليي وطاعته وذلك أني لا أترك أرضي بغير

__________________

(١) أو عبد الله محمد بن خالد الطيالسي التميمي كان يسكن بالكوفة في صحراء جرم ، له كتاب نوادر ، مات ليلة الأربعاء ٢٧ جمادي الثانية سنة ٢٥٩ وهو ابن ٩٧ سنة تنقيح المقال ٣ / ١١٤.

(٢) سيف بن عميرة النخعي عربي ثقة كوفي ، روي عن أبي عبد الله وابي الحسن عليهما‌السلام له كتاب يرويه جماعات من أصحابنا رجال النجاشي ص ١٤٣.

(٣) صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قيل انه روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، له كتاب يرويه جماعة منتهى المقال ٩ ١٦٣.

(٤) لم نقف على ترجمته.

(٥) علقمة بن محمد الحضرمي هو أخو عبد الله بن محمد الحضرمي. رجال الكشي ص ٣٥٤.

(٦) ذكر البحاثة الثبت الحجة الأميني في سفره القيم « الغدير » حديث الغدير بتفاصيله في الجزء الأول ، وعد الراوين لحديث الغدير ، فكانوا من الصحابة ١١٠ شخصا ، ومن التابعين ٨٤ شخصا ، ومن الرواة العلماء ابتداء من القرن الثاني حتى القرن الرابع عشر ٣٦٠ شخصا وذكر من المؤلفين في حديث الغدير خصيصا ٢٦ شخصا. انظر الجزء الأول من الكتاب ص ١٤ ـ ١٥٧.

٥٦

ولي ولا قيم ليكون حجة لي على خلقي فالْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.

بولاية وليي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي عبدي ووصي نبيي والخليفة من بعده وحجتي البالغة على خلقي ـ مقرون طاعته بطاعة محمد نبيي ومقرون طاعته مع طاعة محمد بطاعتي من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني جعلته علما بيني وبين خلقي من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ومن أشرك بيعته كان مشركا ومن لقيني بولايته دخل الجنة ومن لقيني بعداوته دخل النار فأقم يا محمد عليا علما وخذ عليهم البيعة وجدد عهدي وميثاقي لهم الذي واثقتهم عليه فإني قابضك إلي ومستقدمك علي.

فخشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قومه وأهل النفاق والشقاق أن يتفرقوا ويرجعوا إلى الجاهلية لما عرف من عداوتهم ولما ينطوي عليه أنفسهم لعلي من العداوة والبغضاء وسأل جبرئيل أن يسأل ربه العصمة من الناس وانتظر أن يأتيه جبرئيل بالعصمة من الناس عن الله جل اسمه فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف (١) فأتاه جبرئيل عليه‌السلام في مسجد الخيف فأمره بأن يعهد عهده ويقيم عليا علما للناس يهتدون به ولم يأته بالعصمة من الله جل جلاله بالذي أراد حتى بلغ كراع الغميم (٢) بين مكة والمدينة فأتاه جبرئيل وأمره بالذي أتاه فيه من قبل الله ولم يأته بالعصمة.

فقال يا جبرئيل إني أخشى قومي أن يكذبوني ولا يقبلوا قولي في علي عليه‌السلام فرحل فلما بلغ غدير خم (٣) قبل الجحفة (٤) بثلاثة أميال أتاه جبرئيل عليه‌السلام على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار والعصمة من الناس فقال يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) في علي ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٥).

وكان أوائلهم قريب من الجحفة فأمر بأن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ليقيم عليا علما للناس ويبلغهم ما أنزل الله تعالى في علي وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس فأمر رسول الله عند ما جاءته العصمة مناديا ينادي في الناس بالصلاة جامعة ويرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر وتنحى عن يمين الطريق إلى جنب مسجد الغدير أمره بذلك جبرئيل عن الله عز وجل وكان في الموضع سلمات (٦) فأمر رسول

__________________

(١) الخيف هو المنحدر من غلظ الجبل قد ارتفع عن سيل الماء فليس شرفا ولا حضيضا ، وخيف منى هو الموضع الذي ينسب إليه مسجد الخيف. مراصد الاطلاع ١ / ٤٩٥.

(٢) كراع الغميم : موضع بالحجاز بين مكة والمدينة امام عسفان بثمانية أميال وهذا الكراع جبل اسود في طرف الجرة يمتد إليه. مراصد الاطلاع ٣ ـ ١١٥٣.

(٣) غدير : ما غودر من ماء المطر في مستنقع صغير او كبير غير انه لا يبقى في القيظ. وخم : قيل رجل ، وقيل غيظة ، وقيل موضع تصب فيه عين ، وقيل بئر قريب من الميثب حفرها مرة بن كعب ، نسب إلى ذلك غدير خم ، وهو بين مكة والمدينة ، وقيل على ثلاثة أميال من الجحفة ، وقيل على ميل ، وهناك مسجد ، للنبي. مراصد الاطلاع ١ / ٤٨٢ ، ٢ / ٩٨٥.

(٤) الجحفة : كانت قرية كبيرة ذات منبر على طريق مكة على أربع مراحل .. وكان اسمها مهيعة وسميت الجحفة لأن السيل جحفها ، وبينها وبين البحر ستة أميال. مراصد الاطلاع ١ / ٣١٥.

(٥) المائدة : ٦٧.

(٦) سلمات : أشجار.

٥٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقم ما تحتهن (١) وينصب له حجارة كهيئة المنبر ليشرف على الناس فتراجع الناس واحتبس أواخرهم في ذلك المكان لا يزالون فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوق تلك الأحجار ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه فقال :

الحمد لله الذي علا في توحده ودنا في تفرده وجل في سلطانه وعظم في أركانه و ( أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) وهو في مكانه وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه مجيدا لم يزل محمودا لا يزال بارئ المسموكات (٢) وداحي المدحوات وجبار الأرضين والسماوات قدوس سبوح رب الملائكة والروح ـ متفضل على جميع من برأه متطول على جميع من أنشأه يلحظ كل عين والعيون لا تراه كريم حليم ذو أناة قد وسع كل شيء رحمته ومن عليهم بنعمته لا يعجل بانتقامه ولا يبادر إليهم بما استحقوا من عذابه قد فهم السرائر وعلم الضمائر ولم تخف عليه المكنونات ولا اشتبهت عليه الخفيات له الإحاطة بكل شيء والغلبة على كل شيء والقوة في كل شيء والقدرة على كل شيء وليس مثله شيء وهو منشئ الشيء حين لا شيء دائم قائم ( بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) جل عن أن تدركه ( الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) لا يلحق أحد وصفه من معاينة ولا يجد أحد كيف هو من سر وعلانية إلا بما دل عز وجل على نفسه.

وأشهد أنه الله الذي ملأ الدهر قدسه والذي يغشي الأبد نوره والذي ينفذ أمره بلا مشاورة مشير ـ ولا معه شريك في تقدير ولا تفاوت في تدبير صور ما أبدع على غير مثال وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلف ولا احتيال أنشأها فكانت وبرأها فبانت ، فهُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ المتقن الصنعة الحسن الصنيعة العدل الذي لا يجور والأكرم الذي ترجع إليه الأمور.

وأشهد أنه الذي تواضع كل شيء لقدرته وخضع كل شيء لهيبته ملك الأملاك ومفلك الأفلاك ومسخر الشمس والقمر ( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى* يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ) (٣) ( وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ) ( يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) قاصم كل جبار عنيد ومهلك كل شيطان مريد لم يكن معه ضد ولا ند أحد صمد ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) إله واحد ورب ماجد يشاء فيمضي ويريد فيقضي ويعلم فيحصي ويميت ويحيي ويفقر ويغني ويضحك ويبكي ويمنع ويعطي.

( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) بيده الخير ( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) لا إله إلا ( هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) مجيب الدعاء ومجزل العطاء محصي الأنفاس ورب الجنة والناس لا يشكل عليه شيء ولا يضجره صراخ المستصرخين ولا يبرمه إلحاح الملحين العاصم للصالحين والموفق للمفلحين ومولى العالمين الذي استحق من كل من خلق أن يشكره ويحمده.

أحمده على السراء والضراء والشدة والرخاء وأومن به وبملائكته وكتبه ورسله أسمع أمره وأطيع وأبادر إلى كل ما يرضاه وأستسلم لقضائه رغبة في طاعته وخوفا من عقوبته لأنه الله الذي لا يؤمن مكره ولا يخاف

__________________

(١) أي يكنس ما تحتهن.

(٢) السمك : السقف ، أو من أعلى البيت إلى أسفله ، والغاية من كل شيء ، والمقصود هنا السماوات وما فيها.

(٣) كور الشيء : إدارته ، ضم بعضه الى بعض ككور العمامة ، ويكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل : اشارة الى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما.

٥٨

جوره وأقر له على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية وأؤدي ما أوحى إلي حذرا من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعة (١) لا يدفعها عني أحد وإن عظمت حيلته لا إله إلا هو لأنه قد أعلمني أني إن لم أبلغ ما أنزل إلي فما بلغت رسالته وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة وهو الله الكافي الكريم فأوحى إلي ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) في علي يعني في الخلافة لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ).

معاشر الناس ما قصرت في تبليغ ما أنزل الله تعالى إلي وأنا مبين لكم سبب نزول هذه الآية إن جبرئيل عليه‌السلام هبط إلي مرارا ثلاثا يأمرني عن السلام ربي وهو السلام أن أقوم في هذا المشهد فأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي الذي محله مني محل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وهو وليكم من بعد الله ورسوله وقد أنزل الله تبارك وتعالى علي بذلك آية من كتابه : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٢) وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع يريد الله عز وجل في كل حال.

وسألت جبرئيل أن يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم أيها الناس لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين وإدغال (٣) الآثمين وختل (٤) المستهزءين بالإسلام الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم ( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) ويحسبونه ( هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ) وكثرة أذاهم لي في غير مرة حتى سموني أذنا (٥) وزعموا أني كذلك لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه حتى أنزل الله عز وجل في ذلك قرآنا : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ ) على الذين يزعمون أنه أذن : ( خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الآية (٦).

ولو شئت أن أسمي بأسمائهم لسميت ـ وأن أومي إليهم بأعيانهم لأومأت وأن أدل عليهم لدللت ولكني والله في أمورهم قد تكرمت وكل ذلك لا يرضى الله مني إلا أن أبلغ ما أنزل إلي ثم تلا صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) في علي ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ).

فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم وليا وإماما مفترضا طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين لهم بإحسان وعلى البادي والحاضر وعلى الأعجمي والعربي والحر والمملوك والصغير والكبير وعلى الأبيض والأسود وعلى كل موحد ماض حكمه جائز قوله نافذ أمره ملعون من خالفه مرحوم من تبعه مؤمن من صدقه فقد غفر الله له ولمن سمع منه وأطاع له.

معاشر الناس إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر ربكم فإن الله عز وجل هو مولاكم وإلهكم ثم من دونه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وليكم القائم المخاطب لكم ثم من بعدي علي وليكم وإمامكم بأمر

__________________

(١) القارعة : الداهية والنكبة المهلكة.

(٢) المائدة : ٥٥.

(٣) الإدغال : المخالفة والخيانة ، وادغل في الأمر : ادخل فيه ما يفسده.

(٤) الختل : الخديعة.

(٥) الاذن بضمتين : الرجل المستمع لما يقال له.

(٦) التوبة : ٦١.

٥٩

ربكم ثم الإمامة في ذريتي من ولده إلى يوم تلقون الله ورسوله لا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله عرفني الحلال والحرام وأنا أفضيت لما علمني ربي من كتابه وحلاله وحرامه إليه.

معاشر الناس ما من علم إلا وقد أحصاه الله في وكل علم علمت فقد أحصيته في إمام المتقين وما من علم إلا علمته عليا وهو الإمام المبين.

معاشر الناس لا تضلوا عنه ولا تنفروا منه ولا تستكبروا [ ولا تستنكفوا ] من ولايته فهو الذي ( يَهْدِي إِلَى الْحَقِ ) ويعمل به ويزهق الباطل وينهى عنه ولا تأخذه في الله لومة لائم ثم إنه أول من آمن بالله ورسوله وهو الذي فدى رسوله بنفسه ـ وهو الذي كان مع رسول الله ولا أحد يعبد الله مع رسوله من الرجال غيره

معاشر الناس فضلوه فقد فضله الله واقبلوه فقد نصبه الله.

معاشر الناس إنه إمام من الله ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته ولن يغفر الله له حتما على الله أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه وأن يعذبه عذابا شديدا نكرا أبد الآباد ودهر الدهور فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ).

أيها الناس بي والله بشر الأولون من النبيين والمرسلين وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين فمن شك في ذلك فهو كافر كفر [ الجاهلية ] الأولى ومن شك في شيء من قولي هذا فقد شك في الكل منه والشاك في ذلك فله النار

معاشر الناس حباني الله بهذه الفضيلة منا منه علي وإحسانا منه إلي و ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ ) مني أبد الآبدين ودهر الداهرين على كل حال.

معاشر الناس فضلوا عليا فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى بنا أنزل الله الرزق وبقي الخلق ملعون ملعون مغضوب مغضوب من رد علي قولي هذا ولم يوافقه ألا إن جبرئيل خبرني عن الله تعالى بذلك ويقول من عادى عليا ولم يتوله فعليه لعنتي وغضبي ـ فلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ أن تخالفوه ( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ).

معاشر الناس إنه جنب الله الذي ذكر في كتابه فقال تعالى : ( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) (١).

معاشر الناس تدبروا القرآن وافهموا آياته وانظروا إلى محكماته ولا تتبعوا متشابهه فو الله لن يبين لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده ومصعده إلي وشائل بعضده ومعلمكم أن من كنت مولاه فهذا علي مولاه وهو علي بن أبي طالب عليه‌السلام أخي ووصيي وموالاته من الله عز وجل أنزلها علي.

معاشر الناس إن عليا والطيبين من ولدي هم الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر فكل واحد منبئ عن صاحبه وموافق له لن يفترقا حتى يردا علي الحوض هم أمناء الله في خلقه وحكماؤه في أرضه ألا وقد أديت ألا وقد بلغت ألا وقد أسمعت ألا وقد أوضحت ألا وإن الله عز وجل قال وأنا قلت عن الله عز وجل ألا إنه ليس

__________________

(١) الزمر : ٥٦.

٦٠