الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

من بلادنا خجلا وأنفة مما لحقنا وعجزا عن احتمال مضض ما يلحقنا من أعدائنا.

فقال علي بن موسى عليه‌السلام ائذن لهم ليدخلوا فدخلوا عليه فسلموا عليه فلم يرد عليهم ولم يأذن لهم بالجلوس فبقوا قياما.

فقالوا يا ابن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب؟ أي باقية تبقى منا بعد هذا؟

فقال الرضا عليه‌السلام اقرءوا ( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (١) والله ما اقتديت إلا بربي عز وجل وبرسوله وبأمير المؤمنين ومن بعده من آبائي الطاهرين عليهم‌السلام عتوا عليكم فاقتديت بهم.

قالوا لما ذا يا ابن رسول الله؟

قال لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين ويحكم إن شيعته الحسن والحسين وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار ومحمد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئا من أوامره ـ وأنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون وتقصرون في كثير من الفرائض وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله وتتقون حيث لا تجب التقية وتتركون التقية حيث لا بد من التقية لو قلتم إنكم مواليه ومحبوه والموالون لأوليائه والمعادون لأعدائه لم أنكره من قولكم ولكن هذه مرتبة شريفة ادعيتموها إن لم تصدقوا قولكم بفعلكم هلكتم إلا أن تتدارككم رحمة ربكم.

قالوا يا ابن رسول الله فإذا نستغفر الله ونتوب إليه من قولنا بل نقول كما علمنا مولانا نحن محبوكم ومحبو أوليائكم ومعادو أعدائكم :

قال الرضا عليه‌السلام فمرحبا بكم إخواني وأهل ودي ارتفعوا فما زال يرفعهم حتى ألصقهم بنفسه ثم قال لحاجبه:

كم مرة حجبتهم؟ قال ستين مرة.

قال فاختلف إليهم ستين مرة متوالية فسلم عليهم وأقرئهم سلامي فقد محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم وتوبتهم واستحقوا الكرامة لمحبتهم لنا وموالاتهم وتفقد أمورهم وأمور عيالاتهم فأوسعهم نفقات ومبرات وصلات ودفع معرات.

احتجاج أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليه‌السلام في أنواع شتى من العلوم الدينية

روى أبو داود بن القاسم الجعفري (٢) قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ما معنى الأحد؟

__________________

(١) الشورى ـ ٣٠.

(٢) داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رحمه‌الله ذكره الشيخ في الفهرست ص ٩٣ فقال : له كتاب وذكره في رجاله في أصحاب الرضا عليه‌السلام ص ٣٧٥ وفي أصحاب الجواد عليه‌السلام ص ٤٠١ وقال : ثقة جليل القدر وفي أصحاب الهادي (عليه‌السلام

٤٤١

قال المجمع عليه بالوحدانية أما سمعته يقول ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (١) ثم يقولون بعد ذلك له شريك وصاحبة.

فقلت قوله ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (٢)؟

قال يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ـ ولم تدرك ببصرك ذلك فأوهام القلوب لا تدركه فكيف تدركه الأبصار؟

وسئل عليه‌السلام أيجوز أن يقال لله إنه شيء؟

فقال نعم تخرجه من الحدين حد الإبطال وحد التشبيه.

وعن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي جعفر الثاني عليه‌السلام فسأله رجل فقال أخبرني عن الرب تبارك وتعالى أله أسماء وصفات في كتابه؟ وهل أسماؤه وصفاته هي هو؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام إن لهذا الكلام وجهين إن كنت تقول هي هو أنه ذو عدد وكثرة فتعالى الله عن ذلك وإن كنت تقول هذه الأسماء والصفات لم تزل فإن مما لم تزل محتمل على معنيين فإن قلت لم تزل عنده في علمه وهو يستحقها فنعم وإن كنت تقول لم تزل صورها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره بل كان الله تعالى ذكره ولا خلق ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدون وهي ذكره وكان الله سبحانه ولا ذكر والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل والأسماء والصفات مخلوقات والمعني بها هو الله لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف وإنما يختلف ويأتلف المتجزئ.

ولا يقال له قليل ولا كثير ولكنه القديم في ذاته لأن ما سوى الواحد متجزئ والله واحد ولا متجزئ ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزئ أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له فقولك إن الله قدير خبرت أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة العجز وجعلت العجز لسواه وكذلك قولك عالم إنما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل لسواه فإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع فلا يزال من لم يزل عالما.

فقال الرجل فكيف سمينا ربنا سميعا؟

فقال لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس وكذلك سميناه بصيرا لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك ولم نصفه ببصر طرفة العين وكذلك سميناه لطيفا لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وما هو أخفى من ذلك وموضع المشي منها

__________________

ص ٤١٤ وفي أصحاب العسكري ص ٤٣١. وذكره العلامة في الخلاصة فقال : يكنى أبا هاشم الجعفري رحمه‌الله من أهل بغداد ثقة جليل القدر ، عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم‌السلام. شاهد أبا جعفر وأبا الحسن وأبا محمد عليهم‌السلام. وكان شريفا عندهم ، له موقع جليل عندهم. روى أبوه عن الصادق عليه‌السلام.

(١) العنكبوت ـ ٦١.

(٢) الأنعام ـ ١٠٣.

٤٤٢

والشهود والسفاد والحدب على أولادها وإقامة بعضها على بعض ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمغاور والأودية والقفار وعلمنا بذلك أن خالقها لطيف بلا كيف إذ الكيف للمخلوق المكيف وكذلك سمينا ربنا قويا بلا قوة البطش المعروف من الخلق ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من الخلق لوقع التشبيه واحتمل الزيادة وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ـ وما كان ناقصا كان غير قديم وما كان غير قديم كان عاجزا فربنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضد ولا ند ولا كيفية ولا نهاية ولا تصاريف محرم على القلوب أن تحتمله وعلى الأوهام أن تحده وعلى الضمائر أن تصوره جل وعز عن أداة خلقه وسمات بريته تعالى عن ذلك علوا كبيرا

عن الريان بن شبيب (١) قال : لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي عليه‌السلام بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم ذلك واستنكروا منه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا عليه‌السلام فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه فقالوا ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا عليه‌السلام فإنا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكناه الله وينتزع منا عزا قد ألبسناه الله وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا عليه‌السلام ما عملت وكفانا الله المهم من ذلك فالله الله أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا واصرف رأيك عن ابن الرضا عليه‌السلام واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم وأما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان به قاطعا للرحم وأعوذ بالله من ذلك وو الله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى ( وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ).

وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه والأعجوبة فيه بذلك وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أن الرأي ما رأيت.

فقالوا إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم وإن هذا من أهل بيت علمهم من الله تعالى ومواده وإلهامه لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت لكم من حاله.

قالوا لقد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في حقه وظهر للخاصة والعامة

__________________

(١) قال العلامة الحلي رحمه‌الله في القسم الأول من خلاصته ص ٧٠ « الريان بن شبيب ـ بالشين المعجمة وبعدها باء منقطة ـ خال المعتصم ، ثقة ».

٤٤٣

سديد رأي أمير المؤمنين فيه وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه.

فقال لهم المأمون شأنكم وذلك متى أردتم.

فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم إلى ذلك واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك وخرج أبو جعفر عليه‌السلام وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه فقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر (ع).

فقال يحيى بن أكثم للمأمون تأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟

فقال المأمون استأذنه في ذلك.

فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام سل إن شئت!

فقال يحيى ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام قتله في حل أو حرم عالما كان المحرم أو جاهلا قتله عمدا أو خطأ حرا كان المحرم أو عبدا صغيرا كان أو كبيرا مبتدئا بالقتل أو معيدا من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها من صغار الصيد أم من كباره مصرا على ما فعل أو نادما في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار محرماكان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟

فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس عجزه.

فقال المأمون الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ثم أقبل إلى أبي جعفر فقال له أتخطب يا أبا جعفر؟

قال نعم يا أمير المؤمنين.

فقال له المأمون اخطب لنفسك جعلت فداك فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي وإن رغم أنوف قوم لذلك.

فقال أبو جعفر الحمد لله إقرارا بنعمته ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته وصلى الله على سيد بريته والأصفياء من عترته.

أما بعد فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه ( وَأَنْكِحُوا

٤٤٤

الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (١) ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد عليه‌السلام وهو خمسمائة درهم جيادا فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور؟

فقال المأمون نعم قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور فهل قبلت النكاح؟

قال أبو جعفر عليه‌السلام نعم قد قبلت ذلك ورضيت به.

فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم من الخاصة والعامة.

قال الريان ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه الملاحين في محاوراتهم فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة تشد بالحبال من الإبريسم على عجلة مملوة من الغالية فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية ففعلوا ذلك ثم مدت إلى دار العامة فتطيبوا بها ووضعت الموائد فأكل الناس وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم.

فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي قال المأمون لأبي جعفر عليه‌السلام جعلت فداك إن رأيت أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام نعم إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة وإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا وإذا قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن فإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة وإن كان نعامة فعليه بدنة وإن كان ظبيا فعليه شاة فإن كان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا ( هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى وإن كان إحرام بعمرة نحره بمكة وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه المأثم وهو موضوع عنه في الخطإ والكفارة على الحر في نفسه وعلى السيد في عبده والصغير لا كفارة عليه وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة.

فقال المأمون أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك؟

فقال أبو جعفر ليحيى أسألك؟

قال ذلك إليك جعلت فداك فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدته منك.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه فلما ارتفع النهار حلت له فلما زالت الشمس حرمت عليه فلما كان وقت العصر حلت له فلما غربت الشمس حرمت عليه فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه فلما طلع الفجر حلت له ما حال هذه المرأة وبما حلت له وحرمت عليه؟

__________________

(١) النور : ٣٢.

٤٤٥

فقال له يحيى بن أكثم لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه فإن رأيت أن تفيدنا؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له فلما كان وقت المغرب ظاهر منها (١) فحرمت عليه فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له فلما كان نصف الليل طلقها تطليقة واحدة فحرمت عليه فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.

قال فأقبل المأمون على من حضر من أهل بيته وقال لهم هل فيكم من يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال؟

قالوا لا والله إن أمير المؤمنين أعلم بما رأى.

فقال ويحكم إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل وإن صغر السن لا يمنعهم من الكمال أما علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو ابن عشر سنين وقبل منه الإسلام وحكم له به ولم يدع أحدا في سنه غيره وبايع الحسن والحسين عليه‌السلام وهما دون الست سنين ولم يبايع صبيا غيرهما أولا تعلمون الآن ما اختص الله به هؤلاء القوم وأنهم ذرية ( بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) ـ يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟

قالوا صدقت يا أمير المؤمنين.

ثم نهض القوم فلما كان من الغد حضر الناس وحضر أبو جعفر عليه‌السلام وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر عليه‌السلام فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق مسك وزعفران معجون في أجواف تلك البنادق ورقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية وإقطاعات فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له ووضعت البدر فنثر ما فيها على القواد وغيرهم وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين ولم يزل مكرما لأبي جعفر عليه‌السلام معظما لقدره مدة حياته يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته.

وروي أن المأمون بعد ما زوج ابنته أم الفضل أبا جعفر كان في مجلس وعنده أبو جعفر عليه‌السلام ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة.

فقال له يحيى بن أكثم ما تقول يا ابن رسول الله في الخبر الذي روي أنه نزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض؟ (٢).

__________________

(١) الظهار هو : أن يقول الرجل لزوجته : « أنت علي كظهر أمي ، فإذا قال لها ذلك : حرمت عليه ولا يرجع بها الا بعد أداء الكفارة.

(٢) قال شيخ الحفاظ والمحدثين الحجة الأميني في الغدير ج ٦ بعد ذكر هذا الحديث الموضوع : « أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ج ٢

٤٤٦

فقال أبو جعفر عليه‌السلام لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله قال الله تعالى ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (١) فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره؟ هذا مستحيل في العقول.

ثم قال يحيى بن أكثم وقد روي أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء؟

فقال وهذا أيضا يجب أن ينظر فيه لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة وهما قد أشركا بالله عز وجل وإن أسلما بعد الشرك فكان أكثر أيامهما الشرك بالله فمحال أن يشبههما بهما.

قال يحيى وقد روي أيضا أنهما سيدا كهول أهل الجنة (٢) فما تقول فيه؟

فقال عليه‌السلام وهذا الخبر محال أيضا لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبانا ولا يكون فيهم كهل وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحسن والحسين عليهما‌السلام بأنهما سيدا شباب أهل الجنة.

فقال يحيى بن أكثم وروي أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة.

فقال عليه‌السلام وهذا أيضا محال لأن في الجنة ملائكة الله المقربين وآدم ومحمد [ محمدا ] وجميع الأنبياء والمرسلين لا تضيء الجنة بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر؟

__________________

ص ١٠٦ من طريق ابن بابشاذ صاحب الطامات ساكتا عن بطلانه جريا على عادته ، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٣٠٢ فقال : كذب ».

(١) ق ـ ١٦.

(٢) ذكره الحجة الأميني في سلسلة الموضوعات ج ٥ ص ٢٧٦ من كتاب الغدير فقال :

« من موضوعات يحيى بن عنبسة وهو ذلك الدجال الوضاع ذكره الذهبي في الميزان ج ٣ ص ١٢٦ وقال : قال يونس بن حبيب : ذكرت لعلي بن المدائني محمد بن كثير المصيصي وحديثه هذا فقال علي : كنت أشتهي أن أرى هذا الشيخ فالآن لا أحب أن أراه ورواه من طريق عبد الرحمن بن مالك بن مغول الكذاب الأفاك الوضاع.

وفي تلخيص الشافي ص ٢١٩ من الجزء الثاني : « اما الخبر الذي يتضمن أنهما سيدا كهول أهل الجنة فمن تأمل أصل هذا الخبر بعين إنصاف علم أنه موضوع في أيام بني أمية معارضة لما روي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحسن والحسين : « إنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما ». وهذا الخبر الذي ادعوه يروونه عن عبيد الله بن عمرو حال عبيد الله في الانحراف عن أهل البيت معروفة وهو أيضا كالجار إلى نفسه على أنه لا يخلو من أن يريد بقوله : « سيدا كهول الجنة » أنهما سيدا كهول من هو في الجنة ، أو يراد أنهما سيدا من يدخل الجنة من كهول الدنيا ، فان كان الأول ، فذلك باطل ، لأن رسول الله قد وقفنا ـ وأجمعت الأمة ـ على أن جميع أهل الجنة جرد مرد ، وأنه لا يدخلها كهل وإن كان الثاني. فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله في الحسن والحسين إنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما ... الخ ».

٤٤٧

فقال يحيى وقد روي أن السكينة تنطق على لسان عمر؟ (١).

فقال عليه‌السلام لست بمنكر فضل عمر ولكن أبا بكر أفضل من عمر فقال على رأس المنبر إن لي شيطانا يعتريني فإذا ملت فسددوني.

فقال يحيى قد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لو لم أبعث لبعث عمر (٢).

فقال عليه‌السلام كتاب الله أصدق من هذا الحديث يقول الله في كتابه : ( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ) (٣) فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه ، وكل الأنبياء عليهم‌السلام لم يشركوا بالله طرفة عين فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نبئت وآدم بين الروح والجسد.

فقال يحيى بن أكثم وقد روي أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب؟ (٤)

__________________

(١) بهذا المضمون وردت عدة روايات منها : أن الحق ينطق على لسان عمرو أن ملكا ينطق على لسانه وغير ذلك قال في تلخيص الشافي ج ٢ ص ٢٤٧ :

» وأما ما روي من قوله : « الحق ينطق على لسان عمر » فان كان صحيحا فانه يقتضي عصمة عمر ، والقطع على أن أقواله كلها حجة ، وليس هذا مذهب أحد فيه ، لأنه لا خلاف في أنه ليس بمعصوم وأن خلافه سائغ.

وكيف يكون الحق ناطقا على لسان من يرجع في الأحكام من قول إلى قول ، وشهد لنفسه بالخطإ ، ويخالف بالشيء ثم يعود إلى قول من خالفه ويوافقه عليه ويقول : « لو لا علي لهلك عمر » و « لو لا معاذ لهلك عمر »؟؟

وكيف لا يحتج بهذا الخبر هو لنفسه في بعض المقامات التي احتاج إلى الاحتجاج فيها؟

وكيف لم يقل أبو بكر لطلحة ـ حين أنكر نصه عليه ـ بأن الحق ينطق على لسانه »؟؟

وأحصى شيخ الحفاظ والمحدثين الحجة الأميني في ج ٦ من الغدير مائة مخالفة لعمر بن الخطاب ثم قال : هذا قليل من كثير مما وقفنا عليه من ( نوادر الأثر في علم عمر ) وبوسعنا الآن أن نأتي بأضعاف ما سردناه لكنا نقتصر على هذا رعاية لمقتضى الحال.

(٢) قال الأميني شيخ الحفاظ والمحدثين في الجزء الخامس من الغدير أخرجه ابن عدي بطريقين : وقال : لا يصح زكريا ( الوكار ) كذاب يضع ، وابن واقد عبد الله متروك ، ومشرح بن ( عاهان ) لا يحتج به.

(٣) الأحزاب / ٧.

(٤) قال شيخ الحفاظ والمحدثين الحجة الأميني في ج ٦ ص ٣١٢ من الغدير : وأمثال هذه الأكاذيب فإن من يكون بتلك المثابة حتى يكاد يبعث نبيا لا يفقد علم واضحات المسائل عند ابتلائه أو ابتلاء من يرجع أمره إليه من امته بها ، ولا يتعلم القرآن في اثنتي عشر سنة وأين كان الحق والملك والسكينة يوم كان لا يهتدي إلى أمهات المسائل سبيلا فلا تسدده ولا تفرغ الجواب على لسانه ، ولا تضع الحق في قلبه ، وكيف يسع المسدد بذلك كله أن يحسب كل الناس أفقه منه حتى ربات الحجال؟ وكيف كان يأخذ علم الكتاب والسنة من نساء الأمة وغوغاء الناس فضلا عن رجالها وأعلامها؟ وكيف كان يرى عرفان لفظة في القرآن تكلفا ويقول : هذا لعمر الله هو التكلف ، ما عليك يا ابن أم عمران لا تدري ما الأب؟ وكيف كان يأخذ عن اولئك الجم الغفير من الصحابة ويستفتيهم في الأحكام؟ وكيف كان يعتذر عن جهله أوضح ما يكون من السنة بقوله : ألهاني عنه الصفق بالأسواق؟! وكيف كان لم يسعه أن يعلم الكلالة ويقيمها ولم يتمكن من تعلم صور ميراث الجد ، وكان النبي « صلى‌الله‌عليه‌وآله » يقول : ما أراه يعلمها ، وما أراه يقيمها ، ويقول : إني أظنك تموت قبل أن تعلم ذلك! وكيف كان مثل أبي بن كعب يغلظ له في القول ويراه ملهى عن علم الكتاب بالصفق بالأسواق وبيع الخيط والقرظة؟ وكيف كان أمير المؤمنين جاهلا بتأويل القرآن؟ وكيف وكيف وكيف وكيف!! نعم راق للقوم أن ينحتوا له فضائل ويغالوا فيها ولم يفكروا في لوازمها وحسبوا أن المستقبل الكشاف يمضي كما مضت القرون خاليا عن باحث او منقب أو أن بواعث الارهاب يلجم لسانه عن أن ينطق ، ويضرب على يده عن أن تكتب ، ولا تفسح حرية القلم والمذاهب والأفكار للعلماء أن يبوحوا بما عندهم.

٤٤٨

فقال عليه‌السلام وهذا محال أيضا لأنه لا يجوز أن يشك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في نبوته قال الله تعالى ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (١) فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به؟

قال يحيى روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لو نزل العذاب لما نجا منه إلا عمر.

فقال عليه‌السلام وهذا محال أيضا لأن الله تعالى يقول ( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (٢) فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما داموا يستغفرون.

وعن عبد العظيم الحسني رضي الله عنه قال : قلت لمحمد بن علي بن موسى عليه‌السلام يا مولاي إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

فقال عليه‌السلام ما منا إلا قائم بأمر الله وهاد إلى دين الله ولكن القائم الذي يطهر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأ الأرض قسطا وعدلا هو الذي يخفى على الناس ولادته ويغيب عنهم شخصه ويحرم عليهم تسميته وهو سمي رسول الله وكنيه وهو الذي تطوى له الأرض ويذل له كل صعب يجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من أقاصي الأرض وذلك قول الله ( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣) فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره ـ فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى عز وجل.

قال عبد العظيم فقلت له يا سيدي فكيف يعلم أن الله قد رضي؟

قال يلقي في قلبه الرحمة فإذا دخل المدينة أخرج اللات والعزى فأحرقهما.

احتجاج أبي الحسن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام في شيء من التوحيد وغير ذلك من العلوم الدينية والدنياوية على المخالف والمؤالف

سئل أبو الحسن عليه‌السلام عن التوحيد فقيل له لم يزل الله وحده لا شيء معه ثم خلق الأشياء بديعا واختار لنفسه الأسماء ولم تزل الأسماء والحروف له معه قديمة؟

فكتب لم يزل الله موجودا ثم كون ما أراد لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه تاهت أوهام المتوهمين ـ وتقصر طرف الطارفين وتلاشت أوصاف الواصفين واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنه أو الوقوع بالبلوغ على علو مكانه فهو بالموضع الذي لا يتناهى وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون بإشارة ولا عبارة هيهات هيهات!!

وحدثنا أحمد بن إسحاق (٤) قال : كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد العسكري أسأله عن الرؤية وما فيه الخلق فكتب

__________________

(١) النساء / ٧٧.

(٢) الأنفال / ٣٨.

(٣) الحج / ٧٥.

(٤) ذكره الشيخ في أصحاب الجواد ص ٢٩٨ من رجاله وقال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص ١٥ : أحمد بن إسحاق بن سعد بن

٤٤٩

لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر فمتى انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية وفي جواب اتصال الضياءين الرائي والمرئي وجوب الاشتباه والله تعالى منزه عن الاشتباه فثبت أنه لا يجوز عليه سبحانه الرؤية بالأبصار لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.

وعن العباس بن هلال (١) قال : سألت أبا الحسن علي بن محمد عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (٢) فقال عليه‌السلام يعني هادي من في السماوات ومن في الأرض.

ومما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام في رسالته إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أن قال اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الإجماع عليه مصيبون وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تجتمع أمتي على ضلالة فأخبر عليه‌السلام أن ما اجتمعت عليه الأمة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون (٣) ولا ما قاله المعاندون ومن إبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة والروايات المزخرفة اتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب وتحقيق الآيات الواضحات النيرات ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصواب ويهدينا إلى الرشاد.

ثم قال عليه‌السلام فإذا شهد الكتاب بتصديق خبر وتحقيقه فأنكرته طائفة من الأمة وعارضته بحديث من هذه الأحاديث المزورة فصارت بإنكارها ودفعها الكتاب كفارا ضلالا وأصح خبر ما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال إني مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (٤) واللفظة الأخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله عليه‌السلام إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا فلما وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله مثل قوله ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٥) ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه‌السلام أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه (٦) ثم وجدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة من كنت مولاه فعلي مولاه ـ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (٧) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم بعدي وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث استخلفه على المدينة فقال

__________________

عبد الله بن سعد بن مالك الأحوص الأشعري ، أبو علي القمي ، كان وافد القميين ، روى عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام وأبي الحسن عليه‌السلام وكان خاصة أبي محمد عليه‌السلام وهو شيخ القميين رأى صاحب الزمان عليه‌السلام.

(١) العباس بن هلال الشامي : ذكره الشيخ في رجاله في عداد أصحاب الرضا عليه‌السلام ص ٣٨٢ والنجاشي ص ٢٠٧ وقال : روى عن الرضا عليه‌السلام.

(٢) النور ـ ٣٥.

(٣) أي : ما تأولوه من قولهم بالإجماع في اختيار الامام الذي لم يجعل لهم الله الخيرة فيه.

(٤) راجع حديث الثقلين في هامش الجزء الأول من هذا الكتاب.

(٥) المائدة ٥٨.

(٦) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب.

(٧) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب.

٤٥٠

يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان؟

فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (١) فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار وتحقيق هذه الشواهد فلزم الأمة الإقرار بها إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن ووافق القرآن هذه الأخبار ـ فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله ووجدنا كتاب الله لهذه الأخبار موافقا وعليها دليلا كان الاقتداء بهذه الأخبار فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد والفساد.

ثم قال عليه‌السلام ومرادنا وقصدنا الكلام في الجبر والتفويض وشرحهما وبيانهما وإنما قدمنا ما قدمنا ليكون اتفاق الكتاب والخبر إذا اتفقا دليلا لما أردناه وقوة لما نحن مبينوه من ذلك إن شاء الله.

فقال الجبر والتفويض يقول الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام عند ما سئل عن ذلك فقال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين.

قيل فما ذا يا ابن رسول الله؟

فقال صحة العقل وتخلية السرب والمهلة في الوقت والزاد قبل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله فهذه خمسة أشياء فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطرحا بحسبه وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة وهي الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهل له البحث من شرحه ويشهد به القرآن بمحكم آياته ويحقق تصديقه عند ذوي الألباب وبالله العصمة والتوفيق.

ثم قال عليه‌السلام فأما الجبر فهو قول من زعم أن الله عز وجل جبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه ورد عليه قوله ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (٢) وقوله جل ذكره ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (٣) مع آي كثيرة في مثل هذا فمن زعم أنه مجبور على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله وظلمه في عظمته له ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه ومن كذب كتابه لزمه الكفر بإجماع الأمة فالمثل المضروب في ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ويعلم مولاه ذلك منه فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن وقد وصف به مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة يعاقبه فلما صار العبد إلى السوق وحاول أخذ الحاجة التي بعثه بها وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجة فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته وإن لم يعاقبه كذب نفسه أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا.

__________________

(١) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب.

(٢) الكهف ـ ٥٠.

(٣) الحج ـ ١٠.

٤٥١

ثم قال العالم عليه‌السلام بعد كلام طويل فأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه‌السلام وخطأ من دان به فهو قول القائل إن الله عز وجل فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم.

وهذا الكلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية عليهم‌السلام من عترة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنهم قالوا لو فوض الله أمره إليهم على جهة الإهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به الثواب ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب إذ كان الإهمال واقعا وتنصرف هذه المقالة على معنيين إما أن تكون العباد تظاهروا عليه فألزموه اختيارهم بآرائهم ضرورة كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن أو يكون جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته ففوض أمره ونهيه إليهم وأجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ونهيه وادعى مالك العبد أنه قاهر قادر عزيز حكيم فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب وأوعده على معصيته أليم العقاب فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره ونهيه فأي أمر أمره به أو نهاه عنه لم يأتمر على إرادة المولى بل كان العبد يتبع إرادة نفسه وبعثه في بعض حوائجه وفيما الحاجة له فصار العبد بغير تلك الحاجة خلافا على مولاه وقصد إرادة نفسه واتبع هواه فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه فإذا هو خلاف أمره فقال العبد اتكلت على تفويضك الأمر إلي فاتبعت هواي وإرادتي لأن المفوض إليه غير محظور عليه لاستحالة اجتماع التفويض والتحظير.

ثم قال عليه‌السلام إن الله خلق الخلق بقدرته وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي وقبل منهم اتباع أمره ونهيه ورضي بذلك لهم ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها ولله الخيرة في الأمر والنهي يختار ما يريده ويأمر به وينهى عما يكره ويثيب ويعاقب بالاستطاعة التي يملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه لأنه العدل ومنه النصفة والحكومة بالغ الحجة بالإعذار والإنذار وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده اصطفى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثه بالرسالة إلى خلقه ولو فوض اختيار أموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قالوا ( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (١) يعنونهما بذلك فهذا هو القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض بذلك أخبر أمير المؤمنين عليه‌السلام حين سأله عتابة [ عباية ] بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة فقال أمير المؤمنين تملكها من دون الله أو مع الله فسكت عتابة [ عباية ] بن ربعي.

فقال له قل يا عتابة [ عباية ] قال وما أقول؟

قال إن قلت تملكها مع الله قتلتك وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك.

قال وما أقول يا أمير المؤمنين؟

قال تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملكك والمالك لما عليه أقدرك أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث

__________________

(١) الزخرف ـ ٢١.

٤٥٢

يقولون لا حول ولا قوة إلا بالله.

فقال الرجل وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال لا حول لنا من معاصي الله إلا بعصمة الله ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله قال فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه.

ثم قال عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) (١) وفي قوله ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) (٢) وفي قوله ( أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (٣) وقوله ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ) (٤) وقوله ( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (٥) وقول موسى عليه‌السلام ( إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ) (٦) وقوله : ( لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) (٧) وقوله ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ) (٨) وقوله ( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ) (٩) وقوله ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (١٠) وقوله ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) (١١) وقوله ( وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) (١٢) إن جميعها جاءت في القرآن بمعنى الاختبار.

ثم قال عليه‌السلام فإن قالوا ما الحجة في قول الله تعالى ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (١٣) وما أشبه ذلك؟

قلنا فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين أحدهما عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء وضلالة من يشاء ولو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب على ما شرحناه والمعنى الآخر أن الهداية منه التعريف كقوله تعالى ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (١٤) وليس كل آية مشتبهة في القرآن كانت الآية حجة على حكم الآيات اللاتي أمر بالأخذ بها وتقليدها وهي قوله ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) الآية (١٥) وقال ( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (١٦) وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى ويقرب لنا ولكم الكرامة والزلفى وهدانا لما هو لنا ولكم خير وأبقى إنه الفعال لما يريد الحكيم المجيد.

عن أبي عبد الله الزيادي (١٧) قال : لما سم المتوكل نذر لله إن رزقه الله العافية أن يتصدق بمال كثير فلما سلم وعوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير كم يكون؟ فاختلفوا فقال بعضهم ألف درهم وقال بعضهم عشرة آلاف وقال بعضهم مائة ألف فاشتبه عليه هذا.

__________________

(١) محمد : ٣١.

(٢) الأعراف : ١٨١.

(٣) العنكبوت : ٢.

(٤) سورة ص : ٣٤.

(٥) طه : ٨٥.

(٦) الأعراف : ١٥٤.

(٧) المائدة : ٥١.

(٨) آل عمران : ١٥٢.

(٩) القلم : ١٧.

(١٠) هود : ٧.

(١١) البقرة : ١٤٢.

(١٢) محمد : ٤.

(١٣) إبراهيم : ٤.

(١٤) حم : السجدة : ١٧.

(١٥) آل عمران : ٧.

(١٦) الزمر : ١٨.

(١٧) أبو عبد الله الزيادي : لم أعثر له على ترجمة.

٤٥٣

فقال له الحسن حاجبه إن أتيتك يا أمير المؤمنين من هذا أخبرك بالحق والصواب فما لي عندك؟

فقال المتوكل إن أتيت بالحق فلك عشرة آلاف درهم وإلا أضربك مائة مقرعة.

فقال قد رضيت فأتى أبا الحسن العسكري عليه‌السلام فسأله عن ذلك.

فقال أبو الحسن عليه‌السلام قل له يتصدق بثمانين درهما فرجع إلى المتوكل فأخبره فقال ـ سله ما العلة في ذلك؟

فسأله فقال إن الله عز وجل قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (١) فعددنا مواطن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبلغت ثمانين موطنا.

فرجع إليه فأخبره ففرح وأعطاه عشرة آلاف درهم.

وعن جعفر بن رزق الله (٢) قال : قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم.

فقال يحيى بن أكثم قد هدم إيمانه شركه وفعله وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود وقال بعضهم يفعل به كذا وكذا.

فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن العسكري وسؤاله عن ذلك.

فلما قرأ الكتاب كتب عليه‌السلام يضرب حتى يموت فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر ذلك فقالوا يا أمير المؤمنين سله عن ذلك فإنه شيء لم ينطق به كتاب ولم يجئ به سنة.

فكتب إليه أن الفقهاء قد أنكروا هذا وقالوا لم يجئ به سنة ولم ينطق به كتاب فبين لنا لم أوجبت علينا الضرب حتى يموت؟

فكتب ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) الآية (٣) فأمر به المتوكل فضرب حتى مات

سأل يحيى بن أكثم أبا الحسن العالم عليه‌السلام عن قوله تعالى ( سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ) (٤) ما هي؟

فقال هي عين الكبريت وعين اليمن وعين البرهوت وعين الطبرية وجمة ماسيدان [ ماسبذان ] وجمة إفريقا وعين ماجروان [ باجروان ] ونحن الكلمات التي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى.

وروي عن الحسن العسكري عليه‌السلام أنه اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام أن رجلا من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب فأفحمه بحجته حتى أبان عن فضيحته فدخل إلى علي بن محمد عليه‌السلام وفي

__________________

(١) التوبة : ٢٦.

(٢) روى عنه في التهذيب والكافي ولم أعثر له على ترجمة.

(٣) المؤمن : ٨٤ و ٨٥.

(٤) لقمان : ٢٧.

٤٥٤

صدر مجلسه دست عظيم منصوب وهو قاعد خارج الدست وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست وأقبل عليه فاشتد ذلك على أولئك الأشراف فأما العلوية فأجلوه عن العتاب وأما الهاشميون فقال لهم شيخهم يا ابن رسول الله هكذا تؤثر عاميا على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين؟

فقال عليه‌السلام إياكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) (١) أترضون بكتاب الله حكما؟ قالوا بلى.

قال أليس الله يقول ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ )؟ إلى قوله ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (٢) فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن أخبروني عنه قال ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) أو قال يرفع الذين أوتوا شرف النسب درجات أوليس قال الله ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (٣)؟ فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله إن كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها لأفضل له من كل شرف في النسب ـ؟

فقال العباسي يا ابن رسول الله قد شرفت علينا وقصرتنا عمن ليس له نسب كنسبنا وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه فيه.

فقال عليه‌السلام سبحان الله أليس عباس بايع أبا بكر وهو تيمي والعباس هاشمي أوليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب وهو هاشمي أبو الخلفاء وعمر عدوي وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكرا فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته فإن كان ذلك جائزا فهذا جائز فكأنما ألقم الهاشمي حجرا.

وروي عن علي بن محمد الهادي عليه‌السلام أنه قال : لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه‌السلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ـ ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل

احتجاج أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام في أنواع شتى من علوم الدين

وبالإسناد المقدم ذكره أن أبا محمد العسكري عليه‌السلام قال : في قوله تعالى ( خَتَمَ اللهُ عَلى

__________________

(١) النساء : ٦.

(٢) المجادلة : ١١.

(٣) الزمر : ٩.

٤٥٥

قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (١) أي وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه ـ وقصروا فيما أريد منهم وجهلوا ما لزمهم الإيمان به فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه فإن الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه فلا يأمرهم بمغالبته ولا بالمصير إلى ما قد صدهم بالقسر عنه ثم قال ( وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) يعني في الآخرة العذاب المعد للكافرين وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه لطاعته أو من عذاب الإصلاح ليصيره إلى عدله وحكمته.

وروى أبو محمد العسكري عليه‌السلام مثل ما قال هو في تأويل هذه الآية من المراد بالختم على قلوب الكفار عن الصادق عليه‌السلام بزيادة شرح لم نذكره مخافة التطويل لهذا الكتاب.

وبالإسناد المتكرر من أبي محمد عليه‌السلام أنه قال : في تفسير قوله تعالى ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ) (٢) الآية جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم لم يجعلها شديدة الحمي والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ولا شديدة النتن فتعطبكم ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لحرثكم وقبوركم وكثير من منافعكم فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.

ثم قال ( وَالسَّماءَ بِناءً ) يعني سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم.

ثم قال ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) يعني المطر ينزله من علو ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا لينشفه أرضوكم ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة ليفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم.

ثم قال : ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) يعني مما يخرجه من الأرض رزقا لكم ، ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء ، ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم.

وبالإسناد الذي مضى ذكره عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام في قوله تعالى ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَ ) (٣) أن الأمي منسوب إلى أمه أي هو كما خرج من بطن أمه لا يقرأ ولا يكتب ، ( لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ) المنزل من السماء ولا المتكذب به ولا يميزون بينهما ( إِلاَّ أَمانِيَ ) أي إلا أن يقرأ عليهم ويقال لهم إن هذا كتاب الله وكلامه لا يعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف ما فيه ، ( وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) أي ما يقرأ عليهم رؤساؤهم من تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) البقرة : ٧.

(٢) البقرة : ٢٢.

(٣) البقرة : ٧٨.

٤٥٦

في نبوته وإمامة علي عليه‌السلام سيد عترته وهم يقلدونهم مع أنه محرم عليهم تقليدهم ، ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ ) تعالى إلى آخرها (١).

هذا القوم اليهود كتبوا صفة زعموا أنها صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي خلاف صفته وقالوا للمستضعفين منهم هذه صفة النبي المبعوث في آخر الزمان إنه طويل عظيم البدن والبطن أهدف (٢) أصهب الشعر ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بخلافه وهو يجيء بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة وإنما أرادوا بذلك أن تبقى لهم على ضعفائهم رئاستهم وتدوم لهم إصابتهم ويكفوا أنفسهم مئونة خدمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخدمة علي عليه‌السلام وأهل بيته وخاصته فقال الله عز وجل ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) من هذه الصفات المحرفات والمخالفات لصفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام الشدة لهم من العذاب في أسوإ بقاع جهنم وويل لهم الشدة في العذاب ثانية مضافة إلى الأولى بما يكسبونه من الأموال التي يأخذونها إذا ثبتوا عوامهم على الكفر بمحمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والحجة لوصيه وأخيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ولي الله.

ثم قال عليه‌السلام قال رجل للصادق عليه‌السلام فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم

فقال عليه‌السلام بين عوامنا وعلمائنا وعوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة

أما من حيث استووا فإن الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذم عوامهم وأما من حيث افترقوا فلا

قال بين لي يا ابن رسول الله

قال عليه‌السلام إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشاء وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون المحرمات واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله فلذلك ذمهم لما قلدوا من قد عرفوه ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقا وبالترفرف

__________________

(١) البقرة : ٧٩.

(٢) الهدف : الجسيم.

٤٥٧

بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم فإنه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة العامة فلا تقبلوا منا عنه شيئا ولا كرامة وإنما كثر التخليط فيما يحتمل عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره بجهلهم ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم وآخرون يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.

ومنهم قوم نصاب لا يقدرون على القدح فينا يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا وينتقصون بنا عند نصابنا ثم يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها فيتقبله المستسلمون من شيعتنا على أنه من علومنا فضلوا وأضلوا وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي عليه‌السلام وأصحابه فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال وهؤلاء علماء السوء الناصبون المتشبهون بأنهم لنا موالون ولأعدائنا معادون ويدخلون الشك والشبهة على ضعفاء شيعتنا فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب لا جرم أن من علم الله من قلبه من هؤلاء القوم أنه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليه لم يتركه في يد هذا المتلبس الكافر ـ ولكنه يقيض له مؤمنا يقف به على الصواب ثم يوفقه الله للقبول منه فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة ويجمع على من أضله لعنا في الدنيا وعذاب الآخرة.

ثم قال قال رسول الله أشرار علماء أمتنا المضلون عنا القاطعون للطرق إلينا المسمون أضدادنا بأسمائنا الملقبون أندادنا بألقابنا يصلون عليهم وهم للعن مستحقون ويلعنونا ونحن بكرامات الله مغمورون وبصلوات الله وصلوات ملائكته المقربين علينا عن صلواتهم مستغنون.

ثم قال قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال العلماء إذا صلحوا.

قيل فمن شرار خلق الله بعد إبليس وفرعون ونمرود وبعد المتسمين بأسمائكم والمتلقبين بألقابكم ـ والآخذين لأمكنتكم والمتأمرين في ممالككم ـ؟

قال العلماء إذا فسدوا هم المظهرون للأباطيل الكاتمون للحقائق وفيهم قال الله عز وجل ( أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ) الآية (١)

وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبي الحسن علي بن محمد بن سيار أنهما قالا : قلنا للحسن أبي القائم عليه‌السلام إن قوما عندنا يزعمون أن هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم وأنزلهما الله مع ثالث لهما إلى الدنيا ـ وأنهما

__________________

(١) البقرة / ١٥٩.

٤٥٨

افتتنا بالزهرة وأرادا الزنا بها ـ وشربا الخمر وقتلا النفس المحرمة وأن الله يعذبهما ببابل وأن السحرة منهما يتعلمون السحر وأن الله مسخ هذا الكوكب الذي هو الزهرة.

فقال الإمام عليه‌السلام معاذ الله من ذلك إن ملائكة الله معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله فقال عز وجل فيهم ( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) (١) وقال ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ ) يعني الملائكة ( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) (٢) وقال في الملائكة ( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) إلى قوله ( مُشْفِقُونَ ) (٣) كان الله قد جعل هؤلاء الملائكة خلفاءه في الأرض وكانوا كالأنبياء في الدنيا وكالأئمة أفيكون من الأنبياء والأئمة قتل النفس والزنا وشرب الخمر؟

ثم قال أولست تعلم أن الله لم يخل الدنيا من نبي أو إمام من البشر؟ أوليس يقول ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ـ من رسلنا يعني إلى الخلق ـ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) (٤) فأخبر أنه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمة وحكاما وإنما أرسلوا إلى أنبياء الله؟

قالا قلنا له فعلى هذا لم يكن إبليس ملكا!

فقال لا بل كان من الجن أما تسمعان الله تعالى يقول ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ ) (٥) فأخبر أنه كان من الجن وهو الذي قال : ( وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ ) (٦).

وقال الإمام عليه‌السلام يحدثني أبي عن جدي عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الله اختارنا معاشر آل محمد واختار النبيين واختار الملائكة المقربين وما اختارهم إلا على علم منه بهم أنهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته وينقطعون به من عصمته وينضمون به إلى المستحقين لعذابه ونقمته.

قالا فقلنا فقد روي لنا أن عليا صلوات الله عليه لما نص عليه رسول الله بالإمامة عرض الله ولايته على فئام وفئام (٧) من الملائكة فأبوها فمسخهم الله ضفادع.

فقال معاذ الله هؤلاء المكذبون علينا الملائكة هم رسل الله كسائر أنبياء الله إلى الخلق أفيكون منهم الكفر بالله قلنا لا.

قال فكذلك الملائكة إن شأن الملائكة عظيم وإن خطبهم لجليل.

__________________

(١) التحريم / ٦.

(٢) الأنبياء / ١٩ و ٢٠.

(٣) الأنبياء / ٢٧ و ٢٨.

(٤) يوسف / ١٠٩.

(٥) الكهف / ٥١.

(٦) الحجر / ٢٧.

(٧) الفيام ـ بفتح الفاء وكسرها ـ : الجماعة من الناس وغيرهم.

٤٥٩

وبالإسناد الذي تكرر عن أبي يعقوب وأبي الحسن أيضا أنهما قالا : حضرنا عند الحسن بن علي أبي القائم عليه‌السلام فقال له بعض أصحابه جاءني رجل من إخواننا الشيعة قد امتحن بجهال العامة يمتحنونه في الإمامة ويحلفونه فكيف يصنع حتى يتخلص منهم؟

فقلت له كيف يقولون؟

قال يقولون أتقول إن فلانا هو الإمام بعد رسول الله ص؟ فلا بد لي أن أقول نعم وإلا أثخنوني ضربا فإذا قلت نعم قالوا لي قل والله فقلت لهم نعم وأريد به نعما من الأنعام الإبل والبقر والغنم.

قلت فإذا قالوا والله فقل ولى أي تريد عن أمر كذا فإنهم لا يميزون وقد سلمت.

فقال لي فإن حققوا علي؟ فقالوا قل والله وبين الهاء.

فقلت قل والله برفع الهاء فإنه لا يكون يمينا إذا لم يخفض فذهب ثم رجع إلي فقال عرضوا علي وحلفوني فقلت كما لقنتني؟

فقال له الحسن عليه‌السلام أنت كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدال على الخير كفاعله لقد كتب الله لصاحبك بتقيته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا وموالينا ومحبينا حسنة وبعدد من ترك التقية منهم حسنة أدناها حسنة لو قوبل بها ذنوب مائة سنة لغفرت ولك بإرشادك إياه مثل ما له.

وبالإسناد المتكرر ذكره عن الحسن العسكري عليه‌السلام أنه قال : أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأنا ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب عليه‌السلام حقا ولقد ورد على أمير المؤمنين عليه‌السلام أخوان له مؤمنان أب وابن فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه وجلس بين أيديهما ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لييبس وجاء ليصب على يد الرجل ماء فوثب أمير المؤمنين عليه‌السلام فأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل فتمرغ الرجل في التراب وقال :

يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي؟

قال اقعد واغسل يدك فإن الله عز وجل يراك وأخوك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عليك يخدمك يريد بذلك خدمة في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها فقعد الرجل فقال له علي عليه‌السلام أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته وبجلته وتواضعك لله بأن ندبني لما شرفك به من خدمتي لك لما غسلت مطمئنا كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبرا ففعل الرجل.

فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه ـ لصببت على يده ولكن الله يأبى أن يسوى بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان لكن قد صب الأب على الأب

٤٦٠