الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

قال الرضا عليه‌السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته وغيرهم اشهدوا عليه.

قالوا شهدنا.

ثم قال للجاثليق بحق الابن وأمه هل تعلم أن متى قال في نسبة عيسى إن المسيح ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهود بن خضرون؟ وقال مرقانوس في نسبة عيسى عليه‌السلام إنه كلمة الله أحلها في الجسد الآدمي فصارت إنسانا وقال ألوقا إن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس ثم إنك تقول في شهادة عيسى على نفسه حقا أقول لكم إنه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها إلا راكب البعير خاتم الأنبياء فإنه يصعد إلى السماء وينزل فما تقول في هذا القول؟

قال الجاثليق هذا قول عيسى لا ننكره.

قال الرضا عليه‌السلام فما تقول في شهادة ألوقا ومرقانوس ومتى على عيسى وما نسبوا إليه ـ؟ قال الجاثليق كذبوا على عيسى.

قال الرضا عليه‌السلام يا قوم أليس قد زكاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق؟ فقال الجاثليق يا عالم المسلمين أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء.

قال الرضا عليه‌السلام قد فعلنا سل يا نصراني عما بدا لك؟

قال الجاثليق ليسألك غيري فو الله ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.

فالتفت الرضا عليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال له تسألني أو أسألك؟ قال بل أسألك ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو في صحف إبراهيم وموسى.

قال الرضا عليه‌السلام لا تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران عليه‌السلام والإنجيل على لسان عيسى بن مريم عليها‌السلام والزبور على لسان داود عليه‌السلام.

قال رأس الجالوت من أين تثبت نبوة محمد؟

قال الرضا عليه‌السلام شهد بنبوته موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله في الأرض.

فقال له ثبت قول موسى بن عمران!

قال الرضا عليه‌السلام تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم إنه سيأتيكم نبي من إخوانكم فيه فصدقوا ومنه فاسمعوا؟ فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه‌السلام؟

فقال رأس الجالوت هذا قول موسى لا ندفعه.

٤٢١

فقال له الرضا عليه‌السلام هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال لا.

وفي العيون فقال الرضا عليه‌السلام أفليس قد صح هذا عندكم؟

قال نعم ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة.

فقال له الرضا عليه‌السلام هل تنكرون التوراة تقول لكم جاء النور من قبل طور سيناء؟ وأضاء للناس من جبل ساعير واستعلن علينا من جبل فاران قال رأس الجالوت أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.

قال الرضا عليه‌السلام أنا أخبرك به أما قوله جاء النور من قبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء وأما قوله وأضاء الناس [ للناس ] في جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم عليها‌السلام وهو عليه وأما قوله واستعلن علينا من جبل فاران فذاك جبل من جبال مكة وبينه وبينها يومان أو يوم؟

قال شعيا النبي فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما على حمار والآخر على جمل فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟ قال رأس الجالوت لا أعرفهما فخبرني بهما؟

قال أما راكب الحمار فعيسى وأما راكب الجمل فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أتنكر هذا من التوراة؟ قال لا ما أنكره.

قال الرضا عليه‌السلام هل تعرف حيقوق النبي عليه‌السلام؟ قال نعم إني به لعارف!

قال فإنه قال وكتابكم ينطق به جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته يحمل خيله في البحر كما يحمل في البر يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس يعني بالكتاب القرآن أتعرف هذا وتؤمن به؟

قال رأس الجالوت قد قال ذلك حيقوق النبي عليه‌السلام ولا ننكر قوله.

قال الرضا عليه‌السلام فقد قال داود عليه‌السلام في زبوره وأنت تقرؤه اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

قال رأس الجالوت هذا قول داود نعرفه ولا ننكره ولكن عنى بذلك عيسى وأمامه هي الفترة.

قال الرضا عليه‌السلام جهلت أن عيسى لم يخالف السنة وكان موافقا لسنة التوراة حتى ( رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ) وفي الإنجيل مكتوب أن ابن البرة ذاهب والفارقليطا جاء من بعدي هو يخفف الآصار ويفسر لكم كل شيء ويشهد لي كما شهدت له أنا جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل أتؤمن بهذا في الإنجيل؟

٤٢٢

قال نعم لا أنكره.

قال الرضا عليه‌السلام أسألك عن نبيك موسى بن عمران عليه‌السلام فقال سل!

قال ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته ـ؟ قال اليهودي إنه جاء بما لم يجئ أحد من الأنبياء قبله.

قال له عليه‌السلام مثل ما ذا؟

قال مثل فلق البحر وقلبه العصا حية تسعى وضربه الحجر فانفجر منه العيون وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.

قال له الرضا عليه‌السلام صدقت في أنها كانت حجته على نبوته إنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله أفليس كل من ادعى أنه نبي وجاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟

قال لا لأن موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه ولا يجب علينا الإقرار بنبوة من ادعاها حتى يأتي عن الأعلام بمثل ما جاء.

قال الرضا عليه‌السلام فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عينا ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء ولم يقلبوا العصا حية تسعى؟

قال له اليهودي قد خبرتك أنه متى جاءوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاءوا بمثل ما لم يجئ به موسى أو كانوا على ما جاء به موسى وجب تصديقهم.

قال الرضا عليه‌السلام يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ـ ويخلق ( مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر ) ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله؟

قال رأس الجالوت يقال إنه فعل ذلك ولم نشهده.

قال الرضا عليه‌السلام أرأيت ما جاء به موسى من الآيات وشاهدته أليس إنما جاء الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك ـ؟ قال بلى.

قال كذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى ـ؟ فلم يحر جوابا.

فقال الرضا عليه‌السلام وكذلك أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به وأمر كل نبي بعثه الله ـ ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا ولم يتعلم ولم يختلف إلى معلم ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء عليهم‌السلام وأخبارهم حرفا حرفا وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم بآيات كثيرة لا تحصى.

قال رأس الجالوت لم يصح عندنا خبر عيسى ولا خبر محمد ولا يجوز لنا أن نقر لهما بما لا يصح عندنا.

٤٢٣

قال الرضا عليه‌السلام فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد زور فلم يحر جوابا ثم دعا بالهربذ الأكبر.

فقال له الرضا عليه‌السلام أخبرني عن زردشت الذي تزعم أنه نبي ما حجتك على نبوته؟

قال إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحله لنا غيره فاتبعناه.

قال أفليس إنما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟ قال بلى.

قال فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فما عذركم في ترك الإقرار بهم إذ كنتم إنما أقررتم بزردشت من قبل الأخبار الواردة بأنه جاء بما لم يجئ به غيره؟ فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضا عليه‌السلام يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم!

فقام إليه عمران الصابي وكان واحدا من المتكلمين فقال يا عالم الناس لو لا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيته أفتأذن أن أسألك؟

قال الرضا عليه‌السلام إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو قال أنا هو.

قال سل يا عمران وعليك بالنصفة إياك والخطل والجور!

قال والله يا سيدي ما أريد إلا أن تثبت لي شيئا أتعلق به فلا أجوزه!

قال سل عما بدا لك فازدحم الناس وضم بعضهم إلى بعض فقال أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق؟

قال سألت فافهم الجواب.

أما الواحد فلم يزل كائنا واحدا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ولا يزال كذلك ثم خلق خلقا مبتدعا مختلفا بأعراض وحدود مختلفة لا في شيء أقامه ولا في شيء حده ولا على شيء حذاه ومثله فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة لله واختلافا وائتلافا وألوانا وأذوقا وطعما لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصانا تعقل هذا يا عمران؟ قال نعم والله يا سيدي.

قال واعلم يا عمران أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته ولكن ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأن الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى.

ثم طال السؤال والجواب بين الرضا عليه‌السلام وبين عمران الصابي وألزمه عليه‌السلام في أكثر مسائله حتى

٤٢٤

انتهت الحال إلى أن قال أشهد أنه يا سيدي كما وصفت ولكن بقيت مسألة!

قال سل عما أردت!

قال أسألك عن الحكيم في أي شيء وهل يحيط به شيء؟ وهل يتحول من شيء إلى شيء؟ أو هل به حاجة إلى شيء؟

قال الرضا عليه‌السلام أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه فإنه من أغمض ما يرد على المخلوقين في مسائلهم وليس يفهمه المتقارب عقله العازب حلمه ولا يعجز عن فهمه أولو العقل المنصفون.

أما أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك ولكنه عز وجل لم يخلق شيئا لحاجة ولم يزل ثابتا لا في شيء إلا أن الخلق يمسك بعضه بعضا ويدخل بعضه في بعض ويخرج منه والله جل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه ولا يئوده حفظه ولا يعجز عن إمساكه ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا الله عز وجل ومن أطلعه عليه من رسله وأهل سره والمستحفظين لأمره وخزانه القائمين بشريعته وإنما أمره ( كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) إذا شاء شيئا ( فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) بمشيئته وإرادته وليس شيء من خلقه أقرب إليه من شيء ولا شيء أبعد منه من شيء أفهمت يا عمران؟

قال نعم يا سيدي فهمت وأشهد أن الله على ما وصفت ووحدت وأن محمدا عبده المبعوث بالهدى ودين الحق ثم خر ساجدا نحو القبلة وأسلم.

قال الحسن بن محمد النوفلي فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي وكان جدلا لم يقطعه عن حجته أحد قط لم يدن من الرضا عليه‌السلام أحد ولم يسألوه عن شيء وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه‌السلام فدخلا وانصرف الناس.

ثم قال الرضا عليه‌السلام بعد أن عاد إلى منزله يا غلام صر إلى عمران الصابي فأتني به.

فقلت جعلت فداك أنا أعرف موضعه هو عند بعض إخواننا من الشيعة قال فلا بأس قربوا إليه دابة فصرت إلى عمران فأتيته به فرحب به ودعا بكسوة فخلعها عليه ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله به.

قلت جعلت فداك حكيت فعل جدك أمير المؤمنين عليه‌السلام.

قال هكذا يجب ثم دعا عليه‌السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره حتى إذا فرغنا قال لعمران انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك طعام المدينة.

فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل عليهم أمرهم حتى اجتنبوه ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم وأعطاه الفضل مالا جزيلا وولاه الرضا عليه‌السلام صدقات البلخ فأصاب الرغائب.

٤٢٥

وروي عن علي بن الجهم أنه قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه‌السلام ـ فقال له المأمون :

يا ابن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ (١) قال بلى.

قال فما معنى قول الله عز وجل : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) (٢).

فقال إن الله تبارك وتعالى قال لآدم عليه‌السلام ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٣) ولم يقل لهما لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة وإنما أكلا من غيرها إذ وسوس الشيطان إليهما وقال ( ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ ) (٤) وإنما نهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها : ( إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ) (٥) ( وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (٦) ـ ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا ، ( فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ ) (٧) فأكلا منها ثقة بيمينه بالله وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق دخول النار وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة قال الله تعالى ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى ) وقال عز وجل ( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) (٨).

قال المصنف ره ـ لعل الرضا صلوات الله عليها أراد بالصغائر الموهوبة ترك المندوب وارتكاب المكروه من الفعل دون الفعل القبيح الصغير بالإضافة إلى ما هو أعظم منه لاقتضاء أدلة العقول والأثر المنقول لذلك ورجعنا إلى سياق الحديث :

ثم قال المأمون فما معنى قول الله عز وجل : ( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ) (٩).

فقال الرضا عليه‌السلام إن حواء ولدت خمسمائة بطن في كل بطن ذكر وأنثى وإن آدم وحواء عاهدا الله ودعواه قالا ( لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (١٠) فلما آتاهما صالحين [ صالحا ] من النسل خلقا سويا بريئا من الزمانة والعاهة كان ما آتاهما صنفين صنفا ذكرانا وصنفا إناثا فجعل الصنفان لله تعالى ( شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ) ولم يشكراه شكر أبويهما له عز وجل قال الله تعالى ( فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (١١).

فقال المأمون أشهد أنك ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حقا فأخبرني عن قول الله عز وجل في إبراهيم

__________________

(١) عقيدتنا في النبي والامام عليهما‌السلام ، أن يكونا معصومين بمعنى : أننا ننزه النبي والامام عليهما‌السلام عن كبائر الذنوب وصغائرها ، وعن الخطأ والنسيان بل عما ينافي المروءة وعن كل عمل يستهجن عرفا منذ الولادة وإلى الوفاة وفي كل الأحوال والظروف.

ولو انتفت عنه العصمة : لاحتملنا الخطأ والنسيان والمعصية في كل عمل او قول يصدران عنه وحينئذ لا تكون أقواله ولا أفعاله حجة علينا ، ولا نكون ملزمين باتباعها. وفي ذلك انتفاض الغرض. وقد أجمع الإمامية على القول بالعصمة. وما يتوهم خلاف ذلك من بعض الأخبار والأدعية فهي مأولة.

(٢) طه ـ ١٢١.

(٣) البقرة ـ ٣٥.

(٤ ـ ٥) الأعراف ـ ٢٠.

(٦ ـ ٧) الأعراف ـ ٢١ ، ٢٢.

(٨) آل عمران ـ ٣٣.

(٩ ـ ١٠) الأعراف ـ ١٨٩ ، ١٨٨.

(١١) الأعراف ـ ١٨٩.

٤٢٦

( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ) (١).

فقال الرضا عليه‌السلام إن إبراهيم وقع على ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس ذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه.

( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى ) الزهرة قال ( هذا رَبِّي ) على الإنكار والاستخبار. ( فَلَمَّا أَفَلَ ) الكوكب ( قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) (٢) لأن الأفول من صفات المحدث وليس من صفات القديم.

( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي ) (٣) على الإنكار والاستخبار ( فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) (٤) يقول لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين.

( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) (٥) من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على سبيل الإخبار والإقرار :

( فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ ) للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس : ( يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْ مُشْرِكِينَ ) (٦) فإنما أراد إبراهيم عليه‌السلام بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنما تحق العبادة لخالقها خالق السماوات والأرض وكان مما احتج به على قومه مما ألهمه الله عز وجل وآتاه كما قال الله عز وجل ( وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ) (٧).

فقال المأمون لله درك يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول إبراهيم ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٨).

قال الرضا عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام أني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أحييت له فوقع في نفس إبراهيم أنه ذلك الخليل فقال ربي ( أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على الخلة : ( قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٩).

فأخذ إبراهيم نسرا وبطا وطاوسا وديكا فقطعهن وخلطهن ثم جعل على كل جبل من الجبال التي حوله وكانت عشرة منهن جزءا وجعل مناقيرهن بين أصابعه ثم دعاهن بأسمائهن ووضع عنده حبا وماء فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه فخلى إبراهيم عليه‌السلام من مناقيرهن فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب وقلن يا نبي الله أحييتنا أحياك الله!

__________________

(١) الأنعام ـ ، ...

(٢) الأنعام ـ ٨٦.

(٣ ـ ٤) الأنعام ـ ٧٧

(٥ ـ ٦) الأنعام ـ ٧٨ ـ ٧٩.

(٧) الأنعام ـ ٨٣.

(٨) البقرة ـ ٢٦٠.

(٩) البقرة ـ ٢٦٠.

٤٢٧

فقال إبراهيم بل الله ( يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).

فقال المأمون بارك الله فيك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله ( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) (١).

قال الرضا عليه‌السلام إن موسى دخل مدينة من مدائن فرعون ( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) وذلك بين المغرب والعشاء ـ ( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى ) موسى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فمات فقال ( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) (٢) يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله إياه ( إِنَّهُ ـ يعني الشيطان ـ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) (٣).

قال المأمون فما معنى قول موسى ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) (٤)؟

قال يقول إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ( فَغَفَرَ لَهُ ) (٥) أي ستره من عدوه ، ( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (٦) ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) (٧) من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة ، ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) (٨) بل أجاهد في سبيلك بهذه القوة حتى ترضى. ( فَأَصْبَحَ ) موسى ( فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) (٩) قاتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأؤدبنك فلما ( أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ) ظن الذي هو من شيعته أنه يريده ( قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) (١٠).

قال المأمون جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن فما معنى قول موسى لفرعون ( فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) (١١)؟

قال الرضا عليه‌السلام إن فرعون قال لموسى لما أتاه : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ) (١٢) ( قالَ ) موسى ( فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك ، ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (١٣) وقد قال الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ) (١٤) يقول ألم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس؟ ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا ) يعني عند

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣) القصص ـ ١٥.

(٤ ـ ٥ ـ ٦) القصص ١٦.

(٧) ١٧٨.

(٨) القصص ـ ١٧.

(٩) القصص ـ ١٨.

(١٠) القصص ـ ١٩.

(١١) الشعراء ـ ٢٠.

(١٢) الشعراء ـ ١٨.

(١٣) الشعراء ـ ٢١.

(١٤) الضحى ـ ٦.

٤٢٨

قومك ( فَهَدى ) (١) أي هداهم إلى معرفتك ( وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى ) (٢) يقول أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا.

قال المأمون بارك الله فيك يا ابن رسول الله فما معنى قول الله ( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ؟ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ) الآية (٣) ـ كيف يكون كليم الله موسى بن عمران لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟!!

فقال الرضا عليه‌السلام إن كليم الله موسى بن عمران علم أن الله جل عن أن يرى بالأبصار ولكنه لما كلمه الله تعالى وقربه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه فقالوا لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت وكان القوم سبعمائة ألف رجل فاختار منهم سبعين ألفا ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل الله عز وجل أن يكلمه ويسمعهم كلامه فكلمه الله تعالى ـ وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله ( حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.

فقال موسى يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله إياك.

فأحياهم الله وبعثهم معه فقالوا إنك لو سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته.

فقال موسى يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له وإنما يعرف بآياته ويعلم بعلاماته.

فقالوا لن نؤمن لك حتى تسأله.

فقال موسى رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم فأوحى الله جل جلاله إليه يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ ) وهو يهوي ( فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ـ بآية من آياته ـ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ، ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) منهم بأنك لا ترى.

فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله عز وجل ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) (٤)؟

__________________

(١) الضحى ـ ٨.

(٢) الأعراف ـ ١٤٢.

(٣) الضحى ـ ٨.

(٤) يوسف ـ ٢٤.

٤٢٩

فقال الرضا عليه‌السلام همت به ولو لا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت به لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق عليه‌السلام أنه قال همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل.

فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن ـ فأخبرني عن قول الله عز وجل ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) الآية (١)؟

فقال الرضا عليه‌السلام ذلك يونس بن متى ( ذَهَبَ مُغاضِباً ) لقومه ( فَظَنَ ) بمعنى استيقن ( أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) أي فضيق [ لن نضيق ] عليه رزقه ومنه قوله عز وجل ( وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) (٢) أي ضيق وقتر ( فَنادى فِي الظُّلُماتِ ) ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت ، ( أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) بتركي العبادة التي قد قرت عيني بها في بطن الحوت فاستجاب الله له وقال عز وجل ( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٣).

فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن أخبرني عن قول الله عز وجل ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) (٤).

قال الرضا عليه‌السلام يقول الله ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ) من قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.

فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (٥)؟

قال الرضا عليه‌السلام لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ) (٦) فلما فتح الله عز وجل على نبيه مكة قال له يا محمد ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (٧) عند مشركي أهل مكة بدعائك إياهم إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن بقي منهم لا يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعى الناس إليه فصار ذنبه عندهم مغفورا بظهوره عليهم.

فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله عز وجل : ( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) (٨).

__________________

(١) الأنبياء ـ ٨٧.

(٢) الفجر ـ ١٦.

(٣) الصافات. ١٤٤.

(٤) يوسف ـ ١١٠.

(٥) الفتح ـ ١.

(٦) ص ـ ٥ و ٦ و ٧.

(٧) الفتح : ١.

(٨) التوبة : ٤٤.

٤٣٠

فقال الرضا عليه‌السلام هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة خاطب الله بذلك نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأراد به أمته وكذلك قوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (١) ـ وقوله عز وجل ( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (٢).

قال المأمون صدقت يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول الله عز وجل : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) (٣).

قال الرضا عليه‌السلام إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها سبحان الذي خلقك وإنما أراد بذلك تنزيه الله عن قول من زعم أن الملائكة بنات الله فقال الله عز وجل ( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ) (٤) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما رآها تغتسل سبحان الذي خلقك أن يتخذ ولدا يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله لها سبحان الذي خلقك فلم يعلم زيد ما أراد بذلك وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله إن امرأتي في خلقها سوء وإني أريد طلاقها.

فقال له النبي : ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ) وقد كان الله عرفه عدد أزواجه وأن تلك المرأة منهن فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد وخشي الناس أن يقولوا إن محمدا يقول لمولاه إن امرأتك ستكون لي زوجة فيعيبوه بذلك فأنزل الله عز وجل : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ) يعني بالإسلام ( وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) يعني بالعتق ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) (٥) ثم إن زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه فزوجها الله عز وجل من نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنزل بذلك قرآنا فقال عز وجل ( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ) (٦) ثم علم عز وجل أن المنافقين سيعيبوه بتزويجها فأنزل الله ( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ ) (٧).

فقال المأمون لقد شفيت صدري يا ابن رسول الله وأوضحت لي ما كان ملتبسا فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيرا قال علي بن الجهم فقام المأمون إلى الصلاة وأخذ بيد محمد بن جعفر بن محمد وكان حاضر المجلس وتبعتهما فقال له المأمون كيف رأيت ابن أخيك؟

فقال عالم ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم.

__________________

(١) الزمر : ٦٥.

(٢) الإسراء : ٧٤.

(٣) الأحزاب : ٣٧.

(٤) الأسراء : ٤٠.

(٥ ـ ٦) الأحزاب : ٣٨.

(٧) الأحزاب : ٣٨.

٤٣١

فقال المأمون إن ابن أخيك من أهل بيت النبوة الذين قال فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ألا إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلم الناس كبارا فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة.

وانصرف الرضا عليه‌السلام إلى منزله فلما كان من الغد غدوت إليه وأعلمته ما كان من قول المأمون وجواب عمه محمد بن جعفر له فضحك الرضا عليه‌السلام ثم قال يا ابن الجهم لا يغرنك ما سمعته منه فإنه سيغتالني والله ينتقم لي منه

احتجاجه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يتعلق بالإمامة وصفات من خصه الله تعالى بها وبيان الطريق إلى من كان عليها وذم من يجوز اختيار الإمام ولؤم من غلا فيه وأمر الشيعة بالتورية والتقية عند الحاجة إليهما وحسن التأدب

أبو يعقوب البغدادي (١) قال : إن ابن السكيت (٢) قال لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام :

لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء وبآية السحر وبعث عيسى بآية الطب وبعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكلام والخطب؟

فقال له أبو الحسن عليه‌السلام ـ إن الله لما بعث موسى عليه‌السلام كان الغالب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسع القوم مثله وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجة عليهم.

وإن الله بعث عيسى في وقت قد ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم.

وإن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام وأظنه قال والشعر فأتاهم من عند الله من مواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم.

__________________

(١) قال المامقاني في رجاله ج ٣ ص ٢٩ : ابو يعقوب البغدادي روى في كتاب العقل والجهل من الكافي عن أحمد بن محمد السياري عنه ولم أقف على اسمه وحاله.

(٢) قال الشيخ عباس القمي في ج ١ من الكنى والألقاب ص ٣٠٣ ابن السكيت ـ بكسر السين وتشديد الكاف ـ أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي الإمامي النحوي اللغوي الأديب : ذكره كثير من المؤرخين وأثنوا عليه ، وكان ثقة جليلا من عظماء الشيعة. ويعد من خواص الامامين التقيين « عليهم‌السلام » وكان حامل لواء علم العربية والأدب والشعر واللغة والنحو ، وله تصانيف كثيرة مفيدة منها : ( تهذيب الألفاظ ) وكتاب : ( إصلاح المنطق ) قال ابن خلكان : قال بعض العلماء : ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل إصلاح المنطق ولا شك أنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه ، وقد عنى به جماعة واختصره الوزير المغربي وهذبه الخطيب التبريزي ... قتله المتوكل في خامس رجب سنة ٢٤٤ وسببه : أن المتوكل قال له يوما : أيما أحب إليك ابناي هذان أي : « المعتز والمؤيد » أم « الحسن والحسين » فقال ابن السكيت : والله إن قنبرا خادم علي بن أبي طالب « عليه‌السلام » خير منك ومن ابنيك ، فقال المتوكل للأتراك : سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات.

٤٣٢

قال فما زال ابن السكيت يقول له والله ما رأيت مثلك قط فما الحجة على الخلق اليوم؟

فقال عليه‌السلام العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه.

فقال ابن السكيت هذا والله هو الجواب قد ضمن الرضا عليه‌السلام في كلامه هذا أن العالم لا يخلو في زمان التكليف من صادق من قبل الله يلتجئ المكلف إليه فيما اشتبه عليه من أمر الشريعة صاحب دلالة تدل على صدقه عليه تعالى يتوصل المكلف إلى معرفته بالعقل ولولاه لما عرف الصادق من الكاذب فهو حجة الله تعالى على الخلق أولا.

وعن القاسم بن مسلم (١) عن أخيه عبد العزيز بن مسلم (٢) قال :

كنا في أيام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو فاجتمعنا في جامعها في يوم جمعة في بدو قدومنا فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ـ فدخلت على سيدي ومولاي الرضا عليه‌السلام فأعلمته ما خاض الناس فيه فتبسم ثم قال :

يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا من أديانهم إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه كملا فقال عز وجل ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٣) وأنزل في حجة الوداع وهو آخر عمره : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (٤) فأمر الإمامة من تمام الدين ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى بين لأمته معالم دينه وأوضح لهم سبيله وتركهم على قصد الحق أقام لهم عليا عليه‌السلام علما وإماماً وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلا بينه فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عز وجل ومن رد كتاب الله فهو كافر.

هل تعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟؟

إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم فيقيموها باختيارهم.

إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه الله بها فأشاد بها ذكره فقال عز وجل ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) (٥) فقال الخليل سرورا بها ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) (٦)؟ قال الله عز وجل ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٧) ـ فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله عز وجل بأن جعل في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال تعالى ( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ

__________________

(١) القسم بن مسلم : مجهول.

(٢) عبد العزيز بن مسلم : ذكره الشيخ في أصحاب الرضا عليه‌السلام ص ٣٨٣ من رجاله.

(٣) الأنعام ـ ٣٨.

(٤) المائدة ـ ٤

(٥ ـ ٦ ـ ٧) البقرة ـ ١٢٤

٤٣٣

وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ ) (١).

فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال الله عز وجل : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) فكانت له خاصة فقلدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام بأمر الله على رسم ما فرض الله فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عز وجل ( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٣) فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟

إن الإمامة منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء.

إن الإمامة خلافة الله عز وجل وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين عليهما‌السلام.

إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدين وعز المؤمنين.

إن الإمامة رأس الإسلام النامي وفرعه السامي.

بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه ( بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) والحجة البالغة.

الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي في الأفق بحيث لا تناله الأيدي والأبصار.

الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيداء القفار ولجج البحار.

الإمام الماء العذب على الظماء والدال على الهدى والمنجي من الردى.

الإمام النار على البقاع الحارة لمن اصطلى والدليل على المسالك من فارقه فهالك.

الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل والشمس المضيئة والأرض البسيطة والعين الغزيرة والغدير والروضة الإمام الأمين الرفيق والوالد الشفيق والأخ الشقيق ومفزع العباد في الداهية.

الإمام أمين الله في أرضه وحجته على عباده وخليفته في بلاده الداعي إلى الله والذاب عن حريم الله.

__________________

(١) الأنبياء : ٧٢ و ٧٣.

(٢) آل عمران : ٦٨.

(٣) الروم : ٥٦.

٤٣٤

الإمام المطهر من الذنوب المبرأ من العيوب مخصوص بالعلم موسوم بالحلم نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المارقين وبوار الكافرين.

الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عدل ولا يوجد له بديل ولا له مثيل ولا نظير مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب بل اختصاص من المتفضل الوهاب فمن ذا يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟؟

هيهات هيهات!!

ظلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وحسرت العيون وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألباب وكلت الشعراء وعجزت الأدباء وعيت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله فأقرت بالعجز والتقصير.

وكيف يوصف أو ينعت بكنهه أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه؟

لا وكيف وأنى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين فأين الاختيار من هذا وأين العقول عن هذا وأين يوجد مثل هذا؟!

ظنوا أن ذلك يوجد في غير آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الباطل فارتقوا مرتقى صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة فلم يزدادوا منه إلا بعدا.

( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) لقد راموا صعبا وقالوا إفكا و ( ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً ) ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام من غير بصيرة ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ).

رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم والقرآن يناديهم ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (١) وقال عز وجل ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٢) وقال عز وجل ( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ. أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ. سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ. أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) (٣)

وقال عز وجل : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) (٤) ( وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) (٥) ( قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) (٦) و ( قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا ) بل هو ( فَضْلُ اللهِ

__________________

(١) القصص : ٦٨.

(٢) الأحزاب : ٣٦.

(٣) القلم : ٣٦ الى ٤١.

(٤) محمد : ٢٤.

(٥) التوبة : ٨٧.

(٦) الأنفال : ٢١ و ٢٢ و ٢٣.

٤٣٥

يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (١).

فكيف لهم باختيار الإمام والإمام عالم لا يجهل راع لا ينكل معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة مخصوص بدعوة الرسول وهو نسل المطهرة البتول لا مغمز فيه في نسب ولا يدانيه ذو حسب في البيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من آل الرسول والرضا من الله وشرف الأشراف والفرع من عبد مناف نامي العلم كامل الحلم مضطلع بالإمامة عالم بالسياسة مفروض الطاعة قائم بأمر الله ناصح لعباد الله حافظ لدين الله.

الأنبياء والأئمة يوفقهم الله ـ ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عز وجل ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٢) وقوله عز وجل ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (٣) وقوله عز وجل في طالوت ( إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (٤) ـ وقال عز وجل لنبيه ( وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (٥).

وقال عز وجل في الأئمة من أهل بيته وعترته ـ : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) (٦).

وإن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده الجواب ولا يحير فيه عن الصواب.

وهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد أمن الخطايا والزلل والعثار فخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه و ( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ، فهل يقدرون على مثل هذا فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه؟

تعدوا وبيت الله الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون وفي كتاب الله ( فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) (٧) فذمهم الله ومقتهم أنفسهم فقال عز وجل ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٨) وقال عز وجل ( فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) (٩) وقال عز وجل ( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) (١٠).

وروي عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنه قال : للإمام

__________________

(١) البقرة : ٩٣.

(٢) يونس : ٣٥.

(٣) البقرة : ٢٦٩.

(٤) البقرة : ٢٤٧.

(٥) النساء : ١٠٢

(٦) النساء : ٥٤.

(٧) آل عمران : ١٨٧.

(٨) القصص : ٥٠.

(٩) محمد : ٨.

(١٠) المؤمن : ٣٥.

٤٣٦

علامات يكون أعلم الناس وأحكم الناس وأتقى الناس وأشجع الناس وأسخى الناس وأعبد الناس ويولد مختونا ويكون مطهرا ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه ولا يكون له ظل وإذا وقع إلى الأرض من بطن أمه وقع على راحتيه رافعا صوته بالشهادتين ولا يحتلم وينام عينه ولا ينام قلبه ويكون محدثا ويستوي عليه درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يرى له بول ولا غائط لأن الله قد وكل الأرض بابتلاع ما يخرج منه.

وتكون رائحته أطيب من رائحة المسك ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم وأشفق عليهم من آبائهم وأمهاتهم ويكون أشد الناس تواضعا لله عز وجل ويكون آخذ الناس بما يأمر به وأكف الناس عما ينهى عنه ويكون دعاؤه مستجابا حتى إنه لو دعا على صخرة لانشقت بنصفين.

ويكون عنده سلاح رسول الله وسيفه ذو الفقار وتكون عنده صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة وصحيفة فيها أسماء أعدائه إلى يوم القيامة ويكون عنده الجامعة وهي صحيفة طولها سبعون ذراعا فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم ويكون عنده الجفر الأكبر والأصغر وهو إهاب كبش فيها جميع العلوم حتى أرش الخدش حتى الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة ويكون عنده مصحف فاطمة عليها‌السلام.

وروى خالد بن الهيثم الفارسي (١) قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام إن الناس يزعمون أن في الأرض أبدالا فمن هؤلاء الأبدال؟

قال صدقوا الأبدال هم الأوصياء جعلهم الله في الأرض بدل الأنبياء إذا رفع الأنبياء وختم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد روي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام من ذم الغلاة والمفوضة وتكفيرهم وتضليلهم والبراءة منهم وممن والاهم وذكر علة ما دعاهم إلى ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل ما تقدم ذكر طرف منه في هذا الكتاب.

وكذلك روي عن آبائه وأبنائه عليهم‌السلام في حقهم والأمر بلعنهم والبراءة منهم وإشاعة حالهم والكشف عن سوء اعتقادهم كي لا يغتر بمقالتهم ضعفاء الشيعة ولا يعتقد من خالف هذه الطائفة أن الشيعة الإمامية بأسرهم على ذلك نعوذ منه وممن اعتقده وذهب إليه فمما ذكره الرضا عليه‌السلام عن علة وجه خطئهم وضلالهم عن الدين القيم ما رويناه بالإسناد الذي تقدم ذكره عن أبي محمد الحسن العسكري أن الرضا عليه‌السلام قال :

إن هؤلاء الضلال الكفرة ما أتوا إلا من قبل جهلهم بمقدار أنفسهم حتى اشتد إعجابهم بها وكثرة تعظيمهم لما يكون منها فاستبدوا بآرائهم الفاسدة واقتصروا على عقولهم المسلوك بها غير سبيل الواجب ـ حتى استصغروا قدر الله واحتقروا أمره وتهاونوا بعظيم شأنه إذ لم يعلموا أنه القادر بنفسه الغني بذاته الذي ليست قدرته مستعارة ولا غناه مستفادا والذي من شاء أفقره ومن شاء أغناه ومن شاء أعجزه بعد القدرة وأفقره بعد الغنى.

__________________

(١) مجهول.

٤٣٧

فنظروا إلى عبد قد اختصه الله بقدرة ليبين بها فضله عنده وآثره بكرامته ليوجب بها حجته على خلقه وليجعل ما آتاه من ذلك ثوابا على طاعته وباعثا على اتباع أمره ومؤمنا عباده المكلفين من غلط من نصبه عليهم حجة ولهم قدوة فكانوا كطلاب ملك من ملوك الدنيا ينتجعون فضله ويؤملون نائله ويرجون التفيؤ بظله والانتعاش بمعروفه والانقلاب إلى أهليهم بجزيل عطائه الذي يعينهم على طلب الدنيا ـ وينقذهم من التعرض لدني المكاسب وخسيس المطالب فبينا هم يسألون عن طريق الملك ليترصدوه وقد وجهوا الرغبة نحوه وتعلقت قلوبهم برؤيته إذ قيل لهم سيطلع عليكم في جيوشه ومواكبه وخيله ورجله فإذا رأيتموه فأعطوه من التعظيم حقه ومن الإقرار بالمملكة واجبه وإياكم أن تسموا باسمه غيره أو تعظموا سواه كتعظيمه فتكونوا قد بخستم الملك حقه وأزريتم عليه واستحققتم بذلك منه عظيم عقوبته فقالوا نحن كذلك فاعلون جهدنا وطاقتنا فما لبثوا أن طلع عليهم بعض عبيد الملك ـ في خيل قد ضمها إليه سيده ورجل قد جعلهم في جملته وأموال قد حباه بها فنظر هؤلاء وهم للملك طالبون فاستكثروا ما رأوه بهذا العبد من نعم سيده ورفعوه أن يكون هو من المنعم عليه بما وجدوا معه.

فأقبلوا يحيونه تحية الملك ويسمونه باسمه ويجحدون أن يكون فوقه ملك وله مالك فأقبل عليهم العبد المنعم عليه وسائر جنوده بالزجر والنهي عن ذلك والبراءة مما يسمونه به ويخبرونهم بأن الملك هو الذي أنعم بهذا عليه واختصه به وأن قولكم ما تقولون يوجب عليكم سخط الملك وعذابه ويفوتكم كل ما أملتموه من جهته وأقبل هؤلاء القوم يكذبونهم ويردون عليهم قولهم فما زالوا كذلك حتى غضب الملك لما وجد هؤلاء قد سووا به عبده وأزروا عليه في مملكته وبخسوه حق تعظيمه فحشرهم أجمعين إلى حبسه ووكل بهم ( مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ).

فكذلك هؤلاء لما وجدوا أمير المؤمنين عبدا أكرمه الله ليبين فضله ويقيم حجته فصغروا عندهم خالقهم أن يكون جعل عليا له عبدا وأكبروا عليا عن أن يكون الله عز وجل له ربا فسموا بغير اسمه فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملته وشيعته وقالوا لهم يا هؤلاء إن عليا وولده ( عِبادٌ مُكْرَمُونَ ) مخلوقون ومدبرون ـ لا يقدرون إلا على ما أقدرهم عليه الله رب العالمين ولا يملكون إلا ما ملكهم ولا يملكون ( مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً ) ولا قبضا ولا بسطا ولا حركة ولا سكونا إلا ما أقدرهم عليه وطوقهم وإن ربهم وخالقهم يجل عن صفات المحدثين ويتعالى عن نعت المحدودين وإن من اتخذهم أو واحدا منهم أربابا من دون الله فهو من الكافرين وقد ( ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ).

فأبى القوم إلا جماحا وامتدوا ( فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ* ) فبطلت أمانيهم وخابت مطالبهم وبقوا في العذاب

وروينا أيضا بالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام أن أبا الحسن الرضا عليه‌السلام قال :

إن من تجاوز بأمير المؤمنين عليه‌السلام العبودية فهو من الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ومن الضَّالِّينَ.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تتجاوزوا بنا العبودية ثم قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا وإياكم والغلو كغلو النصارى فإني بريء من الغالين.

٤٣٨

فقام إليه رجل فقال يا ابن رسول الله صف لنا ربك فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا.

فوصفه الرضا عليه‌السلام أحسن وصف ومجده ونزهه عما لا يليق به تعالى :

فقال الرجل بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله فإن معي من ينتحل موالاتكم ويزعم أن هذه كلها من صفات علي عليه‌السلام وأنه هو الله رب العالمين.

قال فلما سمعها الرضا عليه‌السلام ارتعدت فرائصه وتصبب عرقا وقال ( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* ) سبحانه عما يقول الكافرون علوا كبيرا أوليس علي كان آكلا في الآكلين وشاربا في الشاربين وناكحا في الناكحين ومحدثا في المحدثين وكان مع ذلك مصليا خاضعا بين يدي الله ذليلا وإليه أواها منيبا أفمن هذه صفته يكون إلها فإن كان هذا إلها فليس منكم أحد إلا وهو إله لمشاركته له في هذه الصفات الدالات على حدث كل موصوف بها.

فقال الرجل يا ابن رسول الله إنهم يزعمون أن عليا لما أظهر من نفسه المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله دل على أنه إله ولما ظهر لهم بصفات المحدثين العاجزين لبس ذلك عليهم وامتحنهم ليعرفوه وليكون إيمانهم اختيارا من أنفسهم.

فقال الرضا عليه‌السلام أول ما هاهنا أنهم لا ينفصلون ممن قلب هذا عليهم فقال لما ظهر منه الفقر والفاقة دل على أن من هذه صفاته وشاركه فيها الضعفاء المحتاجون لا تكون المعجزات فعله فعلم بهذا أن الذي أظهره من المعجزات إنما كانت فعل القادر الذي لا يشبه المخلوقين لا فعل المحدث المشارك للضعفاء في صفات الضعف.

وروي أن المأمون كان يحب في الباطن سقطات أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وأن يغلبه المحتج ويظهر عليه غيره فاجتمع يوما عنده الفقهاء والمتكلمون ـ فدس إليهم أن ناظروه في الإمامة!

فقال لهم الرضا عليه‌السلام ـ اقصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه.

فرضوا برجل يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي ولم يكن في خراسان مثله.

فقال الرضا عليه‌السلام يا يحيى أخبرني عمن صدق كاذبا على نفسه أو كذب صادقا على نفسه أيكون محقا مصيبا أم مبطلا مخطئا؟ فسكت يحيى.

فقال له المأمون أجبه فقال يعفيني أمير المؤمنين عن جوابه.

فقال المأمون يا أبا الحسن عرفنا الغرض في هذه المسألة!

فقال لا بد ليحيى من أن يخبرني عن أئمته أنهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا فإن زعم أنهم كذبوا فلا إمامة للكاذب وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال أولهم أقيلوني وليتكم ولست بخيركم وقال ثانيهم بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه فو الله ما رضي لمن فعل مثل فعله إلا بالقتل فمن لم

٤٣٩

يكن بخير الناس والخيرية لا تقع إلا بنعوت منها العلم ومنها الجهاد ومنها سائر الفضائل وليست فيه.

ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها ـ كيف يقبل عهده إلى غيره وهذه صفته ثم يقول على المنبر إن لي شيطانا يعتريني فإذا مال بي فقوموني وإذا أخطأت فأرشدوني فليسوا أئمة إن صدقوا وإن كذبوا فما عند يحيى شيء في هذا.

فعجب المأمون من كلامه عليه‌السلام وقال يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك!

وروي عنه عليه‌السلام أنه قال : أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذله ومسكنته أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله ـ فيقوم من قبره والملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله فيحملوه على أجنحتهم ويقولون طوبى لك طوباك طوباك يا دافع الكلاب عن الأبرار ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار.

وبالإسناد الذي تكرر عن أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام قال دخل على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام رجل فقال يا ابن رسول الله لقد رأيت اليوم شيئا عجبت منه.

قال وما هو؟

قال رجل كان معنا يظهر لنا أنه من الموالين لآل محمد المتبرين من أعدائهم فرأيته اليوم وعليه ثياب قد خلعت عليه وهو ذا يطاف به بغداد وينادي المنادي بين يديه معاشر المسلمين اسمعوا توبة هذا الرجل الرافضي ثم يقول قل فقال خير الناس بعد رسول [ الله ] صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر فإذا قال ذلك ضجوا وقالوا قد تاب وفضل أبا بكر على علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

فقال الرضا عليه‌السلام إذا خلوت فأعد علي هذا الحديث فلما خلا أعاد عليه فقال له :

إنما لم أفسر لك معنى كلام الرجل بحضرة هذا الخلق المنكوس كراهة أن ينقل إليهم فيعرفوه ويؤذوه لم يقل الرجل خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر فيكون قد فضل أبا بكر على علي عليه‌السلام ولكن قال خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر فجعله نداء لأبي بكر ليرضى من يمشي بين يديه من بعض هؤلاء الجهلة ليتوارى من شرورهم إن الله تعالى جعل هذه التورية مما رحم به شيعتنا.

وبهذا الإسناد عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام أنه قال : لما جعل المأمون إلى علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ولاية العهد دخل عليه آذنه فقال :

إن قوما بالباب يستأذنون عليك يقولون نحن من شيعة علي عليه‌السلام.

فقال أنا مشغول فاصرفهم!

فصرفهم إلى أن جاءوا هكذا يقولون ويصرفهم شهرين ثم أيسوا من الوصول فقالوا قل لمولانا إنا شيعة أبيك علي بن أبي طالب عليه‌السلام قد شمت بنا أعداؤنا في حجابك لنا ونحن ننصرف عن هذه الكرة ونهرب

٤٤٠