الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

وروي عن الحسن بن محمد النوفلي (١) أنه كان يقول : قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ثم قال له إن ابن عمي علي بن موسى الرضا قدم علي من الحجاز يحب الكلام وأصحابه فعليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.

فقال سليمان يا أمير المؤمنين إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلمني ولا يجوز الاستقصاء عليه.

قال المأمون إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط.

فقال سليمان حسبك يا أمير المؤمنين اجمع بيني وبينه وخلني وإياه.

فوجه المأمون إلى الرضا عليه‌السلام فقال له إنه قدم علينا رجل من أهل مرو وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلت.

فنهض عليه‌السلام للوضوء ثم حضر مجلس المأمون وجرى بينه وبين سليمان المروزي كلام في البداء ـ بمعنى الظهور لتغير المصلحة واستشهد عليه‌السلام بآي كثيرة من القرآن على صحة ذلك مثل قول الله ( يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (٢) و ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ) (٣) و ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ) (٤) و ( ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) (٥) و ( آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ) (٦) وأمثال ذلك.

فقال سليمان يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به إن شاء الله (٧).

__________________

(١) قال العلامة الحلي رحمه‌الله في القسم الثاني من الخلاصة ص ٢١٣ : « الحسن بن محمد بن سهل النوفلي ضعيف ».

(٢) الروم ـ ١١.

(٣) فاطر ـ ١.

(٤) الرعد ـ ٤١.

(٥) فاطر ـ ١١.

(٦) التوبة ـ ١٠٧.

(٧) عقيدتنا نحن الإمامية في البداء تتلخص فيما يلي؟

لقد ثبت من الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم أن الله سبحانه وتعالى خلق لو حين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات :

الأول : اللوح المحفوظ :

وهو اللوح المطابق لعلمه تعالى لا يحدث فيه أي تبدل أو تغيير.

الثاني ـ لوح المحو والإثبات :

وهو الذي يتغير ويتبدل ما فيه حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية قبل وقوعه وتحققه في الخارج.

وهذا اللوح ـ أعني ـ لوح المحو والإثبات تطلع عليه الرسل والأنبياء والأوصياء والملائكة ، وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : إن الله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه.

ومعنى البداء ظهور الشيء بعد خفائه ، وهو في عقيدة الإمامية : ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم فقولنا : « بدا لله » معناه بدا لله شأن أو حكم وليس معناه ظهر له ما خفي عليه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : إن الله لم يبدله من جهل ، وقال عليه‌السلام : ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له. إذن فالبداء : هو محو ما كان ظاهرا في لوح المحو والإثبات وتبديله بما سبق في علم الله الثابت في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل التغيير والتبديل.

٤٠١

فقال المأمون يا سليمان اسأل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والإنصاف

قال سليمان يا سيدي ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة مثل حي وسميع وبصير وقدير؟

قال الرضا عليه‌السلام إنما قلتم حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنه سميع بصير فهذا دليل على أنها ليست مثل سميع وبصير ولا قدير قال سليمان فإنه لم يزل مريدا؟

قال يا سليمان فإرادته غيره؟ قال نعم.

قال قد أثبت معه شيئا لم يزل قال سليمان ما أثبت؟

قال الرضا عليه‌السلام أهي محدثة؟

قال سليمان لا ما هي محدثة فأعاد عليه المسألة فقال هي محدثة يا سليمان فإن الشيء إذا لم يكن أزليا كان محدثا وإذا لم يكن محدثا كان أزليا.

قال سليمان إرادته منه كما أن سمعه وبصره وعلمه منه.

قال الرضا عليه‌السلام فإرادته نفسه؟ قال لا.

قال فليس المريد مثل السميع والبصير.

قال سليمان إنما إرادته كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه.

قال الرضا عليه‌السلام ما معنى أراد نفسه؟ ـ أراد أن يكون شيئا أو أراد أن يكون حيا أو سميعا أو بصيرا أو قديرا؟ قال نعم قال الرضا عليه‌السلام أفبإرادته كان ذلك؟ قال سليمان نعم.

قال الرضا عليه‌السلام فليس لقولك أراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى إذ لم يكن ذلك بإرادته قال سليمان بلى قد كان ذلك بإرادته.

فضحك المأمون ومن حوله وضحك الرضا عليه‌السلام ثم قال لهم ارفقوا بمتكلم خراسان.

فقال يا سليمان فقد حال عندكم عن حاله وتغير عنها وهذا مما لا يوصف الله عز وجل به فانقطع.

ثم قال الرضا عليه‌السلام يا سليمان أسألك عن مسألة قال سل جعلت فداك.

قال أخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون أو بما لا تفقهون وتعرفون؟ فقال بل بما نفقهه ونعلم

٤٠٢

قال الرضا عليه‌السلام فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة وأن المريد قبل الإرادة وأن الفاعل قبل المفعول وهذا يبطل قولكم إن الإرادة والمريد شيء واحد.

قال جعلت فداك ليس ذلك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون.

قال فأراكم ادعيتم على ذلك بلا معرفة وقلتم الإرادة كالسمع والبصر ـ إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل؟ فلم يحر جوابا.

ثم قال الرضا عليه‌السلام هل يعلم الله تعالى جميع ما في الجنة والنار؟ قال سليمان نعم.

قال فيكون ما علم الله عز وجل أنه يكون من ذلك؟ قال نعم.

قال فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء إلا كان أيزيدهم أو يطويه عنهم؟ قال سليمان بل يزيدهم.

قال فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون.

قال جعلت فداك فالمزيد لا غاية له.

قال فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيما إذا لم يعرف غاية ذلك وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قال سليمان إنما قلت لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا لأن الله عز وجل وصفهما بالخلود وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعا.

قال الرضا عليه‌السلام ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم لأنه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم ولذلك قال عز وجل في كتابه ( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) (١) وقال لأهل الجنة ( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٢) وقال عز وجل ( وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) (٣) فهو عز وجل يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا أليس يخلف مكانه؟ قال بلى.

قال أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟ قال سليمان لا.

قال فكذلك كل ما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم قال سليمان بلى يقطعه عنهم ولا يزيدهم.

قال الرضا عليه‌السلام إذا يبيد ما فيها وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف الكتاب لأن الله عز

__________________

(١) النساء ـ ٥٥.

(٢) هود ـ ١٠٩.

(٣) الواقعة ـ ٣٣.

٤٠٣

وجل يقول : ( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ ) (١) ويقول عز وجل ( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٢) ويقول عز وجل ( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) (٣) ويقول عز وجل ( خالِدِينَ فِيها ) (٤) ويقول عز وجل ( وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) (٥) فلم يحر جوابا ـ ثم قال الرضا عليه‌السلام ألا تخبرني عن الإرادة فعل أم هي غير فعل؟ قال بل هي فعل.

قال فهي محدثة لأن الفعل كله محدث قال ليست بفعل.

قال فمعه غيره لم يزل قال سليمان إن الإرادة هي الأشياء.

قال يا سليمان هذا الذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم إن كل ما خلق الله عز وجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب أو خنزير أو قرد أو إنسان أو دابة إرادة الله وإن إرادة الله تحيا وتموت وتذهب وتأكل وتشرب وتنكح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك فتبرأ منها وتعاديها وهذا حدها.

قال سليمان إنها كالسمع والبصر والعلم.

قال الرضا عليه‌السلام فكيف نفيتموه؟ فمرة قلتم لم يرد ومرة قلتم أراد وليست بمفعول له قال سليمان إنما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم.

قال الرضا عليه‌السلام ليس ذلك سواء لأن نفي المعلوم ليس ينفي [ بنفي ] العلم ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون لأن الشيء إذا لم يرد لم تكن إرادة وقد يكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيرا وإن لم يكن المبصر ويكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم.

فلا يزال سليمان يردد المسألة وينقطع فيها ويستأنف وينكر ما كان أقر به ويقر بما أنكر وينتقل من شيء إلى شيء والرضا صلوات الله عليه ينقض عليه ذلك حتى طال الكلام بينهما ـ وظهر لكل أحد انقطاعه مرات كثيرة تركنا إيراد ذلك مخافة التطويل فآل الأمر إلى أن قال سليمان إن الإرادة هي القدرة.

قال الرضا عليه‌السلام وهو عز وجل يقدر على ما لا يريد أبدا ولا بد من ذلك لأنه قال تبارك وتعالى : ( وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) (٦) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته.

فانقطع سليمان وترك الكلام عند هذا الانقطاع ثم تفرق القوم.

__________________

(١) ق ـ ٣٥.

(٢) هود ـ ١٠٩.

(٣) الحجر ـ ٤٨.

(٤) البقرة ـ ١٦٢.

(٥) الواقعة ـ ٣٣.

(٦) الإسراء ـ ٨٦.

٤٠٤

وعن صفوان بن يحيى (١) قال : سألني أبو قرة المحدث صاحب شبرمة ـ أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فاستأذنه فأذن له فدخل فسأله عن أشياء من الحلال والحرام والفرائض والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال له أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى؟

فقال الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال إنما أسألك عن هذا اللسان!

فقال أبو الحسن سبحان الله عما تقول ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم ما هم به متكلمون ـ ولكنه تبارك وتعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ولا كمثله قائل ولا فاعل قال كيف ذلك؟

قال كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق ولا يلفظ بشق فم ولسان ولكن يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى عليه‌السلام من الأمر والنهي من غير تردد في نفس.

فقال أبو قرة فما تقول في الكتب؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وكل كتاب أنزل كان كلام الله أنزله للعالمين نورا وهدى وهي كلها محدثة وهي غير الله حيث يقول ( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ) (٢) وقال ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) (٣) والله أحدث الكتب كلها التي أنزلها.

فقال أبو قرة فهل تفنى؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فان وما سوى الله فعل الله والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل الله ألم تسمع الناس يقولون رب القرآن وإن القرآن يقول يوم القيامة يا رب هذا فلان وهو أعرف به منه قد أظمأت نهاره وأسهرت ليله فشفعني فيه وكذلك

__________________

(١) صفوان بن يحيى : أبو محمد البجلي مولى بني بجيلة بياع السابري كوفي.

قال الشيخ الطوسي « ره » : إنه أوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث وغيرهم وكان يصلي كل يوم خمسين ومائة ركعة ، ويصوم في السنة ثلاثة أشهر ، ويخرج زكاة ماله في السنة ثلاث مرات وذلك أنه اشترك هو وعبد الله بن جندب وعلي بن النعمان في بيت الله الحرام وتعاقدوا جميعا : أن من مات منهم يصلي من بقي صلاته ويصوم عنه ويزكي عنه ما دام حيا فمات صاحباه وبقي صفوان بعدهما ، وكان يفي لهما بذلك فيصلي عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما ويزكي عنهما ، وكل شيء من البر والاحسان يفعله لنفسه كذلك يفعله عن صاحبيه ، وكان وكيل الرضا « عليه‌السلام ».

وقال أبو عمرو الكشي أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن صفوان بن يحيى بياع السابري والإقرار له بالفقه في آخرين يأتي ذكرهم في مواضعهم إن شاء الله تعالى.

وروى عن محمد بن قولويه عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن معمر بن خلاد قال : قال أبو الحسن « عليه‌السلام » : ما ذئبان ضاريان في غنم قد غاب عنها رعاؤها بأضر في دين المسلم من حب الرئاسة ، ثم قال عليه‌السلام ولكن صفوان لا يحب الرئاسة. وكان له عند الرضا عليه‌السلام منزلة شريفة ، وتوكل للرضا عليه‌السلام وأبي جعفر عليه‌السلام ، وسلم مذهبه من الوقف ، وكانت له منزلة من الزهد والعبادة.

القسم الأول من خلاصة العلامة ص ٨٨.

(٢) طه ـ ١٣.

(٣) البقرة ـ ٢١.

٤٠٥

التوراة والإنجيل والزبور وهي كلها محدثة مربوبة أحدثها من ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) هدى لقوم يعقلون فمن زعم أنهن لم يزلن معه فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم ولا واحد وأن الكلام لم يزل معه وليس له بدء وليس بإله.

قال أبو قرة وإنا روينا أن الكتب كلها تجيء يوم القيامة والناس في صعيد واحد صفوف قيام لرب العالمين ينظرون حتى ترجع فيه لأنها منه وهي جزء منه فإليه تصير.

قال أبو الحسن عليه‌السلام فهكذا قالت النصارى في المسيح إنه روحه جزء منه ويرجع فيه وكذلك قالت المجوس في النار والشمس إنهما جزء منه ترجع فيه تعالى ربنا أن يكون متجزيا أو مختلفا وإنما يختلف ويأتلف المتجزي لأن كل متجز متوهم والكثرة والقلة مخلوقة دالة على خالق خلقها.

فقال أبو قرة فإنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم لموسى عليه‌السلام الكلام ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤية.

فقال أبو الحسن عليه‌السلام فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين الجن والإنس أنه ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) و ( لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) أليس محمد ص؟ قال بلى.

قال أبو الحسن فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول إنه ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) و ( لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ثم يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر أما تستحيون ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.

فقال أبو قرة إنه يقول ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) (١).

فقال أبو الحسن عليه‌السلام إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال ( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) (٢) يقول ما كذب فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأت عيناه فقال ( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) (٣) فآيات الله غير الله وقال ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (٤) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة فقال أبو قرة فتكذب بالرواية؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما و ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ).

وسأله عن قول الله ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (٥) فقال أبو الحسن عليه‌السلام قد أخبر الله تعالى أنه أسرى به ثم أخبر أنه لم أسرى به فقال

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) النجم ـ ١٣ ، ١١ ، ١٨.

(٤) طه ـ ١١٠

(٥) الإسراء ـ ١

٤٠٦

( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) (١) فآيات الله غير الله فقد أعذر وبين لم فعل به ذلك وما رآه وقال ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ ) (٢) فأخبر أنه غير الله.

فقال أبو قرة أين الله؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام الأين مكان وهذه مسألة شاهد من غائب فالله تعالى ليس بغائب ولا يقدمه قادم وهو بكل مكان موجود مدبر صانع حافظ ممسك السماوات والأرض.

فقال أبو قرة أليس هو فوق السماء دون ما سواها؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام هو الله في السماوات وفي الأرض ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) و ( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ) و ( هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) وهو الذي ( اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ) وهو الذي ( اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) وهو الذي ( اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) قد كان ولا خلق وهو كما كان إذ لا خلق لم ينتقل مع المنتقلين.

فقال أبو قرة فما بالكم إذ دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام إن الله استعبد خلقه بضروب من العبادة ولله مفازع يفزعون إليه ومستعبد فاستعبد عباده بالقول والعلم والعمل والتوجه ونحو ذلك استعبدهم بتوجه الصلاة إلى الكعبة ووجه إليها الحج والعمرة واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرع ببسط الأيدي ورفعها إلى السماء لحال الاستكانة وعلامة العبودية والتذلل له.

قال أبو قرة فمن أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض؟

قال أبو الحسن عليه‌السلام إن كنت تقول بالشبر والذراع فإن الأشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشغل ببعضها عن بعض يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله ويدبر أوله من حيث يدبر آخره من غير عناء ولا كلفة ولا مئونة ولا مشاورة ولا نصب وإن كنت تقول من أقرب إليه في الوسيلة فأطوعهم له وأنتم ترون أن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ورويتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق وأحدهم من أسفل الخلق وأحدهم من شرق الخلق وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال من عند الله أرسلني بكذا وكذا ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل.

فقال أبو قرة أتقر أن الله محمول؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام كل محمول مفعول ومضاف إلى غيره محتاج فالمحمول اسم نقص في اللفظ والحامل فاعل وهو في اللفظ ممدوح وكذلك قول القائل فوق وتحت وأعلى وأسفل وقد قال

__________________

(١) الإسراء ـ ١

(٢) الجاثية ـ ٥.

٤٠٧

الله تعالى ( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) (١) ولم يقل في شيء من كتبه إنه محمول بل هو الحامل في البر والبحر والممسك للسماوات والأرض والمحمول ما سوى الله ولم نسمع أحدا آمن بالله وعظمه قط قال في دعائه يا محمول.

قال أبو قرة أفتكذب بالرواية أن الله إذا غضب يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله في كواهلهم فيخرون سجدا فإذا ذهب الغضب خف فرجعوا إلى مواقفهم؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا وإلى يوم القيامة فهو غضبان على إبليس وأوليائه أو عنهم راض؟

فقال نعم هو غضبان عليه :

قال فمتى رضي فخف وهو في صفتك لم يزل غضبان عليه وعلى أتباعه؟ ثم قال ويحك كيف تجترئ أن تصف ربك بالتغير من حال إلى حال وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين سبحانه لم يزل مع الزائلين ولم يتغير مع المتغيرين.

قال صفوان فتحير أبو قرة ولم يحر جوابا حتى قام وخرج.

عن عبد السلام بن صالح الهروي (٢) قال : قلت لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث أن المؤمنين يزورون ربهم من منازلهم في الجنة؟

فقال عليه‌السلام يا أبا الصلت ـ إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع خلقه من النبيين والملائكة وجعل طاعته طاعته ومبايعته مبايعته وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته فقال عز وجل ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٣) وقال ( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٤) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله ودرجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في

__________________

(١) الأعراف ـ ١٧٩.

(٢) قال الشيخ الطوسي في أصحاب الرضا عليه‌السلام من رجاله ص ٣٨٠ : عبد السلام بن صالح الهروي أبو الصلت عامي وص ٣٩٦ منه أبو الصلت الخراساني الهروي عامي روى عنه بكر بن صالح وقال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص ١١٧ : عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي روى عن الرضا عليه‌السلام ثقة صحيح الحديث وقال الشيخ عباس القمي في ج ١ من الكنى والألقاب ص ٩٦ : « عبد السلام بن صالح الهروي روى عن الرضا عليه‌السلام ثقة صحيح الحديث قاله جيش والعلامة ، له كتاب : ( وفاة الرضا « عليه‌السلام » ) وكان « ره » كما يشعر به بعض الكلمات مخاطبا للعامة وراويا لأخبارهم فلذلك التبس أمره على بعض المشايخ فذكر أنه عامي. قال الأستاذ الأكبر في التعليقة بعد نقل كلام الشهيد الثاني في تشيعه لا يخفى أن الأمر كذلك فإن الأخبار الصادرة عنه في العيون والأمالي وغيرهما الناصة على تشيعه بل وكونه من خواص الشيعة أكثر من أن تحصى ، وعلماء العامة ذكروا أنه شيعي قال الذهبي في ميزان الاعتدال : عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي رجل صالح إلا أنه شيعي ونقل عن الجعفي أنه رافضي خبيث وقال الدارقطني إنه رافضي متهم وقال ابن الجوزي إنه خادم للرضا شيعي مع صلاحه وعن الأنساب للسمعاني قال أبو حاتم هو رأس مذهب ـ الرافضة .. إلى أن قال : أقول : الروايات الدالة على تشيعه كثيرة وقد اشرت إلى نبذ منها في كتاب سفينة البحار وروى الشيخ الطوسي « ره » عنه في الشكر ما ينبغي ان يكتب بالتبر » توفي سنة ٢٣٦ ه‍.

(٣) النساء ـ ٧٩.

(٤) الفتح ـ ١٠

٤٠٨

الجنة أرفع الدرجات فمن زاره في درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى.

قال قلت يا ابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟

فقال عليه‌السلام يا أبا الصلت فمن وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه عليهم صلوات الله هم الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته فقال الله عز وجل ( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) (١) وقال الله عز وجل ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (٢) فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه عليهم‌السلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة (٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني (٤) يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يدرك بالأبصار والأوهام.

قال فقلت له يا ابن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقان؟

قال نعم وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء.

قال فقلت له إن قوما يقولون إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين؟

فقال ما أولئك منا ولا نحن منهم من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذبنا وليس من ولايتنا على شيء ويخلد في نار جهنم قال الله عز وجل ( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) (٥) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل عليه‌السلام فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليها‌السلام ففاطمة حوراء إنسية فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة (٦)

وقال الرضا عليه‌السلام في قول الله عز وجل ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (٧) قال يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها

__________________

(١) الرحمن ـ ٢٧.

(٢) القصص ـ ٨٨.

(٣) راجع ذخائر العقبى ص ٢ وينابيع المودة ج ٢ ص ٣٠٥.

(٤) راجع نفس المصدر السابق

(٥) الرحمن ـ ٤٣.

(٦) في ينابيع المودة ص ١٩٧ عن عائشة قالت. قلت يا رسول الله ما لك إذا جعلت لسانك في فيها كأنك تريد أن تلعقها عسلا؟ قال : لما أسري بي إلى السماء أدخلني جبرائيل الجنة فناولني تفاحة فأكلتها ، فصارت نطفة في ظهري ، فلما نزلت من السماء واقعت خديجة ففاطمة من تلك النطفة فكلما اشتقت إلى تلك التفاحة قبلتها ، ثم قال : أخرجه أبو سعد في شرف النبوة وفيه أيضا عن ابن عباس كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ‌وسلم يكثر القبلة لفاطمة ، فقالت له : إنك تكثر تقبيل فاطمة؟ : فقال : إن جبرئيل أدخلني الجنة ليلة اسري بي إلى السماء فأطعمني من جميع ثمارها ، فصارت ماء في صلبي فحملت خديجة بفاطمة » فاذا اشتقت إلى تلك الثمار ، قبلت فاطمة فأصبت من تقبيلها رائحة جميع تلك الثمار التي أكلتها. ثم قال : أخرجه أبو الفضل بن خيرون.

(٧) القيامة ـ ٢٣.

٤٠٩

وقال عليه‌السلام إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال قال الله جل جلاله : ما آمن بي من فسر برأيه كلامي وما عرفني من شبهني بخلقي وما على ديني من استعمل القياس في ديني وقال من رد متشابه القرآن إلى محكمه ( هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ثم قال إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ـ ومحكما كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.

وقال : من شبه الله بخلقه فهو مشرك ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر.

وعن الحسين بن خالد (١) قال سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : لم يزل الله عز وجل عليما قادرا حيا قديما سميعا بصيرا.

فقلت يا ابن رسول الله إن قوما يقولون لم يزل عالما بعلم وقادرا بقدرة وحيا بحياة وقديما بقدم وسميعا بسمع وبصيرا ببصر.

فقال عليه‌السلام من قال ذلك ودان به فقد اتخذ ( مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى ) وليس من ولايتنا على شيء ثم قال عليه‌السلام لم يزل الله عز وجل عليما قادرا حيا قديما سميعا بصيرا لذاته تعالى عما يقول المشركون والمشبهون علوا كبيرا.

وعن الحسين بن خالد قال : قلت للرضا عليه‌السلام يا ابن رسول الله إن قوما يقولون إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال إن الله خلق آدم على صورته.

فقال قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث إن رسول الله مر برجلين يتسابان فسمع أحدهما يقول لصاحبه قبح الله وجهك ووجه من يشبهك فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته.

وعن إبراهيم بن أبي محمود (٢) قال : قلت للرضا عليه‌السلام يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟

فقال عليه‌السلام لعن الله المحرفين ( الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) والله ما قال عليه‌السلام كذلك ـ إنما قال عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السماء كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل فيأمره فينادي [ أ ] هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له يا طالب الخير فأقبل يا طالب الشر أقصر فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعن محمد بن سنان قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام هل كان الله عارفا بنفسه قبل أن يخلق

__________________

(١) من أصحاب الكاظم والرضا عليهما‌السلام ذكره الشيخ في رجاله صفحة ٣٤٧ و ٣٧٣.

(٢) إبراهيم بن أبي محمود : ذكره الشيخ في أصحاب الكاظم « عليه‌السلام » ص ٣٤٣ وقال : له مسائل ، وفي أصحاب الرضا « عليه‌السلام » ص ٣٦٧ فقال : خراساني ثقة مولى. وقال العلامة في الخلاصة ص ٣ : روي عن الرضا « عليه‌السلام » ثقة أعتمد على روايته.

٤١٠

الخلق؟ قال نعم.

قلت يراها ويسمعها؟ قال ما كان محتاجا إلى ذلك لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها شيئا هو نفسه ونفسه هو قدرته نافذة فليس بمحتاج إلى أن يسمي نفسه ـ ولكنه اختار أسماء لغيره يدعوه بها لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف فأول ما اختار نفسه ( الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) أعلى الأشياء كلها فمعناه الله واسمه العلي هو أول أسمائه لأنه علا كل شيء.

وقال عليه‌السلام في قوله ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) (١) فساق حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا وتدمج أصلاب المنافقين ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) السجود.

وسئل عن قوله عز وجل : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (٢) فقال إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان يحل فيه فيحجب عن عباده ولكنه يعني عن ثواب ربهم محجوبون.

وسئل عن قوله عز وجل : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (٣) فقال إن الله لا يوصف بالمجيء والذهاب والانتقال إنما يعني بذلك وجاء أمر ربك.

وسئل عن قوله ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ ) (٤)؟ قال معناه هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت.

وسئل عن قوله عز وجل ( سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ ) (٥) وعن قوله ( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) (٦) وعن قوله ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (٧) وعن قوله ( يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) (٨).

فقال إن الله لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه عز وجل يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر وجزاء الخديعة تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وسئل عن قوله عز وجل ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) (٩) فقال إن الله تبارك وتعالى لا يسهو ولا ينسى إنما يسهو وينسى المخلوق المحدث ألا تسمعه عز وجل يقول ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (١٠) وإنما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم كما قال ( نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (١١) وقال ( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ) (١٢) أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا أي فنجازيهم على ذلك.

وسئل عن قول الله عز وجل : ( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ

__________________

(١) القلم ـ ٤٢.

(٢) المطففين ـ ١٥.

(٣) الفجر ـ ٢٢.

(٤) البقرة : ٢١٠.

(٥) التوبة : ٨.

(٦) البقرة : ١٥.

(٧) آل عمران : ٥٤

(٨) النساء : ١٤١.

(٩) التوبة : ٦٨.

(١٠) مريم : ٦٤.

(١١) الحشر : ١٩.

(١٢) الأعراف : ٥٠.

٤١١

يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) (١) قال ومن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا ( يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) حتى يشك في كفره ويضطرب في اعتقاد قلبه حتى يصير ( كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) و ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ).

أبو الصلت الهروي قال : سأل المأمون الرضا عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٢).

فقال إن الله تبارك وتعالى خلق العرش والماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة فنعلم ( أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ثم رفع العرش بقدرته ونقله فجعله فوق السماوات السبع ثم ( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) وهو مستول على عرشه وكان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين ولكنه عز وجل خلقها في ستة أيام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء فنستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى مرة بعد مرة ولم يخلق العرش لحاجة به إليه لأنه غني عن العرش وعن جميع ما خلق لا يوصف بالكون على العرش لأنه ليس بجسم تعالى الله عن صفة خلقه علوا كبيرا.

وأما قوله ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) فإنه عز وجل خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته وعبادته لا على سبيل الامتحان والتجربة لأنه لم يزل عليما بكل شيء.

فقال المأمون فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك.

ثم قال له يا ابن رسول الله فما معنى قول الله عز وجل : ( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (٣) ( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (٤).

فقال الرضا عليه‌السلام حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال إن المسلمين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئا ( وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) فأنزل الله تعالى عليه يا محمد ( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمن عند المعاينة ورؤية البأس من الآخرة ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا ولكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )

__________________

(١) الأنعام : ١٢٥.

(٢) يونس ـ ٩٩.

(٣) هود ـ ٧.

(٤) يونس ـ ١٠٠.

٤١٢

وأما قوله عز وجل ( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (١) فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلا بإذن الله وإذنه أمره لها بالإيمان بما كانت مكلفة متعبدة بها وإلجاؤه إياها إلى الإيمان عند زوال التكلف والتعبد عنها.

فقال المأمون فرجت عني فرج الله عنك فأخبرني عن قول الله عز وجل : ( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) (٢).

فقال إن غطاء العين لا يمنع من الذكر والذكر لا يرى بالعين ولكن الله عز وجل شبه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام بالعميان لأنهم كانوا يستثقلون قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ولا يستطيعون له سمعا.

فقال المأمون فرجت عني فرج الله عنك.

وعن عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضي الله عنه (٣) عن إبراهيم بن أبي محمود (٤) قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ) (٥) فقال إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم.

قال وسألته عن قول الله عز وجل : ( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ) (٦).

قال الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم كما قال عز وجل ( بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٧).

قال وسألته عن الله عز وجل هل يجبر عباده على المعاصي؟

قال لا بل يخيرهم ويمهلهم حتى يتوبوا.

قلت فهل يكلف عباده ما لا يطيقون؟

فقال كيف يفعل ذلك وهو يقول ( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (٨).

__________________

(١) آل عمران ـ ١٤٥

(٢) الكهف ـ ١٠٢.

(٣) أبو القاسم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب « عليه‌السلام » زاهد عابد ذو ورع ودين ، معروف بالأمانة وصدق اللهجة عالم بأمور الدين كثير الحديث والرواية ، يروي عن الامامين الجواد والعسكري « عليهما‌السلام » ، ولهما إليه الرسائل ، ويروي عن جماعة من أصحاب موسى ، بن جعفر وعلي بن موسى « عليه‌السلام » له كتاب يسميه كتاب : « يوم وليلة » وله كتاب : « خطب أمير المؤمنين « عليه‌السلام » وقد كتب الصاحب بن عباد رسالة مختصرة في أحوال عبد العظيم أوردها صاحب المستدرك في خاتمة المستدرك راجع الجزء الثاني من سفينة البحار ص ١٢٠ ، وخلاصة العلامة ص ١٣٠.

(٤) مرت ترجمته.

(٥) البقرة ١٧.

(٦) البقرة : ٧.

(٧) النساء. ١٥٤.

(٨) حم السجدة : ٤٦.

٤١٣

ثم قال حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال من زعم أن الله يجبر عباده على المعاصي ويكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته ولا تقبلوا شهادته ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئا.

وعن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي (١) قال : دخلت على علي بن موسى الرضا بمرو فقلت له يا ابن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام أنه قال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ما معناه؟

فقال من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ومن زعم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام فقد قال بالتفويض والقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك.

فقلت يا ابن رسول الله فما أمر بين الأمرين؟

فقال وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه.

قلت وهل لله مشية وإرادة في ذلك؟

فقال أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها.

قلت فلله عز وجل فيها القضاء؟

قال نعم ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء قلت ما معنى هذا القضاء؟

قال الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة

وروي : أنه ذكر عنده الجبر والتفويض فقال إن الله لم يطع بإكراه ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر العباد بطاعة لم يكن الله عنها صادا ولا منها مانعا وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه‌السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.

وعن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له يا ابن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي من الأخبار في ذلك عن آبائك عليهم‌السلام.

فقال يا ابن خالد أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائي الأئمة في الجبر والتشبيه أكثر أم الأخبار التي رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك؟

__________________

(١) مجهول الحال لم أعثر له على ترجمة.

٤١٤

فقلت بل ما رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر.

قال فليقولوا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول بالتشبيه والجبر.

فقلت له إنهم يقولون إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل شيئا من ذلك وإنما روي عليه.

قال فليقولوا في آبائي الأئمة عليهم‌السلام إنهم لم يقولوا من ذلك شيئا وإنما روي عليهم ثم قال من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ونحن براء منه في الدنيا والآخرة يا ابن خالد إنما وضع الأخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله فمن أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبنا ومن والاهم فقد عادانا ومن عاداهم فقد والانا ومن وصلهم فقد قطعنا ومن قطعهم فقد وصلنا ومن جفاهم فقد برنا ومن برهم فقد جفانا ومن أكرمهم فقد أهاننا ومن أهانهم فقد أكرمنا ومن قبلهم فقد ردنا ومن ردهم فقد قبلنا ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا ومن صدقهم فقد كذبنا ومن كذبهم فقد صدقنا ومن أعطاهم فقد حرمنا ومن حرمهم فقد أعطانا يا ابن خالد من كان من شيعتنا فلا يتخذن منهم وليا ولا نصيرا

احتجاج الرضا عليه‌السلام على أهل الكتاب والمجوس ورئيس الصابئين وغيرهم

روي عن الحسن بن محمد النوفلي أنه قال : لما قدم علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر وأصحاب زردشت وقسطاس الرومي والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل ثم أعلم المأمون باجتماعهم فقال أدخلهم علي ففعل فرحب بهم المأمون ثم قال لهم :

إنما جمعتكم لخير وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي فإذا كان بكرة فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد.

فقالوا السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه‌السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولى أمر أبي الحسن عليه‌السلام فقال يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول فداك أخوك إنه اجتمع إلينا أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع أهل الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم وإن كرهت ذلك فلا تتجشم وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا.

فقال أبو الحسن عليه‌السلام أبلغه السلام وقل قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.

٤١٥

قال الحسن بن محمد النوفلي فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة فما عندك في جمع ابن عمي علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟

فقلت جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس والله ما بنى.

فقال لي وما بناؤه في هذا الباب؟

قلت إن أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا صحح وحدانيته وإن قلت إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول قالوا ثبت رسالته ـ ثم يباهتون الرجل وهو مبطل عليهم بحجته ويغالطونه حتى يترك قوله فاحذرهم جعلت فداك!

قال فتبسم ثم قال لي يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي؟

قلت لا والله ما خفته عليك قط وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله.

فقال لي يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت نعم.

قال إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أهل المقالات بلغاتهم فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون أن الذي هو بسبيله ليس بمستحق له فعند ذلك تكون الندامة منه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له جعلت فداك إن ابن عمك ينتظرك اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟

فقال له الرضا عليه‌السلام تقدمني فإني سائر إلى ناحيتكم إن شاء الله ثم توضأ وضوء الصلاة وشرب شربة سويق وسقانا ثم خرج وخرجنا معه حتى دخل على المأمون وإذا المجلس غاص بأهله ـ ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقواد حضور.

فلما دخل الرضا عليه‌السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم فما زالوا وقوفا والرضا عليه‌السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة ثم التفت إلى الجاثليق فقال :

يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر وهو من ولد فاطمة بنت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن علي بن أبي طالب عليه‌السلام فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه.

٤١٦

فقال الجاثليق يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلا يحاج علي بكتاب أنا منكره ونبي لا أومن به؟

فقال الرضا عليه‌السلام يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟

قال الجاثليق وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل؟ نعم والله أقر به على رغم أنفي

فقال له الرضا عليه‌السلام سل عما بدا لك واسمع الجواب.

قال الجاثليق ما تقول في نبوة عيسى وكتابه؟ هل تنكر منهما شيئا؟

قال الرضا عليه‌السلام أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقرت به الحواريون وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه ولم يبشر به أمته!

قال الجاثليق أليس إنما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال بلى.

قال فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.

قال الرضا عليه‌السلام الآن جئت بالنصفة يا نصراني ألا تقبل مني العدل والمقدم عند المسيح عيسى بن مريم؟ قال الجاثليق ومن هذا العدل؟ سمه لي؟

قال ما تقول في يوحنا الديلمي قال بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح.

قال أقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي ـ؟ وبشرني به أنه يكون من بعدي؟ فبشرت به الحواريين فآمنوا به ـ؟

قال الجاثليق قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشر بنبوة رجل وأهل بيته ووصيه وأهل بيته ولم يلخص متى يكون ذلك ولم يسم لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضا عليه‌السلام فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟ قال أمر سديد.

قال الرضا لغسطاس [ لنسطاس ] الرومي كيف يكون حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟

قال ما أحفظني له ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال عليه‌السلام ألست تقرأ الإنجيل قال بلى لعمري.

قال فخذ علي السفر الثالث فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي!

ثم قرأ السفر الثالث حتى بلغ ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقف ثم قال يا نصراني إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟

٤١٧

قال نعم ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته ثم قال ما تقول يا نصراني هذا قول عيسى بن مريم ـ؟ فإن كذبت ما نطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى عليهما‌السلام ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لأنك تكون قد كفرت بربك ونبيك وبكتابك.

قال الجاثليق لا أنكر ما قد بان لي من الإنجيل وإني لمقر به.

قال الرضا عليه‌السلام على الخبير سقطت أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال يوحنا الأكبر ياحي [ بأج ] ويوحنا بقرقيسيا [ بقرقيسا ] ويوحنا الديلمي بزخار [ برجاز ] وعنده كان ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر أهل بيته وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به ثم قال يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما ننقم على عيسى شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق أفسدت والله علمك وضعفت أمرك ـ وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا عليه‌السلام وكيف ذلك؟ قال الجاثليق من قولك إن عيسى كان ضعيفا قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوما قط وما نام بليل قط وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا عليه‌السلام فلمن كان يصوم ويصلي؟ فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرضا عليه‌السلام يا نصراني إني أسألك عن مسألة قال سل فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرضا عليه‌السلام ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ.

قال الجاثليق أنكرت ذلك من قبل إن من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد.

قال الرضا صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه‌السلام مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فلم لا تتخذه أمته ربا ـ؟ ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل؟ ولقد صنع حزقيل النبي مثل ما صنع عيسى بن مريم فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال يا رأس الجالوت أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة؟ اختارهم بختنصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عز وجل إليهم فأحياهم هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم؟

قال رأس الجالوت قد سمعنا به وعرفناه قال صدقت.

ثم قال يا يهودي خذ على هذا السفر من التوراة فتلا عليه من التوراة آيات فأقبل اليهودي يترجح لقراءته ويتعجب ثم أقبل على النصراني فقال يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم ـ؟

٤١٨

قال بل كانوا قبله.

قال الرضا عليه‌السلام لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال له اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط ـ الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك يا فلان ويا فلان ويا فلان يقول لكم رسول الله محمد قوموا بإذن الله.

فناداهم فقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ثم أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا فقالوا وددنا إن أدركناه فنؤمن به ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين وكلمته البهائم والطير والجن والشياطين ولم نتخذه ربا من دون الله ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم فإن اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربين لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم من إحياء الموتى وغيره ثم إن قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون ( وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ) فأماتهم الله في ساعة واحدة فعمد أهل القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية فأوحى الله إليه أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟

قال نعم.

فأوحى الله إليه أن نادهم فقال أيتها العظام البالية قومي بإذن الله ـ فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رءوسهم ثم إبراهيم خليل الله عليه‌السلام حين اتخذ الطير فقطعهن قطعا ثم وضع ( عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له إنك قد رأيت الله فأرناه!

فقال لهم إني لم أره.

فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فاحترقوا عن آخرهم ـ فبقي موسى وحيدا.

فقال يا رب اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم فأرجع أنا وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به فلَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أفتهلكنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؟

فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا ما تقول يا نصراني ـ؟

فقال الجاثليق القول قولك ولا إله إلا الله.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال يا يهودي أقبل علي أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمته إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب

٤١٩

البعير يسبحون الرب جدا جدا تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد فليفزع بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض هكذا هو في التوراة مكتوب؟

قال رأس الجالوت نعم إنا لنجد ذلك كذلك.

ثم قال للجاثليق يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال أعرفه حرفا حرفا.

قال لهما أتعرفان هذا من كلامه يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور ورأيت راكب البعير ضوؤه ضوء القمر؟ فقالا قد قال ذلك شعيا.

قال الرضا عليه‌السلام يا نصراني أهل تعرف في الإنجيل قول عيسى إني ذاهب إلى ربكم وربي والبارقليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له وهو الذي يفسر لكم كل شيء وهو الذي يبدي فضائح الأمم وهو الذي يكسر عمود الكفر؟

فقال الجاثليق ما ذكرت شيئا من الإنجيل إلا ونحن مقرون به.

فقال عليه‌السلام أتجد هذا في الإنجيل ثابتا؟ قال نعم.

قال الرضا عليه‌السلام يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟

قال له ما افتقدنا الإنجيل إلا يوما واحدا حتى وجدناه غضا طريا فأخرجه إلينا يوحنا ومتى؟

فقال الرضا عليه‌السلام ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ وإنما الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم فإن كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه ولكني مفيدك علم ذلك اعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم قتل عيسى بن مريم وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم؟

فقال لهم ألوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى إن الإنجيل في صدورنا نخرجه إليكم سفرا سفرا في كل أحد فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنائس فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه كله.

فقال الرضا عليه‌السلام إن ألوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى وضعوا لكم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأولين أعلمت ذلك؟

قال الجاثليق أما قبل هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وقد سمعت أشياء مما علمته شهد قلبي أنها حق واستزدت كثيرا من الفهم.

فقال الرضا عليه‌السلام فكيف شهادة هؤلاء عندك؟

قال جائزة هؤلاء علماء الإنجيل وكل ما شهدوا به فهو حق ـ

٤٢٠