الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

فما اتفق يوم أحسن منه ودخل في هذا الأمر عالم كثير.

وقد كانت لأبي جعفر مؤمن الطاق مقامات مع أبي حنيفة فمن ذلك ما روي أنه قال يوما من الأيام لمؤمن الطاق إنكم تقولون بالرجعة؟ قال نعم.

قال أبو حنيفة فأعطني الآن ألف درهم حتى أعطيك ألف دينار إذا رجعنا.

قال الطاقي لأبي حنيفة فأعطني كفيلا بأنك ترجع إنسانا ولا ترجع خنزيرا.

وقال له يوم آخر لم لم يطالب علي بن أبي طالب بحقه بعد وفاة رسول الله إن كان له حق؟

فأجابه مؤمن الطاق خاف أن يقتله الجن ـ كما قتلوا سعد بن عبادة بسهم المغيرة بن شعبة وفي رواية بسهم خالد بن الوليد. (١)

وكان أبو حنيفة يوما آخر يتماشى مع مؤمن الطاق في سكة من سكك الكوفة إذا مناد ينادي من يدلني على صبي ضال؟

فقال مؤمن الطاق أما الصبي الضال فلم نره وإن أردت شيخا ضالا فخذ هذا عنى به أبا حنيفة.

ولما مات الصادق عليه‌السلام رأى أبو حنيفة مؤمن الطاق فقال له :

مات إمامك؟

قال نعم أما إمامك ( مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ).

__________________

(١) سعد بن عبادة : رئيس الخزرج ، وكان صاحب راية الأنصار يوم بدر وأمير المؤمنين عليه‌السلام صاحب لواء رسول الله « صلى‌الله‌عليه‌وآله » والمهاجرين. ولما قبض النبي « ص » اجتمعت الأنصار إليه وكان مريضا فجاءوا به إلى سقيفة بني ساعدة وأرادوا تأميره ، ولما تم الأمر لأبي بكر امتنع عن مبايعته ، فأرسل إليه أبو بكر ليبايع فقال : لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي ، واخضب سنان رمحي ، وأضرب بسيفي ما أطاعني ، واقاتلكم بأهل بيتي ومن تبعني ، ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى اعرض على ربي فقال عمر : لا تدعه حتى يبايع فقال بشير بن سعد : إنه قد لج وليس بمبايع لكم حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته ولا يضركم تركه ، إنما هو رجل واحد فتركوه ، وقبلوا مشورة بشير بن سعد ، واستنصحوه لما بدا لهم منه ، فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ، ويحج ولا يفيض معهم بافاضتهم ، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر راجع ج ٣ ص ٢١٠ من تاريخ الطبري وقال ابن أبي الحديد في ج ١ ص ٥٤٠ من شرح النهج : وخرج إلى حوران فمات بها قيل : قتله الجن لأنه بال قائما في الصحراء ليلا ، ورووا بيتين من شعر قيل : انهما سمعا ليلة قتله ولم ير قائلهما :

نحن قتلنا سيد الخز

رج سعد بن عبادة

ورميناه بسهمين

فلم نخطئ فؤاده

ويقول قوم : إن أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا وهو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعة الامام وقد قال بعض المتأخرين في ذلك :

يقولون : سعد شكت الجن قلبه

ألا ربما صححت دينك بالغدر

وما ذنب سعد أنه بال قائما

ولكن سعدا لم يبايع أبا بكر

وقد صبرت من لذة العيش أنفس

وما صبرت عن لذة النهي والأمر

٣٨١

وروي أنه مر فضال بن الحسن بن فضال الكوفي (١) بأبي حنيفة وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه فقال لصاحب كان معه والله لا أبرح حتى أخجل أبا حنيفة ـ.

فقال صاحبه الذي كان معه إن أبا حنيفة ممن قد علمت حاله وظهرت حجته.

قال صه هل رأيت حجة ضال علت على حجة مؤمن ثم دنا منه فسلم عليه فرد ورد القوم السلام بأجمعهم فقال :

يا أبا حنيفة إن أخا لي يقول إن خير الناس بعد رسول الله علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأنا أقول أبو بكر خير الناس وبعده عمر فما تقول أنت رحمك الله؟

فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال كفى بمكانهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كرما وفخرا ـ أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره؟ فأي حجة تريد أوضح من هذا؟

فقال له فضال إني قد قلت ذلك لأخي فقال والله لئن كان الموضع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما حق فيه وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد أساءا وما أحسنا إذ رجعا في هبتهما ونسيا عهدهما.

فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له لم يكن له ولا لهما خاصة ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما.

فقال له فضال قد قلت له ذلك فقال أنت تعلم أن النبي مات عن تسع نساء ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن ـ ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة بنته تمنع الميراث.؟

فقال أبو حنيفة يا قوم نحوه عني فإنه رافضي خبيث.

حكي عن أبي الهذيل العلاف (٢) قال :

__________________

(١) في رجال المامقاني ج ٢ ص ٣٧٣ حكى عن المولى الوحيد أنه قال : يظهر من معارضته مع أبي حنيفة كونه من فضلاء الشيعة واحتمل الحائري كونه أخا علي بن الحسن بن فضال.

(٢) أبو الهذيل العلاف محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول البصري ، شيخ البصريين في الاعتزال ومن أكبر علمائهم ، وصاحب المقالات في مذهبهم ، كان معاصرا لأبي الحسن الميثمي المتكلم الإمامي حكي أنه سأل أبو الحسن الميثمي أبا الهذيل فقال : ألست تعلم أن إبليس ينهى عن الخير كله ويأمر بالشر كله؟

قال : بلى.

قال : فيجوز أن يأمر بالشر كله وهو لا يعرفه ، وينهى عن الخير كله وهو لا يعرفه؟

قال : لا.

٣٨٢

دخلت الرقة فذكر لي أن بدير زكن رجلا مجنونا حسن الكلام فأتيته فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالس على وسادة يسرح رأسه ولحيته فسلمت عليه فرد السلام وقال ممن يكون الرجل؟ قال قلت من أهل العراق قال نعم أهل الظرف والأدب.

قال من أيها أنت؟ قلت من أهل البصرة قال أهل التجارب والعلم.

قال فمن أيهم أنت؟ قلت أبو الهذيل العلاف قال المتكلم؟ قلت بلى.

فوثب عن وسادته وأجلسني عليها ثم قال بعد كلام جرى بيننا ما تقولون في الإمامة؟ قلت أي الإمامة تريد.؟

قال من تقدمون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قلت من قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ومن هو؟

قلت أبا بكر.

قال لي يا أبا الهذيل ولم قدمتم أبا بكر.؟

قال قلت لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قدموا خيركم وولوا أفضلكم وتراضى الناس به جميعا قال يا أبا الهذيل هاهنا وقعت.

أما قولك إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال قدموا خيركم وولوا أفضلكم فإني أوجدك (١) أن أبا بكر صعد المنبر قال وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر رسول الله لا يصعده الكاذبون.

أما قولك إن الناس تراضوا به فإن أكثر الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير وأما المهاجرون فإن الزبير بن العوام قال لا أبايع إلا عليا فأمر به فكسر سيفه وجاء أبو سفيان بن حرب وقال يا أبا الحسن لو شئت لأملأنها خيلا ورجالا يعني المدينة وخرج سلمان فقال بالفارسي كرديد ونكرديد وندانيد كه چه كرديد (٢) ـ والمقداد وأبو ذر فهؤلاء المهاجرون والأنصار.

أخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله إن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني

__________________

فقال له أبو الحسن : قد ثبت أن إبليس يعلم الشر كله والخير كله؟

قال أبو الهذيل : أجل.

قال : فأخبرني عن إمامك الذي تأتم به بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هل يعلم الخير كله والشر كله؟ قال : لا.

قال له : فابليس أعلم من إمامك إذا فانقطع أبو الهذيل.

توفي أبو الهذيل بسرمن رأى سنة ٢٧٧. الكنى والألقاب ج ١ ص ١٧٠.

(١) في ج ٢ من العقد الفريد ص ٣٤٧ قال : وخطب أيضا ـ يعني : أبا بكر ـ حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فان رأيتموني على حق فأعينوني ، وإن رأيتموني على باطل فسددوني .. الخ.

(٢) أي : فعلتم وما فعلتم ولا تعلمون ما الذي فعلتم.

٣٨٣

مغضبا فاحذروني لا أقع في أشعاركم وأبشاركم (١) فهو يخبركم على المنبر أني مجنون وكيف يحل لكم أن تولوا مجنونا.

وأخبرني يا أبا الهذيل عن قيام عمر وقوله وددت أني شعرة في صدر أبي بكر ثم قام بعدها بجمعة فقال إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه (٢) فبينما هو يود أن يكون شعرة في صدره وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله ـ.

فأخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف وأن أبا بكر استخلف عمر وأن عمر لم يستخلف فأرى أمركم بينكم متناقضا.

وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صيرها شورى بين ستة وزعم أنهم من أهل الجنة فقال إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين وإن خالف ثلاثة لثلاثة فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف فهذا ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنة.

وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر لما طعن دخل عليه عبد الله بن عباس قال فرأيته جزعا فقلت يا أمير المؤمنين ما هذا الجزع؟

قال يا ابن عباس ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه بعدي.

قال قلت ولها طلحة بن عبيد الله.

قال رجل له حدة كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرفه فلا أولي أمر المسلمين حديدا ـ.

قال قلت ولها زبير بن العوام قال رجل بخيل رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل فلا أولي أمور المسلمين بخيلا.

قال قلت ولها سعد بن أبي وقاص قال رجل صاحب فرس وقوس وليس من أحلاس الخلافة. (٣)

قال قلت ولها عبد الرحمن بن عوف قال رجل ليس يحسن أن يكفي عياله.

__________________

(١) روى الطبري في ج ٣ ص ٢١٠ من تاريخه مرفوعا عن عاصم بن عدي قال : نادى منادي أبي بكر ... إلى أن قال : وقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : « يا أيها الناس إنما أنا مثلكم ، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطيق ، إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات ، وإنما أنا متبع ولست مبتدع ، فان استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ، ضربة سوط فما دونها ، ألا وإن لي شيطانا يعتريني ، فإذا أتاني فاجتنبوني ، لا اوثر في أشعاركم وأبشاركم ... الخ ».

(٢) ذكر الطبري في تاريخه ج ٣ ص ٢٠٠ أن عمر قال ـ وهو على المنبر ـ : أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها ، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها الى أن قال : فلا يغرن امرؤ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها ... الخ.

(٣) الأحلاس : جمع حلس يقال : فلان حلس بيته : أي ملازم له تشبيها له بحلس البعير وهو : كساء رقيق يكون تحت البرذعة ، والمراد ليس من أهلها.

٣٨٤

قال قلت ولها عبد الله بن عمر فاستوى جالسا ثم قال يا ابن عباس ما الله أردت بهذا أولي رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته.

قال قلت ولها عثمان بن عفان قال والله لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين ويوشك أن يقتلوه قالها ثلاثا.

قال ثم سكت لما أعرف من مغايرته لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

فقال يا ابن عباس اذكر صاحبك قال قلت فولها عليا.

قال فو الله ما جزعي إلا لما أخذنا الحق من أربابه والله لئن وليته ليحملنهم على المحجة العظمى وإن يطيعوه يدخلهم الجنة فهو يقول هذا ثم صيرها شورى بين الستة فويل له من ربه.

قال أبو الهذيل فو الله بينما هو يكلمني إذ اختلط ـ وذهب عقله فأخبرت المأمون بقصته وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا فبعث إليه المأمون فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما صنع به فرد عليه ماله وضياعه وصيره نديما فكان المأمون يتشيع لذلك والحمد لله على كل حال.

وقد جاءت الآثار عن الأئمة الأبرار عليه‌السلام بفضل من نصب نفسه من علماء شيعتهم لمنع أهل البدعة والضلال عن التسلط على ضعفاء الشيعة ومساكينهم وقمعهم بحسب تمكنهم وطاقتهم فمن ذلك ما روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام أنه قال :

قال جعفر بن محمد عليه‌السلام : علماء شيعتنا مرابطون ـ في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم.

احتجاج أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليه‌السلام في أشياء شتى على المخالفين.

الحسن بن عبد الرحمن الحماني (١) قال : قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام إن هشام بن الحكم زعم أن الله تعالى جسم ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) عالم سميع بصير قادر متكلم ناطق والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد ليس شيء منها مخلوقا.

فقال قاتله الله ـ أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق وإنما تكون الأشياء بإرادته

__________________

(١) ذكره الأردبيلي في جامع الرواة ج ١ ص ٢٠٦ فقال : محمد بن إسماعيل عن علي بن العباس عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام في الكافي باب النهي عن الجسم والصورة.

٣٨٥

ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان

وعن يعقوب بن جعفر (١) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام أنه قال : لا أقول إنه قائم فأزيله عن مكان ولا أحده بمكان يكون فيه ولا أحده أن يتحرك في شيء من الأركان والجوارح ولا أحده بلفظ شق الفم ولكن كما قال عز وجل : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) بمشيئته من غير تردد في نفس صمدا فردا لم يحتج إلى شريك يدبر له ملكه ولا يفتح له أبواب علمه

وعن يعقوب بن جعفر الجعفري أيضا عن أبي إبراهيم موسى عليه‌السلام قال : ذكر عنده قوم زعموا أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال :

إن الله لا ينزل ولا يحتاج أن ينزل إنما منظره في القرب والبعد سواء لم يبعد منه بعيد ولا يقرب منه قريب ولم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه كل شيء وهو ذو الطول ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).

أما قول الواصفين إنه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة وكل متحرك يحتاج إلى من يحركه أو يتحرك به (٣) فمن ظن بالله الظنون فقد هلك فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرك زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ـ ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين

وعن الحسن بن راشد (٤) قال : سئل أبو الحسن موسى عليه‌السلام عن معنى قول الله تعالى : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (٥) فقال استولى على ما دق وجل

عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال : سأل رجل يقال له عبد الغفار السمي [ السلمي ] أبا إبراهيم موسى بن جعفر عليه‌السلام عن قول الله تعالى : ( ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) (٦) قال أرى هاهنا خروجا من حجب وتدليا إلى الأرض وأرى محمدا رأى ربه بقلبه ونسب إلى بصره فكيف هذا.

فقال أبو إبراهيم ( دَنا فَتَدَلَّى ) فإنه لم يزل عن موضع ولم يتدل ببدن.

فقال عبد الغفار أصفه بما وصف به نفسه حيث قال ( دَنا فَتَدَلَّى ) فلم يتدل عن مجلسه إلا وقد زال عنه ولو لا ذلك لم يصف بذلك نفسه.

__________________

(١) ذكره الأردبيلي في جامع الرواة ج ٢ ص ٣٤٦ ونقل عن الكافي والتهذيب عدة روايات عنه عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام وورد اسمه فيها مرة يعقوب بن جعفر ، واخرى يعقوب بن جعفر الجعفري وثالثة يعقوب بن جعفر بن إبراهيم الجعفري.

(٢) راجع موضوع نفي الحركة عنه تعالى في هامش الجزء الأول من هذا الكتاب.

(٣) لا بد لكل حركة من أن تستلزم أربعة امور : المحرك ، والمتحرك ، وما منه الحركة ، وما إليه الحركة وقد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب تفصيل الحديث في نفي الحركة عنه تعالى والاستدلال على بطلان نسبتها إليه وتنزهه عنها فراجع.

(٤) عده الشيخ في رجاله ص ٢٦٧ من أصحاب الصادق عليه‌السلام فقال الحسن بن راشد مولى بني العباس كوفي ، وفي أصحاب الكاظم (عليه‌السلام) ص ٣٤٦ ذكره أيضا باسم الحسين بن راشد وقال : بغدادي.

(٥) طه ـ ٥.

(٦) النجم ـ ٩.

٣٨٦

فقال أبو إبراهيم عليه‌السلام إن هذه لغة في قريش إذا أراد رجل منهم أن يقول قد سمعت يقول قد تدليت وإنما التدلي الفهم

وعن داود بن قبيصة (١) قال سمعت الرضا عليه‌السلام يقول سئل أبي عليه‌السلام هل منع الله عما أمر به وهل نهى عما أراد وهل أعان على ما لم يرد؟

فقال عليه‌السلام أما ما سألت هل منع الله عما أمر به فلا يجوز ذلك ولو جاز ذلك لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم ولو منع إبليس لعذره ولم يلعنه.

وأما ما سألت هل نهى عما أراد فلا يجوز ذلك ولو جاز ذلك لكان حيث نهى آدم عن أكل الشجرة أراد منه أكلها ولو أراد منه أكلها لما نادى عليه صبيان الكتاتيب ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) والله تعالى لا يجوز عليه أن يأمر بشيء ويريد غيره.

وأما ما سألت عنه من قولك هل أعان على ما لم يرد ولا يجوز ذلك وجل الله تعالى عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكذيبهم ـ وقتل الحسين بن علي عليه‌السلام والفضلاء من ولده وكيف يعين على ما لم يرد وقد أعد جهنم لمخالفيه ولعنهم على تكذيبهم لطاعته وارتكابهم لمخالفته ولو جاز أن يعين على ما لم يرد لكان أعان فرعون على كفره وادعائه أنه رب العالمين أفترى أراد الله من فرعون أن يدعي الربوبية يستتاب قائل هذا القول فإن تاب من كذبه على الله وإلا ضربت عنقه

وروي عن الحسن بن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام أن أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال :

إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون فأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه وما جبر الله أحدا من خلقه على معصيته بل اختبرهم بالبلوى وكما قال ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٢)

قوله ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه أي بتخليته وعلمه

وروي : أنه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم فقال له :

يا أبا حنيفة إن هاهنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد فاذهب بنا إليه نقتبس منه علما فلما أتيا إذا هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث فقام الناس هيبة له فالتفت أبو حنيفة فقال :

__________________

(١) ذكره العلامة في القسم الثاني من خلاصته ص ٢٢١ باسم « دارم » فقال : بالراء بعد الألف ابن « قبيصة » بفتح القاف وكسر الباء المنقطة تحتها نقطة وبعدها ياء ساكنة وصاد مهملة ابن نهشل أبو الحسن السائح يروي عن الرضا عليه‌السلام قال ابن الغضائري لا يؤنس بحديثه ولا يوثق به.

(٢) هود ـ ٧.

٣٨٧

يا ابن مسلم من هذا؟

قال موسى ابنه.

قال والله أخجله بين يدي شيعته قال له لن تقدر على ذلك.

قال والله لأفعلنه ثم التفت إلى موسى فقال يا غلام أين يضع الغريب في بلدتكم هذه؟

قال يتوارى خلف الجدار ويتوقى أعين الجار وشطوط الأنهار ومسقط الثمار ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها فحينئذ يضع حيث شاء.

ثم قال يا غلام ممن المعصية؟ قال يا شيخ لا تخلو من ثلاث :

إما أن تكون من الله وليس من العبد شيء فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله.

وإما أن تكون من العبد ومن الله والله أقوى الشريكين فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه.

وإما أن تكون من العبد وليس من الله شيء فإن شاء عفا وإن شاء عاقب.

قال فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنما ألقم فوه الحجر.

قال فقلت له ألم أقل لك لا تتعرض لأولاد رسول الله وفي ذلك يقول الشاعر

لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها

إحدى ثلاث معان حين نأتيها

إما تفرد بارينا بصنعتها

فيسقط اللوم عنا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه

ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لإلهي في جنايتها

ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها

روي عن علي بن يقطين (١) أنه قال : أمر أبو جعفر الدوانيقي يقطين [ يقطينا ] أن يحفر له بئرا بقصر

__________________

(١) قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص ٩١ علي بن يقطين بن موسى البغدادي ، سكن بغداد وهو كول الأصل روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام حديثا واحدا ، وروى عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام فأكثر ، وكان ثقة جليل القدر له منزلة عظيمة عند أبي الحسن عليه‌السلام عظيم المكان في هذه الطائفة روي أنه عليه‌السلام ضمن له الجنة وأن لا تمسه النار أبدا وكان وزيرا لهارون فاستأذن الإمام عليه‌السلام بترك العمل معه فلم يأذن له ، وقال له : عسى أن يجبر الله بك كسرا ، ويكسر بك نائرة المخالفين من أوليائه ، يا علي كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم وروي أنه لما قدم أبو إبراهيم موسى بن جعفر عليهما‌السلام العراق ، قال علي ابن يقطين : أما ترى حالي وما أنا فيه؟ فقال عليه‌السلام يا علي إن الله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي وروي أنه قال أبو الحسن (عليه‌السلام) لعلي بن يقطين : اضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثا فقال علي : جعلت فداك وما الخصلة التي أضمنها لك؟ وما الثلاث اللواتي تضمنهن لي؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام. الثلاث اللواتي اضمنهن لك أن لا يصيبك حر الحديد أبدا ، بقتل ، ولا فاقة ، ولا سجن حبس فقال علي : فما الخصلة التي أضمنها لك؟ فقال يا علي وأما الخصلة التي تضمن لي أن لا يأتيك ولي أبدا الا أكرمته ، فضمن له علي الخصلة وضمن له أبو الحسن الثلاث وروي أنه (عليه‌السلام) قال : إني استوهبت علي بن يقطين من ربي عز

٣٨٨

العبادي فلم يزل يقطين في حفرها حتى مات أبو جعفر ولم يستنبط منها الماء وأخبر المهدي بذلك فقال له احفر أبدا حتى يستنبط الماء ولو أنفقت عليها جميع ما في بيت المال.

قال فوجه يقطين أخاه أبا موسى في حفرها فلم يزل يحفر حتى ثقبوا ثقبا في أسفل الأرض فخرجت منه الريح قال فهالهم ذلك فأخبروا به أبا موسى.

فقال أنزلوني قال فأنزل وكان رأس البئر أربعين ذراعا في أربعين ذراعا فأجلس في شق محمل ودلي في البئر فلما صار في قعرها نظر إلى هول وسمع دوي الريح في أسفل ذلك فأمرهم أن يوسعوا الخرق فجعلوه شبه الباب العظيم ثم دلى فيه رجلا في شق محمل فقال ايتوني بخبر هذا ما هو.

قال فنزلا في شق محمل فمكثا مليا ثم حركا الحبل فأصعدا فقال لهما :

ما رأيتما؟

قالا أمرا عظيما رجالا ونساء وبيوتا وآنية ومتاعا كله ممسوخ من حجارة فأما الرجال والنساء فعليهم ثيابهم فمن بين قاعد ومضطجع ومتكئ فلما مسسناهم إذا ثيابهم تتفشى شبه الهباء ومنازل قائمة قال فكتب بذلك أبو موسى إلى المهدي فكتب المهدي إلى المدينة إلى موسى بن جعفر يسأله أن يقدم عليه فقدم عليه فأخبره فبكى بكاء شديدا وقال يا أمير المؤمنين هؤلاء بقية قوم عاد غضب الله عليهم فساخت بهم منازلهم هؤلاء أصحاب الأحقاف.

قال فقال له المهدي يا أبا الحسن وما الأحقاف؟ قال الرمل.

وحدث أبو أحمد هانئ بن محمد العبدي (١) قال : حدثني أبو محمد رفعه إلى موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فرد علي السلام ثم قال يا موسى بن جعفر خليفتان يجيء إليهما الخراج؟

فقلت يا أمير المؤمنين أعيذك بالله ( أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) فتقبل الباطل من أعدائنا علينا فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أما علم ذلك عندك؟ فإن رأيت بقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال قد أذنت لك ـ

__________________

ـ وجل البارحة فوهبه لي إن علي بن يقطين بذل ماله ومودته فكان لذلك منا مستوجبا.

راجع رجال الكشي ص ٣٦٧ والجزء الثاني من سفينة البحار ص ٢٥٢.

(١) في رجال المامقاني ج ٣ ص ٢٩٠ نقل الوحيد رواية الصدوق عنه مترضيا عليه وهو دليل على وثاقته.

٣٨٩

فقلت أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال إن الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت فناولني يدك جعلني الله فداك.

قال ادن مني فدنوت منه فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا ثم تركني ـ وقال اجلس يا موسى فليس عليك بأس فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه فرجعت إلي نفسي فقال صدقت وصدق جدك صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت علي الرقة وفاضت عيناي وأنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم أسأل عنها أحدا فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك وقد بلغني أنك لم تكذب قط فاصدقني فيما أسألك ما في قلبي.

فقلت ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن أنت آمنتني.

قال لك الأمان إن صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها معاشر بني فاطمة فقلت ليسأل أمير المؤمنين عما يشاء.

قال أخبرني لم فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد إنا بنو عباس وأنتم ولد أبي طالب وهما عما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرابتهما منه سواء؟

فقلت نحن أقرب قال وكيف ذاك؟

قلت لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله ولا من أم أبي طالب.

قال فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والعم يحجب ابن العم وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمه حي؟ فقلت له إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة ويسألني عن كل باب سواه يريده فقال لا أو تجيب.

فقلت فآمني قال آمنتك قبل الكلام.

فقلت إن في قول علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين والزوج والزوجة ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة إلا أن تيما وعديا وبني أمية قالوا العم والد رأيا منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي وقد حكم به وقد ولاه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة وقضى به فأنهي إلى أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله ـ منهم سفيان الثوري وإبراهيم المازني والفضيل بن

٣٩٠

عياض فشهدوا أنه قول علي عليه‌السلام في هذه المسألة فقال لهم فيما بلغني بعض العلماء من أهل الحجاز لم لا تفتون وقد قضى نوح بن دراج؟

فقالوا جسر وجبنا وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال أقضاكم علي وكذلك عمر بن الخطاب قال علي أقضانا وهو اسم جامع لأن جميع ما مدح به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء.

قال زدني يا موسى قلت المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك فقال لا بأس به.

فقلت إن النبي لم يورث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر فقال ما حجتك فيه؟

قلت قول الله تبارك وتعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) (١) وإن عمي العباس لم يهاجر.

فقال لي إني أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشيء؟ فقلت اللهم لا وما سألني عنها إلا أمير المؤمنين.

ثم قال لي جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولوا لكم يا بني رسول الله وأنتم بنو علي وإنما ينسب المرء إلى أبيه وفاطمة إنما هي وعاء والنبي جدكم من قبل أمكم؟

فقلت يا أمير المؤمنين لو أن النبي نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ قال سبحان الله ولم لا أجيبه؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

فقلت له لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه فقال ولم؟ فقلت لأنه ولدني ولم يلدك.

فقال أحسنت يا موسى ثم قال كيف قلتم إنا ذرية النبي والنبي لم يعقب وإنما العقب الذكر لا الأنثى وأنتم ولد الابنة ولا يكون ولدها عقبا له؟ فقلت أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا أعفيتني عن هذه المسألة.

فقال لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أنهي إلي ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلا تأويله عندكم واحتججتم بقوله عز وجل ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٢) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت تأذن لي في الجواب؟ قال هات.

فقلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ

__________________

(١) الأنفال ـ ٧٢.

(٢) الأنعام ـ ٣٨.

٣٩١

وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (١) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال ليس لعيسى أب.

فقلت إنما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم‌السلام من طريق مريم عليها‌السلام وكذلك ألحقنا بذراري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل أمنا فاطمة أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال هات.

قلت قول الله عز وجل : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (٢) ولم يدع أحد أنه أدخله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب عليه‌السلام وفاطمة والحسن والحسين ( أَبْناءَنا ) الحسن والحسين ( وَنِساءَنا ) فاطمة ( وَأَنْفُسَنا ) علي بن أبي طالب عليه‌السلام على أن العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد يا محمد إن هذه لهي المواساة من علي قال لأنه مني وأنا منه.

فقال جبرئيل وأنا منكما يا رسول الله (٣) ثم قال لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي فكان كما مدح الله عز وجل به خليله عليه‌السلام إذ يقول ( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) (٤) إنا نفتخر بقول جبرئيل إنه منا فقال أحسنت يا موسى ارفع إلينا حوائجك.

فقلت له إن أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده وإلى عياله فقال ننظر إن شاء الله

وروي أن المأمون قال لقومه أتدرون من علمني التشيع؟ فقال القوم لا والله ما نعلم ذلك.

قال علمنيه الرشيد قيل له وكيف ذلك والرشيد يقتل أهل البيت؟

قال كان الرشيد يقتلهم على الملك لأن الملك عقيم ثم قال إنه دخل موسى بن جعفر عليه‌السلام على الرشيد يوما فقام إليه واستقبله وأجلسه في الصدر وقعد بين يديه وجرى بينهما أشياء ثم قال موسى بن جعفر عليه‌السلام لأبي يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد فرض على ولاة عهده أن ينعشوا فقراء هذه الأمة ويقضوا عن الغارمين ويؤدوا عن المثقل ويكسوا العاري ويحسنوا إلى العاني وأنت أولى من يفعل ذلك فقال أفعل يا أبا الحسن.

ثم قام فقام الرشيد لقيامه وقبل بين عينيه ووجهه ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن فقال يا عبد الله ويا محمد ويا إبراهيم امشوا بين يدي ابن عمكم وسيدكم خذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله فأقبل إلي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة وقال لي إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي.

__________________

(١) الأنعام ـ ٨٤ و ٨٥

(٢) آل عمران / ٦١.

(٣) راجع هامش الجزء الأول للوقوف على تمام الخبر فيه.

(٤) الأنبياء / ٦٠.

٣٩٢

ثم انصرفنا وكنت أجرأ ولد أبي عليه فلما خلا المجلس قلت :

يا أمير المؤمنين ومن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟ قال هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده.

فقلت يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر وموسى بن جعفر إمام حق والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعا وو الله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك لأن الملك عقيم.

فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار ثم أقبل على الفضل فقال له اذهب إلى موسى بن جعفر ـ وقل له يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت.

فقمت في وجهه فقلت يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار إلى ما دونها؟ وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار وأخس عطية أعطيتها أحدا من الناس؟

فقال اسكت لا أم لك فإني لو أعطيته هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وإغنائهم

وقيل ولما دخل هارون الرشيد المدينة توجه لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه الناس فقدم إلى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابن العم مفتخرا بذلك على غيره.

فتقدم أبو الحسن موسى بن جعفر إلى القبر فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبه فتغير وجه الرشيد وتبين الغيظ فيه.

وروي عن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام أنه قال : لما سمعت هذا البيت وهو لمروان بن أبي حفصة :

أنى يكون ولا يكون ولم يكن

لبني البنات وراثة الأعمام

دار في ذلك ليلتي فنمت تلك الليلة فسمعت هاتفا في منامي يقول :

أنى يكون ولا يكون ولم يكن

للمشركين دعائم الإسلام

لبني البنات نصيبهم من جدهم

والعم متروك بغير سهام

ما للطليق وللتراث وإنما

سجد الطليق مخافة الصمصام (١)

__________________

(١) يريد بالطليق : العباس بن عبد المطلب عم الرسول ، حيث اسر يوم بدر أسره أبو يسر كعب بن عمرو الأنصاري ، وكان رجلا صغير الجثة ،. وكان العباس رجلا عظيما قويا ، فقال النبي « عليه‌السلام » لأبي اليسر كيف أسرته؟ قال : أعانني رجل ما رأيته قبل ذلك ولا

٣٩٣

وبقي ابن نثلة واقفا متلددا

فيه ويمنعه ذوو الأرحام

إن ابن فاطمة المنوه باسمه

حاز التراث سوى بني الأعمام

وسأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى عليه‌السلام بمحضر من الرشيد وهم بمكة فقال له أيجوز للمحرم أن يظلل عليه محمله؟ فقال له موسى عليه‌السلام لا يجوز له ذلك مع الاختيار.

فقال له محمد بن الحسن أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا؟ فقال له نعم.

فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك فقال له أبو الحسن موسى عليه‌السلام أتعجب من سنة النبي وتستهزئ بها؟ إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كشف ظلاله في إحرامه ومشى تحت الظلال وهو محرم إن أحكام الله تعالى يا محمد لا تقاس فمن قاس بعضها على بعض فقد ضل عن السبيل فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا.

وقد جرى لأبي يوسف مع أبي الحسن موسى صلوات الله عليه بمحضر المهدي ما يقرب من ذلك وهو أن موسى عليه‌السلام سأل أبا يوسف عن مسألة ليس فيها عنده شيء فقال لأبي الحسن موسى عليه‌السلام إني أريد أن أسألك عن شيء قال هات.

فقال ما تقول في التظليل للمحرم؟ قال لا يصلح.

قال فيضرب الخباء في الأرض فيدخل فيه؟ قال نعم.

قال فما فرق بين هذا وذلك؟

قال أبو الحسن موسى عليه‌السلام ما تقول في الطامث تقضي الصلاة؟ قال لا قال تقضي الصوم؟ قال نعم قال ولم؟ قال إن هذا كذا جاء.

قال أبو الحسن عليه‌السلام وكذلك هذا قال المهدي لأبي يوسف ما أراك صنعت شيئا قال يا أمير المؤمنين رماني بحجة.

وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام قال : قال رجل من خواص الشيعة لموسى بن جعفر عليه‌السلام وهو يرتعد بعد ما خلا به :

يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره اعتقاد وصيتك

__________________

بعده فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد أعانك عليه ملك كريم.

ولما أمسى القوم والأسارى محبوسون في الوثاق وفيهم العباس ، بات رسول الله « صلى‌الله‌عليه‌وآله » تلك الليلة ساهرا. فقال له بعض أصحابه : ما يسهرك يا رسول الله « صلى‌الله‌عليه‌وآله »؟

قال : سمعت أنين العباس فقام رجل من القوم فأرخى من وثاقه شيئا ، فقال رسول الله « صلى‌الله‌عليه‌وآله » ما بالي لا أسمع أنين العباس؟ فقال رجل من القوم : أرخيت من وثاقه شيئا قال : افعل ذلك بالاسارى كلهم راجع تاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٨٨ والدرجات الرفيعة للسيد علي خان المدني ص ٨٠.

٣٩٤

وإمامتك فقال موسى عليه‌السلام وكيف ذاك؟

قال لأني حضرت معه اليوم في مجلس فلان وكان معه رجل من كبار أهل بغداد فقال له صاحب المجلس أنت تزعم أن صاحبك موسى بن جعفر إمام دون هذا الخليفة القاعد على سريره؟

قال له صاحبك هذا ما أقول هذا بل أزعم أن موسى بن جعفر غير إمام وإن لم أكن أعتقد أنه غير إمام فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

فقال له صاحب المجلس جزاك الله خيرا ولعن من وشى بك إلي.

فقال له موسى بن جعفر عليه‌السلام ليس كما ظننت ولكن صاحبك أفقه منك إنما قال موسى غير إمام أي إن الذي هو غير إمام فموسى غيره فهو إذا إمام فإنما أثبت بقوله هذا إمامتي ونفى إمامة غيري (١) يا عبد الله متى يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك هذا من النفاق تب إلى الله ففهم الرجل ما قاله واغتم ثم قال :

يا ابن رسول الله ما لي مال فأرضيه به ولكن قد وهبت له شطر عملي كله من تعبدي وصلاتي عليكم أهل البيت ومن لعنتي لأعدائكم.

قال موسى عليه‌السلام الآن خرجت من النار.

وروي أيضا عنه عليه‌السلام أنه قال :

فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعلم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته ولذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد وألف ألف عابد

وروي : أنه عليه‌السلام كان حسن الصوت وحسن القراءة وقال يوما من الأيام إن علي بن الحسين عليه‌السلام كان يقرأ القرآن فربما مر به المار فصعق من حسن صوته وإن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس.

قيل له :

ألم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال إن رسول الله كان يحمل من خلفه ما يطيقون.

__________________

(١) توضيح ذلك : إنه أراد : أنا أزعم : أن إمامك هذا القاعد على سريره هو مدع للإمامة بالباطل فهو إمام ضلال ، وموسى بن جعفر عليه‌السلام هو إمام من غير هذا النوع من الأئمة ، هو غير هذا المدعي بالباطل ، أنا أقول إن موسى بن جعفر حقيقة إمام من أئمة الهدى فهو غير وهذا غير.

٣٩٥

احتجاج أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في التوحيد والعدل وغيرهما على المخالف والمؤالف والأجانب والأقارب.

دخل عليه رجل فقال له يا ابن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم؟

فقال إنك لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكون نفسك ولا كونك من مثلك

وعن محمد بن عبد الله الخراساني (١) خادم الرضا عليه‌السلام قال دخل رجل من الزنادقة على الرضا وعنده جماعة.

فقال له أبو الحسن أرأيت إن كان القول قولكم وليس هو كما تقولون ألسنا وإياكم شرعا سواء ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟

فسكت فقال أبو الحسن وإن يكن القول قولنا وهو كما نقول ألستم قد هلكتم ونجونا؟

قال الزنديق رحمك الله فأجدني كيف هو وأين هو؟

قال ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط وهو أين الأين وكان ولا أين وهو كيف الكيف وكان ولا كيف ولا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء.

قال الرجل فإذن إنه لا شيء إذ لم يدرك بحاسة من الحواس.

فقال أبو الحسن ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا وأنه شيء بخلاف الأشياء.

قال الرجل فأخبرني متى كان؟

قال أبو الحسن عليه‌السلام أخبرني متى لم يكن؟ فأخبرك متى كان؟!

قال الرجل فما الدليل عليه؟

قال أبو الحسن إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا.

قال الرجل فلم لا تدركه حاسة البصر؟

قال للفرق بينه وبين خلقه الذي تدركه حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ثم هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.

__________________

(١) محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا عليه‌السلام : مجهول الحال لم يذكر في كتب الرجال.

٣٩٦

قال فحده لي قال لا حد له قال ولم؟

قال لأن كل محدود متناه وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزئ ولا متوهم.

قال الرجل فأخبرني عن قولكم إنه لطيف وسميع وبصير وعليم وحكيم أيكون السميع إلا بالأذن والبصير إلا بالعين واللطيف إلا بعمل اليدين والحكيم إلا بالصنعة؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام إن اللطيف منا على حد اتخاذ الصنعة أوما رأيت أن الرجل اتخذ شيئا فيلطف في اتخاذه فيقال ما ألطف فلانا؟ فكيف لا يقال للخالق الجليل لطيف إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا وركب في الحيوان منه أرواحها وخلق كل جنس مباينا من جنسه في الصورة ولا يشبه بعضه بعضا فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته.

ثم نظر إلى الأشجار وحملها أطيابها المأكولة منها وغير المأكولة ـ فقلنا عند ذلك إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم وقلنا إنه سميع لأنه لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى ما أكبر منها في برها وبحرها ولا يشتبه عليه لغاتها فقلنا عند ذلك إنه سميع لا بأذن وقلنا إنه بصير لا ببصر لأنه يرى أثر الذرة السحماء (١) في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية ويرى مضارها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها فقلنا عند ذلك إنه بصير لا كبصر خلقه قال فما برح حتى أسلم وفيه كلام غير هذا.

وروي عنه عليه‌السلام في خبر آخر أنه قال :

إنما يسمى الله تعالى بالعالم لغير علم حادث علم به الأشياء واستعان به على حفظ ما يستقبل من أمره والرؤية فيما يخلق وإنما سمي العالم من الخلق عالما لعلم حادث إذ كان قبله جاهلا وربما فارقهم العلم بالأشياء فصار إلى الجهل وإنما سمي الله عالما لأنه لا يجهل شيئا فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم واختلف المعنى وهو الله تعالى قائم.

وأما القائم فليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء ولكنه أخبر أنه قائم يخبر أنه حافظ كقولك فلان القائم بأمرنا وهو عز وجل القائم عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ والقائم أيضا في كلام الناس الباقي والقائم أيضا الكافي كقولك للرجل قم بأمر كذا أي اكفه والقائم منا قائم على ساق فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى.

وأما الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته وليس بالتجربة والاعتبار بالأشياء فتفيده التجربة والاعتبار علما لولاهما لما علم لأن من كان كذلك كان جاهلا والله تعالى لم يزل خبيرا بما يخلق والخبير من الناس المستجير فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

__________________

(١) السحماء : مؤنث الأسحم وهو الأسود.

٣٩٧

وأما الظاهر فليس من أنه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنم لذراها ولكن ذلك لقهره وغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل ظهرت على أعدائي ـ وأظهرني الله على خصمي إذا أخبر على الفلج والظفر فهكذا ظهور الله على الأشياء.

ووجه آخر أنه الظاهر لمن أراده لا يخفى عليه لمكان الدليل والبرهان على وجوده في كل ما دبره وصنعه مما يرى فأي ظاهر أظهر وأوضح أمرا من الله تبارك وتعالى فإنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت وفيك من آثاره ما يغنيك والظاهر منا البارز بنفسه المعلوم بحده فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى.

وأما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا كقول القائل بطنته بمعنى خبرته وعلمت مكنون سره والباطن منا الغائر في الشيء المستقر فيه فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

قال وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نسمها كلها.

وكان المأمون لما أراد أن يستخلف الرضا جمع بني هاشم فقال إني أريد أن أستعمل الرضا عليه‌السلام على هذا الأمر من بعدي.

فحسده بنو هاشم وقالوا أتولي رجلا جاهلا ليس له بصر بتدبير الخلافة فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به!

فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم يا أبا الحسن اصعد المنبر وانصب لنا علما نعبد الله عليه فصعد المنبر فقعد مليا لا يتكلم مطرقا ثم انتفض انتفاضة فاستوى قائما وحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيه وأهل بيته ثم قال :

أول عبادة الله معرفته وأصل معرفة الله توحيده ونظام توحيده نفي الصفات عنه (١) بشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ليس بصفة ولا موصوف وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران وشهادة الاقتران بالحدث وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث (٢) فليس الله عرف من عرف ذاته بالتشبيه ولا إياه وحد من اكتنهه ولا حقيقته أصاب

__________________

(١) « اول عبادة الله » أي : أشرفها وأقدمها رتبة « معرفته » تعالى لأن الطاعة والعبادة تأتي بعد المعرفة فهي متأخرة رتبة عنها ولا تقبل عبادة بدون المعرفة فهي دونها في الشرف أيضا « وأصل معرفة الله توحيده » أي تنزيهه عن التركيب والشركة « ونظام التوحيد » أي تمامه وكماله « نفي الصفات الزائدة عنه » فلا يتم التوحيد الا بالقول بأن صفاته تعالى عين ذاته.

(٢) ثم إنه عليه‌السلام شرع بإقامة الدليل على نفي الصفات الزائدة على الذات ـ فقال : ( لشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق ) وذلك : أن الصفة لا قوام لها إلا بالموصوف فهي محتاجة إليه لا تنفك عنه. وبها كمال الموصوف فهو محتاج إليها. والحاجة دليل الإمكان ( وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ) غنيا بذاته ( ليس بصفة ) حتى يفتقر إلى الموصوف ليقوم به ذاته ( ولا موصوف ) حتى يحتاج إلى الصفة لكي يكمل بها ذاته ( وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران ) لما عرفت من حاجة بعضها إلى الآخر وشهادة الاقتران بالحدث إلخ توضيح ذلك : هو أن الصفة والموصوف إما أن يكونا قديمين. أو يكون أحدهما قديما والآخر حادثا. أو يكونا حادثين. ولا رابع لهذا الحصر الثلاثي.

٣٩٨

من مثله ولا به صدق من نهاه ولا صمد صمده من أشار إليه ولا إياه عنى من شبهه ولا له تذلل من بعضه ولا إياه أراد من توهمه (١) كل معروف بنفسه مصنوع وكل قائم في سواه معلول (٢) بصنع الله يستدل عليه وبالعقول يعتقد معرفته ـ وبالفطرة تثبت حجته (٣) خلقة الله الخلق حجاب بينه وبينهم (٤) ومفارقته إياهم مباينة بينه وبينهم وابتداؤه إياهم دليل على أن لا ابتداء له لعجز كل مبتدإ عن ابتداء غيره وأدوه إياهم دليل على أن لا أداة له لشهادة الأدوات بفاقة المؤدين.

فأسماؤه تعبير وأفعاله تفهيم وذاته حقيقة وكنهه تفريق بينه وبين خلقه وغيره تحديد لما سواه فقد جهل الله من استوصفه وقد تعداه من استمثله وقد أخطأه من اكتنهه (٥) ومن قال كيف؟ فقد شبهه ومن قال لم؟ فقد علله ـ ومن قال متى؟ فقد وقته ومن قال فيم؟ فقد ضمنه ومن قال إلام؟ فقد نهاه ومن قال حتام؟ فقد غياه ومن غياه فقد غاياه ومن غاياه فقد جزأه ومن جزأه فقد وصفه ومن وصفه فقد ألحد فيه ولا يتغير الله بتغير المخلوق كما لا يتحدد بتحديد المحدود.

أحد لا بتأويل عدد ظاهر لا بتأويل المباشرة متجل لا باستهلال رؤية باطن لا بمزايلة مباين لا بمسافة قريب لا بمداناة لطيف لا بتجسم موجود لا بعد عدم فاعل لا باضطرار مقدر لا بجول فكرة مدبر لا بحركة مريد لا بهمامة شاء لا بهمة مدرك لا بمجسة سميع لا بآلة بصير لا بأداة لا تصحبه الأوقات ولا تضمنه الأماكن ولا تأخذه السنات ولا تحده الصفات ولا تقيده الأدوات

سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والابتداء أزله بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، (٦)

__________________

والأول باطل لما يلزم منه القول بتعدد القدماء وقد ثبت بطلانه.

والثاني يبطله الاقتران والحاجة والافتقار لما ألمحنا إليه آنفا وحينئذ يثبت القول الثالث وهو المطلوب.

(١) ( فليس الله ) الواجب الوجود الواحد الأحد ( عرف من عرف بالتشبيه ذاته ) بل عرف ممكنا من مخلوقاته ( ولا إياه وحد من اكتنهه ) أي جعل له كنها ( ولا حقيقته أصاب من مثله ) أي جعل له مثالا وصورة سواء كانت ذهنية أو خارجية ( ولا به صدق من نهاه ) أي جعل له حدا ونهاية ( ولا صمد صمده ) أي قصد نحوه ( من أشار إليه ) سواء بالاشارة الحسية أو الذهنية ( ولا إياه عني من شبهه ) وإنما عنى ممكنا من الممكنات ، ومخلوقا من جملة المخلوقات ( ولا تذلل ) أي تعبد ( من بعضه ) أي جعل له أبعاضا وجزأه فهو إنما عبد جسما مخلوقا مركبا له أجزاء وأبعاض ( ولا إياه أراد من توهمه ) أي : تصور له صورة ذهنية.

(٢) ( كل معروف بنفسه ) أي : بكنه حقيقته ( مصنوع ) لما يلزمه من التركيب ( وكل قائم في سواه ) لا يكون علة لاحتياجه إلى الغير فهو ( معلول ).

(٣) ( بصنع الله ) وحكيم تدبيره ( يستدل عليه ) ( وبالعقول تعتقد معرفته ـ وبالفطرة ) التي هي بمعنى الابتداع أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ( تثبت حجته ) ولعل في قوله عليه‌السلام بالفطرة إشارة إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » فالعقول لو تركت على فطرتها وأصل خلقتها لآمنت به تعالى.

(٤) ( خلقة الله الخلق حجاب ) حاجز ( بينه ) في كماله وغناه ووجوبه الذاتي ( وبينهم ) في حاجتهم إليه ونقصهم وإمكانهم الذاتي ( ومفارقته إياهم ) في الصفات دليل على ( مباينة بينه وبينهم ) في الذات ، وفي بعض النسخ ( ومباينته إياهم مفارقته أينيتهم ) أي : أن مفارقته الأينية التي هي من لوازم الأجسام دلت على مباينته إياهم في الذات أو أن مباينته إياهم في الذات دلت على مفارقته لهم فيما اختصوا به من الأينية فلا يقال له : ( أين هو ) لأن ذاته تباين ذواتهم فلا يلازمها ما يلزم الممكنات.

(٥) مر مثل هذه الفقرات للامام أمير المؤمنين عليه‌السلام في الجزء الأول من هذا الكتاب ص ٢٩٤ فليراجع.

(٦) أراد عليه‌السلام بتشعيره المشاعر جعلها تشعر وتنفعل ، ولما كانت الانفعالات تحدث وتزول فقد دلت على تنزه خالقها

٣٩٩

وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له (١) وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له.

ضاد النور بالظلمة والجلاية بالبهمة والجسو بالبلل والصرد بالحرور (٢) مؤلف بين متعادياتها مفرق بين متدانياتها دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها ذلك قوله عز وجل : ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد.

شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيره له معنى الربوبية إذ لا مربوب وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ومعنى العالم ولا معلوم ومعنى الخالق ولا مخلوق وتأويل السمع ولا مسموع.

ليس منذ خلق استحق معنى اسم الخالق ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية كيف ولا يغيبه مذ ولا تدنيه قد ـ ولا يحجبه لعل ولا يوقته متى ولا يشتمله حين ولا يقارنه مع إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلة إلى نظائرها وفي الأشياء توجد فعالها.

منعتها منذ القدمة وحمتها قد الأزلية وجنبتها لولا التكملة.

افترقت فدلت على مفرقها وتباينت فأعزت على مباينها بها تجلى صانعها للعقول وبها احتجب عن الرؤية وإليها تحاكم الأوهام وفيها أثبت غيره ومنها أنبط الدليل وبها عرف الإقرار وبالعقول يعتقد التصديق بالله وبالإقرار يكمل الإيمان به.

لا ديانة إلا بعد معرفته ولا معرفة إلا بالإخلاص ولا إخلاص مع التشبيه ولا نفي مع إثبات الصفة للتثنية وكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه وكل ما يمكن فيه يمتنع في صانعه.

ولا يجري عليه الحركة ولا السكون وكيف يجري عليه ما هو أجراه أو يعود فيه ما هو ابتدأه إذا لتفاوتت ذاته ولتجزى كنهه ولامتنع من الأزل معناه ولما كان للباري معنى غير المبروء ولو وجد له وراء وجد له أمام ولا التمس التمام إذ لزمه النقصان وكيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث أم كيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء إذا لقامت عليه آية المصنوع ولتحول دليلا بعد ما كان مدلولا عليه ليس في محال القول حجة ولا في المسألة عنه جواب ولا في معناه لله تعظيم ولا في إبانته عن الحق ضيم إلا بامتناع الأزلي أن يثنى وما لا بديء له أن يبدئ لا إله إلا الله العلي العظيم كذب العادلون بالله وضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً وخسروا خُسْراناً مُبِيناً وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

__________________

(١) جوهر الشيء حقيقته وطبيعته ، والمعنى : بخلقه عناصر الأشياء وموادها وطبائعها المتصفة بما يدل على حدوثها ظهر أن لا طبيعة له او مادة فيكون حادثا مثلها محتاجا إلى محدث.

(٢) الجسو : اليبس ، والصرد : البرد ، والحرور : الريح الحارة.

٤٠٠