الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم تنظروا أمع هواه يكون على عقله أم يكون مع عقله على هواه وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من ( خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ) يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة حتى ( إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ ) فهو يخبط خبط عشواء يوقده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه فهو يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من أجلها فأولئك الذين ( غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ) و ( أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ).

ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله وقواه مبذولة في رضى الله يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ [ تنفد ] وأن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا يخيب له طلبة

احتجاج أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام في شيء مما يتعلق بالأصول والفروع

عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ) قال من لم يدله خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك بالشمس والقمر والآيات العجيبات على أن وراء ذلك أمر هو أعظم منه فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى قال فهو عالم يعاين أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً.

سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر عليه‌السلام قال أخبرني عن الله عز وجل متى كان؟

قال متى لم يكن حتى أخبرك متى كان سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحِبَةً وَلا وَلَداً.

عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال : حضرت أبا جعفر عليه‌السلام وقد دخل عليه رجل من الخوارج فقال له يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟

قال الله.

قال رأيته؟

قال بلى لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان لا يعرف

٣٢١

بالقياس ولا يدرك بالحواس موصوف بالآيات معروف بالدلالات لا يجور في حكمه ذلك الله لا إله إلا هو.

قال فخرج الرجل وهو يقول : اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ.

وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : في صفة القديم إنه واحد صمد أحدي المعنى ليس بمعان كثيرة مختلفة.

قال قلت جعلت فداك إنه يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي يبصر ويبصر بغير الذي يسمع.

قال فقال كذبوا وألحدوا وشبهوا الله تعالى إنه سميع بصير يسمع بما به يبصر ويبصر بما به يسمع.

قال فقلت يزعمون أنه بصير على ما يعقله.

قال فقال تعالى الله إنما يعقل من كان بصفة المخلوق وليس الله كذلك.

وروى بعض أصحابنا أن عمرو بن عبيد دخل على الباقر عليه‌السلام فقال له جعلت فداك قول الله ( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) ما ذلك الغضب؟

قال العذاب يا عمرو وإنما يغضب المخلوق الذي يأتيه الشيء فيستفزه ويغيره عن الحال التي هو بها إلى غيرها فمن زعم أن الله يغيره الغضب والرضا ويزول عن هذا فقد وصفه بصفة المخلوق.

وعن أبي الجارود (١) قال قال أبو جعفر عليه‌السلام إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله ثم قال في بعض حديثه إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال.

فقيل له يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله عز وجل؟

قال قوله : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) وقال : ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ).

__________________

(١) أبو الجارود : في ج ١ ص ٣١ من الكنى والألقاب للشيخ القمي « زياد بن المنذر قال شيخنا صاحب المستدرك في ترجمته في الخاتمة : وأما أبو الجارود فالكلام فيه طويل ، والذي يقتضيه النظر بعد التأمل فيما ورد فيما قالوا فيه ، أنه كان ثقة في النقل مقبول الرواية ، معتمدا في الحديث ، إماميا في أوله وزيديا في آخره ، ثم أطال الكلام في حاله إلى أن قال : وفي تقريب ابن حجر : « زياد بن المنذر أبو الجارود الأعمى الكوفي رافضي كذبه يحيى بن معين من السابعة ، مات بعد الخمسين أي : بعد المائة و ( قال : ) وعن دعوات الراوندي عن أبي الجارود قال : قلت لأبي جعفر « عليه‌السلام » : إني امرؤ ضرير البصر كبير السن ، والشقة فيما بيني وبينكم بعيدة ، وأنا أريد أمرا أدين الله به ، وأحتج به وأتمسك به ، وابلغه من خلفت ، قال : فأعجب بقولي فاستوى جالسا فقال : كيف قلت يا أبا الجارود؟ رد علي ، قال : فرددت عليه ، فقال : نعم يا أبا الجارود ، شهادة أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله « صلى‌الله‌عليه‌وآله » وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت ، وولاية ولينا ، وعداوة عدونا والتسليم لأمرنا ، وانتظار قائمنا ، والورع ، والاجتهاد.

٣٢٢

وروى حمران بن أعين (١) قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) قال هي مخلوقة خلقها الله بحكمته في آدم وفي عيسى عليه‌السلام.

محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) كيف هذا النفخ؟

فقال إن الروح متحرك كالريح إنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح لأن الروح متجانس للريح وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما اصطفى بيتا من البيوت وقال ( بَيْتِيَ ) وقال لرسول من الرسل خليلي وأشباه ذلك مخلوق مصنوع مربوب مدبر.

وعن محمد بن مسلم أيضا قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما روي أن الله خلق آدم على صورته؟

فقال هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها الله واختارها على أساس الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح فقال ( بَيْتِيَ ) وقال ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ).

وعن عبد الرحمن بن عبد الزهري قال : حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكئا على يد سالم مولاه ومحمد بن علي بن الحسين جالس فقال له سالم.

يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام.

فقال له هشام المفتون به أهل العراق قال نعم.

قال اذهب إليه فقل له يقول لك أمير المؤمنين ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام يحشر الناس على مثل قرصة البر النقي فيها أنهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب.

__________________

(١) قال السيد بحر العلوم في رجاله ج ١ ص ٢٢٢ : « آل أيمن أكبر بيت في الكوفة من شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأعظمهم شأنا ، وأكثرهم رجالا وأعيانا وأطولهم مدة وزمانا ، أدرك أوائلهم السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام ، وبقي أواخرهم إلى أوائل الغيبة الكبرى ، وكان فيهم العلماء والفقهاء ، والقراء والأدباء ، ورواة الحديث ، ثم ذكر أن من مشاهيرهم حمران إلى أن قال :

قال أبو غالب رحمه‌الله : « إنا أهل البيت أكرمنا الله جل وعز بدينه ، واختصنا بصحبة أوليائه وحججه ، من أول ما نشأنا إلى وقت الفتنة التي امتحنت بها الشيعة ، فلقي عمنا ( حمران ) سيدنا وسيد العابدين علي بن الحسين « عليه‌السلام ».

و ( قال ) : وكان حمران من أكابر مشايخ الشيعة المفضلين الذين لا يشك فيهم.

وكان أحد حملة القرآن ، ومن يعد ويذكر اسمه في كتب القراء.

وروي أنه قرأ على أبي جعفر محمد بن علي « عليه‌السلام » وكان ـ مع ذلك ـ عالما بالنحو واللغة ، ولقي ( حمران ـ وجدانا : زرارة ، وبكير ) أبا جعفر محمد بن علي وأبا عبد الله جعفر بن محمد عليهم‌السلام إلخ ... وقال السيد أيضا ص ٢٥٥ وقد جاء في مدح حمران بن أعين وجلالته وعظم محله ، اخبار كادت تبلغ التواتر.

٣٢٣

قال فرأى هشام أنه قد ظفر به فقال الله أكبر اذهب إليه فقل له ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ!

فقال له أبو جعفر هم في النار أشغل ولم يشغلوا عن أن قالوا : ( أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) فسكت هشام لا يرجع كلاما.

وروي أن نافع بن الأزرق جاء إلى محمد بن علي بن الحسين فجلس بين يديه يسأله عن مسائل في الحلال والحرام فقال له أبو جعفر في عرض كلامه قل لهذه المارقة بما استحللتم فراق أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد سفكتم دماءكم بين يديه وفي طاعته والقربة إلى الله تعالى بنصرته؟ فسيقولون لك إنه حكم في دين الله فقل لهم :

قد حكم الله تعالى في شريعة نبيه رجلين من خلقه ـ قال جل اسمه ( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) وحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بما أمضاه الله أوما علمتم أن أمير المؤمنين إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدياه واشترط رد ما خالف القرآن من أحكام الرجال؟ وقال حين قالوا له حكمت على نفسك من حكم عليك.

فقال ما حكمت مخلوقا إنما حكمت كتاب الله فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن واشترط رد ما خالفه ولو لا ارتكابهم في بدعتهم البهتان.

فقال نافع بن الأزرق ـ هذا والله ما طرق بسمعي قط ولا خطر مني ببال هو الحق إن شاء الله تعالى

وعن أبي الجارود قال قال أبو جعفر عليه‌السلام يا أبا الجارود ما يقولون في الحسن والحسين عليهما‌السلام؟ قلت ينكرون عليهما أنهما ابنا رسول الله.

قال فبأي شيء احتججتم عليهم؟

قال قلت بقول الله في عيسى عليه‌السلام : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ ـ إلى قوله : كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم واحتججنا عليهم بقوله تعالى : ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ).

ثم قال فأي شيء قالوا؟

قال قلت قالوا قد يكون ولد البنت من الولد ولا يكون من الصلب.

قال فقال أبو جعفر والله يا أبا الجارود لأعطينكم من كتاب الله آية يسمي لصلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يردها إلا كافر :

قال قلت جعلت فداك وأين؟

٣٢٤

قال قال حيث قال : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ـ إلى قوله ـ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) فسلهم يا أبا الجارود وهل يحل لرسول الله نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا نعم فكذبوا والله وإن قالوا لا فهما والله ابنا رسول الله لصلبه وما حرمن عليه إلا للصلب

وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي الربيع قال : حججت مع أبي جعفر عليه‌السلام في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه‌السلام في ركن البيت ـ وقد اجتمع عليه الخلق فقال يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تكافأ عليه الناس؟

فقال هذا محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام.

قال لآتينه ولأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي.

قال فاذهب إليه لعلك تخجله فجاء نافع حتى اتكأ على الناس وأشرف على أبي جعفر فقال :

يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وقد عرفت حلالها وحرامها وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي فرفع أبو جعفر عليه‌السلام رأسه فقال سل عما بدا لك!

قال أخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة قال أجيبك بقولك أم بقولي؟

قال أجبني بالقولين قال أما بقولي فخمسمائة سنة وأما بقولك فستمائة سنة.

قال فأخبرني عن قول الله عز وجل : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة قال فتلا أبو جعفر عليه‌السلام هذه الآية : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) كان من الآيات التي أراها محمدا حيث أسرى به إلى بيت المقدس أنه حشر الله الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل عليه‌السلام فأذن شفعا وأقام شفعا وقال في أذانه حي على خير العمل ثم تقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلى بالقوم فلما انصرف قال الله عز وجل : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ).

فقال رسول الله على من تشهدون وما كنتم تعبدون؟

قالوا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ـ وأنك رسول الله أخذت على ذلك عهودنا ومواثيقنا فقال صدقت يا أبا جعفر!

قال فأخبرني عن قول الله عز وجل : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) أي أرض تبدل؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام خبزة بيضاء يأكلونها حتى يفرغ الله من حساب الخلائق فقال إنهم عن الأكل لمشغولون.

٣٢٥

فقال أبو جعفر عليه‌السلام أهم حينئذ أشغل أم هم في النار؟ قال نافع بل هم في النار.

قال فقد قال الله عز وجل : ( وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) ما أشغلهم إذا دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم ودعوا بالشراب فسقوا من الجحيم فقال صدقت يا ابن رسول الله وبقيت مسألة واحدة قال وما هي؟

قال فأخبرني متى كان الله؟ قال ويلك أخبرني متى لم يكن حتى أخبرك متى كان سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ ( صاحِبَةً وَلا وَلَداً ) ثم أتى هشام بن عبد الملك فقال ما صنعت؟ قال دعني من كلامك والله هو أعلم الناس حقا وهو ابن رسول الله حقا.

وعن أبان بن تغلب (١) قال : دخل طاوس اليماني إلى الطواف ومعه صاحب له فإذا هو بأبي جعفر يطوف أمامه وهو شاب حدث فقال طاوس لصاحبه إن هذا الفتى لعالم فلما فرغ من طوافه صلى ركعتين ثم جلس وأتاه الناس فقال طاوس لصاحبه نذهب إلى أبي جعفر عليه‌السلام ونسأله عن مسألة لا أدري عنده فيها شيء أم لا فأتياه فسلما عليه ثم قال له طاوس :

يا أبا جعفر هل تدري أي يوم مات ثلث الناس؟

فقال يا أبا عبد الرحمن لم يمت ثلث الناس قط إنما أردت ربع الناس قال وكيف ذلك؟

قال كان آدم وحواء وقابيل وهابيل فقتل قابيل هابيل فذلك ربع الناس قال صدقت!

قال أبو جعفر عليه‌السلام هل تدري ما صنع بقابيل؟ قال لا.

قال علق بالشمس ينضح بالماء الحار إلى أن تقوم الساعة.

وروي أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر عليه‌السلام لامتحانه بالسؤال عنه فقال له جعلت فداك ما معنى قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) ما هذا الرتق والفتق؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام كانت السماء رتقا لا تنزل القطر وكانت الأرض رتقا لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر وفتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو ولم يجد اعتراضا ومضى وعاد إليه فقال :

خبرني جعلت فداك عن قوله تعالى : ( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) ما غضب الله؟

__________________

(١) في رجال النجاشي ص ٧ : « أبان بن تغلب بن رياح أبو سعيد البكري الجريري مولى بني جرير بن عبادة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ، عظيم المنزلة في أصحابنا ، لقي علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله عليهم‌السلام وروى عنهم ، وكانت له عندهم منزلة وقدم ، وذكره البلاذري قال : روى أبان عن عطية العوفي قال له أبو جعفر : اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فاني أحب أن يرى في شيعتي مثلك وقال أبو عبد الله عليه‌السلام لما أتاه نعيه : « أم والله لقد أوجع قلبي موت أبان » وكان قاريا من وجوه القراء ، فقيها لغويا ، سمع من العرب وحكى عنهم.

٣٢٦

فقال له أبو جعفر عليه‌السلام غضب الله تعالى عقابه يا عمرو ومن ظن أن الله يغيره شيء فقد هلك.

وعن أبي حمزة الثمالي قال : أتى الحسن البصري أبا جعفر عليه‌السلام فقال :

جئتك لأسألك عن أشياء من كتاب الله.

فقال أبو جعفر ألست فقيه أهل البصرة؟ قال قد يقال ذلك.

فقال له أبو جعفر عليه‌السلام هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟ قال لا.

قال فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟ قال نعم.

فقال أبو جعفر سبحان الله لقد تقلدت عظيما من الأمر ـ بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت أم يكذب عليك؟ قال ما هو؟

قال زعموا أنك تقول إن الله خلق العباد ففوض إليهم أمورهم قال فسكت الحسن.

فقال أرأيت من قال الله له في كتابه إنك آمن هل عليه خوف بعد هذا القول منه؟ فقال الحسن لا.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام إني أعرض عليك آية وأنهي إليك خطابا ولا أحسبك إلا وقد فسرته على غير وجهه فإن كنت فعلت ذلك فقد هلكت وأهلكت.

فقال له ما هو؟

قال أرأيت حيث يقول : ( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) يا حسن بلغني أنك أفتيت الناس فقلت هي مكة فقال أبو جعفر عليه‌السلام فهل يقطع على من حج مكة وهل يخاف أهل مكة وهل تذهب أموالهم؟ قال بلى.

قال فمتى يكونون آمنين؟ بل فينا ضرب الله الأمثال في القرآن فنحن القرى التي بارك الله فيها وذلك قول الله عز وجل فمن أقر بفضلنا حيث بينهم وبين شيعتهم الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا إلى شيعتنا وفقهاء شيعتنا إلى شيعتنا وقوله تعالى ( وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ) فالسير مثل للعلم سير به لَيالِيَ وَأَيَّاماً مثل لما يسير من العلم في الليالي والأيام عنا إليهم في الحلال والحرام والفرائض والأحكام آمِنِينَ فيها إذا أخذوا منه آمنين من الشك والضلال والنقلة من الحرام إلى الحلال لأنهم أخذوا العلم ممن وجب لهم أخذهم إياه عنهم بالمعرفة لأنهم أهل ميراث العلم من آدم إلى حيث انتهوا ذرية مصطفاة بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فلم ينته الاصطفاء إليكم بل إلينا انتهى ونحن تلك الذرية المصطفاة لا أنت ولا أشباهك يا حسن فلو قلت لك حين ادعيت ما ليس لك وليس إليك يا جاهل أهل البصرة لم أقل فيك إلا ما علمته منك وظهر لي عنك وإياك أن تقول بالتفويض فإن الله عز وجل لم يفوض الأمر إلى خلقه وهنا منه

٣٢٧

وضعفا ولا أجبرهم على معاصيه ظلما

والخبر طويل أخذنا منه موضع الحاجة

وروي : أن سالما دخل على أبي جعفر عليه‌السلام فقال :

جئت أكلمك في أمر هذا الرجل.

قال أيما رجل؟ قال علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قال في أي أموره؟ قال في أحداثه.

قال أبو جعفر انظر ما استقر عندك مما جاءت به الرواة عن آبائهم.

قال ثم نسبهم ثم قال يا سالم أبلغك أن رسول الله بعث سعد بن عبادة براية الأنصار إلى خيبر فرجع منهزما ثم بعث عمر بن الخطاب براية المهاجرين والأنصار فأتى سعد جريحا وجاء عمر يجبن أصحابه ويجبنونه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا يفعل المهاجرون والأنصار ـ حتى قالها ثلاثا ثم قال لأعطين الراية غدا رجلا كرار ليس بفرار يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله؟ قال نعم وقال القوم جميعا أيضا فقال أبو جعفر يا سالم إن قلت إن الله عز وجل أحبه وهو لا يعلم ما هو صانع فقد كفرت وإن قلت إن الله عز وجل أحبه وهو يعلم ما هو صانع فأي حدث ترى له؟

فقال أعد علي.

فأعاد عليه‌السلام عليه فقال سالم عبدت الله على ضلالة سبعين سنة.

وعن أبي بصير قال : كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام جالسا في الحرم وحوله عصابة من أوليائه إذ أقبل طاوس اليماني في جماعة من أصحابه ثم قال لأبي جعفر عليه‌السلام.

أتأذن لي في السؤال؟ فقال أذنا لك فسل قال أخبرني متى هلك ثلث الناس؟

قال وهمت يا شيخ أردت أن تقول متى هلك ربع الناس وذلك يوم قتل قابيل هابيل كانوا أربعة آدم وحواء وقابيل وهابيل فهلك ربعهم.

فقال أصبت ووهمت أنا فأيهما كان أبا للناس القاتل أو المقتول؟ قال لا واحد منهما بل أبوهم شيث بن آدم.

فقال فلم سمي آدم آدم ـ؟ قال لأنه رفعت طينته من أديم الأرض السفلى.

قال ولم سميت حواء حواء ـ قال لأنها خلقت من ضلع حي يعني ضلع آدم.

٣٢٨

قال فلم سمي إبليس إبليس؟ قال لأنه أبلس من رحمة الله عز وجل فلا يرجوها.

قال فلم سمي الجن جنا؟ قال لأنهم استجنوا فلم يروا.

قال فأخبرني عن كذبة كذبت من صاحبها؟ قال إبليس حين قال : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ).

قال فأخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحق وكانوا كاذبين؟

قال المنافقون حين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ) فأنزل الله عز وجل : ( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ).

قال فأخبرني عن طائر طار مرة ولم يطر قبلها ولا بعدها ذكره الله عز وجل في القرآن ما هو؟

فقال طور سيناء أطاره الله عز وجل على بني إسرائيل حين أظلهم بجناح منه فيه ألوان العذاب حتى قبلوا التوراة وذلك قوله عز وجل : ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ) الآية.

قال فأخبرني عن رسول بعثه الله تعالى ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ذكره الله تعالى في كتابه؟

قال الغراب حين بعثه الله عز وجل ليري قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل حين قتله قال الله عز وجل : ( فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ).

قال فأخبرني عمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ذكره الله عز وجل في كتابه.

قال النملة حين قالت : ( يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ).

قال فأخبرني عمن كذب عليه ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ذكره الله عز وجل في كتابه قال الذئب الذي كذب عليه إخوة يوسف.

قال فأخبرني عن شيء قليله حلال وكثيره حرام ذكره الله عز وجل في كتابه؟

قال نهر طالوت قال الله عز وجل ( إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ).

قال فأخبرني عن صلاة فريضة تصلى بغير وضوء وعن صوم لا يحجز عن أكل ولا شرب.

قال أما الصلاة بغير وضوء فالصلاة على النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأما الصوم فقول الله عز وجل : ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ).

٣٢٩

قال فأخبرني عن شيء يزيد وينقص وعن شيء يزيد ولا ينقص وعن شيء ينقص ولا يزيد؟

فقال الباقر عليه‌السلام أما الشيء الذي يزيد وينقص فهو القمر والشيء الذي يزيد ولا ينقص فهو البحر والشيء الذي ينقص ولا يزيد هو العمر

وقد تكرر إيراد أول هذا الخبر لما في آخره من الفوائد

وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام أنه قال : كان علي بن الحسين زين العابدين جالسا في مجلسه فقال يوما في مجلسه إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أمر بالمسير إلى تبوك أمر بأن يخلف عليا بالمدينة فقال علي عليه‌السلام يا رسول الله ما كنت أحب أن أتخلف عنك في شيء من أمورك وأن أغيب عن مشاهدتك والنظر إلى هديك وسمتك.

فقال رسول الله يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ـ إلا أنه لا نبي بعدي تقيم يا علي وإن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله ولك أجور كل من خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله موقنا طائعا وإن لك على الله يا علي لمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في سائر أحواله بأن يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأرض التي يسير عليها والأرض التي تكون أنت عليها ويقوي بصرك حتى تشاهد محمدا وأصحابه في سائر أحوالك وأحوالهم فلا يفوتك الأنس من رؤيته ورؤية أصحابه ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة.

فقام رجل من مجلس زين العابدين لما ذكر هذا وقال له يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف يكون وهذا للأنبياء لا لغيرهم؟

فقال زين العابدين عليه‌السلام هذا هو معجزة لمحمد رسول الله لا لغيره لأن الله إنما رفعه بدعاء محمد وزاد في نور بصره أيضا بدعاء محمد حتى شاهد ما شاهد وأدرك ما أدرك ثم قال له الباقر عليه‌السلام يا عبد الله ما أكثر ظلم كثير من هذه الأمة لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وأقل أنصارهم أم يمنعون عليا ما يعطونه سائر الصحابة وعلي أفضلهم؟ فكيف يمنع منزلة يعطونها غيره؟ ـ قيل وكيف ذاك؟ يا ابن رسول الله ـ؟

قال لأنكم تتولون محبي أبي بكر بن أبي قحافة وتتبرءون من أعدائه كائنا من كان وكذلك تتولون عمر بن الخطاب وتتبرءون من أعدائه كائنا من كان وتتولون عثمان بن عفان ـ وتتبرءون من أعدائه كائنا من كان حتى إذا صار إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام قالوا نتولى محبيه ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم فكيف يجوز هذا لهم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في علي اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله؟ أفترونه لا يعادي من عاداه ولا يخذل من خذله ليس هذا بإنصاف.

ثم أخرى إنهم إذا ذكر لهم ما أخص الله به عليا بدعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرامته على ربه تعالى جحدوه وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة فما الذي منع عليا ما جعله لسائر أصحاب

٣٣٠

رسول الله هذا عمر بن الخطاب ـ إذا قيل لهم إنه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته يا سارية الجبل وعجب القوم وقالوا ما هذا الكلام الذي في هذه الخطبة؟ فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا :

ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل؟

فقال اعلموا أني وأنا أخطب إذ رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزوة الكافرين بنهاوند وعليهم سعد بن أبي وقاص ففتح الله لي الأستار والحجب وقوى بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك وقد جاء بعض الكفار ليدور خلف سارية وسائر من معه من المسلمين فيحيطوا بهم فيقتلوهم فقلت يا سارية الجبل ليلتجئ إليه فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به ثم يقاتلوا ومنح الله إخوانكم المؤمنين أكناف الكافرين وفتح الله عليهم بلادهم فاحفظوا هذا الوقت فسيرد عليكم الخبر بذلك وكان بين المدينة ونهاوند مسيرة أكثر من خمسين يوما.

قال الباقر عليه‌السلام فإذا كان مثل هذا لعمر فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب ع؟ ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون

وعن عبد الله بن سليمان (١) قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فقال له رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى:

إن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم من يدخل النار.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام فهلك إذا مؤمن آل فرعون والله مدحه بذلك وما زال العلم مكتوما منذ بعث الله عز وجل رسوله نوحا فليذهب الحسن يمينا وشمالا ـ فو الله ما يوجد العلم إلا هاهنا وكان يقول عليه‌السلام محنة الناس علينا عظيمة إن دعوناهم لم يجيبونا وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا.

احتجاج أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام في أنواع شتى من العلوم الدينية على أصناف كثيرة من أهل الملل والديانات

روي عن هشام بن الحكم (٢) أنه قال : من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبد الله عليه‌السلام أن قال :

__________________

(١) عبد الله بن سليمان النخمي كوفي عده الشيخ في رجاله ص ١٦٥ من أصحاب الصادق عليه‌السلام.

(٢) هشام بن الحكم الكندي مولاهم البغدادي ، وكان ينزل ببني شيبان بالكوفة وكان مولده بالكوفة ، ومنشؤه واسط ، وتجارته ببغداد ثم انتقل إليها في آخر عمره سنة تسع وتسعين ومائة. وقيل : هذه السنة هي سنة وفاته.

عين الطائفة ووجهها ومتكلمها وناصرها ، من أرباب الأصول ، وله نوادر حكايات ولطائف مناظرات ، ممن اتفق علماؤنا على وثاقته ، ورفعة شأنه ومنزلته عند أئمتنا المعصومين عليهم‌السلام.

وكان ممن فتق الكلام في الإمامة ، وهذب المذهب المذهب بالنظر ، وكان حاذقا بصناعة الكلام ، حاضر الجواب ، وكان ثقة بالروايات ، حسن التحقيق بهذا الأمر.

٣٣١

ما الدليل على صانع العالم؟

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعها صنعها ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده؟

قال فما هو؟

قال هو شيء بخلاف الأشياء ارجع بقولي شيء إلى إثباته وأنه شيء بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا يغيره الزمان.

قال السائل فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد منا مرتفعا لأنا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم لكنا نقول كل موهوم بالحواس مدرك بها تحده الحواس ممثلا فهو مخلوق ولا بد من إثبات كون صانع الأشياء خارجا من الجهتين المذمومتين إحداهما النفي إذا كان النفي هو الإبطال والعدم والجهة الثانية التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار منهم إليه أنهم مصنوعون وأن صانعهم غيرهم وليس مثلهم إن كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا وتنقلهم من صغر إلى كبر وسواد إلى بياض وقوة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها.

قال السائل فأنت قد حددته إذ أثبت وجوده!

قال أبو عبد الله عليه‌السلام لم أحدده ولكني أثبته إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة.

قال السائل فقوله ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى )؟

قال أبو عبد الله عليه‌السلام بذلك وصف نفسه وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش محلا له لكنا نقول هو حامل وممسك للعرش ونقول في ذلك ما قال ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته ونفينا أن يكون العرش والكرسي حاويا له وأن يكون عز وجل محتاجا إلى مكان أو إلى شيء مما خلق بل خلقه محتاجون إليه.

قال السائل فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

قال أبو عبد الله في علمه وإحاطته وقدرته سواء ولكنه عز وجل أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى

__________________

روى عن أبي عبد الله وعن أبي الحسن عليهما‌السلام وعاش بعد أبي الحسن ولما توفي ترحم عليه الرضا عليه‌السلام.

روي عن أبي هاشم الجعفري قال : قلت لأبي جعفر محمد بن علي الثاني عليه‌السلام ما تقول جعلت فداك في هشام بن الحكم؟ فقال عليه‌السلام : « رحمه‌الله ما كان أذبه عن هذه الناحية ».

راجع سفينة البحار ج ٢ ص ٧١٩ ، رجال الشيخ ص ٧٢٩ ، رجال العلامة ص ١٨٧.

٣٣٢

السماء نحو العرش لأنه جعله معدن الرزق فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول حين قال ارفعوا أيديكم إلى الله عز وجل وهذا تجمع عليه فرق الأمة كلها.

ومن سؤاله أن قال ألا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟

قال أبو عبد الله لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه ويتفرد بالربوبية وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني وإن قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة فلما رأينا الخلق منتظمة والفلك جاريا واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دل ذلك على صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر وأن المدبر واحد

وعن هشام بن الحكم قال : دخل ابن أبي العوجاء على الصادق عليه‌السلام فقال له الصادق عليه‌السلام :

يا ابن أبي العوجاء أنت مصنوع أم غير مصنوع؟ قال لست بمصنوع.

فقال له الصادق فلو كنت مصنوعا كيف كنت فلم يحر ابن أبي العوجاء جوابا وقام وخرج.

قال : دخل أبو شاكر الديصاني وهو زنديق على أبي عبد الله وقال يا جعفر بن محمد دلني على معبودي!

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام اجلس فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال أبو عبد الله ناولني يا غلام البيضة فناوله إياها فقال أبو عبد الله يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة فهي على حالها لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى له مدبرا؟

قال فأطرق مليا ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأنك إمام وحجة من الله على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه.

وعن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله عز ذكره واشتقاقها فقلت الله مما هو مشتق؟

قال يا هشام الله مشتق من إله وإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد الاثنين ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد أفهمت يا هشام؟

قال فقلت زدني فقال إن لله تسعة وتسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ولكن لله معنى يدل عليه فهذه الأسماء كلها غيره يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب

٣٣٣

والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحروق أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين مع الله غيره قلت نعم.

قال فقال نفعك الله به وثبتك!

قال هشام فو الله ما قهرني أحد في علم التوحيد حتى قمت مقامي هذا.

عن هشام بن الحكم قال : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله عليه‌السلام علم فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها وقيل هو بمكة فخرج إلى مكة ونحن مع أبي عبد الله عليه‌السلام فانتهى إليه وهو في الطواف فدنا منه وسلم.

فقال له أبو عبد الله ما اسمك؟ قال عبد الملك.

قال فما كنيتك؟ قال أبو عبد الله.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام فمن ذا الملك الذي أنت عبده أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ فسكت فقال أبو عبد الله عليه‌السلام قل فسكت.

فقال إذا فرغت من الطواف فأتنا فلما فرغ أبو عبد الله عليه‌السلام من الطواف أتاه الزنديق فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ فقال نعم.

قال فدخلت تحتها؟ قال لا.

قال فهل تدري ما تحتها؟ قال لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شيء.

فقال أبو عبد الله فالظن عجز ما لم تستيقن ثم قال له صعدت إلى السماء؟ قال لا.

قال أفتدري ما فيها؟ قال لا.

قال فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟ قال لا.

قال فالعجب لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد إلى السماء ولم تخبر ما هناك فتعرف ما خلفهن وأنت جاحد بما فيهن وهل يجحد العاقل ما لا يعرف فقال الزنديق ما كلمني بهذا غيرك.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام فأنت من ذلك في شك فلعل هو ولعل ليس هو قال ولعل ذلك.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ولا حجة للجاهل على العالم يا أخا أهل مصر تفهم عني أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان يذهبان ويرجعان قد اضطرا ليس لهما مكان إلا مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان وإن كانا غير مضطرين فلم لا

٣٣٤

يصير الليل نهارا والنهار ليلا اضطرا والله يا أخا أهل مصر.

إن الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم وإن كان يردهم فلم يذهب بهم أما ترى السماء مرفوعة والأرض موضوعة لا تسقط السماء على الأرض ولا تنحدر الأرض فوق ما تحتها أمسكها والله خالقها ومدبرها.

قال فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله فقال هشام [ لهشام ] خذه إليك وعلمه.

عن عيسى بن يونس (١) قال كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد فقيل له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟

قال إن صاحبي كان مخلطا يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر فما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه فقدم مكة متمردا وإنكارا على من يحجه وكان تكره العلماء مجالسته لخبث لسانه وفساد ضميره فأتى أبا عبد الله عليه‌السلام فجلس إليه في جماعة من نظرائه فقال :

يا أبا عبد الله إن المجالس بالأمانات ولا بد لكل من به سعال أن يسعل أفتأذن لي في الكلام فقال تكلم.

فقال إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر وتهرولون حوله كهرولة البعير إذا نفر إن من فكر في هذا وقدر علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبو أسه ونظامه!

فقال أبو عبد الله إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق ولم يستعذبه وصار الشيطان وليه يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره وهذا بيت استعبد الله به عباده ليختبر طاعتهم في إتيانه فحثهم على تعظيمه وزيارته جعله محل أنبيائه وقبلة للمصلين له فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما نهى عنه وزجر الله المنشئ للأرواح والصور.

فقال ابن أبي العوجاء ذكرت الله فأحلت على الغائب؟

فقال أبو عبد الله ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب ( مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) يسمع كلامهم ويرى أشخاصهم ويعلم أسرارهم؟!

فقال ابن أبي العوجاء فهو في كل مكان أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان اشتغل به مكان وخلا منه

__________________

(١) عيسى بن يونس ذكره الشيخ في رجاله ص ٢٥٨ في أصحاب الصادق « عليه‌السلام » وفي أصحاب الكاظم عليه‌السلام ص ٣٥٥ فقال :

عيسى بن يونس بزرج له كتاب

٣٣٥

مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه فأما الله العظيم الشأن الملك الديان فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.

وروي أن الصادق عليه‌السلام قال لابن أبي العوجاء إن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت وإن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت

وروي أيضا أن ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه‌السلام عن حدث العالم فقال ما وجدت صغيرا ولا كبيرا إلا إذا ضم إليه مثله صار أكبر وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى ولو كان قديما ما زال ولا حال لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث وفي كونه في الأزل دخول في القدم ولن يجتمع صفة الحدوث والقدم في شيء واحد.

قال ابن أبي العوجاء هبك علمك في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت استدللت على حدوثها فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثها؟

فقال عليه‌السلام إنا نتكلم على هذا العالم الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره لكن أجيبك من حيث قدرت أن تلزمنا فنقول إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ضم شيء منه إلى شيء منه كان أكبر وفي جواز التغير عليه خروجه من القدم كما أن في تغيره دخوله في الحدث وليس لك وراءه شيء يا عبد الكريم.

وعن يونس بن ظبيان (١) قال دخل رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام قال أرأيت الله حين عبدته؟

قال ما كنت أعبد شيئا لم أره.

قال فكيف رأيته؟

قال لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس معروف بغير تشبيه.

وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) قال إحاطة الوهم ألا ترى إلى قوله ( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) ليس يعني بصر العيون ، ( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ) وليس يعني من أبصر نفسه ( وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها ) ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر وفلان بصير بالفقه وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب الله أعظم من أن يرى بالعين

ومن سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن مسائل كثيرة أنه قال كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟

__________________

(١) قال العلامة في القسم الثاني من خلاصته : يونس بن ظبيان ـ بالظاء المعجمة المفتوحة والياء المنقطة تحتها نقطة قبل الياء والنون أخيرا قال أبو عمرو الكشي : قال الفضل بن شاذان في بعض كتبه ـ : الكذابون المشهورون : ابو الخطاب ويونس بن ظبيان ويزيد الصائغ ومحمد بن سنان وأبو سمينة أشهرهم وقال النجاشي : انه مولى ضعيف جدا لا يلتفت إلى ما رواه كل كتبه تخليط قال ابن الغضائري : يونس بن ظبيان غال كذاب وضاع للحديث ، روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، لا يلتفت إلى حديثه فانا لا اعتمد على روايته لقول هؤلاء المشايخ العظام فيه.

٣٣٦

قال رأته القلوب بنور الإيمان وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها اقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته.

قال أليس هو قادر [ قادرا ] أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين قال ليس للمحال جواب قال فمن أين أثبت أنبياء ورسلا؟

قال عليه‌السلام إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه وثبت عند ذلك أن له معبرون [ معبرين ] هم أنبياء الله وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين عنه مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فلا تخلو الأرض من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته.

ثم قال عليه‌السلام بعد ذلك نحن نزعم أن الأرض لا تخلو من حجة ولا تكون الحجة إلا من عقب الأنبياء ما بعث الله نبيا قط من غير نسل الأنبياء وذلك أن الله شرع لبني آدم طريقا منيرا وأخرج من آدم نسلا طاهرا طيبا أخرج منه الأنبياء والرسل هم صفوة الله وخلص الجوهر طهروا في الأصلاب وحفظوا في الأرحام ـ لم يصبهم سفاح الجاهلية ولا شاب أنسابهم لأن الله عز وجل جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفا منه فمن كان خازن علم الله وأمين غيبه ومستودع سره وحجته على خلقه وترجمانه ولسانه لا يكون إلا بهذه الصفة فالحجة لا يكون إلا من نسلهم يقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول إن جحده الناس سكت وكان بقاء ما عليه الناس قليلا مما في أيديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه قد أقاموا بينهم الرأي والقياس وإنهم إن أقروا به وأطاعوه وأخذوا عنه ظهر العدل وذهب الاختلاف والتشاجر واستوى الأمر وأبان الدين وغلب على الشك اليقين ولا يكاد أن يقر الناس به ولا يطيعوا له أو يحفظوا له بعد فقد الرسول وما مضى رسول ولا نبي قط لم تختلف أمته من بعده وإنما كان علة اختلافهم خلافهم على الحجة وتركهم إياه.

قال فما يصنع بالحجة إذا كان بهذه الصفة قال قد يقتدى به ويخرج عنه الشيء بعد الشيء مكانه منفعة الخلق وصلاحهم فإن أحدثوا في دين الله شيئا أعلمهم وإن زادوا فيه أخبرهم وإن نفذوا منه شيئا أفادهم.

ثم قال الزنديق من أي شيء خلق الله الأشياء؟ قال لا من شيء.

فقال كيف يجيء من لا شيء شيء؟

قال عليه‌السلام إن الأشياء لا تخلو إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كان خلقت من شيء

٣٣٧

كان معه فإن ذلك الشيء قديم والقديم لا يكون حديثا ولا يفنى ولا يتغير ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ـ؟ ومن أين جاء الموت ـ؟ إن كان الشيء الذي أنشئت منه الأشياء حيا؟ ومن أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتا؟ ولا يجوز أن يكون من حي وميت قديمين لم يزالا لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيا ولا يجوز أيضا أن يكون الميت قديما لم يزل لما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة له ولا بقاء.

قال فمن أين قالوا إن الأشياء أزلية؟ قال هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء فكذبوا الرسل ومقالتهم والأنبياء وما أنبئوا عنه وسموا كتبهم أساطير ووضعوا لأنفسهم دينا بآرائهم واستحسانهم إن الأشياء تدل على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك وتحرك الأرض ومن عليها وانقلاب الأزمنة واختلاف الوقت والحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان وموت وبلى واضطرار النفس إلى الإقرار بأن لها صانعا ومدبرا ألا ترى الحلو يصير حامضا والعذب مرا والجديد باليا وكل إلى تغير وفناء؟!

قال فلم يزل صانع العالم عالما بالأحداث ـ التي أحدثها قبل أن يحدثها؟

قال فلم يزل يعلم فخلق ما علم قال أمختلف هو أم مؤتلف؟

قال لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف وإنما يختلف المتجزي ويأتلف المتبعض فلا يقال له مؤتلف ولا مختلف.

قال فكيف هو الله الواحد قال واحد في ذاته فلا واحد كواحد لأن ما سواه من الواحد متجزئ وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزى ولا يقع عليه العد.

قال فلأي علة خلق الخلق وهو غير محتاج إليهم ولا مضطر إلى خلقهم ولا يليق به التعبث بنا؟

قال خلقهم لإظهار حكمته وإنفاذ علمه وإمضاء تدبيره.

قال وكيف لا يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه ومحتبس عقابه؟

قال إن هذه الدار دار ابتلاء ومتجر الثواب ومكتسب الرحمة ملئت آفات وطبقت شهوات ليختبر فيها عبيده بالطاعة فلا يكون دار عمل دار جزاء.

قال أفمن حكمته أن جعل لنفسه عدوا وقد كان ولا عدو له فخلق كما زعمت إبليس فسلطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته ويأمرهم بمعصيته وجعل له من القوة كما زعمت ما يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم فيوسوس إليهم فيشككهم في ربهم ـ ويلبس عليهم دينهم فيزيلهم عن معرفته حتى أنكر قوم لما وسوس إليهم ربوبيته وعبدوا سواه فلم سلط عدوه على عبيده وجعل له السبيل إلى إغوائهم؟

قال إن هذا العدو الذي ذكرت لا تضره عداوته ولا تنفعه ولايته وعداوته لا تنقص من ملكه شيئا وولايته لا تزيد فيه شيئا وإنما يتقى العدو إذا كان في قوة يضر وينفع إن هم بملك أخذه أو بسلطان قهره فأما

٣٣٨

إبليس فعبد خلقه ليعبده ويوحده وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه فلم يزل يعبده مع ملائكته حتى امتحنه بسجود آدم فامتنع من ذلك حسدا وشقاوة غلبت عليه فلعنه عند ذلك وأخرجه عن صفوف الملائكة وأنزله إلى الأرض ملعونا مدحورا فصار عدو آدم وولده بذلك السبب ما له من السلطة على ولده إلا الوسوسة والدعاء إلى غير السبيل وقد أقر مع معصيته لربه بربوبيته.

قال أفيصلح السجود لغير الله قال لا.

قال فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟

قال إن من سجد بأمر الله سجد لله إذا كان عن أمر الله.

قال فمن أين أصل الكهانة ومن أين يخبر الناس بما يحدث؟

قال إن الكهانة كانت في الجاهلية في كل حين ( فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الأمور بينهم فيخبرهم عن أشياء تحدث وذلك من وجوه شتى فراسة العين وذكاء القلب ووسوسة النفس وفتنة الروح مع قذف في قلبه لأن ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويؤديه إلى الكاهن ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف.

وأما أخبار السماء فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم وإنما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة ونفي الشبهة وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها ثم يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط الحق بالباطل فما أصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به فهو ما أداه إليه الشيطان لما سمعه وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة واليوم إنما تؤدي الشياطين إلى كهانها أخبارا للناس بما يتحدثون به وما يحدثونه والشياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث من سارق سرق ومن قاتل قتل ومن غائب غاب وهم بمنزلة الناس أيضا صدوق وكذوب.

قال وكيف صعدت الشياطين إلى السماء وهم أمثال الناس في الخلقة والكثافة وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود عليه‌السلام من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟

قال غلظوا لسليمان كما سخروا وهم خلق رقيق غذاؤهم النسيم والدليل على كل ذلك صعودهم إلى السماء لاستراق السمع ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها بسلم أو بسبب.

قال فأخبرني عن السحر ما أصله وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل؟

قال إن السحر على وجوه شتى وجه منها بمنزلة الطب كما أن الأطباء وضعوا لكل داء دواء فكذلك علم السحر احتالوا لكل صحة آفة ولكل عافية عاهة ولكل معنى حيلة.

٣٣٩

ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفة.

ونوع آخر ما يأخذ أولياء الشياطين عنهم.

قال فمن أين علم الشياطين السحر؟

قال من حيث عرف الأطباء الطب بعضه تجربة وبعضه علاج.

قال فما تقول في الملكين هاروت وماروت وما يقول الناس بأنهما يعلمان الناس السحر؟

قال إنهما موضع ابتلاء وموقع فتنة تسبيحهما اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا ـ لكان كذا وكذا ولو يعالج بكذا وكذا لكان كذا أصناف السحر فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما فيقولان لهم ( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ) فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم.

قال أفيقدر الساحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك؟

قال هو أعجز من ذلك وأضعف من أن يغير خلق الله إن من أبطل ما ركبه الله وصوره وغيره فهو شريك الله في خلقه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض ولنفى البياض عن رأسه والفقر عن ساحته وإن من أكبر السحر النميمة يفرق بها بين المتحابين ويجلب العداوة على المتصافيين ويسفك بها الدماء ويهدم بها الدور ويكشف بها الستور والنمام أشر من وطئ الأرض بقدم فأقرب أقاويل السحر من الصواب أنه بمنزلة الطب إن الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج فأبرئ.

قال فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع؟ قال الشريف المطيع والوضيع العاصي.

قال أليس فيهم فاضل ومفضول؟ قال إنما يتفاضلون بالتقوى.

قال فتقول إن ولد آدم كلهم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلا بالتقوى؟

قال نعم إني وجدت أصل الخلق التراب والأب آدم والأم حواء خلقهم إله واحد وهم عبيده إن الله عز وجل اختار من ولد آدم أناسا طهر ميلادهم وطيب أبدانهم وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء أخرج منهم الأنبياء والرسل فهم أزكى فروع آدم فعل ذلك لأمر استحقوه من الله عز وجل ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئا فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب وسائر الناس سواء ألا من اتقى الله أكرمه ومن أطاعه أحبه ومن أحبه لم يعذبه بالنار!!

قال فأخبرني عن الله عز وجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا.

قال عليه‌السلام لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم يكن جنة ولا نار ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته واحتج عليهم برسله وقطع عذرهم بكتبه ليكونوا هم الذين

٣٤٠