الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

فصل

في ذكر طرف مما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

من الجدال والمحاربة والمناظرة وما يجري

مجرى ذلك مع من خالف الإسلام وغيرهم

قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام ذكر عند الصادق عليه‌السلام الجدال في الدين وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام قد نهوا عنه فقال الصادق عليه‌السلام لم ينه عنه مطلقا ولكنه نهي عن الجدال بغير التي هي أحسن أما تسمعون الله يقول : ( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) وقوله ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله على شيعتنا وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول : ( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ) (٣) وقال الله تعالى ( تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (٣) فجعل الله علم الصدق والإيمان بالبرهان وهل يؤتى ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن.

قيل يا ابن رسول الله فما الجدال ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) وبالتي ليست بأحسن؟

قال أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل به مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجة له على باطله وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم (٤) لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.

وأما الجدال ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له فقال الله له حاكيا عنه : ( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) فقال الله تعالى في الرد عليه : ( قُلْ ) يا محمد ( يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) (٥) إلى آخر السورة.

فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم فقال الله تعالى :

__________________

(١) العنكبوت : ٤٦.

(٢) النحل : ١٢٥.

(٣) البقرة : ١١١.

(٤) تغم قلوبهم : تغطي قلوبهم.

(٥) يس ٧٨ ـ ٨٠.

٢١

( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته ثم قال ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ) أي إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثم يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلي أقدر ثم قال ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (١) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.

قال الصادق عليه‌السلام فهو الجدال ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم وأما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو المحرم لأنك مثله جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر.

وقال أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام فقام إليه رجل آخر وقال يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفجادل رسول الله؟

فقال الصادق عليه‌السلام مهما ظننت برسول الله من شيء فلا تظنن به مخالفة الله أليس الله قد قال : ( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) و ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) لمن ضرب الله مثلا أفتظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالف ما أمر الله به فلم يجادل بما أمره الله به ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به ولقد حدثني أبي الباقر عن جدي علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنه اجتمع يوما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان اليهود والنصارى والدهرية والثنوية ومشركو العرب (٢).

فقالت اليهود نحن نقول ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ) وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت النصارى نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به وقد جئناك لننظر ما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ـ وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت الدهرية نحن نقول إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة وقد جئناك لننظر فيما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت الثنوية نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران وقد جئناك لننظر فيما تقول فإن اتبعتنا فنحن

__________________

(١) يس : ٨١.

(٢) اليهود هم أتباع النبي موسى بن عمران عليه‌السلام وكتابهم المقدس هو التوراة ، والنصارى هم أتباع النبي عيسى بن مريم عليه‌السلام وكتابهم المقدس هو الإنجيل ، والدهرية هم الذين ينفون الرب والجنة والنار ويقولون وما يهلكنا إلا الدهر وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت ، والثنوية هم الذين يثبتون مع القديم قديما غيره ، قيل المجوس الذين يثبتون مبدءين مبدأ للخير ومبدأ للشر وهما النور والظلمة ويقولون بنبوة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وقيل هم طائفة يقولون إن كل مخلوق مخلوق للخلق الأول. ومشركوا العرب هم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم ويعبدونها من دون الله تعالى ويعتقدون فيها أنها منشأ الخير والشر وواسطة بين العبد والرب.

٢٢

أسبق إلى الصواب منك وإن خالفتنا خصمناك.

وقال مشركو العرب نحن نقول إن أوثاننا آلهة وقد جئناك لننظر فيما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آمنت بالله وحده لا شريك له وكفرت [ بالجبت والطاغوت ] (١) بكل معبود سواه.

ثم قال لهم إن الله تعالى قد بعثني ( كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) وحجة على العالمين وسيرد كيد من يكيد دينه في نحره.

ثم قال لليهود أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة؟ قالوا لا قال فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيرا ابن الله؟ قالوا لأنه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف صار عزير ابن الله دون موسى وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورئي منه من المعجزات ما قد علمتم ولئن كان عزير ابن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة؟ فلقد كان موسى بالنبوة أولى وأحق ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب له أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من النبوة لأنكم إن كنتم إنما تريدون بالنبوة ـ الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمهات الأولاد بوطء آبائهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه وأوجبتم فيه صفات المحدثين فوجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا وأن يكون له خالق صنعه وابتدعه.

قالوا لسنا نعني هذا فإن هذا كفر كما دللت لكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره يا بني وإنه ابني لا على إثبات ولادته منه لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه وكذلك لما فعل الله تعالى بعزير ما فعل كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه فإن هذه المنزلة بموسى أولى وإن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلب عليه حجته إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم لأنكم قلتم إن عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه يا بني وهذا ابني لا على طريق الولادة فقد تجدون أيضا هذا العظيم يقول لأجنبي هذا أخي ولآخر هذا شيخي وأبي ولآخر هذا أخي ولآخر هذا سيدي ويا سيدي على سبيل الإكرام وإن من زاده في الكرامة زاده مثل هذا القول فإذا يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لأنه قد زاده في الإكرام مما لعزير كما أن من زاد رجلا في الإكرام فقال له يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الإكرام وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو عما أو رئيسا أو سيدا أو أميرا لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له يا شيخي أو يا سيدي أو يا عمي أو يا رئيسي أو يا أميري؟

قال فبهت القوم وتحيروا وقالوا يا محمد أجلنا نتفكر فيما قد قلته لنا فقال انظروا فيه بقلوب معتقدة

__________________

(١) الزيادة في بعض النسخ.

٢٣

للإنصاف يهدكم الله.

ثم أقبل على النصارى فقال لهم وأنتم قلتم إن القديم عز وجل اتحد بالمسيح ابنه فما الذي أردتموه بهذا القول أردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما كوجود القديم الذي هو الله أو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه.

فإن أردتم أن القديم صار محدثا فقد أبطلتم لأن القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا وإن أردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم لأن المحدث أيضا محال أن يصير قديما وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله لأنه إذا كان عيسى محدثا وكان الله اتحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه.

فقالت النصارى يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتخذه ولدا على جهة الكرامة.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ثم أعاد صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك كله فسكتوا إلا رجلا واحدا منهم فقال له يا محمد أولستم تقولون إن إبراهيم خليل الله؟ قال قد قلنا ذلك قال فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله؟

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنهما لن يشتبها لأن قولنا إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلة والخلة إنما معناها الفقر والفاقة فقد كان خليلا إلى ربه فقيرا وإليه منقطعا ـ وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله جبرئيل فقال له أدرك عبدي فجاء فلقيه في الهواء فقال له كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك فقال إبراهيم حسبي ( اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه.

وإذا جعل معنى ذلك من الخلة وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان الخليل معناه العالم به وبأموره ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله وإن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده لأن معنى الولادة قائم به.

ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنه وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه فإن الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى فقولوا إن موسى أيضا ابنه وأن يجوز أن تقولوا على هذا المعنى إنه شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود.

فقال بعضهم لبعض ـ وفي الكتب المنزلة أن عيسى قال أذهب إلى أبي وأبيكم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنتم بذلك الكتاب تعلمون فإن فيه أذهب إلى أبي وأبيكم فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه ثم إن في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من وجهة الاختصاص كان ابنا له لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه

٢٤

بما لم يختص به غيره ـ وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى أذهب إلى أبي وأبيكم فبطل أن يكون الاختصاص لعيسى لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها لأنه إذا قال أذهب إلى أبي وأبيكم فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه وما يدريكم لعله عنى أذهب إلى آدم أو إلى نوح وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح بل ما أراد غير هذا.

قال فسكت النصارى وقالوا ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما مثلك وسننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله على الدهرية فقال ـ وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟

فقالوا لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا بأنها لا تزال.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفوجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاء أبد الآبد فإن قلتم إنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم.

قالوا بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما لأنكم لم تشاهدوا حدوثها وانقضاءها أولى من تارك التميز لها مثلكم فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه لم يشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد أولستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر؟ فقالوا نعم.

فقال أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ فقالوا نعم فقال أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ فقالوا لا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا منقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده؟ قالوا كذلك هو.

فقال قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما فلا تنكروا لله قدرته.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه؟ فإن قلتم إنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله وإن قلتم متناه فقد كان ولا شيء منهما قالوا نعم.

قال لهم أقلتم إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه؟ قالوا نعم.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما يتصل به كما نرى البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم وكذلك سائر ما نرى.

وقال أيضا فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون وما ذا كانت تكون صفته؟

٢٥

قال فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم فوجموا وقالوا سننظر في أمرنا.

ثم أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الثنوية الذين قالوا النور والظلمة هما المدبران فقال وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟

فقالوا لأنا وجدنا العالم صنفين خيرا وشرا ووجدنا الخير ضدا للشر فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشيء وضده بل لكل واحد منهما فاعل ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد فأثبتنا لذلك صانعين قديمين ظلمة ونورا؟

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفلستم قد وجدتم سوادا وبياضا وحمرة وصفرة وخضرة وزرقة وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلين منهما في محل واحد كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد؟ قالوا نعم.

قال فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعا قديما ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غير فاعل الضد الآخر؟ قال فسكتوا.

ثم قال فكيف اختلط النور والظلمة وهذا من طبعه الصعود وهذه من طبعها النزول أرأيتم لو أن رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا أكان يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجههما قالوا لا.

قال فوجب أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر فكيف وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج بل هما مدبران جميعا مخلوقان فقالوا سننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على مشركي العرب فقال وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله فقالوا نتقرب بذلك إلى الله تعالى.

فقال لهم أوهي سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ قالوا لا.

قال فأنتم الذين نحتموها بأيديكم؟ قالوا نعم.`

قال فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم.

قال فلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا القول اختلفوا فقال بعضهم إن الله قد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حل فيها ربنا.

وقال آخرون منهم إن هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا فمثلنا صورهم وعبدناها تعظيما لله.

وقال آخرون منهم إن الله لما خلق آدم ـ وأمر الملائكة بالسجود له كنا نحن أحق بالسجود لآدم من الملائكة ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا لها تقربا إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب (١) سجدتم إليها وقصدتم

__________________

(١) محاريب جمع محراب ، ومحراب المسجد قيل سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ، وقيل بل المحراب ـ

٢٦

الكعبة لا محاريبكم وقصدتم بالكعبة إلى الله عز وجل لا إليها.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخطأتم الطريق وضللتم أما أنتم ( وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يخاطب الذين قالوا إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصور التي صورناها فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا ) فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات ـ أويحل ربكم في شيء حتى يحيط به ذاك الشيء فأي فرق بينه إذا وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته ولم صار هذا المحلول فيه محدثا وذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عز وجل كان لم يزل وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء لأن ذلك أجمع من صفات الحال والمحلول فيه وجميع ذلك متغير الذات فإن كان لم يتغير ذات الباري تعالى بحلوله في شيء جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض ويحمر ويصفر وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شيء فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم.

قال فسكت القوم وقالوا سننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الفريق الثاني فقال أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الذي أبقيتم لرب العالمين؟ ـ

أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوي به عبده أرأيتم ملكا أو عظيما إذا سويتموه بعبده في التعظيم والخضوع والخشوع أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا نعم.

قال أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون (١) على رب العالمين؟

قال فسكت القوم بعد أن قالوا سننظر في أمرنا.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للفريق الثالث لقد ضربتم لنا مثلا وشبهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء وذلك أنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا وننزجر عما زجرنا ونعبده من حيث يريده منا فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأول فهو يكره الثاني وقد نهانا أن نتقدم بين يديه فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعناه ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها فأطعناه ولم نخرج في شيء من ذلك من اتباع أمره.

والله حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره ـ فليس لكم أن تقيسوا ذلك

__________________

ـ اصله في المسجد ، وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد ، وكأن هذا أصح قال تعالى ( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ ).

(١) تزرون : تعيبون وتعاتبون.

٢٧

عليه لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.

ثم قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره أو لكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلها بغير أمره أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه أو عبدا من عبيده أو دابة من دوابه ألكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا نعم.

قال فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله قالوا لا لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأول

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبروني الله أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين قالوا بل الله أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه.

قال فلم فعلتم ومتى أمركم بالسجود أن تسجدوا لهذه الصور؟

قال فقال القوم سننظر في أمورنا وسكتوا.

وقال الصادق عليه‌السلام فو الذي بعثه بالحق نبيا ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام حتى أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلموا وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كل فرقة خمسة وقالوا ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله.

احتجاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على جماعة من المشركين

وقال الصادق عليه‌السلام قال أمير المؤمنين عليه‌السلام أنزل الله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (١) الآية وكان في هذه الآية رد على ثلاثة أصناف منهم لما قال ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) فكان ردا على الدهرية الذين قالوا إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة.

ثم قال ( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) فكان ردا على الثنوية الذين قالوا إن النور والظلمة هما مدبران.

ثم قال ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا إن أوثاننا آلهة.

ثم أنزل الله ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) إلى آخرها فكان ردا على من ادعى من دون الله ضدا أو ندا.

قال فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه قولوا ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) أي نعبد واحدا لا نقول كما قالت الدهرية إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة ولا كما قالت الثنوية إن النور والظلمة هما المدبران ولا كما قال مشركو العرب إن أوثاننا آلهة فلا نشرك بك شيئا ولا ندعو من دونك إلها كما يقول هؤلاء الكفار ولا نقول كما قالت اليهود والنصارى إن لك ولدا تعاليت عن ذلك.

قال فذلك قوله : ( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ) وقالت طائفة غيرهم من هؤلاء

__________________

(١) الأنعام : ١.

٢٨

الكفار ما قالوا قال الله تعالى يا محمد ( تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ) التي يمنونها بلا حجة : ( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) وحجتكم على دعواكم : ( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها.

ثم قال ( بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) تعالى يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله لما سمعوا براهينه وحجته : ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) في عمله ( فَلَهُ أَجْرُهُ ) وثوابه ( عِنْدَ رَبِّهِ ) يوم فصل القضاء : ( وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) حين يخاف الكافرون مما يشاهدونه من العقاب : ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) عند الموت لأن البشارة بالجنان تأتيهم

احتجاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على جماعة من المشركين

عن أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام أنه قال قلت لأبي علي بن محمد عليه‌السلام هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال بلى مرارا كثيرة.

منها ما حكى الله من قولهم : ( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ؟ ) إلى قوله ( رَجُلاً مَسْحُوراً ) (٢) وقالوا : ( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٣) وقوله عز وجل : ( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) إلى قوله ( كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) (٤) ثم قيل له في آخر ذلك لو كنت نبيا كموسى أنزلت علينا كسفا من السماء ونزلت علينا الصاعقة في مسألتنا إليك لأن مسألتنا أشد من مسائل قوم موسى لموسى عليه‌السلام.

قال وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي وأبو البختري بن هشام وأبو جهل والعاص بن وائل السهمي وعبد الله بن أبي أمية المخزومي وكان معهم جمع ممن يليهم كثير ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه.

فقال المشركون بعضهم لبعض لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره عندهم فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر.

قال أبو جهل فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته؟ قال عبد الله بن أبي أمية المخزومي أنا إلى ذلك أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا.

قال أبو جهل بلى فأتوه بأجمعهم فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال :

يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا زعمت أنك رسول الله رب العالمين وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشر مثلنا تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي!

__________________

(١) البقرة : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) الفرقان : ٧ ـ ٨.

(٣) الزخرف : ٣١.

(٤) الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٢٩

فهذا ملك الروم وهذا ملك الفرس ـ لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده.

ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ما أنت يا محمد ( إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً ) ولست بنبي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هل بقي من كلامك شيء؟

قال بلى لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا أكثره مالا وأحسنه حالا فهلا أنزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا ( عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) إما الوليد بن المغيرة بمكة وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هل بقي من كلامك شيء يا عبد الله؟

فقال بلى ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) بمكة هذه فإنها ذات أحجار وعرة وجبال تكسح أرضها (١) وتحفرها وتجري فيها العيون فإننا إلى ذلك محتاجون ( أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ) فتأكل منها وتطعمنا وتفجر ( الْأَنْهارَ خِلالَها ) خلال تلك النخيل والأعناب ( تَفْجِيراً ـ ) ( أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ) (٢) فإنك قلت لنا ( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ ) (٣) فلعلنا نقول ذلك.

ثم قال ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) تأتي به وبهم وهم لنا مقابلون ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) تعطينا منه وتغنينا به فلعلنا نطغى وإنك قلت لنا : ( كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) (٤).

ثم قال ( أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ ) أي تصعد في السماء ( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) أي لصعودك ( حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فإنه رسولي وصدقوه في مقاله إنه من عندي ثم لا أدري يا محمد إذا فعلت هذا كله أومن بك أو لا أومن بك بل لو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا ( إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ) (٥) وسحرتنا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عبد الله أبقي شيء من كلامك قال يا محمد أوليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ ما بقي شيء فقل ما بدا لك وأفصح عن نفسك إن كان لك حجة وائتنا بما سألناك به.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اللهم أنت السامع لكل صوت والعالم بكل شيء تعلم ما قاله عبادك فأنزل الله عليه يا محمد ( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ) إلى قوله ( رَجُلاً مَسْحُوراً ) (٦) ثم قال الله تعالى : ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) (٧) ثم قال يا محمد ( تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً

__________________

(١) تكسح ارضها : تقشرها من التراب. (٢) كسفا : قطعا قد ركب بعضها على بعض. (٣) الطور : ٤٤ ، والمركوم : المتراكم الذي يجعل بعضه على بعض.

(٤) العلق : ٦ ـ ٧. (٥) سكرت أبصارنا : غطيت وغشيت عن النظر. (٦) الفرقان : ٧ ـ ٨.

(٧) الإسراء : ٤٨.

٣٠

مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ) (١) وأنزل عليه يا محمد ( فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ) (٢) الآية وأنزل الله عليه يا محمد ( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ) إلى قوله ( وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) (٣).

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عبد الله أما ما ذكرت من أني آكل الطعام كما تأكلون وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولا فإنما الأمر لله تعالى ( يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) و ( يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) وهو محمود وليس لك ولا لأحد الاعتراض عليه بلم وكيف ألا ترى أن الله كيف أفقر بعضا وأغنى بعضا وأعز بعضا وأذل بعضا وأصح بعضا وأسقم بعضا وشرف بعضا ووضع بعضا وكلهم ممن يأكل الطعام ثم ليس للفقراء أن يقولوا لم أفقرتنا وأغنيتهم ولا للوضعاء أن يقولوا لم وضعتنا وشرفتهم ولا للزمنى (٤) والضعفاء أن يقولوا لم أزمنتنا وأضعفتنا وصححتهم ولا للأذلاء أن يقولوا لم أذللتنا وأعززتهم ولا لقباح الصور أن يقولوا لم قبحتنا وجملتهم.

بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين وله في أحكامه منازعين وبه كافرين ولكان جوابه لهم أنا الملك الخافض الرافع المغني المفقر المعز المذل المصحح المسقم وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم لي والانقياد لحكمي فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين وإن أبيتم كنتم بي كافرين وبعقوباتي من الهالكين.

ثم أنزل الله عليه يا محمد ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) يعني آكل الطعام و ( يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) (٥) يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكم ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال دون بعض من البشر فلا تنكروا أن يخصني أيضا بالنبوة.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأما قولك هذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده فإن الله له التدبير والحكم لا يفعل على ظنك وحسبانك ولا باقتراحك بل ( يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) و ( يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) وهو محمود يا عبد الله إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم ويكد (٦) نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها وعبيد وخدم يسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ أوما ترى الملوك إذا احتجبوا كيف يجري الفساد والقبائح من حيث لا يعلمون به ولا يشعرون.

يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصر لرسوله ولا تقدرون على قتله ولا منعه في رسالاته فهذا بين في قدرته وفي عجزكم وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلا وأسرا ثم يظفرني الله ببلادكم ويستولي عليها المؤمنون من دونكم ودون من يوافقكم على دينكم.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأما قولك لي لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لا عيان منه ولو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر ،

__________________

(١) الفرقان : ١٠.

(٢) هود : ١٢.

(٣) الأنعام ٨ و ٩.

(٤) الزمنى : الذين ألم بهم المرض ، المرضى.

(٥) الكهف : ١١٠.

(٦) الكد : الالحاح والشدة في الطلب.

٣١

لأنه إنما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقالته وتعرفوا خطابه ومراده فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأن ما يقوله حق بل إنما بعث الله بشرا وأظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة وأن ذلك شهادة من الله بالصدق له ـ ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما يعجز عنه البشر لم يكن في ذلك ما يدلكم أن ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير ذلك معجزا ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز لأن لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها ولو أن آدميا طار كطيرانها كان ذلك معجزا فإن الله عز وجل سهل عليكم الأمر وجعله بحيث تقوم عليكم حجته وأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأما قولك ما أنت إلا رجل مسحور فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التمييز والعقل فوقكم ـ فهل جربتم علي منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية (١) أو زلة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأي أتظنون أن رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته وذلك ما قال الله : ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجة أكثر من دعاويهم الباطلة التي تبين عليك تحصيل بطلانها.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأما قولك : ( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بالطائف فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك ـ بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء وليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه وليس هو عز وجل ممن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله فعرفته بالنبوة لذلك ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت فتخصه بالنبوة لذلك ولا ممن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديم وإنما معاملته بالعدل فلا يؤثر إلا بالعدل لأفضل مراتب الدين وجلاله إلا الأفضل في طاعته والأجدى في خدمته وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله إلا أشدهم تباطؤا عن طاعته.

وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال بل هذا المال والحال من تفضله وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب (٢) ، فلا يقال له إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا إلزامه تفضلا لأنه تفضل قبله بنعمه.

ألا ترى يا عبد الله كيف أغنى واحدا وقبح صورته وكيف حسن صورة واحد وأفقره وكيف شرف واحدا وأفقره وكيف أغنى واحدا ووضعه ثم ليس لهذا الغني أن يقول هلا أضيف إلى يساري جمال فلان ولا للجميل أن يقول هلا أضيف إلى جمالي مال فلان ولا للشريف أن يقول هلا أضيف إلى شرفي مال فلان ولا للوضيع أن يقول هلا أضيف إلى ضعتي شرف فلان ولكن الحكم لله يقسم كيف يشاء

__________________

(١) وفي بعض النسخ « خربة » وهي العيب والعورة والذلة.

(٢) الضريبة : التي تؤخذ في الجزية ونحوها واللازب : اللازم الشديد اللزوم.

٣٢

ويفعل كما يشاء ـ وهو حكيم في أفعاله محمود في أعماله وذلك قوله تعالى : ( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال الله تعالى ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) يا محمد ( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) (١) فأحوجنا بعضا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك وأحوج ذلك إلى سلعة هذا وإلى خدمته فترى أجل الملوك وأغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب ـ إما سلعة معه ليست معه وإما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به وإما باب من العلوم والحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير فهذا الفقير يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.

ثم ليس للملك أن يقول هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير ولا للفقير أن يقول هلا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذا الملك الغني ثم قال الله ( وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) ثم قال يا محمد قل لهم : ( وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (٢) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأما قولك : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) إلى آخر ما قلته فإنك قد اقترحت على محمد رسول الله ـ أشياء منها ما لو جاءك به لم يكن برهانا لنبوته و/ طرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرتفع عن أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتج عليهم بما لا حجة فيه ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك وإنما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان بها لا ليهلكوا بها فإنما اقترحت هلاكك ورب العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما تقترحون ومنها المحال الذي لا يصح ولا يجوز كونه ورسول رب العالمين يعرفك ذلك ويقطع معاذيرك ويضيق عليك سبيل مخالفته ويلجئك بحجج الله إلى تصديقه حتى لا يكون لك عنه محيد ولا محيص ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاند متمرد لا تقبل حجة ولا تصغي إلى برهان ومن كان كذلك فدواؤه عذاب الله النازل من سمائه في جحيمه أو بسيوف أوليائه.

فأما قولك يا عبد الله ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) بمكة هذه ـ فإنها ذات أحجار وصخور وجبال تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيون فإننا إلى ذلك محتاجون فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله.

يا عبد الله أرأيت لو فعلت هذا أكنت من أجل هذا نبيا؟ قال لا.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرأيت الطائف التي لك فيها بساتين أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذللتها وكسحتها وأجريت فيها عيونا استنبطتها؟ قال بلى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله وهل لك في هذا نظراء؟ قال بلى.

قال فصرت أنت وهم بذلك أنبياء؟ قال لا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمد لو فعله على نبوته فما هو إلا كقولك لن نؤمن لك حتى تقوم

__________________

(١ و ٢) الزخرف : ٣٢.

٣٣

وتمشي على الأرض كما يمشي الناس أو حتى تأكل الطعام كما يأكل الناس.

وأما قولك يا عبد الله ( أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ) فتأكل منها وتطعمنا وتفجر ( الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ) أوليس لك ولأصحابك جنات من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها وتفجرون الأنهار خلالها تفجيرا أفصرتم أنبياء بهذا قال لا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فما بال اقتراحكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلت على صدقه بل لو تعاطاها لدل تعاطيها على كذبه لأنه يحتج بما لا حجة فيه ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم ورسول رب العالمين يجل ويرتفع عن هذا.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عبد الله وأما قولك ( أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ) فإنك قلت : ( وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ ) فإن في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم فإنما تريد بهذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يهلكك ورسول رب العالمين أرحم من ذلك لا يهلكك ولكنه يقيم عليك حجج الله وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب اقتراح عباده لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز منه من الفساد وقد يختلف اقتراحهم ويتضاد حتى يستحيل وقوعه والله عز وجل طبيبكم لا يجري تدبيره على ما يلزم به المحال.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهل رأيت يا عبد الله طبيبا ـ كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم؟ وإنما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه أحبه العليل أو كرهه فأنتم المرضى والله طبيبكم فإن انقدتم لدوائه شفاكم وإن تمردتم عليه أسقمكم.

وبعد فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم من حكامهم ـ فيما مضى بينة على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه إذا ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى ولا حق ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بين صادق وكاذب فرق.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عبد الله وأما قولك ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) يقابلوننا ونعاينهم فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به وإن ربنا عز وجل ليس كالمخلوقين يجيء ويذهب ويتحرك ويقابل شيئا حتى يؤتى به فقد سألتم بهذا المحال وإنما هذا الذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم ولا تغني عنكم شيئا ولا عن أحد.

يا عبد الله أوليس لك ضياع وجنان بالطائف وعقار بمكة وقوام عليها؟ قال بلى قال أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك؟ قال بسفراء.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أرأيت لو قال معاملوك وأكرتك (١) وخدمتك لسفرائك لا نصدقكم في هذه السفارة إلا أن تأتونا بعبد الله بن أبي أمية لنشاهده فنسمع ما تقولون عنه شفاها كنت تسوغهم هذا أو كان يجوز لهم عندك ذلك؟ قال لا.

__________________

(١) الاكرة : الأجراء والعمال.

٣٤

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فما الذي يجب على سفرائك أليس أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلهم على صدقهم يجب عليهم أن يصدقوهم؟ قال بلى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عبد الله أرأيت سفيرك لو أنه لما سمع منهم هذا عاد إليك وقال لك قم معي فإنهم قد اقترحوا علي مجيئك معي أليس يكون هذا لك مخالفا وتقول له إنما أنت رسول لا مشير ولا آمر؟ قال بلى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف صرت تقترح على رسول رب العالمين ما لا تسوغ لأكرتك ومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم وكيف أردت من رسول رب العالمين أن يستذم إلى ربه بأن يأمر عليه وينهى؟ وأنت لا تسوغ مثل هذا على رسولك إلى أكرتك وقوامك هذه حجة قاطعة لإبطال جميع ما ذكرته في كل ما اقترحته يا عبد الله وأما قولك يا عبد الله : ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) وهو الذهب أما بلغك أن لعظيم مصر بيوتا من زخرف؟ قال بلى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أفصار بذلك نبيا؟ قال لا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك لا يوجب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبوة لو كان له بيوت ومحمد لا يغنم جهلك بحجج الله.

وأما قولك يا عبد الله ( أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ ) ثم قلت ( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) يا عبد الله الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها وإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول ثم قلت ( حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) من بعد ذلك ثم لا أدري أومن بك أو لا أومن بك فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك فلا دواء لك إلا تأديبه لك على يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية وقد أنزل علي حكمة بالغة جامعة لبطلان كل ما اقترحته فقال عز وجل :

( قُلْ ) يا محمد ( سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) (١) ما أبعد ربي عن أن يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهال مما يجوز ومما لا يجوز ( هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) لا يلزمني إلا إقامة حجة الله التي أعطاني وليس لي أن آمر على ربي ولا أنهى ولا أشير فأكون كالرسول الذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما اقترحوه عليه.

فقال أبو جهل يا محمد هاهنا واحدة ألست زعمت أن قوم موسى احترقوا بالصاعقة لما سألوه أن يريهم الله جهرة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله بلى.

قال فلو كنت نبيا لاحترقنا نحن أيضا فقد سألنا أشد مما سأل قوم موسى لأنهم كما زعمت قالوا : ( أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ) ونحن نقول ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) نعاينهم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا أبا جهل أما علمت قصة إبراهيم الخليل لما رفع في الملكوت؟ وذلك قول ربي : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٢) قوى الله بصره لما

__________________

(١) الإسراء ـ ٩٣

(٢) الأنعام : ٧٥.

٣٥

رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين فرأى رجلا وامرأة على فاحشة فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما فأوحى الله إليه يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فأَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الجبار الحليم لا يضرني ذنوب عبادي كما لا تنفعني طاعتهم ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك فاكفف دعوتك عن عبادي وإمائي ـ فإنما أنت عبد نذير لا شريك في الملك ولا مهيمن علي ولا عبادي وعبادي معي بين خلال ثلاث إما تابوا إلي فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم وسترت عيوبهم وإما كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريات مؤمنون فأرق بالآباء الكافرين وأتأنى بالأمهات الكافرات وأرفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من أصلابهم فإذا تزايلوا حل بهم عذابي وحاق بهم بلائي وإن لم يكن هذا ولا هذا فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم مما تريده بهم فإن عذابي لعبادي على حسب جلالي وكبريائي.

يا إبراهيم خل بيني وبين عبادي فأنا أرحم بهم منك وخل بيني وبين عبادي فإني أنا الجبار الحليم العلام الحكيم أديرهم بعلمي وأنفذ فيهم قضائي وقدري.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا أبا جهل إنما دفع عنك العذاب لعلمه بأنه سيخرج من صلبك ذرية طيبة عكرمة ابنك وسيلي من أمور المسلمين ما إن أطاع الله ورسوله فيه كان عند الله جليلا وإلا فالعذاب نازل عليك وكذلك سائر قريش السائلين لما سألوا من هذا إنما أمهلوا لأن الله علم أن بعضهم سيؤمن بمحمد وينال به السعادة فهو لا يقطعه عن تلك السعادة ولا يبخل بها عليه أو من يولد منه مؤمن فهو ينظر أباه لإيصال ابنه إلى السعادة ولو لا ذلك لنزل العذاب بكافتكم فانظر إلى السماء فنظر فإذا أبوابها مفتحة ـ وإذا النيران نازلة منها مسامتة لرءوس القوم (١) تدنو منهم حتى وجدوا حرها بين أكتافهم فارتعدت فرائص (٢) أبي جهل والجماعة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تروعنكم فإن الله لا يهلككم بها وإنما أظهرها عبرة.

ثم نظروا إلى السماء وإذا قد خرج من ظهور الجماعة أنوار قابلتها ورفعتها ودفعتها حتى أعادتها في السماء كما جاءت منها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن بعض هذه الأنوار أنوار من قد علم الله أنه سيسعده بالإيمان بي منكم من بعد وبعضها أنوار ذرية طيبة ـ ستخرج من بعضكم ممن لا يؤمن وهم يؤمنون.

وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام أنه قال قيل لأمير المؤمنين يا أمير المؤمنين هل كان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله آية مثل آية موسى في رفعه الجبل فوق رءوس الممتنعين عن قبول ما أمروا به؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام إي والذي بعثه بالحق نبيا ما من آية كانت لأحد من الأنبياء من لدن آدم إلى أن انتهى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا وقد كان لمحمد مثلها أو أفضل منها ولقد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نظير هذه الآية إلى آيات أخر ظهرت له وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أظهر بمكة دعوته وأبان عن الله تعالى مراده رمته العرب عن قسي عداوتها بضروب مكايدهم ولقد قصدته يوما لأني كنت أول الناس

__________________

(١) مسامتة لرءوس القوم : محاذية لرءوسهم.

(٢) الفرائص جمع الفريصة ، وهي لحمة بين الثدي والكتف ترعد عن الفزع.

٣٦

إسلاما بعث يوم الإثنين وصليت معه يوم الثلاثاء ـ وبقيت معه أصلي سبع سنين حتى دخل نفر في الإسلام وأيد الله تعالى دينه من بعده فجاء قوم من المشركين فقالوا له :

يا محمد تزعم أنك رسول رب العالمين ثم إنك لا ترضى بذلك حتى تزعم أنك سيدهم وأفضلهم فلئن كنت نبيا فائتنا بآية كما تذكره من الأنبياء قبلك ـ مثل نوح الذي جاء بالغرق ونجا في سفينته مع المؤمنين وإبراهيم الذي ذكرت أن النار جعلت عليه بردا وسلاما وموسى الذي زعمت أن الجبل رفع فوق رءوس أصحابه حتى انقادوا لما دعاهم إليه صاغرين داخرين وعيسى الذي كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وصار هؤلاء المشركون فرقا أربعة هذه تقول أظهر لنا آية نوح وهذه تقول أظهر لنا آية موسى وهذه تقول أظهر لنا آية إبراهيم وهذه تقول أظهر لنا آية عيسى.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أتيتكم بآية مبينة هذا القرآن الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته وهو بلغتكم فهو حجة بينة عليكم وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربي ( وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ* ) إلى المقرين بحجة صدقه وآية حقه وليس عليه أن يقترح بعد قيام الحجة على ربه ما يقترحه عليه المقترحون الذين لا يعلمون هل الصلاح أو الفساد فيما يقترحون.

فجاء جبرئيل فقال يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك إني سأظهر لهم هذه الآيات وإنهم يكفرون بها إلا من أعصمه منهم ولكني أريهم ذلك زيادة في الإعذار والإيضاح لحججك فقل لهؤلاء المقترحين لآية نوح عليه‌السلام امضوا إلى جبل أبي قبيس فإذا بلغتم سفحه فسترون آية نوح فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه وقل للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم عليه‌السلام امضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة فسترون آية إبراهيم في النار فإذا غشيكم النار فسترون في الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار وقل للفريق الثالث المقترحين لآية موسى امضوا إلى ظل الكعبة فسترون آية موسى وسينجيكم هناك عمي حمزة وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل وأنت يا أبا جهل فاثبت عندي ليتصل بك أخبار هؤلاء الفرق الثلاث فإن الآية التي اقترحتها تكون بحضرتي.

فقال أبو جهل للفرق الثلاث قوموا فتفرقوا ليتبين لكم باطل قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فذهب الفريق الأول إلى جبل أبي قبيس والثاني إلى صحراء ملساء والثالث إلى ظل الكعبة ورأوا ما وعدهم الله ورجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤمنين وكلما رجع فريق منهم إليه وأخبروه بما شاهدوا ألزمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإيمان بالله فاستمهل أبو جهل إلى أن يجيء الفريق الآخر حسب ما أوردناه في الكتاب الموسوم بمفاخر الفاطمية ـ تركنا ذكره هاهنا طلبا للإيجاز والاختصار.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام فلما جاءت الفرقة الثالثة وأخبروا بما شاهدوا عيانا وهم مؤمنون بالله وبرسوله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي جهل هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتك بما شاهدت.

فقال أبو جهل لا أدري أصدق هؤلاء أم كذبوا أم حقق لهم ذلك أم خيل إليهم فإن رأيت أنا ما اقترحته عليك من نحو آيات عيسى ابن مريم فقد لزمني الإيمان بك وإلا فليس يلزمني تصديق هؤلاء على كثرتهم.

٣٧

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوي أسلاف أعدائك وكيف تصدق على الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها وهل المخبرون عن ذلك إلا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائر من شاهدها معهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرصونه إلا إذا كان بإزائهم من يكذبهم. ويخبر بضد أخبارهم ألا وكل فرقة محجوجون بما شاهدوا وأنت يا أبا جهل محجوج بما سمعت ممن شاهده

ثم أخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما اقترح عليه من آيات عيسى من أكله لما أكل وادخاره في بيته لما ادخر من دجاجة مشوية وإحياء الله تعالى إياها وإنطاقها بما فعل بها أبو جهل وغير ذلك على ما جاء به في هذا الخبر فلم يصدقه أبو جهل في ذلك كله بل كان يكذبه وينكر جميع ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره به من ذلك إلى أن قال النبي لأبي جهل.

أما كفاك ما شاهدت أم تكون آمنا من عذاب الله قال أبو جهل إني لأظن أن هذا تخييل وإيهام.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهل تفرق بين مشاهدتك لها وسماعك لكلامها يعني الدجاجة المشوية التي أنطقها الله له وبين مشاهدتك لنفسك ولسائر قريش والعرب وسماعك كلامهم؟ قال أبو جهل لا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما يدريك إذا أن جميع ما تشاهد وتحس بحواسك تخييل؟ قال أبو جهل ما هو تخييل.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا هذا تخييل وإلا فكيف تصحح أنك ترى في العالم شيئا أوثق منه تمام الخبر

رسالة لأبي جهل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما هاجر إلى المدينة والجواب عنها بالرواية عن أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام.

وهي أن قال يا محمد إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة ورمت بك إلى يثرب وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك إلى أن تفسدها على أهلها وتصليهم حر نار جهنم وتعديك طورك ـ وما أرى ذلك إلا وسيئول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد إثارك ودفع ضرك وبلائك فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك فيلجئه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك واصطلموهم (١) باصطلامهم لك وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب ـ كما يأتون على أموالك وعيالك وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح.

وأديت هذه الرسالة إلى محمد وهو بظاهر المدينة بحضرة كافة أصحابه وعامة الكفار من يهود بني إسرائيل ـ

__________________

(١) اصطلموهم : استأصلوهم.

٣٨

وهكذا أمر الرسول ليجبن المؤمنين ويغري بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للرسول قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك؟ قال بلى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فاسمع الجواب إن أبا جهل بالمكاره والعطب يتهددني ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق لن يضر محمدا من خذله أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه قل له يا أبا جهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع وعشرين يوما وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان وذكر عددا من قريش في قليب بدر مقتولين أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين وأحملهم على الفداء الثقيل.

ثم نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الأخلاط ألا تحبون أن أريكم مصرع كل واحد منهم هلموا إلى بدر فإن هناك الملتقى والمحشر وهناك البلاء الأكبر لأضع قدمي على مواضع مصارعهم ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة ولا قليلا ولا كثيرا فلم يخف ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلا علي بن أبي طالب عليه‌السلام وحده قال نعم بسم الله فقال الباقون نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ولا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسائر اليهود فأنتم ما ذا تقولون؟

فقالوا نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل (١).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا نصب لكم في المسير إلى هناك اخطوا خطوة واحدة فإن الله يطوي الأرض لكم ويصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك.

قال المسلمون صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلنشرف بهذه الآية وقال الكافرون والمنافقون سوف نمتحن هذا الكذاب لينقطع عذر محمد ويصير دعواه حجة عليه وفاضحة له في كذبه.

قال فخطا القوم خطوة ثم الثانية فإذا هم عند بئر بدر فتعجبوا فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال اجعلوا البئر العلامة ـ واذرعوا من عندها كذا ذراع فذرعوا فلما انتهوا إلى آخرها قال هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان الأنصاري ويجهز عليه عبد الله بن مسعود أضعف أصحابي.

ثم قال اذرعوا من البئر من جانب آخر ثم من جانب آخر ثم من جانب آخر كذا وكذا ذراعا وذراعا وذكر أعداد الأذرع مختلفة فلما انتهى كل عدد إلى آخره قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا مصرع عتبة وهذا مصرع شيبة وذاك مصرع الوليد وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم بأسمائهم وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم ونسب الموالي منهم إلى مواليهم.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أوقفتم على ما أخبرتكم به؟ قالوا بلى.

__________________

(١) المحال من الكلام : ما عدل عن وجهه.

٣٩

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله إن ذلك لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوما في اليوم التاسع والعشرين وعدا من الله مفعولا وقضاء حتما لازما تمام الخبر.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا بما سمعتم فقالوا يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكتابة أذكر لكم فقالوا يا رسول الله فأين الدواة والكتف؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك للملائكة ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله يا ملائكة ربي اكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب واجعلوا في كم كل واحد منهم كتفا من ذلك.

ثم قال يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها وأخرجوها واقرءوها فتأملوها وإذا في كم كل واحد منهم صحيفة قرءوها وإذا فيها ذكر ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك سواء لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم وشرفا للمؤمنين منكم وحجة على أعدائكم فكانت معهم فلما كان يوم بدر جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يزيد ولا ينقص قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبها الملائكة لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر فقبل المسلمون ظاهرهم ووكلوا باطنهم إلى خالقهم

احتجاجه صلى‌الله‌عليه‌وآله على اليهود في جواز نسخ الشرائع وفي غير ذلك

قال أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة أمره الله تعالى أن يتوجه نحو بيت المقدس في صلاته ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن وإذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة فلما كان بالمدينة وكان متعبدا باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا وجعل قوم من مردة اليهود يقولون:

والله ما درى محمد كيف يصلي حتى صار يتوجه إلى قبلتنا ويأخذ في صلاته بهدينا ونسكنا فاشتد ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما اتصل به عنهم وكره قبلتهم وأحب الكعبة فجاءه جبرئيل عليه‌السلام فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا جبرئيل لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبلتهم فقال جبرئيل عليه‌السلام فاسأل ربك أن يحولك إليها فإنه لا يردك عن طلبتك ولا يخيبك من بغيتك فلما استتم دعاءه صعد جبرئيل ثم عاد من ساعته فقال اقرأ يا محمد :

( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (١) الآيات.

__________________

(١) البقرة ـ ١٤٤

٤٠