الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنهم لا يطيقونها فلما أن سار إلى ساق العرش كرر عليه الكلام ليفهمه فقال : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله مجيبا عنه وعن أمته : ( وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) (١) فقال جل ذكره لهم الجنة والمغفرة علي إن فعلوا ذلك فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أما إذا فعلت ذلك بنا فغُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ يعني المرجع في الآخرة.

قال فأجابه الله عز وجل قد فعلت ذلك بك وبأمتك ثم قال عز وجل أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الأمم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمتك حق علي أن أرفعها عن أمتك وقال : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ ) من خير ( وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (٢) من شر فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما سمع ذلك ـ أما إذا فعلت ذلك بي وبأمتي فزدني قال سل قال ( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) (٣) قال الله عز وجل لست أؤاخذ أمتك بالنسيان والخطإ لكرامتك علي وكانت الأمم السالفة إذا نسوا ما ذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب وقد دفعت ذلك عن أمتك وكانت الأمم السالفة إذا أخطئوا أخذوا بالخطإ وعوقبوا عليه وقد رفعت ذلك عن أمتك لكرامتك علي.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله اللهم إذا أعطيتني ذلك فزدني قال الله تبارك وتعالى له سل قال ( رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) (٤) يعني بالإصر الشدائد التي كانت على من كان من قبلنا فأجابه الله عز وجل إلى ذلك وقال تبارك اسمه قد رفعت عن أمتك الآصار التي كانت على الأمم السالفة كنت لا أقبل صلاتهم إلا في بقاع معلومة من الأرض اخترتها لهم وإن بعدت وقد جعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا فهذه من الآصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم وقد جعلت الماء لأمتك طهورا فهذا من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك وكانت الأمم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس فمن قبلت ذلك منه أرسلت عليه نارا فأكلته فرجع مسرورا ومن لم أقبل منه ذلك رجع مثبورا (٥) وقد جعلت قربان أمتك في بطون فقرائها ومساكينها ـ فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة ومن لم أقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدنيا وقد رفعت ذلك عن أمتك وهي من الآصار التي كانت على الأمم من كان من قبلك وكانت الأمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار وهي من الشدائد التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك وفرضت صلاتهم في أطراف الليل والنهار وفي أوقات نشاطهم.

وكانت الأمم السالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك وجعلتها خمسا في خمسة أوقات وهي إحدى وخمسون ركعة وجعلت لهم أجر خمسين صلاة وكانت الأمم السالفة حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة وهي من الآصار التي كانت

__________________

(١) البقرة ـ ٨٥.

(٢ ، ٣ ، ٤) البقرة ـ ٢٨٦.

(٥) المثبور : الخائب.

٢٢١

عليهم فرفعتها عن أمتك وجعلت الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة وكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة فلم يعملها لم تكتب له وإن عملها كتبت له حسنة وإن أمتك إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشرة ـ وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك وكانت الأمم السالفة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت عليه سيئة وإن أمتك إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة وهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك.

وكانت الأمم السالفة إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم وجعلت توبتهم من الذنوب أن حرمت عليهم بعد التوبة أحب الطعام إليهم وقد رفعت ذلك عن أمتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم وجعلت عليهم ستورا كثيفة وقبلت توبتهم بلا عقوبة ولا أعاقبهم بأن أحرم عليهم أحب الطعام إليهم وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم إلى الله من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة ثم لا أقبل توبته دون أن أعاقبه في الدنيا بعقوبة وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك وإن الرجل من أمتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مائة سنة ثم يتوب ويندم طرفة عين فأغفر ذلك كله.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أعطيتني ذلك كله فزدني قال سل ـ قال ( رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) (١) قال تبارك اسمه قد فعلت ذلك بأمتك وقد رفعت عنهم عظم بلايا الأمم وذلك حكمي في جميع الأمم أن لا أكلف خلقا فوق طاقتهم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا ) (٢) قال الله عز وجل قد فعلت ذلك بتائبي أمتك ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله ( فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (٣) قال الله جل اسمه إن أمتك في الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود هم القادرون وهم القاهرون يستخدمون ولا يستخدمون لكرامتك علي وحق علي أن أظهر دينك على الأديان ـ حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلا دينك ويؤدون إلى أهل دينك الجزية.

قال اليهودي فإن هذا سليمان سخرت له الشياطين ( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ ).

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ولقد أعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من هذا إن الشياطين سخرت لسليمان وهي مقيمة على كفرها ـ ولقد سخرت لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الشياطين بالإيمان فأقبل إليه من الجنة التسعة من أشرافهم واحد من جن نصيبين والثمان من بني عمرو بن عامر من الأحجة (٤) منهم شضاه ومضاه (٥) والهملكان والمرزبان والمأزمان ونضاه وهاضب وهضب وعمرو وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم : ( وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) (٦) وهم التسعة ،

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) البقرة ـ ٢٨٦.

(٤) الاحجة ـ جمع حجيج ـ أي الذين يقيمون الحج وفي بعض النسخ : « الأجنحة » أي : الرؤساء.

(٥) وفي بعض النسخ : « شضاة ومضاة »

(٦) الأحقاف ـ ٢٩.

٢٢٢

فأقبل إليه الجن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ( ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً ) ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم ـ فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ونصح المسلمين واعتذروا بأنهم قالوا ( عَلَى اللهِ شَطَطاً ) وهذا أفضل مما أعطي سليمان فسبحان من سخرها لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن كانت تتمرد وتزعم أن لله ولدا ولقد شمل مبعثه من الجن والإنس ما لا يحصى.

قال له اليهودي هذا يحيى بن زكريا عليه‌السلام يقال إنه أوتي الحكم صبيا والحلم والفهم ـ وإنه كان يبكي من غير ذنب وكان يواصل الصوم؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إن يحيى بن زكريا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهلية ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أوتي الحكم والفهم صبيا بين عبدة الأوثان وحزب الشيطان فلم يرغب لهم في صنم قط ولم ينشط لأعيادهم ولم ير منه كذب قط وكان أمينا صدوقا حليما وكان يواصل الصوم الأسبوع والأقل والأكثر فيقال له في ذلك فيقول إني لست كأحدهم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني وكان يبكي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى تبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم.

قال له اليهودي فإن هذا عيسى بن مريم يزعمون أنه تكلم ( فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا )؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله سقط من بطن أمه واضعا يده اليسرى على الأرض ورافعا يده اليمنى إلى السماء يحرك شفتيه بالتوحيد وبدا من فيه نور رأى أهل مكة منه قصور بصرى من الشام وما يليها والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها والقصور البيض من إصطخر وما يليها ولقد أضاءت الدنيا ليلة ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى فزعت الجن والإنس والشياطين وقالوا حدث في الأرض حدث ـ ولقد رئي الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل وتسبح وتقدس وتضطرب النجوم وتتساقط علامة لميلاده.

ولقد هم إبليس بالظعن في السماء لما رأى من الأعاجيب في تلك الليلة وكان له مقعد في السماء الثالثة والشياطين يسترقون السمع فلما رأوا العجائب أرادوا أن يسترقوا السمع فإذا هم قد حجبوا من السماوات كلها ـ ورموا بالشهب دلالة (١) لنبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال له اليهودي فإن عيسى عليه‌السلام يزعمون أنه قد أبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله؟

فقال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من ذلك أبرأ ذا العاهة من عاهته وبينما هو جالس صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ سأل عن رجل من أصحابه فقالوا يا رسول الله إنه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ الذي لا ريش عليه فأتاه صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا هو كهيئة الفرخ من شدة البلاء فقال له قد كنت تدعو في صحتك دعاء؟ قال نعم كنت أقول يا رب أيما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فاجعلها لي

__________________

(١) في بعض النسخ : « جلالة ».

٢٢٣

في الدنيا ـ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ألا قلت اللهم ( آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) فقالها الرجل فكأنما نشط من عقال وقام صحيحا وخرج معنا.

ولقد أتاه رجل من جهينة أجذم يتقطع من الجذام فشكا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ قدحا من ماء فتفل عليه ثم قال امسح جسدك ففعل فبرأ حتى لم يوجد عليه شيء ـ ولقد أتي النبي بأعرابي أبرص فتفل صلى‌الله‌عليه‌وآله من فيه عليه فما قام من عنده إلا صحيحا.

ولئن زعمت أن عيسى أبرأ ذا العاهات من عاهاتهم فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما هو في أصحابه إذ هو بامرأة فقالت يا رسول الله إن ابني قد أشرف على حياض الموت كلما أتيته بطعام وقع عليه التثاؤب فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقمنا معه فلما أتيناه قال له جانب يا عدو الله ولي الله فأنا رسول الله فجانبه الشيطان فقام صحيحا وهو معنا في عسكرنا.

ولئن زعمت أن عيسى أبرأ العميان فإن محمدا قد فعل ما هو أكبر من ذلك إن قتادة بن ربيع كان رجلا صحيحا فلما أن كان يوم أحد أصابته طعنة في عينه فبدرت حدقته (١) فأخذها بيده ثم أتى بها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله إن امرأتي الآن تبغضني فأخذها رسول الله من يده ثم وضعها مكانها فلم تكن تعرف إلا بفضل حسنها وفضل ضوئها على العين الأخرى ولقد جرح عبد الله بن عبيد (٢) وبانت يده يوم حنين فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فمسح عليه يده فلم تكن تعرف من اليد الأخرى ـ ولقد أصاب محمد بن مسلم يوم كعب بن أشرف مثل ذلك في عينه ويده فمسحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم تستبينا ولقد أصاب عبد الله بن أنيس مثل ذلك في عينه فمسحها فما عرفت من الأخرى فهذه كلها دلالة لنبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال له اليهودي فإن عيسى يزعمون أنه أحيا ( الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ )؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد سبحت في يده تسع حصيات تسمع نغماتها في جمودها ـ ولا روح فيها لتمام حجة نبوته ولقد كلمه الموتى من بعد موتهم واستغاثوه مما خافوا تبعته ولقد صلى بأصحابه ذات يوم فقال ما هاهنا من بني النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلان اليهودي وكان شهيدا ولئن زعمت أن عيسى كلم الموتى فلقد كان لمحمد ما هو أعجب من هذا إن النبي لما نزل بالطائف وحاصر أهلها بعثوا إليه بشاة مسلوخة مطلية بسم فنطق الذراع منها فقالت يا رسول الله لا تأكلني فإني مسمومة فلو كلمته البهيمة وهي حية لكانت من أعظم حجج الله على المنكرين لنبوته فكيف وقد كلمته من بعد ذبح وسلخ وشي (٣).

ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو بالشجرة فتجيبه ـ وتكلمه البهيمة وتكلمه السباع وتشهد له بالنبوة وتحذرهم عصيانه فهذا أكثر مما أعطي عيسى عليه‌السلام.

__________________

(١) الحدقة : سواد العين الأعظم.

(٢) في بعض النسخ « بن عتيك ».

(٣) أي : من بعد ما صار مشويا مطبوخا.

٢٢٤

قال له اليهودي إن عيسى يزعمون أنه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد كان له أكثر من هذا إن عيسى أنبأ قومه بما كان من وراء الحائط ومحمد أنبأ عن مؤتة (١) وهو عنها غائب ووصف حربهم ومن استشهد منهم وبينه وبينهم مسيرة شهر وكان يأتيه الرجل يريد أن يسأله عن شيء فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله تقول أو أقول فيقول بل قل يا رسول الله فيقول جئتني في كذا وكذا حتى يفرغ من حاجته ـ ولقد كان ص يخبر أهل مكة بأسرارهم بمكة حتى لا يترك من أسرارهم شيئا.

منها ما كان بين صفوان بن أمية وبين عمير بن وهب إذ أتاه عمير فقال جئت في فكاك ابني فقال له كذبت بل قلت لصفوان بن أمية وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم والله للموت أهون علينا من البقاء مع ما صنع محمد بنا وهل حياة بعد أهل القليب فقلت أنت لو لا عيالي ودين علي لأرحتك من محمد فقال صفوان علي أن أقضي دينك وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما يصيبهن من خير أو شر فقلت أنت فاكتمها علي وجهزني حتى أذهب فأقتله فجئت لقتلي فقال صدقت يا رسول الله فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وأشباه هذا مما لا يحصى.

قال له اليهودي فإن عيسى يزعمون أنه خلق ( مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) فنفخ فيه فكان ( طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ )؟

فقال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ـ ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد فعل ما هو شبيه لهذا إذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا وتقديسا ثم قال للحجر انفلق فانفلق ثلاث فلق يسمع [ نسمع ] لكل فلقة منها تسبيحا لا يسمع للأخرى ولقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته ولكل غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس ثم قال لها انشقي فانشقت نصفين ثم قال لها التزقي فالتزقت ثم قال لها اشهدي بالنبوة فشهدت ثم قال لها ارجعي إلى مكانك بالتسبيح والتهليل والتقديس ففعلت وكان موضعها حيث الجزارين بمكة.

قال له اليهودي فإن عيسى يزعمون أنه كان سياحا؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد كانت سياحته في الجهاد ـ واستنفر في عشر سنين ما لا يحصى من حاضر وباد وأفنى فئاما من العرب (٢) من منعوت بالسيف لا يداري بالكلام (٣) ولا ينام إلا عن دم ولا يسافر إلا وهو متجهز لقتال عدوه.

قال له اليهودي فإن عيسى يزعمون أنه كان زاهدا؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أزهد الأنبياء عليهم‌السلام كان له ثلاث عشرة زوجة

__________________

(١) مؤتة ـ بصم الميم وسكون الهمزة وفتح التاء ـ : اسم موضع قتل فيه جعفر ابن أبي طالب (٧) والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة فأخبر أصحابه بقتله وهو من على المنبر وقد مر ذكره في هامش ص ١٧٢.

(٢) الفئام ـ بالكسر مهموزا ـ : الجماعة الكثيرة وقد فسر في بعض الأخبار بمائة ألف.

(٣) في بعض النسخ : « لا يبالي ».

٢٢٥

سوى من يطيف به من الإماء ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام ولا أكل خبز بر قط ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قط توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه مرهونة عند يهودي بأربعة دراهم ما ترك صفراء ولا بيضاء مع ما وطئ له من البلاد (١) ومكن له من غنائم العباد ـ ولقد كان يقسم في اليوم الواحد الثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف ويأتيه السائل بالعشي فيقول والذي بعث محمدا بالحق ما أمسى في آل محمد صاع من شعير ولا صاع من بر ولا درهم ولا دينار.

قال له اليهودي فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد أنه ما أعطى الله نبيا درجة ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وزاد محمدا على الأنبياء أضعاف ذلك درجات.

فقال ابن عباس لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام أشهد يا أبا الحسن أنك من الراسخين في العلم.

فقال ويحك وما لي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه الله عز وجل في عظمته فقال ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢).

احتجاجه عليه‌السلام ـ على بعض ـ اليهود ـ وغيره في أنواع شتى من العلوم (٣)

عن صالح بن عقبة (٤) عن الصادق عليه‌السلام قال : لما هلك أبو بكر واستخلف عمر خرج عمر إلى المسجد فقعد فدخل عليه رجل فقال يا أمير المؤمنين إني رجل من اليهود وأنا علامتهم وقد أردت أن أسألك عن مسائل إن أخبرتني بها أسلمت قال وما هي؟ قال ثلاث وثلاث وواحدة فإن شئت سألتك وإن كان في القوم أحد أعلم منك فأرشدني قال عليك بذاك الشاب يعني علي بن أبي طالب (ع).

فأتى عليا عليه‌السلام فسأل فقال له قلت ثلاثا وثلاثا وواحدة ألا قلت سبعا قال إني إذا لجاهل إن لم تجبني في الثلاث اكتفيت قال فإن أجبتك تسلم؟ قال نعم ـ قال سل قال أسألك عن أول حجر وضع على وجه الأرض وأول عين نبعت وأول شجرة نبتت؟

قال يا يهودي أنتم تقولون أول حجر وضع على وجه الأرض الحجر الذي في بيت المقدس وكذبتم هو الحجر الأسود الذي نزل مع آدم عليه‌السلام من الجنة.

__________________

(١) وطئ له : مهد وذلل ويسر.

(٢) القلم ـ ٤.

(٣) في ج ٤ من بحار الأنوار ص ٩٤ عن عيون أخبار الرضا والخصال للصدوق : أبي عن سعد عن ابن أبي الخطاب عن الحكم ابن مسكين الثقفي عن صالح بن عقبة عن جعفر بن محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال لما هلك أبو بكر ... الخ ثم قال : قال الصدوق في الخصال وقد أخرجت هذا الحديث من طرق في كتاب : « الأوائل » ، أيضا عن كمال الدين وتمام النعمة : أبي وابن الوليد معا عن سعد مثله.

(٤) صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عده الشيخ في أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام وذكره العلامة في القسم الثاني من الخلاصة.

٢٢٦

قال صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى (ع).

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام وأما العين فأنتم تقولون إن أول عين نبعت على وجه الأرض العين التي ببيت المقدس وكذبتم وهي عين الحياة التي غسل فيها النون موسى وهي العين التي شرب منها الخضر وليس يشرب منها أحد إلا حي قال صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى.

قال علي عليه‌السلام وأما الشجرة فأنتم تقولون إن أول شجرة نبتت على وجه الأرض الزيتون وكذبتم وهي العجوة نزل بها آدم عليه‌السلام من الجنة قال صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى عليه‌السلام.

قال والثلاث الأخرى كم لهذه الأمة من إمام هدى لا يضرهم من خذلهم ـ؟

قال اثنا عشر إماما قال صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى.

قال وأين يسكن نبيكم من الجنة؟ قال أعلاها درجة وأشرفها مكانا في جنات عدن قال صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى.

قال فمن ينزل معه في منزله؟

قال اثنا عشر إماما قال صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى.

قال قد بقيت السابعة.

قال كم يعيش وصيه بعده؟ قال ثلاثين سنة.

قال ثم هو يموت أو يقتل؟ ـ قال يضرب على قرنه فتخضب لحيته قال صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى ثم أسلم وحسن إسلامه.

وعن أصبغ بن نباتة قال : كنت جالسا عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فجاء ابن الكواء (١) فقال :

يا أمير المؤمنين من البيوت في قول الله عز وجل : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (٢).

قال علي عليه‌السلام نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منه فمن تابعنا وأقر بولايتنا فقد أتى ( الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) ومن خالفنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى ( الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ).

__________________

(١) ابن الكوا اسمه عبد الله ، وهو خارجي ملعون ، قرأ خلف أمير المؤمنين عليه‌السلام جهرا : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) وكان علي عليه‌السلام يؤم الناس وهو يجهر بالقراءة فسكت (عليه‌السلام) حتى سكت ابن الكواء ، ثم عاد في قراءته فعاد حتى فعل ذلك ثلاثا فلما كان في الثالثة قرأ أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ).

(٢) البقرة ـ ١٨٩.

٢٢٧

فقال يا أمير المؤمنين ( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ )؟

فقال علي عليه‌السلام نحن أصحاب الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم ونحن الأعراف يوم القيامة بين الجنة والنار ولا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه وذلك بأن الله عز وجل لو شاء عرف للناس نفسه حتى يعرفوه وحده ويأتوه من بابه ولكنه جعلنا أبوابه وصراطه وبابه الذي يؤتى منه فقال فيمن عدل عن ولايتنا وفضل علينا غيرنا فإنهم ( عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) (١).

وعن الأصبغ بن نباتة أيضا قال : أتى ابن الكواء أمير المؤمنين فقال :

والله إن في كتاب الله آية اشتدت على قلبي ـ ولقد شككت في ديني.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام ثكلتك أمك وعدمتك ما هي؟

قال قول الله تبارك وتعالى : ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (٢) فما هذا الصف؟ وما هذه الطيور؟ وما هذه الصلاة؟ وما هذا التسبيح؟

فقال علي عليه‌السلام ويحك يا ابن الكواء إن الله خلق الملائكة على صور شتى ألا وإن لله ملكا في صورة ديك أبح أشهب براثنه في الأرضين السفلى وعرفه مثنى تحت عرش الرحمن له جناح بالمشرق من نار وجناح بالمغرب من ثلج فإذا حضر وقت كل صلاة قام على براثنه ثم رفع عنقه من تحت العرش ثم صفق بجناحيه كما تصفق الديكة في منازلكم فلا الذي من نار يذيب الثلج ولا الذي من الثلج يطفئ النار ثم ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد النبيين وأن وصيه خير الوصيين سبوح قدوس رب الملائكة والروح قال فتصفق الديكة بأجنحتها في منازلكم بنحو من قوله وهو قول الله تعالى ( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) من الديكة في الأرض.

وعن الأصبغ بن نباتة أيضا قال : سأل ابن الكواء أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال أخبرني عن بصير بالليل وبصير بالنهار وعن أعمى بالليل وأعمى بالنهار وعن أعمى بالليل بصير بالنهار وعن أعمى بالنهار بصير بالليل؟

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام ويلك سل عما يعنيك ولا تسأل عما لا يعنيك ويلك أما بصير بالليل وبصير بالنهار فهو رجل آمن بالرسل والأوصياء الذين مضوا وبالكتب والنبيين وآمن بالله ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقر لي بالولاية فأبصر في ليله ونهاره.

وأما أعمى بالليل أعمى بالنهار فرجل جحد الأنبياء والأوصياء والكتب التي مضت وأدرك النبي فلم يؤمن به ولم يقر بولايتي فجحد الله عز وجل ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فعمي بالليل وعمي بالنهار.

__________________

(١) المؤمنون ـ ٧٤.

(٢) النور ـ ٤١.

٢٢٨

وأما بصير بالليل أعمى بالنهار ـ فرجل آمن بالأنبياء والكتب وجحد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنكر حقي فأبصر بالليل وعمي بالنهار.

وأما أعمى بالليل وبصير بالنهار فرجل جحد الأنبياء الذين مضوا والأوصياء والكتب وأدرك محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فآمن بالله وبرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمن بإمامتي وقبل ولايتي فعمي بالليل وأبصر بالنهار.

ويلك يا ابن الكواء فنحن بنو أبي طالب بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه.

قال الأصبغ فلما نزل أمير المؤمنين عليه‌السلام من المنبر تبعته فقلت يا سيدي يا أمير المؤمنين قويت قلبي بما بينت.

فقال لي يا أصبغ من شك في ولايتي فقد شك في إيمانه ومن أقر بولايتي فقد أقر بولاية الله عز وجل ولايتي متصلة بولاية الله كهاتين وجمع بين إصبعيه يا أصبغ من أقر بولايتي فقد فاز ومن أنكر ولايتي فقد خاب وخسر وهوى في النار ـ ومن دخل في النار لبث ( فِيها أَحْقاباً )

وعن الأصبغ أيضا قال : قام ابن الكواء إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو على المنبر فقال :

يا أمير المؤمنين أخبرني عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ وأخبرني عن قرنيه أمن ذهب كان أم من فضة؟

فقال لم يكن نبيا ولا ملكا ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة ولكنه كان عبدا أحب الله فأحبه الله ونصح لله فنصح الله له وإنما سمي ذا القرنين لأنه دعا قومه إلى الله عز وجل فضربوه على قرنه فغاب عنهم حيا ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الآخر وفيكم مثله (١)

عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام (٢) أن أمير المؤمنين كان ذات يوم جالسا في الرحبة والناس حوله مجتمعون فقام إليه رجل فقال :

__________________

(١) يعني بذلك نفسه سلام الله عليه ، فقد ضربه عمرو بن عبد ود الضربة الأولى والضربة الثانية هي ضربة ابن ملجم لعنه الله ، التي كانت شهادته (عليه‌السلام) فيها.

(٢) ذكر هذا الحديث العلامة المجلسي في ج ٩ من بحار الأنوال ص ١٥ وذكر له مصدرين هما : الاحتجاج وهو الكتاب الذي بين يديك ، والثاني أمالي ابن الشيخ بهذا السند : عن الحسين بن عبيد الله عن هارون بن موسى عن محمد بن همام عن علي بن الحسين الهمداني عن محمد ابن البرقي عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر عن الصادق (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) ... الخ.

وذكره الامام شمس الدين أبي علي فخار بن معد الموسوي في كتابه الجليل : « الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب » فقال :

وبالاسناد عن الشيخ أبي الفتح الكراجكي ـ رحمه‌الله ـ قال : حدثنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن شاذان القمي ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال حدثني القاضي أبو الحسين محمد بن عثمان بن عبد الله النصيبي في داره ، قال : حدثنا جعفر بن محمد العلوي ، قال : حدثنا عبيد الله احمد ، قال : حدثنا محمد بن زياد ، قال حدثنا مفضل بن عمر عن جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) ... الخ.

وذكره الحجة الأميني في ج ٧ / ٣٨٧ من كتاب الغدير وذكر له عدة مصادر فراجع.

٢٢٩

يا أمير المؤمنين أنت بالمكان الذي أنزلك الله به وأبوك معذب في النار؟

فقال له علي بن أبي طالب مه فض الله فاك (١) والذي بعث محمدا بالحق نبيا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم أبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار والذي بعث محمدا بالحق نبيا إن نور أبي يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق كلهم إلا خمسة أنوار نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونوري ونور الحسن ونور الحسين ونور تسعة من ولد الحسين فإن نوره من نورنا خلقه الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه‌السلام بألفي عام (٢)

__________________

(١) « مه » اسم مبني على السكون بمعنى : اسكت. ويقال : فض الله فاه : نثر أسنانه ، وهو دعاء عليه ، ويقال في الدعاء لمن أجاد في الكلام : « لا فض فوك » أي لا نثرت اسنانك ولا فرقت.

(٢) شيخ البطحاء ، ورئيس مكة ، وشيخ قريش ، أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، عم الرسول وكافله ، وأبو الأئمة سلام الله عليهم أجمعين.

اسمه الشريف عبد مناف ، وقيل : « عمران » وقيل اسمه : « كنيته » والأول أصح لقول عبد المطلب وهو يوصيه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعده :

اوصيك يا عبد مناف بعدي

بواحد بعد أبيه فرد

وقوله أيضا :

وصيت من كنيته بطالب

عبد مناف وهو ذو تجارب

بابن الحبيب الأكرم الأقارب

بابن الذي قد غاب غير آئب

وأمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وهي أم عبد الله والد النبي وأم الزبير بن عبد المطلب وقد انقرض.

وأولد أبو طالب أربعة بنين : طالبا ، وعقيلا ، وجعفر ، وعليا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وكان كل واحد منهم أكبر من الآخر بعشر سنين ، وامهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي.

كان أبو طالب (عليه‌السلام) : شيخا ، وسيما ، جسيما ، عليه بهاء الملوك ، ووقار الحكماء ، وكانت قريش تسميه : « الشيخ » وكانوا يهابونه ، ويخافون سطوته ، وكانوا يتجنبون أذية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أيامه ، فلما توفي سلام الله عليه ، اجتروا عليه واضطر الى الهجرة من وطنه مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.

قيل لأكثم بن صيفي حكيم العرب ممن تعلمت الحكمة والرئاسة ، والحلم والسيادة؟ قال : من حليف الحلم والأدب ، سيد العجم والعرب ، أبو طالب بن عبد المطلب.

وجرى ذات يوم كلام خشن بين معاوية بن أبي سفيان وصعصعة وابن الكواء ، فقال معاوية : لو لا أني أرجع إلى قول أبي طالب لقتلتكم وهو :

قابلت جهلهم حلما ومغفرة

والعفو عن قدرة ضرب من الكرم

وكان سلام الله عليه مستودعا للوصايا فدفعها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الذي كفله وحماه من قريش ودافع عنه.

روي عن فاطمة بنت أسد : أنه لما ظهر إمارة وفاة عبد المطلب قال لأولاده من يكفل محمدا؟ قالوا : هو أكيس منا ، فقل له يختار لنفسه ، فقال عبد المطلب : يا محمد جدك على جناح السفر الى القيامة ، أي عمومتك وعماتك تريد أن يكفلك؟ فنظر في وجوههم ثم ـ

٢٣٠

__________________

ـ زحف إلى عند أبي طالب ، فقال له عبد المطلب : يا أبا طالب إني قد عرفت ديانتك وأمانتك ، فكن له كما كنت له.

وروي : أنه قال له : يا بني قد علمت شدة حبي لمحمد ووجدي به ، انظر كيف تحفظني فيه ، قال أبو طالب : يا أبه لا توصني بمحمد فانه ابني وابن أخي ، فلما توفي عبد المطلب ، كان أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه ، وعلى جميع أهله.

فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدع بالأمر امتثالا لقوله تعالى ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) ونزل قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) أجمعت قريش على خلافه فحدب عليه أبو طالب (عليه‌السلام) ومنعه وقال :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد بالتراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح

فلقد صدقت وكنت قبل أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه

من خير أديان البرية دينا

وروي عن زين العابدين (عليه‌السلام) : أنه اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنده فقالوا : نسألك من ابن أخيك النصف. قال : وما النصف منه؟ قالوا : يكف عنا ونكف عنه ، فلا يكلمنا ولا نكلمه ، ولا يقاتلنا ولا نقاتله ، ألا إن هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب ، وزرعت الشحناء ، وأنبتت البغضاء. فقال : يا ابن أخي أسمعت؟ قال : يا عم لو أنصفني بنو عمي لأجابوا دعوتي ، وقبلوا نصيحتي ، إن الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم ، فمن أجابني فله عند الله : الرضوان والخلود في الجنان ، ومن عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ، فقالوا : قل له : يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء ، فنزل : ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ ) قالوا : إن كان صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ، ومن يكفر ، فان وجدناه صادقا آمنا به فنزل : ( ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ) قالوا : والله لنشتمنك وإلهك فنزل : ( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ ) قالوا : قل له : فليعبد ما نعبد ، ونعبد ما يعبد ، فنزلت سورة الكافرين. فقالوا : قل له أرسله الله إلينا خاصة ، أم إلى الناس كافة؟ قال بل إلى الناس ارسلت كافة : إلى الأبيض والأسود ، ومن على رءوس الجبال ، ومن في لجج البحار ، ولأدعون ألسنة فارس والروم ، ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) فتجبرت قريش واستكبرت وقالت : والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ، ولقلعت الكعبة حجرا حجرا ، فنزلت ( وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ* ) فقال المطعم بن عدي : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على أن يتخلصوا مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.

فقال أبو طالب : والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت على خذلاني ، ومظاهرة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك ، فوثبت كل قبيلة على ما فيها من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم ، ويستهزءون بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب منهم ، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع في بني هاشم ، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والقيام دونه الا أبا لهب.

وله في الدفاع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مواقف شهيرة وشعر رواه الفريقان ، نذكر فيما يلي نموذجا منها :

منها : ما روي من أبا جهل بن هشام جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ساجد وبيده حجر يريد أن يرميه به ، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد ، فقال أبو طالب :

أفيقوا بني غالب وانتهوا

عن الغي من بعض ذا المنطق

والا فاني إذن خائف

بواثق في داركم تلتقي

تكون لغيركم عبرة

ورب المغارب والمشرق

كما نال من لان من قبلكم

ثمود وعاد وما ذا بقي

غداة أتاهم بها صرصر

وناقة ذي العرش قد تستقي

فحل عليهم بها سخطه

من الله في ضربة الأزرق

غداة يعض بعرقوبها

حساما من الهند ذا رونق

وأعجب من ذاك في أمركم

عجائب في الحجر الملصق

٢٣١

__________________

بكف الذي قام من خبثه

الى الصابر الصادق المتقي

فأثبته الله في كفه

على رغمه الجائر الأحمق

أحيمق مخزومكم إذ غوى

لغي الغواة ولم يصدق

ومنها : ما روي عن ابن عباس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل الكعبة ، وافتتح الصلاة فقال أبو جهل : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى ، وتناول فرثا ودما وألقى ذلك عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فجاء أبو طالب ـ وقد سل سيفه ـ فلما رأوه جعلوا ينهضون فقال : والله لئن قام أحد جللته بسيفي ، ثم قال : يا ابن أخي من الفاعل بك؟ قال : هذا « عبد الله » فأخذ أبو طالب فرثا ودما وألقى ذلك عليه.

ومنها : قوله عليه‌السلام يخاطب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مسكنا جأشه طالبا منه إظهار دعوته

لا يمنعنك من حق تقوم به

أيد تصول ولا سلق بأصوات

فان كفك كفي إن عليت بهم

ودون نفسك نفسي في الملمات

ومنها : قوله يؤنب قريشا ويحذرهم الحرب :

ألا من لهم آخر الليل معتم

طواني واخرى النجم لما تقحم

طواني وقد نامت عيون كثيرة

وسامر اخرى ساهر لم ينوم

لأحلام قوم قد أرادوا محمدا

بظلم ومن لا يتقي البغي يظلم

سعوا سفها واقتادهم سوء أمرهم

على خائل من أمرهم غير محكم

رجاء أمور لم ينالوا انتظامها

ولو حشدوا في كل بدو وموسم

يرجون منه خطة دون نيلها

ضراب وطعن بالوشيج المقوم

يرجون أن نسخى بقتل محمد

ولم تختضب سمر العوالي من الدم

كذبتم وبيت الله حتى تفلقوا

جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

وتقطع أرحام وتنسى حليلة

حليلا ويغشى محرم بعد محرم

هم الأسد اسد الزأرتين إذا غدت

على حنق لم تخش إعلام معلم

فيا لبني فهر أفيقوا ولم تقم

نوائح قتلى تدعى بالتندم

على ما مضى من بغيكم وعقوقكم

وإتيانكم في أمركم كل مأثم

وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى

وأمر أتى من عند ذي العرش قيم

فلا تحسبونا مسلميه ومثله

إذا كان في قوم فليس بمسلم

فهذي معاذير وتقدمة لكم

لئلا تكون الحرب قبل التقدم

ومنها : لما رأى المشركون موقف أبي طالب (عليه‌السلام) من نصرة الرسول وسمعوا أقواله ، اجتمعوا بينهم وقالوا ننافي بني هاشم ، ونكتب صحيفة ونودعها الكعبة : أن لا نبايعهم ، ولا نشاريهم ، ولا نحدثهم ، ولا نستحدثهم ، ولا نجتمع معهم في مجمع ولا نقضي لهم حاجة ؛ ولا نقضيها منهم ، ولا نقتبس منهم نارا حتى يسلموا إلينا محمدا ويخلوا بيننا وبينه ، أو ينتهي عن تسفيه آبائنا ، وتضليل آلهتنا ، وأجمع كفار مكة على ذلك.

فلما بلغ ذلك أبا طالب (عليه‌السلام) قال : يخبرهم باستمراره على مناصرة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومؤازرته له ، ويحذرهم الحرب ، وينهاهم عن متابعة السفهاء :

ألا أبلغا عني على ذات بينها

لؤيا وخصا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا

نبيا كموسى خط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة

ولا حيف فيمن خصه الله بالحب

٢٣٢

__________________

وأن الذي لفقتم في كتابكم

يكون لكم يوما كراغية السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى

ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا

أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربما

أمر على من ذاقه حلب الحرب

فلسنا وبيت الله نسلم أحمدا

لعزاء من عض الزمان ولا حرب

ولما تبن منا ومنكم سوالف

وأيد ابيدت بالمهندة الشهب

بمعترك ضنك ترى كسر القنا

به والضباع العرج تعكف كالسرب

كأن مجال الخيل في حجراته

وغمغمة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشم شد أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ومنها : أنه كان إذا نامت العيون وأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مضجعه ، جاءه فأنهضه وأضجع عليا مكانه ، فقال له علي (عليه‌السلام) ـ ذات ليلة ـ:

يا أبتاه إني مقتول ، فقال أبو طالب

اصبرن يا بني فالصبر أحجى

كل حي مصيره لشعوب

قد بلوناك والبلاء شديد

لفداء النجيب وابن النجيب

لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب

والباع والفناء الرحيب

إن تصبك المنون بالنبل تترى

مصيب منها وغير مصيب

كل حي وإن تطاول عمرا

آخذ من سهامها بنصيب

فقال علي (عليه‌السلام):

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد

ووالله ما قلت الذي قلت جازعا

ولكنني أحببت أن تر نصرتي

وتعلم أني لم أزل لك طائعا

وسعيي لوجه الله في نصر احمد

نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا

هذا نزر يسير من مواقف أبي طالب (عليه‌السلام) ومؤازرته الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومقاومته للمشركين ، وله كثير من أمثالها في دفاعه عن محمد ، وعن دين محمد ، وعن قرآن محمد ، وعن أتباع محمد ، فهلا يأخذك العجب بعد اطلاعك على هذا وشبهه من أقوال أبي طالب وأفعاله ، ألا تستغرب بعد هذا لو سمعت بعصابة اثرت فيها الروح الاموية الخبيثة ، فدفعها خبث عنصرها ، ورداءة نشأتها ، وجرها الحقد إلى القول بأن أبا طالب (عليه‌السلام) مات كافرا؟!! وإن تعجب فعجب قولهم : أبو طالب يموت كافرا؟!!

أبو طالب الذي يقول :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

يموت كافرا؟

أبو طالب الذي يقول :

ليعلم خيار الناس أن محمدا

وزير لموسى والمسيح بن مريم

أتانا بهدي مثل ما أتيا به

فكل بأمر الله يهدي ويعصم

يا لله ويا للعجب قائل هذا يموت كافرا؟

أبو طالب الذي يقول :

ألا تعلموا أنا وجدنا محمدا

رسولا كموسى خط في اول الكتب

ويقول مخاطبا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أنت النبي محمد

قرم أغر مسود

٢٣٣

__________________

ـ ويقول :

قل لمن كان من كنانة في

العز وأهل الندى وأهل المعالي

قد أتاكم من المليك رسول

فاقبلوه بصالح الأعمال

ويقول :

فخير بني هاشم أحمد

رسول الإله على فترة

وهو الذي يقول :

لقد أكرم الله النبي محمدا

فأكرم خلق الله في الناس أحمد

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

ويقول :

صدق ابن آمنة النبي محمد

فتميزوا غيظا به وتقطعوا

ان ابن آمنة النبي محمد

سيقوم بالحق الجلي ويصدق

أبو طالب الذي يقول :

يا شاهد الله علي فاشهد

آمنت بالواحد رب أحمد

من ظل في الدين فاني مهتدي

كل هذا وأبو طالب مات كافرا.

اذا كان الايمان بالتوحيد والإقرار بنبوة محمد لا تكفي في إيمان الرجل ، ويكون معتقدها والمقر بها كافرا ، فما هو الإسلام؟؟

إذا كان الذب عن الرسول والاعتراف بنبوته كفرا فما هو الإسلام؟ طبعا يقول لسان حال تلك العصابة في الجواب :

الايمان أن تتمكن في نفسك مبادئ أبي سفيان ، وتؤمن بالذي يحلف به أبو سفيان ، وتقول كما قال : « ما من جنة ولا نار »

أبو طالب مات كافرا ، وأبو سفيان مات مسلما.

هكذا يقولون كبرت كلمة تخرج من افواههم ان يقولون الا كذبا.

ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا.

وإنهم ليقولون منكرا من القور وزورا.

أبو سفيان الذي حزب الأحزاب ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي ما قامت راية كفر لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الا وهو قائدها وناعقها ، والذي لم يزل يعلن الحرب والعداء لمحمد ، ودين محمد ، وإله محمد ، وكتاب محمد ، حتى فتح مكة فدخل الإسلام عليه رغم أنفه ، ولم يدخل في قلبه ، وأظهر الإسلام وأبطن الكفر ، على العكس مما كان عليه أبو طالب تماما.

أبو سفيان الذي أصر على محو اسم محمد رسول الله يوم صلح الحديبية يموت مسلما وأبو طالب الذي يعترف برسالة محمد ويقول :

هو رسول كموسى وعيسى يموت كافرا.

أبو سفيان الذي يقول ـ حين انتهت إليهم الخلافة بمحضر من عثمان ـ:

يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة ، والذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار يموت مسلما ، والذي يعترف بالبعث والنشور يموت كافرا.

روي عن ابن عباس قال : والله ما كان أبو سفيان الا منافقا ، ولقد كنا في محفل فيه أبو سفيان وقد كف بصره ، وفينا علي (عليه‌السلام) ، فأذن المؤذن فلما قال : أشهد أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : هاهنا من يحتشم؟ قال واحد من القوم : لا. قال : لله در أخي هاشم انظروا أين وضع اسمه ، فقال علي (عليه‌السلام) : أسخن الله عينيك يا أبا سفيان الله فعل ذلك بقوله عز من قائل : ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) فقال ـ

٢٣٤

احتجاجه عليه‌السلام على من قال بزوال الأدواء بمداواة الأطباء دون الله سبحانه وعلى من قال بأحكام النجوم من المنجمين وغيرهم من الكهنة والسحرة.

وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد العسكري عن علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام أنه قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام قاعدا ذات يوم فأقبل إليه رجل من اليونانيين المدعين للفلسفة والطب فقال له :

يا أبا الحسن بلغني خبر صاحبك وأن به جنونا وجئت لأعالجه فلحقته قد مضى لسبيله وفاتني ما أردت من ذلك وقد قيل لي إنك ابن عمه وصهره وأرى بك صفارا قد علاك وساقين دقيقين ولما أراهما تقلانك فأما الصفار فعندي دواؤه وأما الساقان الدقيقان فلا حيلة لي لتغليظهما والوجه أن ترفق بنفسك في المشي تقلله ولا تكثره ـ وفيما تحمله على ظهرك وتحتضنه بصدرك أن تقللهما ولا تكثرهما فإن ساقيك دقيقان لا يؤمن عند حمل ثقيل انقصافهما وأما الصفار فدواؤه عندي وهو هذا وأخرج دواءه وقال :

__________________

ـ أبو سفيان : أسخن الله عين من قال : ليس هاهنا من يحتشم.

والعجيب أنهم يقولون عنه أنه مات مسلما ، وأبو طالب مات كافرا.

لعنوا بما قالوا ، نحن أعلم بما يقولون ، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فاصبر على ما يقولون.

وأكثر من هذا عجبا ، وأبعد منه غرابة ، ما لفقته تلك العصابة ، وافترته على الرسول من أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ وحاشاه ـ قال عنه أنه في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، وأنه منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه.

ولا أدري وليتني أبدا لا أدري لما ذا يستحق أبو طالب هذا العذاب؟

ألأنه دافع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أم هو الحقد ، والبغض لابن أبي طالب الذي

لعنته بالشام سبعين عاما

لعن الله كهلها وفتاها

ثم هل تريد أن أزيدك وأزودك من أمثال هذه الأضاليل والأباطيل ، فأذكر لك ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أقبل العباس وعلي فقال : يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي ، أو قال : ديني

وفي أخرى بنفس السند عنها أيضا قالت كنت عند النبي فقال : يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا ، فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب.

أسمعت هذا وبعد فهلا ترفع يدك إلى الدعاء وتقول معي :

« اللهم أدخلني النار التي يقطن فيها علي بن أبي طالب ، واجعلني في الضحضاح الذي فيه أبو طالب ، ولا تدخلني الجنة التي يدخل فيها أبو سفيان ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ويزيد بن معاوية فسلام على تلك النار ، ولعنة الله على هذه الجنة ».

ولو لا أبو طالب وابنه

لما مثل الدين شخصا فقاما

فذاك بمكة آوى وحامى

وذاك بيثرب خاض الحماما

فلله ذا فاتحا للهدى

ولله ذا للمعالي ختاما

توفي سلام لله عليه في (٢٦) رجب في آخر السنة العاشرة من مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورثاه أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله :

أبا طالب عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظلم

لقد هد فقدك أهل الحفاظ

فصلى عليك ولي النعم

ولقاك ربك رضوانه

فقد كنت للطهر من خير عم

٢٣٥

هذا لا يؤذيك ولا يخيسك (١) ولكنه تلزمك حمية من اللحم أربعين صباحا ثم يزيل صفارك.

فقال له علي بن أبي طالب عليه‌السلام قد ذكرت نفع هذا الدواء لصفاري فهل تعرف شيئا يزيد فيه ويضره؟ فقال الرجل بلى حبة من هذا وأشار إلى دواء معه وقال إن تناوله إنسان وبه صفار أماته من ساعته وإن كان لا صفار به صار به صفار حتى يموت في يومه.

فقال علي عليه‌السلام فأرني هذا الضار فأعطاه إياه.

فقال له كم قدر هذا قال قدره مثقالين سم ناقع قدر كل حبة منه يقتل رجلا.

فتناوله علي عليه‌السلام فقمحه (٢) وعرق عرقا خفيفا وجعل الرجل يرتعد ويقول في نفسه الآن أوخذ بابن أبي طالب ويقال قتلته ولا يقبل مني قولي إنه هو الجاني على نفسه.

فتبسم علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقال يا عبد الله أصح ما كنت بدنا الآن لم يضرني ما زعمت أنه سم.

ثم قال فغمض عينيك فغمض ثم قال افتح عينيك ففتح ونظر إلى وجه علي بن أبي طالب عليه‌السلام فإذا هو أبيض أحمر مشرب حمرة فارتعد الرجل لما رآه وتبسم علي عليه‌السلام وقال أين الصفار الذي زعمت أنه بي؟

فقال والله لكأنك لست من رأيت قبل كنت مضارا [ مصفارا ] ـ فإنك الآن مورد.

فقال علي عليه‌السلام فزال عني الصفار الذي تزعم أنه قاتلي.

وأما ساقاي هاتان ومد رجليه وكشف عن ساقيه فإنك زعمت أني أحتاج إلى أن أرفق ببدني في حمل ما أحمل عليه لئلا ينقصف الساقان (٣) وأنا أريك أن طب الله عز وجل على خلاف طبك وضرب بيده إلى أسطوانة خشب عظيمة على رأسها سطح مجلسه الذي هو فيه وفوقه حجرتان إحداهما فوق الأخرى وحركها فاحتملها فارتفع السطح والحيطان وفوقهما الغرفتان فغشي على اليوناني.

فقال علي عليه‌السلام صبوا عليه ماء فصبوا عليه ماء فأفاق وهو يقول والله ما رأيت كاليوم عجبا.

فقال له علي عليه‌السلام هذه قوة الساقين الدقيقين واحتمالهما أفي طبك هذا يا يوناني.

فقال اليوناني أمثلك كان محمد؟

فقال علي عليه‌السلام وهل علمي إلا من علمه وعقلي إلا من عقله وقوتي إلا من قوته ولقد أتاه ثقفي وكان أطب العرب فقال له :

إن كان بك جنون داويتك؟

__________________

(١) أي لا ينقصك كناية عن عدم النفع.

(٢) قمحت السويق ـ بالكسر إذا سففته.

(٣) أي : تنكسر.

٢٣٦

فقال له محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أتحب أن أريك آية تعلم بها غناي من طبك وحاجتك إلى طبي؟ قال نعم.

قال أي آية تريد؟

قال تدعو ذلك العذق وأشار إلى نخلة سحوق فدعاه فانقلع أصلها من الأرض وهي تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه.

فقال له أكفاك؟ قال لا.

قال فتريد ما ذا قال تأمرها أن ترجع إلى حيث جاءت منه وتستقر في مقرها الذي انقلعت منه.

فأمرها فرجعت واستقرت في مقرها.

فقال اليوناني لأمير المؤمنين عليه‌السلام هذا الذي تذكره عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله غائب عني وأنا أريد أن أقتصر منك على أقل من ذلك أتباعد عنك فادعني وأنا لا أختار الإجابة فإن جئت بي إليك فهي آية.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إنما يكون آية لك وحدك لأنك تعلم من نفسك أنك لم ترده وأني أزلت اختيارك من غير أن باشرت مني شيئا أو ممن أمرته بأن يباشرك أو ممن قصد إلى اختيارك وإن لم آمره إلا ما يكون من قدرة الله القاهرة وأنت يا يوناني يمكنك أن تدعي ويمكن غيرك أن يقول إني واطأتك على ذلك فاقترح إن كنت مقترحا ما هو آية لجميع العالمين.

قال له اليوناني إن جعلت الاقتراح إلي فأنا أقترح أن تفصل أجزاء تلك النخلة وتفرقها وتباعد ما بينها ثم تجمعها وتعيدها كما كانت.

فقال علي عليه‌السلام هذه آية وأنت رسولي إليها يعني إلى النخلة فقل لها إن وصي محمد رسول الله يأمر أجزاءك أن تتفرق وتتباعد.

فذهب فقال لها ذلك فتفاصلت وتهافتت وتنثرت وتصاغرت أجزاؤها حتى لم ير لها عين ولا أثر حتى كأن لم تكن هناك نخلة قط.

فارتعدت فرائص اليوناني وقال يا وصي محمد رسول الله قد أعطيتني اقتراحي الأول فأعطني الآخر فأمرها أن تجتمع وتعود كما كانت فقال أنت رسولي إليها فعد فقل لها يا أجزاء النخلة إن وصي محمد رسول الله يأمرك أن تجتمعي كما كنت وأن تعودي.

فنادى اليوناني فقال ذلك فارتفعت في الهواء كهيئة الهباء المنثور ثم جعلت تجتمع جزء جزء منها حتى تصور لها القضبان والأوراق وأصول السعف وشماريخ الأعذاق ثم تألفت وتجمعت وتركبت واستطالت وعرضت واستقر أصلها في مقرها وتمكن عليها ساقها وتركب على الساق قضبانها وعلى القضبان أوراقها وفي أمكنتها أعذاقها وكانت في الابتداء شماريخها متجردة لبعدها من أوان الرطب والبسر والخلال.

٢٣٧

فقال اليوناني وأخرى أحب أن تخرج شماريخها أخلالها وتقلبها من خضرة إلى صفرة وحمرة وترطيب وبلوغ لتأكل وتطعمني ومن حضرك منها.

فقال علي عليه‌السلام أنت رسولي إليها بذلك فمرها به.

فقال لها اليوناني ما أمره أمير المؤمنين عليه‌السلام فأخلت وأبسرت واصفرت واحمرت وترطبت وثقلت أعذاقها برطبها.

فقال اليوناني وأخرى أحبها أن تقرب من بين يدي أعذاقها أو تطول يدي لتنالها وأحب شيء إلي أن تنزل إلي إحداهما وتطول يدي إلى الأخرى التي هي أختها.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام مد اليد التي تريد أن تنالها وقل يا مقرب البعيد قرب يدي منها واقبض الأخرى التي تريد أن ينزل العذق إليها وقل يا مسهل العسير سهل لي تناول ما يبعد عني منها.

ففعل ذلك فقاله فطالت يمناه فوصلت إلى العذق وانحطت الأعذاق الأخر فسقطت على الأرض وقد طالت عراجينها.

ثم قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إنك إن أكلت منها ولم تؤمن بمن أظهر لك من عجائبها عجل الله عز وجل إليك من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به عقلاء خلقه وجهاله.

فقال اليوناني إني إن كفرت بعد ما رأيت فقد بالغت في العناد وتناهيت في التعرض للهلاك ـ أشهد أنك من خاصة الله صادق في جميع أقاويلك عن الله فأمرني بما تشاء أطعك.

قال علي عليه‌السلام آمرك أن تقر لله بالوحدانية وتشهد له بالجود والحكمة وتنزهه عن العبث والفساد وعن ظلم الإماء والعباد وتشهد أن محمدا الذي أنا وصيه سيد الأنام وأفضل رتبة في دار السلام وتشهد أن عليا الذي أراك ما أراك وأولاك من النعم ما أولاك خير خلق الله بعد محمد رسول الله وأحق خلق الله بمقام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعده وبالقيام بشرائعه وأحكامه وتشهد أن أولياءه أولياء الله وأعداءه أعداء الله وأن المؤمنين المشاركين لك فيما كلفتك المساعدين لك على ما أمرتك به خير أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفوة شيعة علي.

وآمرك أن تواسي إخوانك المطابقين لك على تصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصديقي والانقياد له ولي مما رزقك الله وفضلك على من فضلك به منهم تسد فاقتهم وتجبر كسرهم وخلتهم ومن كان منهم في درجتك في الإيمان ساويته من مالك بنفسك ومن كان منهم فاضلا عليك في دينك آثرته بمالك على نفسك حتى يعلم الله منك أن دينه آثر عندك من مالك وأن أولياءه أكرم عليك من أهلك وعيالك.

وآمرك أن تصون دينك وعلمنا الذي أودعناك وأسرارنا التي حملناك ولا تبد علومنا لمن يقابلها بالعناد ويقابلك من أهلها بالشتم واللعن والتناول من العرض والبدن ولا تفش سرنا إلى من يشنع علينا عند الجاهلين بأحوالنا ولا تعرض أولياءنا لبوادر الجهال.

٢٣٨

وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله عز وجل يقول : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (١) وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن لجأك الخوف إليه وفي إظهار البراءة منا إن حملك الوجل عليه وفي ترك الصلوات المكتوبات إن خشيت على حشاشتك (٢) الآفات والعاهات فإن تفضيلك أعداءنا علينا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا وإن إظهارك براءتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا ولئن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قيامها وجاهها الذي به تماسكها وتصون من عرف بذلك وعرفت به من أوليائنا وإخواننا من بعد ذلك بشهور وسنين ـ إلى أن يفرج الله تلك الكربة وتزول به تلك الغمة فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك وتنقطع به عن عمل الدين وصلاح إخوانك المؤمنين وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك ودم إخوانك معرض لنعمتك ونعمهم على الزوال مذل لك ولهم في أيدي أعداء دين الله وقد أمرك الله بإعزازهم فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشد من ضرر المناصب لنا الكافر بنا

وعن سعيد بن جبير (٣) قال : استقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام دهقان من دهاقين الفرس فقال له بعد التهنية :

يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس وإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء ويومك هذا صعب قد اتصلت فيه كوكبان وانقدح من برجك النيران وليس لك الحرب بمكان فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام ويحك يا دهقان المنبئ بالآثار والمحذر من الأقدار؟ ما قصة صاحب الميزان؟ وقصة صاحب السرطان؟ وكم المطالع من الأسد؟ والساعات في

__________________

(١) آل عمران ـ ٢٨.

(٢) الحشاشة : بقية الروح في المريض.

(٣) سعيد بن جبير ـ بالجيم المضمومة ـ بن هشام الأسدي الوالبي مولى بني والبة أصله الكوفة نزل مكة تابعي.

عده الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام زين العابدين (عليه‌السلام) والعلامة في القسم الأول من خلاصته ، روي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنه قال : إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين (عليه‌السلام) وكان علي عليه‌السلام يثني عليه ، وما كان سبب قتل الحجاج له الا على هذا الأمر وكان مستقيما ، وذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال له : أنت شقي بن كسير قال : امي كانت أعرف باسمي سمتني « سعيد بن جبير ». قال : ما تقول في أبي بكر وعمر هما في الجنة أو النار؟ قال : لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها ، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها ، قال : فما قولك في الخلفاء؟ قال : لست عليهم بوكيل ، قال : أيهم أحب إليك؟ قال : أرضاهم لخالقي ؛ قال : فأيهم أرضى للخالق قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم ، قال : أبيت أن تصدقني قال : بل لم أحب أن اكذبك.

وكان ثقة مشهورا بالفقه ، والزهد والعبادة وعلم التفسير وكان أخذ العلم عن ابن عباس ، وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول : أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعني : سعيد بن جبير ، وكان يسمى جهبذ العلماء ( بالكسر ـ أي النقاد الخبير ) وكان يقرأ القرآن في ركعتين ، قيل : وما من أحد على الأرض إلا وهو محتاج إلى علمه. قتله الحجاج سنة « ٩٥ » وهو ابن « ٤٩ » سنة ولم يبق بعده الحجاج الا « ١٥ » ليلة ، ولم يقتل أحدا بعده لدعائه عليه حين قتله : « اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي ».

رجال الطوسي ص ٩٠ العلامة ص ٧٩ الكشي ص ١١٠ تهذيب التهذيب ج ٤ ص ١١ سفينة البحار ج ١ ص ٦٢١.

٢٣٩

المحركات؟ وكم بين السراري والذراري؟

قال سأنظر وأومى بيده إلى كمه وأخرج منه أصطرلابا ينظر فيه.

فتبسم علي عليه‌السلام وقال أتدري ما حدث البارحة وقع بيت بالصين وانفرج برج ماجين ـ وسقط سور سرنديب وانهزم بطريق الروم بإرمينية وفقد ديان اليهود بأيلة وهاج النمل بوادي النمل وهلك ملك إفريقية أكنت عالما بهذا؟

قال لا يا أمير المؤمنين.

فقال البارحة سعد سبعون ألف عالم وولد في كل عالم سبعون ألفا والليلة يموت مثلهم وهذا منهم وأومى بيده إلى سعد بن مسعدة الحارثي لعنه الله وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين عليه‌السلام فظن الملعون أنه يقول خذوه فأخذ بنفسه فمات فخر الدهقان ساجدا فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام ألم أروك من عين التوفيق؟

قال بلى يا أمير المؤمنين.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام أنا وأصحابي لا شرقيون ولا غربيون ـ نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك وأما قولك انقدح من برجك النيران فكان الواجب عليك أن تحكم لي به لا علي أما نوره وضياؤه فعندي وأما حريقه ولهبه فذاهب عني وهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا.

وروي أنه عليه‌السلام لما أراد المسير إلى الخوارج قال له بعض أصحابه إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم.

فقال عليه‌السلام أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء وتخوف الساعة التي من سار فيها حاق به الضر فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه ـ وينبغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه لأنك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر.

أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر فإنه يدعو إلى الكهانة المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار سيروا على اسم الله وعونه ومضى فظفر بمراده صلوات الله عليه.

احتجاجه عليه‌السلام على زنديق جاء مستدلا عليه بآي من القرآن متشابهة تحتاج إلى التأويل على أنها تقتضي التناقض والاختلاف فيه وعلى أمثاله في أشياء أخرى.

جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقال له لو لا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض

٢٤٠