الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

وقال عليه‌السلام في خطبة أخرى :

دليله آياته ووجوده إثباته ومعرفته توحيده وتوحيده تمييزه من خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق غير مربوب مخلوق كل ما تصور فهو بخلافه.

ثم قال بعد ذلك:

ليس بإله من عرف بنفسه هو الدال بالدليل عليه والمؤدي بالمعرفة إليه.

وقال عليه‌السلام في خطبة أخرى (١).

لا يشمل بحد ولا يحسب بعد وإنما تجد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها منعتها منذ القدمة وحمتها قد الأزلية وجنبتها لو لا التكملة بها تجلى صانعها للعقول ـ وبها امتنع عن نظر العيون (٢) لا تجري عليه الحركة والسكون وكيف يجري عليه ما هو أجراه ويعود إليه ما هو أبداه ويحدث

__________________

(١) تجد هذه الخطبة الجليلة ـ التي هي حقا من معجزات أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ولو لم تكن له معجزة سواها لكفى ، كما لو لم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معجزة سوى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لكفى ـ في ج ٢ ص ١٤٢ من نهج البلاغة قال السيد الرضي قدس‌سره ( وتجمع هذه الخطبة من أصول العلوم ما لا تجمعه خطبة ) وأولها كما هي مثبتة في النهج :

« ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول فاعل لا باضطراب آلة ، مقدور لا بجول فكرة ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الأوقات ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل والحرور بالصرد ، مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها مفرق بين متدانياتها ، لا يشمل بحد ... الخ.

(٢) ( لا يشمل بحد ) من الحدود المنطقية ، المركبة من الجنس والفصل ، وذاته خالية من التركيب أو من الحدود والأبعاد الهندسية التي هي من لوازم الأجسام وذاته تعالى ليست بجسم.

( ولا يحسب بعد ) لعدم المماثل له وواجب الوجود لا يتعدد كما هو ثابت في محله كما أن صفاته عين ذاته غير زائدة عليها فلا تدخل تحت العدد ، ولا بداية لوجوده حتى يقال : كان منذ كذا وكذا ( وإنما تحد الأدوات أنفسها ) لتركيبها من جنس وفصل ولكونها من الأجسام فتشملها الحدود والأبعاد الهندسية.

( وتشير الآلات إلى نظائرها ) فتدخل تحت العدد وقد ( منعتها ـ إطلاق لفظة : ـ منذ ـ عليها ـ القدمة ) في قولنا وجدت هذه الآلات والأدوات منذ كذا ، ومتى كان للشيء ابتداء فهو غير قديم.

( وحمتها ـ إطلاق لفظة ـ قد ـ عليها ـ الأزلية ، في قولنا قد وجدت هذه الآلات والأدوات منذ كذا لأن قد تفيد تقريب الزمان الماضي من الحال ، ومتى تعين زمن وجود الشيء انتفت أزليته.

( وجنبتها ـ إطلاق كلمة : لو لا ـ عليها ـ التكملة ) في قولنا : ما أحسن هذه الآلات والأدوات لو لا أن فيها كذا لدلالتها على امتناع كمال الشيء لوجود نقص فيه.

ويمكن أن يكون المعنى : إن قدمه وأزليته وكماله منعت من إطلاق لفظة ( منذ وقد ، ولو لا ) على ذاته المقدسة ، لدلالة هذه الألفاظ على الحدوث والابتداء والنقص.

( بها ) بتلك الآلات والأدوات ببديع صنعها ، باتقانها ، بحكمة تدبيرها ( تجلى صانعها للعقول ) التي هي طبعا بعض تلك الآلات لدلالة الأثر على المؤثر ( وامتنع ) بدليل تجرده وتنزهه عن المادة والجسمية واللون والجهة التي هي من لوازم المرئيات ( عن نظر العيون ).

٢٠١

فيه ما هو أحدثه إذا لتفاوتت ذاته ولتجزأ كنهه ولامتنع من الأزل معناه ولكان له وراء إذا وجد له أمام ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان وإذا لقامت آية المصنوع فيه ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه (١) وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره (٢) الذي لا يحول ولا يزول ولا يجوز عليه الأفول (٣) ( لَمْ يَلِدْ ) فيكون مولودا ( وَلَمْ يُولَدْ ) فيصير محدودا (٤) جل عن اتخاذ الأبناء وطهر عن ملامسة النساء لا تناله الأوهام فتقدره ولا تتوهمه الفطن فتصوره ولا تدركه الحواس فتحسه ولا تلمسه الأيدي فتمسه ولا يتغير بحال ولا يتبدل بالأحوال ولا تبليه الليالي والأيام ولا يغيره الضياء والظلام ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا الجوارح والأعضاء ولا بعرض من الأعراض ولا بالغيرية والأبعاض ولا يقال له حد ولا نهاية ولا انقطاع ولا غاية ولا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه ولا أن شيئا يحمله فيميله أو يعدله (٥) ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج يخبر لا بلسان ولهوات ،

__________________

(١) الحركة سواء كانت بمعناها الفلسفي الذي هو : ( الخروج من القوة إلى الفعل ) أو بمعناها الفيزيائي الذي هو : ( الانتقال من مكان إلى آخر ) فهي تتقوم بالتدرج والانتقال من حال الى حال ومن مكان إلى آخر وتخلع صورة وتلبس اخرى وتصل الى جزء وتنفصل عن سابقه وهكذا ، ويقابلها السكون الذي هو : ( التوقف والخمود فيما يقبل الحركة ) : والحركة والسكون كلاهما من الحوادث المستندة في وجودها إلى علة وحيث ثبت أن لا موجد الا الله ولا خالق سواه فيكون هو الذي خلقهما وأجراهما على نفسه ، وأحدثهما في ذاته ، ولاستحالة أن يكون مخلوقه جزء ذاته ، نفى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ذلك في صورة استفهام إنكاري في قوله : ( وكيف يجري عليه ما هو أجراه ويعود إليه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟!! ) ثم أنه (عليه‌السلام) شرع في إقامة الأدلة على استحالة هذه النسبة فقال :

١ ـ « إذا لتفاوتت ذاته » أي : تغيرت. لا؟؟؟ تكون متحركة تارة وساكنة اخرى فالحركة والسكون من الحوادث المتغيرة ، فيكون محلا للحوادث ، وذلك من لوازم الإمكان فيكون واجب الوجود ممكن الوجود ، وهو مستحيل.

٢ ـ ( ولتجزأ كنهه ) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام والأجسام مركبة فيلزم حقيقته التركيب وهو باطل.

٣ ـ ( ولامتنع من الأزل معناه ) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام الحادثة والحادث لا يكون أزليا.

٤ ـ ( ولكان له وراء إذ وجد له أمام ) إذ لو جرت عليه الحركة لكان له أمام يتحرك نحوه وحينئذ يلزم أن يكون له وراء لأنهما أمران إضافيان لا ينفك أحدهما عن الآخر وحينئذ يكون له وجهان وكل ذي وجهين منقسم وكل منقسم ممكن.

٥ ـ ( ولا التمس التمام إذ لزمه النقصان ) إذ هو في حركته يتوجه نحو غاية اما لجلب نفع او لدفع ضرر ، وذلك كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته وذلك يستلزم الإمكان فهو باطل.

و « إذا لقامت آية المصنوع فيه » وثبت إمكانه وحدوثه « ولتحول دليلا » يستدل بوجوده على خالقه « بعد أن كان مدلولا عليه »

(٢) أي حرج بسلطان امتناعه التجردي ، وعدم شموله بحد ، ودخوله تحت العدد وامتناعه عن نظر العيون ، وعدم جريان الحركة والسكون عليه خرج بهذا السلطان من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الممكنات.

(٣) لا يحول : لا يتغير. والأفول : الغيبة.

(٤) الولادة تحصل بانفصال شيء عن آخر من جنسه ونوعه ، فالوالد والولد يشتركان في النوع والصنف والعوارض ، ولا يكون هذا الانفصال والتجزي الا بواسطة المادة القابلة للتجزئة ، وإذا كان كذلك فهو متولد من مادة وصورة ويحتمل أن يكون المراد بالمولود المخلوق ، فيكون المعنى لم يلد فيثبت كونه جسما مخلوقا. وعلى كلا التقديرين سواء كان مولودا من مادة وصورة ، أو كان جسما مخلوقا ، فإنه يكون محدودا بالحدود المنطقية ، والأبعاد الهندسية.

(٥) لا تناله الأوهام فتقدره بمقدار وكم وشكل وكيف ، والفطنة سرعة الفهم ولا تتوهمه الفطن فتصوره بصور خيالية او عقلية ، ولا تدركه الحواس بنحو المباشرة ولا تلمسه وتحسه الأيدي بنحو المماسة ، ولا يتغير أبدا ولا يوصف بالغيرية والابعاض فصفاته لا يغاير

٢٠٢

ويسمع لا بخروق وأدوات يقول ولا يلفظ ويحفظ ولا يتحفظ ويريد ولا يضمر يحب ويرضى من غير رقة ويبغض ويغضب من غير مشقة يقول لما أراد كونه ( كُنْ فَيَكُونُ ) لا بصوت يقرع ولا نداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ولو كان قديما لكان إلها ثانيا (١) ولا يقال له كان بعد أن لم يكن فتجري عليه صفات المحدثات ولا يكون بينه وبينها فصل ولا له عليها فضل فيستوي الصانع والمصنوع ويتكافأ المبتدع والبديع (٢) خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره (٣) ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه.

أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال وأرساها على غير قرار (٤) وأقامها بغير قوائم ورفعها بغير دعائم وحصنها من الأود والاعوجاج ومنعها من التهافت والانفراج (٥) أرسى أوتادها وضرب أسدادها واستفاض عيونها وخد أوديتها (٦) فلم يهن ما بناه ولا ضعف ما قواه هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته والباطن لها بعلمه ومعرفته والعالي على كل شيء منها بجلالته وعزته لا يعجزه شيء منها طلبه ولا يمتنع عليه فيغلبه ولا يفوته السريع منها فيسبقه ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه ـ خضعت الأشياء له وظلت مستكينة لعظمته (٧) لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره ولا كفء له فيكافئه (٨) ولا نظير له فيساويه هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مراحها وسائمها وأصناف أشباحها وأجناسها ومتلبدة [ متبلدة ] أممها وأكياسها (٩) على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت ورجعت خاسئة حسيرة (١٠) عارفة بأنها مقهورة مقرة بالعجز عن إنشائها ـ مذعنة بالضعف عن إفنائها.

__________________

ـ بعضها بعضا ، وليس هو بذي مكان يحويه ، فيرتفع بارتفاعه وينخفض بانخفاضه ، كما أنه غير محمول على شيء فيميله إلى جانب ، أو يعدله على ظهره من غير ميل.

(١) يحفظ عباده ويحرسهم ، ولا يتحرز ولا يخاف ويبغض ويغضب ولا يستلزم بغضه وغضبه مشقة وانزعاجا ، كما هو الحال بالنسبة لنا مما يستلزمانه فينا من فوران دم القلب واضطرابه. يقول ـ لما أراد كونه ـ : كن فيكون ، وليس المراد بالقول هو التكلم الحقيقي حتى يكون له صوت يقرع الآذان فيسمع وإنما كلامه سبحانه هو نفس فعله ، وخلقه للأشياء وتصويرها ينشؤه ويمثله لجبرئيل في اللوح وليس هو بقديم ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.

(٢) في بعض النسخ : « الصفات المحدثات ».

(٣) خلا : أي مضى.

(٤) أرساها : أثبتها على غير قرار.

(٥) الأود ـ بالتحريك ـ الاعوجاج والتهافت : التساقط قطعة قطعة.

(٦) الأسداد ـ جمع السد ـ بمعنى الجبل أو الحاجز وبالضم بمعنى السحاب الأسود. وخذ : بمعنى شق.

(٧) الاستكانة : الخضوع.

(٨) أي : يساويه في وجوب الوجود.

(٩) المتلبدة : ذو البلادة ضد الأكياس.

(١٠) الخاسئ الذليل الصاغر. والحسير : الكلل المعيي.

٢٠٣

وإنه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها لا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات فلا شيء إلا ( الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الذي إليه مصير جميع الأمور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها وبغير امتناع منها كان فناؤها ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها لم يتكأده صنع شيء منها إذ صنعه ولم يؤده منها خلق ما برأه وخلقه ولم يكونها لتشديد سلطان ولا لخوف من زوال ونقصان ولا للاستعانة بها على ند مكاثر ولا للاحتراز بها من ضد مساور (١) ولا للازدياد بها في ملكه ولا لمكاثرة شريك في شركته ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها.

ثم هو ينفيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه من تصريفها وتدبيرها ـ ولا لراحة واصلة إليه ولا لثقل شيء منها عليه لا يمله طول بقائها فيدعوه إلى نزعة [ سرعة ] إفنائها لكنه سبحانه دبرها بلطفه وأمسكها بأمره وأتقنها بقدرته ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ولا استعانة بشيء منها عليها ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس ولا من فقر ولا حاجة إلى غنى وكثرة ولا من ذل وضعة إلى عز وقدرة.

ومن خطبة له عليه‌السلام (٢) :

الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد (٣) ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ولا تحجبه السواتر الدال على قدمه بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده وباشتباههم على أن لا شبه له الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته وبما وسمها به من العجز على قدرته وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه.

واحد لا بعدد ودائم لا بأمد وقائم لا بعمد تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة (٤) وتشهد له المرائي لا بمحاضرة (٥) لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها وبها امتنع منها وإليها حاكمها (٦) ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا بل كبر شأنا وعظم سلطانا.

ومنها في الاستدلال عليه تعالى بعجيب خلقه من أصناف الحيوان وغيرها.

ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والأبصار مدخولة أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه وفلق له السمع والبصر وسوى له العظم والبشر.

__________________

(١) لم يتكأده : لم يشق عليه. لم يئوده : لم يثقله. الند : المثل المكاثرة لمغالبة بالكثرة. المساورة : المواثبة.

(٢) ج ٢ ص ١٣٧ من نهج البلاغة.

(٣) المراد بالشواهد : الحواس

(٤) أي : لا بطريق المشاعر والأحاسيس.

(٥) أي : المرئيات تشهد له بالوجود من غير أن يكون محسوسا معها.

(٦) أي : لم تحط به العقول بل بها تجلى وظهر وثبت وجوده لها وبالنظر والتعقل علمنا أنه ممتنع من أن تدركه العقول وجعل العقول السقيمة المدعية بالإحاطة به تعالى خصمه ، ثم حاكمها إلى العقول السليمة فحكمت عليها.

٢٠٤

انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر كيف دبت على أرضها وصبت على رزقها تنقل الحبة إلى جحرها وتعدها في مستقرها تجمع في حرها لبردها وفي ورودها لصدورها مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديان ولو في الصفاء اليابس والحجر الجامس ولو فكرت في مجاري أكلها وفي علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقتها عجبا ولقيت من وصفها تعبا فتعالى الذي أقامها على قوائمها وبناها على دعائمها ولم يشركه في فطرتها فاطر ـ ولم يعنه على خلقها قادر ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النحلة لدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حي وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء كذلك السماء والهواء والريح والماء.

فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار وتفجر هذه البحار والأنهار وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات.

فالويل لمن أنكر المقدر أو جحد المدبر وزعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع ولا لاختلاف صورهم صانع لم يلجئوا إلى حجة فيما ادعوا ولا تحقيق فيما أوعوا وهل يكون بناء من غير بان أو جناية من غير جان.

وإن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين وجعل لها السمع الخفي وفتح لها الفم السوي وجعل لها الحس القوي ونابين بهما تقرض ومنجلين بهما تقبض ترهبها الزراع في زرعهم ولا يستطيعون ذبها ولو أجمعوا بجمعهم حتى ترد الحرث من نزواتها وتقضي منه شهواتها وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة.

فتبارك الله الذي يسجد له ( مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) ويعفر له خدا ووجها ويلقي بالطاعة له سلما وضعفا ويعطي له القيادة رهبة وخوفا والطير مسخرة لأمره أحصى عدد الريش منها والنفس وأرسى قوائمها على الندى واليبس قدر أقواتها وأحصى أجناسها فهذا غراب وهذا عقاب وهذا حمام وهذا نعام دعا كل طائر باسمه وكفل برزقه وأنشأ السحاب الثقال فأهل [ فأهطل ] ديمها وعدد قسمها فبل الأرض بعد جفوفها وأخرج نبتها بعد جدوبها

وروي أنه وفد وفد من بلاد الروم إلى المدينة على عهد أبي بكر وفيهم راهب من رهبان النصارى فأتى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه بختي موقر ذهبا وفضة وكان أبو بكر حاضرا وعنده جماعة من المهاجرين والأنصار.

فدخل عليهم وحياهم ورحب بهم وتصفح وجوههم ثم قال:

أيكم خليفة رسول الله وأمين دينكم؟

٢٠٥

فأومي إلى أبي بكر فأقبل إليه بوجهه ثم قال:

أيها الشيخ ما اسمك؟ قال عتيق قال ثم ما ذا؟ قال صديق قال ثم ما ذا؟ قال لا أعرف لنفسي اسما غيره.

فقال لست بصاحبي.

فقال له وما حاجتك؟ قال أنا من بلاد الروم جئت منها ببختي موقر ذهبا وفضة لأسأل أمين هذه الأمة مسألة إن أجابني عنها أسلمت وبما أمرني أطعت وهذا المال بينكم فرقت وإن عجز عنها رجعت إلى الوراء بما معي ولم أسلم.

فقال له أبو بكر سل عما بدا لك.

فقال الراهب والله لا أفتح الكلام ما لم تؤمني من سطوتك وسطوة أصحابك.

فقال أبو بكر أنت آمن وليس عليك بأس قل ما شئت.

فقال الراهب أخبرني عن شيء ـ ليس لله ولا من عند الله ولا يعلمه الله.

فارتعش أبو بكر ولم يحر جوابا فلما كان بعد هنيئة قال لبعض أصحابه ائتني بأبي حفص عمر فجاء به فجلس عنده ثم قال :

أيها الراهب سله فأقبل بوجهه إلى عمر وقال له مثل ما قال لأبي بكر فلم يحر جوابا.

ثم أتي بعثمان فجرى بين الراهب وعثمان مثل ما جرى بينه وبين أبي بكر وعمر فلم يحر جوابا.

فقال الراهب أشياخ كرام ذوو فجاج لإسلام ثم نهض ليخرج.

فقال أبو بكر يا عدو الله لو لا العهد لخضبت الأرض بدمك.

فقام السلمان الفارسي رضي الله عنه وأتى علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو جالس في صحن داره مع الحسن والحسين عليهما‌السلام وقص عليه القصة.

فقام علي عليه‌السلام وخرج ومعه الحسن والحسين عليهما‌السلام حتى أتى المسجد ـ فلما رأى القوم عليا عليه‌السلام كبروا الله وحمدوا الله وقاموا إليه أجمعهم فدخل علي عليه‌السلام وجلس فقال أبو بكر أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك.

فأقبل الراهب بوجهه إلى علي عليه‌السلام ثم قال يا فتى ما اسمك؟

قال اسمي عند اليهود إليا وعند النصارى إيليا وعند والدي علي وعند أمي حيدرة قال ما محلك من نبيكم؟

ـ قال أخي وصهري وابن عمي لحاً.

٢٠٦

قال الراهب أنت صاحبي ورب عيسى أخبرني عن شيء ليس لله ولا من عند الله ولا يعلمه الله.

قال عليه‌السلام على الخبير سقطت!

أما قولك ما ليس لله فإن الله تعالى أحد ليس له صاحبة ولا ولد.

وأما قولك ولا من عند الله فليس من عند الله ظلم لأحد.

وأما قولك لا يعلمه الله ـ فإن الله لا يعلم له شريكا في الملك.

فقام الراهب وقطع زناره وأخذ رأسه وقبل ما بين عينيه وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد أنك أنت الخليفة وأمين هذه الأمة ومعدن الدين والحكمة ومنبع عين الحجة لقد قرأت اسمك في التوراة إليا وفي الإنجيل إيليا وفي القرآن عليا وفي الكتب السابقة حيدرة ووجدتك بعد النبي وصيا وللإمارة وليا وأنت أحق بهذا المجلس من غيرك فأخبرني ما شأنك وشأن القوم؟

فأجابه بشيء فقام الراهب وسلم المال إليه بأجمعه فما برح علي عليه‌السلام مكانه حتى فرقه في مساكين أهل المدينة ومحاويجهم وانصرف الراهب إلى قومه مسلما.

وروي أنه اتصل بأمير المؤمنين عليه‌السلام أن قوما من أصحابه خاضوا في التعديل والتجريح فخرج حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة ـ فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم ما لهم وما عليهم والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد والوعد لا يكون إلا بالترغيب والوعيد لا يكون إلا بالترهيب والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك ثم خلقهم في داره وأراهم طرفا من اللذات ليستدلوا به على ما وراءهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم ألا وهي الجنة وأراهم طرفا من الآلام ليستدلوا به على ما وراءهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة ألا وهي النار فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطا بمحنها وسرورها ممزوجا بكدرها وهمومها.

قيل فحدث الجاحظ (١) بهذا الحديث فقال هو جماع الكلام الذي دونه الناس في كتبهم ، وتحاوره بينهم.

__________________

(١) الجاحظ : أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الليثي البصري اللغوي النحوي كان من غلمان النظام ، وكان مائلا إلى النصب والعثمانية ، وله كتب منها : « العثمانية » التي نقض عليها أبو جعفر الإسكافي ، والشيخ المفيد ، والسيد أحمد بن طاوس ، وطال عمره وأصابه الفالج في آخر عمره ومات في البصرة سنة ٢٥٥. الكنى والألقاب ج ٢ ص ١٢١.

٢٠٧

قيل ثم سمع أبو علي الجبائي (١) بذلك فقال صدق الجاحظ هذا ما لا يحتمله الزيادة والنقصان.

وروي عن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام في رسالته إلى أهل الأهواز في نفي الجبر والتفويض (٢) أنه قال :

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه سأله رجل بعد انصرافه من الشام فقال :

يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أبقضاء وقدر.

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام نعم يا شيخ ما علوتم تلعة (٣) ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من عند الله وقدر.

فقال الرجل عند الله أحتسب عنائي والله ما أرى لي من الأجر شيئا.

فقال علي عليه‌السلام بلى فقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون وعلى منصرفكم وأنتم منقلبون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.

فقال الرجل وكيف لا نكون مضطرين والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كان مسيرنا؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لعلك أردت قضاء لازما وقدرا حتما ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد والأمر من الله والنهي وما كانت تأتي من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب ولا المذنب أولى بعقوبة الذنب من المحسن تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور والبهتان وأهل العمى والطغيان (٤) هم قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله تعالى أمر تخييرا وكلف يسيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل هزلا ولم ينزل القرآن عبثا ولم يخلق السماوات ( وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ).

ثم تلا عليهم ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٥) قال فنهض الرجل مسرورا وهو يقول :

__________________

(١) الجبائي : أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن ابان مولى عثمان بن عفان « ويطلق » على ابنه أبي هاشم عبد السلام بن محمد ويقال لهما : الجبائيان وكلاهما من رؤساء المعتزلة ، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال ، والكتب الكلامية مشحونة بمذاهبها واعتقادهما ، توفي أبو علي الجبائي سنة ٣٠٣. الكنى والألقاب ج ٢ ص ١٢٦

(٢) تتلخص عقيدتنا نحن الشيعة الإمامية الاثني عشرية في « القضاء والقدر » بما يلي : لما كان الله سبحانه وتعالى مفيض الوجود ومعطيه ، فالافعال الصادرة منا تكون « داخلة تحت سلطانه ، ومن جملة مقدوراته ، ومن ناحية كونها صادرة منا ونحن أسبابها الطبيعية فهي داخلة تحت قدرتنا واختيارنا ، وهو لم يجبرنا عليها ، بل اعطانا القدرة والاختيار في افعالنا ولذا فهو حين يعاقبنا على المعاصي لا يكون ظالما لنا. ولا فوض خلقها الينا حتى تخرج عن سلطانه وخلاصة الكلام اننا نقول بالطريق الوسط في القول بين القولين كما علمنا أئمتنا عليهم‌السلام وكما قال إمامنا الصادق عليه‌السلام : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ».

(٣) التلعة : ما علا من الأرض.

(٤) في بعض النسخ « أهل الغي والطغيان ».

(٥) الإسراء ـ ٢٣.

٢٠٨

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه إحسانا

وليس معذرة في فعل فاحشة

قد كنت راكبها فسقا وعصيانا

كلا ولا قائلا ناهيه أوقعه

فيه عبدت إذا يا قوم شيطانا

ولا أحب ولا شاء الفسوق ولا

قتل الولي له ظلما وعدوانا

أنى يحب وقد صحت عزيمته

على الذي قال أعلن ذاك إعلانا

وروي أن رجلا قال فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟

قال الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية والمعونة على القربة إليه والخذلان لمن عصاه والوعد والوعيد والترغيب والترهيب كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا ـ وأما غير ذلك فلا تظنه فإن الظن له محبط للأعمال.

فقال الرجل فرجت عني يا امير المؤمنين فرج الله عنك.

وروي أنه سئل عن القضاء والقدر فقال :

لا تقولوا وكلهم الله على أنفسهم فتوهنوه ولا تقولوا أجبرهم على المعاصي فتظلموه ولكن قولوا الخير بتوفيق الله والشر بخذلان الله وكل سابق في علم الله.

وروى أهل السير أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال:

يا أمير المؤمنين خبرني عن الله أرأيته حين عبدته؟

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام لم أك بالذي أعبد من لم أره.

فقال له كيف رأيته يا أمير المؤمنين؟

فقال له يا ويلك لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته العقول بحقائق الإيمان معروف بالدلالات منعوت بالعلامات لا يقاس بالناس ولا يدرك بالحواس.

فانصرف الرجل وهو يقول ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ )

وروي أن بعض الأحبار جاء إلى أبي بكر فقال له أنت خليفة نبي هذه الأمة؟ فقال نعم.

قال فإنا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم ـ فخبرني عن الله أين هو؟ أفي السماء أم في الأرض؟

فقال له أبو بكر في السماء على العرش.

قال اليهودي فأرى الأرض خالية منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

فقال أبو بكر هذا كلام الزنادقة اعزب عني (١) وإلا قتلتك.

فولى الرجل متعجبا يستهزئ بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له يا يهودي قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به وإنا نقول :

إن الله عز وجل أين الأين فلا أين له وجل عن أن يحويه مكان وهو في كل مكان بغير مماسة

__________________

(١) عزب : غاب وخفي فهو « عازب ».

٢٠٩

ولا مجاورة يحيط علما بها (١) ولا يخلق [ يخلو ] شيء من تدبيره تعالى وإني مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق ما ذكرته لك فإن عرفته أتؤمن به؟ قال اليهودي نعم قال :

ألستم تجدون في بعض كتبكم أن موسى بن عمران كان ذات يوم جالسا إذ جاءه ملك من المشرق فقال له من أين جئت ـ؟ قال من عند الله وجاءه ملك آخر من المغرب فقال له من أين جئت؟ فقال من عند الله ثم جاءه ملك فقال من أين جئت فقال قد جئتكم من السماء السابعة من عند الله عز وجل وجاء ملك آخر قال قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند الله عز وجل.

فقال موسى عليه‌السلام سبحان من لا يخلو منه مكان ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان.

فقال اليهودي أشهد أن هذا هو الحق المبين ـ وأنك أحق بمقام نبيك ممن استولى عليه

وروى الشعبي أنه سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلا يقول والذي احتجب بسبع طباق فعلاه بالدرة ثم قال له:

يا ويلك إن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء سبحان الذي لا يحويه مكان ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء!

فقال الرجل فأكفر عن يميني يا أمير المؤمنين؟

قال لم تحلف بالله فيلزمك كفارة فإنما حلفت بغيره

وعن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال يا أمير المؤمنين متى كان ربك؟

فقال له ثكلتك أمك ومتى لم يكن حتى يقال متى كان كان ربي قبل القبل بلا قبل وبعد البعد بلا بعد ولا غاية ولا منتهى لغايته انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية.

فقال يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟

فقال ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد

احتجاجه عليه‌السلام على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكثير من فضائله.

روي عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن الحسين بن علي عليه‌السلام قال إن يهوديا من يهود الشام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء عليهم‌السلام وعرف دلائلهم جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وأبو سعيد الجهني.

__________________

(١) وفي بعض النسخ : « بما فيها ».

٢١٠

فقال يا أمة محمد ما تركتم لنبي درجة ولا لمرسل فضيلة إلا أنحلتموها نبيكم فهل تجيبوني عما أسألكم عنه؟ (١).

فكاع القوم عنه فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام نعم ما أعطى الله نبيا درجة ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وزاد محمدا على الأنبياء أضعافا مضاعفة.

فقال له اليهودي فهل أنت مجيبي؟

قال له نعم سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يقر الله به عين المؤمنين ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنه كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال ولا فخر وأنا أذكر لك فضائله غير مزر بالأنبياء ولا منتقص لهم ولكن شكرا لله على ما أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل ما أعطاهم وما زاده الله وما فضله عليهم.

قال له اليهودي إني أسألك فأعد له جوابا.

قال له علي عليه‌السلام هات.

قال اليهودي هذا آدم عليه‌السلام أسجد الله له ملائكته فهل فعل لمحمد شيئا من هذا؟

فقال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك أسجد الله لآدم ملائكته فإن سجودهم له لم يكن سجود طاعة وأنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل ولكن اعترافا بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إن الله عز وجل صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها وتعبد المؤمنين بالصلاة عليه فهذه زيادة يا يهودي.

قال له اليهودي فإن آدم عليه‌السلام تاب الله عليه بعد خطيئته؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد نزل فيه ما هو أكبر من هذا من غير ذنب أتى قال الله عز وجل ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (٢) إن محمدا غير مواف يوم القيامة بوزر ولا مطلوب فيها بذنب.

قال اليهودي فإن هذا إدريس رفعه الله عز وجل ( مَكاناً عَلِيًّا ) وأطعمه من تحف الجنة بعد وفاته.

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إن الله جل ثناؤه قال فيه : ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (٣) فكفى بهذا من الله رفعة ولئن أطعم إدريس من تحف الجنة بعد وفاته فإن محمدا أطعم في الدنيا في حياته بينما يتضور جوعا فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بجام من الجنة فيه تحفة فهلل الجام وهللت التحفة في يده وسبحا وكبرا وحمدا فناولها أهل بيته ففعلت الجام مثل ذلك فهم أن يناولها بعض أصحابه فتناولها جبرئيل عليه‌السلام وقال له كلها فإنها تحفة من الجنة أتحفك الله بها وإنها

__________________

(١) كاع القوم عنه : هابوه وجنبوا.

(٢) الفتح ـ ٢.

(٣) الشرح ـ ٤.

٢١١

لا تصلح إلا لنبي أو وصي نبي فأكل منها صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكلنا معه وإني لأجد حلاوتها ساعتي هذه.

قال اليهودي فهذا نوح عليه‌السلام صبر في ذات الله تعالى فأعذر قومه إذ كذب؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله صبر في ذات الله عز وجل فأعذر قومه إذ كذب وشرد وحصب بالحصى وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال أن شق الجبال وانته إلى أمر محمد فأتاه فقال إني أمرت لك بالطاعة فإن أمرت أن أطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها قال صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما بعثت رحمة رب اهد أمتي فإنهم لا يعلمون ويحك يا يهودي إن نوحا لما شاهد غرق قومه رق عليهم رقة القربة وأظهر عليهم شفقة فقال : ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) (١) فقال الله تعالى ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) (٢) أراد جل ذكره أن يسليه بذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما غلبت عليه من قومه المعاندة شهر عليهم سيف النقمة ولم تدركه فيهم رقة القرابة ولم ينظر إليهم بعين رحمة.

فقال اليهودي فإن نوحا دعا ربه فهطلت السماء ( بِماءٍ مُنْهَمِرٍ )؟

قال له عليه‌السلام لقد كان كذلك وكانت دعوته دعوة غضب ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هطلت له السماء بماء منهمر رحمة وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما هاجر إلى المدينة أتاه أهلها في يوم جمعة فقالوا له يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله احتبس القطر واصفر العود وتهافت الورق فرفع يده المباركة حتى رئي بياض إبطه وما ترى في السماء سحابة فما برح حتى سقاهم الله حتى إن الشاب المعجب بشبابه لهمته نفسه في الرجوع إلى منزله فما يقدر على ذلك من شدة السيل فدام أسبوعا فأتوه في الجمعة الثانية فقالوا يا رسول الله تهدمت الجدر واحتبس الركب والسفر فضحك صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال هذه سرعة ملالة ابن آدم ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم في أصول الشيح ومراتع البقع (٣) فرئي حوالي المدينة المطر يقطر قطرا وما يقع بالمدينة قطرة لكرامته صلى‌الله‌عليه‌وآله على الله عز وجل.

قال له اليهودي فإن هذا هود قد انتصر الله له من أعدائه بالريح فهل فعل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا من هذا؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إن الله عز وجل قد انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق إذ أرسل عليهم ريحا تذرو الحصى وجنودا لم يروها فزاد الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بثمانية ألف ملك وفضله على هود بأن ريح عاد ريح سخط وريح محمد ريح رحمة قال الله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً

__________________

(١) هود ـ ٤٥.

(٢) هود ـ ٤٦.

(٣) الشيخ نبات أنواعه كثيرة ، كل طيب الرائحة. والمراتع جمع مرتع وهو موضع الرتع أي : الخصب. والبقع جمع بقعة : القطعة من الأرض.

٢١٢

وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) (١)

قال له اليهودي فهذا صالح أخرج الله له ناقة جعلها لقومه عبرة؟

قال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من ذلك إن ناقة صالح لم تكلم صالحا ولم تناطقه ولم تشهد له بالنبوة ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما نحن معه في بعض غزواته إذ هو ببعير قد دنا ثم رغا فأنطقه الله عز وجل فقال يا رسول الله فلان استعملني حتى كبرت ويريد نحري فأنا أستعيذ بك منه فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صاحبه فاستوهبه منه فوهبه له وخلاه ولقد كنا معه فإذا نحن بأعرابي معه ناقة له يسوقها وقد استسلم للقطع لما زور عليه من الشهود فنطقت الناقة فقالت يا رسول الله إن فلانا مني بريء وإن الشهود يشهدون عليه بالزور وإن سارقي فلان اليهودي.

قال له اليهودي فإن هذا إبراهيم قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى وأحاطت دلالته بعلم الإيمان؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك وأعطي محمد أفضل منه وتيقظ إبراهيم وهو ابن خمس عشرة سنة ومحمد ابن سبع سنين قدم تجار من النصارى فنزلوا بتجارتهم بين الصفا والمروة فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته ورفعته وخبر مبعثه وآياته فقالوا :

يا غلام ما اسمك؟ قال محمد قالوا ما اسم أبيك؟ قال عبد الله.

قالوا ما اسم هذه وأشاروا بأيديهم إلى الأرض قال الأرض قالوا وما اسم هذه وأشاروا بأيديهم إلى السماء قال السماء قالوا فمن ربهما قال الله ثم انتهرهم وقال أتشككوني في الله عز وجل؟

ويحك يا يهودي لقد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله عز وجل مع كفر قومه إذ هو بينهم يستقسمون بالأزلام ويعبدون الأوثان وهو يقول لا إله إلا الله.

قال له اليهودي ـ فإن إبراهيم عليه‌السلام حجب عن نمرود بحجب ثلاث؟

قال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حجب عمن أراد قتله بحجب خمس فثلاثة بثلاثة واثنان فضل قال الله عز وجل وهو يصف أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) فهذا الحجاب الأول : ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) فهذا الحجاب الثاني : ( فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (٢) فهذا الحجاب الثالث ثم قال ( إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) (٣) ـ فهذا الحجاب الرابع ثم قال ( فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) فهذه حجب خمس.

قال له اليهودي فإن هذا إبراهيم قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته؟

__________________

(١) التوبة ـ ٢٦.

(٢) يس ـ ٩.

(٣) الإسراء ـ ٤٥.

٢١٣

قال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه مكذب بالبعث بعد الموت وهو أبي بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه ثم قال يا محمد ( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (١) فأنطق محمدا بمحكم آياته وبهته ببرهان نبوته فقال : ( يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (٢) فانصرف مبهوتا.

قال له اليهودي فهذا إبراهيم جذ أصنام (٣) قومه غضبا لله عز وجل؟

قال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نكس عن الكعبة ثلاثمائة وستين صنما ونفاها عن جزيرة العرب وأذل من عبدها بالسيف.

قال له اليهودي فإن إبراهيم قد أضجع ولده ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) (٤)؟

فقال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ولقد أعطي إبراهيم بعد الاضطجاع الفداء ومحمد أصيب بأفجع منه فجيعة إنه وقف على عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله وناصر دينه وقد فرق بين روحه وجسده فلم يبن عليه حرقة ولم يفض عليه عبرة ولم ينظر إلى موضعه من قلبه وقلوب أهل بيته ليرضي الله عز وجل بصبره ـ ويستسلم لأمره في جميع الفعال وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لا أن تحزن صفية لتركته حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير ولو لا أن يكون سنة بعدي لفعلت ذلك.

قال له اليهودي فإن إبراهيم عليه‌السلام قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر فجعل الله عز وجل عليه ( بَرْداً وَسَلاماً ) (٥) فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصير الله السم في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله ـ فالسم يحرق إذا استقر في الجوف كما أن النار تحرق فهذا من قدرته لا تنكره.

قال له اليهودي فإن هذا يعقوب عليه‌السلام أعظم في الخير نصيبا إذ جعل الأسباط من سلالة صلبه ومريم بنت عمران من بناته؟

قال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم في الخير نصيبا ـ إذ جعل فاطمة سيدة نساء العالمين من بناته والحسن والحسين من حفدته.

قال له اليهودي فإن يعقوب عليه‌السلام قد صبر على فراق ولده حتى كاد يحرض (٦) من الحزن.

__________________

(١) يس ـ ٧٨.

(٢) يس ـ ٧٩.

(٣) جذ أصنامهم استأصلها إشارة إلى قوله تعالى : ( فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً ) أي فتاتا مستأصلين.

(٤) تله : قال تعالى : ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) أي صرعه ، وهو كقولهم كبه لوجهه.

(٥) قال تعالى : ( قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ )

(٦) يحرض : يهلك.

٢١٤

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك حزن يعقوب حزنا بعده تلاق ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبض ولده إبراهيم عليه‌السلام قرة عينه في حياته منه فخصه بالاختيار ليعلم له الادخار فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله يحزن النفس ويجزع القلب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول ما يسخط الرب في كل ذلك يؤثر الرضا عن الله عز وجل والاستسلام له في جميع الفعال.

قال له اليهودي فإن هذا يوسف قاسى مرارة الفرقة وحبس في السجن توقيا للمعصية وألقي في الجب وحيدا؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قاسى مرارة الغربة وفراق الأهل والأولاد والمال ـ مهاجرا من حرم الله تعالى وأمنه فلما رأى الله عز وجل كآبته واستشعاره والحزن أراه تبارك اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف في تأويلها وأبان للعالمين صدق تحقيقها فقال ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) (١) ولئن كان يوسف عليه‌السلام حبس في السجن فلقد حبس رسول الله نفسه في الشعب ثلاث سنين وقطع منه أقاربه وذوو الرحم وألجئوه إلى أضيق المضيق ولقد كادهم الله عز ذكره له كيدا مستبينا إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الذي كتبوه بينهم في قطيعة رحمه ولئن كان يوسف ألقي في الجب فلقد حبس محمد نفسه مخافة عدوه في الغار حتى قال ( لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ) ومدحه إليه بذلك في كتابه.

فقال له اليهودي فهذا موسى بن عمران آتاه الله عز وجل التوراة التي فيها حكمه؟

قال له علي عليه‌السلام فلقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل منه أعطي محمد البقرة وسورة المائدة بالإنجيل وطواسين وطه ونصف المفصل والحواميم بالتوراة وأعطي نصف المفصل والتسابيح بالزبور وأعطي سورة بني إسرائيل وبراءة بصحف إبراهيم وموسى عليه‌السلام وزاد الله عز وجل محمدا السبع الطوال (٢) وفاتحة الكتاب (٣) وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وأعطي الكتاب والحكمة.

قال له اليهودي فإن موسى ناجاه الله على طور سيناء؟

فقال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ولقد أوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عند سدرة المنتهى ـ فمقامه في السماء محمود وعند منتهى العرش مذكور.

قال اليهودي فلقد ألقى الله على موسى بن عمران محبة منه؟

قال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك وقد أعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما هو أفضل من هذا لقد ألقى الله محبة

__________________

(١) الفتح ـ ٢٧.

(٢) السبع الطوال من البقرة إلى الأعراف ، والسابعة سورة يونس ، أو « الأنفال وبراءة » لأنهما سورة واحدة عند بعض.

(٣) هي سورة الحمد.

٢١٥

منه فمن هذا الذي يشركه في هذا الاسم إذ تم من الله به الشهادة فلا تتم الشهادة إلا أن يقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ينادى به على المنابر فلا يرفع صوت بذكر الله إلا رفع بذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله معه.

قال له اليهودي فلقد أوحى الله إلى أم موسى لفضل منزلة موسى عليه‌السلام عند الله.

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ولقد لطف الله جل ثناؤه لأم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن أوصل إليها اسمه حتى قالت أشهد والعالمون أن محمدا رسول الله منتظر وشهد الملائكة على الأنبياء أنهم أثبتوه في الأسفار وبلطف من الله ساقه إليها ـ وأوصل إليها اسمه لفضل منزلته عنده حتى رأت في المنام أنه قيل لها إن ما في بطنك سيد فإذا ولدته فسميه محمدا فاشتق الله له اسما من أسمائه فالله المحمود وهذا محمد.

قال له اليهودي فإن هذا موسى بن عمران قد أرسله الله إلى فرعون وأراه ( الْآيَةَ الْكُبْرى )؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد أرسل إلى فراعنة شتى مثل أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة وأبي البختري والنضر بن الحرث وأبي بن خلف ومنبه ونبيه ابني الحجاج وإلى الخمسة المستهزءين ـ الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن أبي الطلالة فأراهم الآيات ( فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ).

قال له اليهودي لقد انتقم الله عز وجل لموسى من فرعون؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ولقد انتقم الله جل اسمه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفراعنة فأما المستهزءون فقال الله : ( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) (١) فقتل الله خمستهم كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد.

فأما الوليد بن المغيرة فمر بنبل لرجل من خزاعة قد راشه (٢) ووضعه في الطريق فأصابه شظية (٣) منه فانقطع أكحله (٤) حتى أدماه فمات وهو يقول قتلني رب محمد.

وأما العاص بن وائل السهمي فإنه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده (٥) تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة فمات وهو يقول قتلني رب محمد.

وأما الأسود بن عبد يغوث فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظل بشجرة فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة فقال لغلامه امنع هذا عني فقال ما أرى أحدا يصنع شيئا إلا نفسك فقتله وهو يقول قتلني رب محمد.

__________________

(١) الحجر ـ ٩٥.

(٢) راش السهم : الزق عليه الريش.

(٣) الشظية : الفلقة من العصا ونحوها.

(٤) الأكحل : عرق في اليد يفصد.

(٥) تدهده : تدحرج.

٢١٦

وأما الأسود بن الحرث فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليه أن يعمي الله بصره وأن يثكله ولده فلما كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع أتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي فبقي حتى أثكله الله ولده.

وأما الحرث بن أبي الطلالة فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشيا فرجع إلى أهله فقال أنا الحرث فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول قتلني رب محمد.

وروي أن الأسود بن الحرث أكل حوتا مالحا فأصابه غلبة العطش فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات وهو يقول قتلني رب محمد (١).

كل ذلك في ساعة واحدة ـ وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا له يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منزله فأغلق عليه بابه مغتما لقولهم فأتاه جبرئيل عن الله من ساعته فقال :

يا محمد السلام يقرأ عليك السلام وهو يقول لك : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) (٢) يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادعهم إلى الإيمان قال يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزءين وما أوعدوني قال له ( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال يا جبرئيل كانوا الساعة بين يدي قال كفيتهم وأظهر أمره عند ذلك.

وأما بقية الفراعنة قتلوا يوم بدر بالسيف ، (٣) فهزم الله الجميع وولوا الدبر.

قال له اليهودي فإن هذا موسى بن عمران قد أعطي العصا فكان تحول ثعبانا؟

قال له علي عليه‌السلام لقذد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إن رجلا كان يطالب أبا جهل بدين ثمن جزور قد اشتراه فاشتغل عنه وجلس يشرب فطلبه الرجل فلم يقدر عليه فقال له بعض المستهزءين من تطلب؟ فقال عمرو بن هشام يعني أبا جهل لي عليه دين قال فأدلك على من يستخرج منه الحقوق؟ قال نعم.

فدله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أبو جهل يقول ليت لمحمد إلي حاجة فأسخر به وأرده فأتى الرجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال ـ يا محمد بلغني أن بينك وبين عمرو بن هشام حسن صداقة وأنا أستشفع بك إليه فقام معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتى بابه فقال له قم يا أبا جهل فأد إلى الرجل حقه وإنما كناه بأبي جهل ذلك اليوم فقام مسرعا حتى أدى إليه حقه فلما رجع إلى مجلسه قال له بعض أصحابه فعلت ذلك فرقا

__________________

(١) الظاهر ان هذا الكلام للمؤلف رحمه‌الله ادخله في الخبر.

(٢) الحجر ـ ٩٤.

(٣) روي عن ابن مسعود قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلى في ظل الكعبة ، وناس من قريش وأبو جهل نحروا جزورا في ناحية مكة ، فبعثوا وجاءوا بسلاء فطرحوه بين كتفيه ، فجاءت فاطمة (عليها‌السلام) فطرحته عنه ، فلما انصرف قال : « اللهم عليك بقريش ، اللهم عليك بأبي جهل ، وبعتبة ، وشيبة ، ووليد بن عتبة ، وأمية بن خلف ، وبعقبة بن أبي معيط » قال عبد الله ولقد رأيتهم قتلى في قليب بدر.

٢١٧

من محمد (١)؟ قال ويحكم اعذروني إنه لما أقبل رأيت عن يمينه رجالا معهم (٢) حراب تتلألأ ـ وعن يساره ثعبانين تصطك أسنانهما وتلمع النيران من أبصارهما لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب بطني (٣) وتقضمني الثعبانان.

هذا أكبر مما أعطي موسى وزاد الله محمدا ثعبانا وثمانية أملاك معهم الحراب ولقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤذي قريشا بالدعاء فقام يوما فسفه أحلامهم وعاب دينهم وشتم أصنامهم وضلل آباءهم فاغتموا من ذلك غما شديدا فقال أبو جهل والله للموت خير لنا من الحياة فليس فيكم معاشر قريش أحد يقتل محمدا فيقتل به؟ قالوا لا قال فأنا أقتله فإن شاءت بنو عبد المطلب قتلوني به وإلا تركوني قالوا إنك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الوادي معروفا لا تزال تذكر به قال إنه كثير السجود حول الكعبة فإذا جاء وسجد أخذت حجرا فشدخته (٤) به.

فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فطاف بالبيت أسبوعا ثم صلى وأطال السجود فأخذ أبو جهل حجرا فأتاه من قبل رأسه فلما أن قرب منه أقبل فحل من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاغرا فاه نحوه فلما أن رآه أبو جهل فزع منه وارتعدت يده وطرح الحجر فشدخ رجله فرجع مدمى متغير اللون يفيض عرقا.

فقال له أصحابه ما رأيناك كاليوم قال ويحكم اعذروني ـ فإنه أقبل من عنده فحل فاغرا فاه فكاد يبتلعني فرميت بالحجر فشدخت رجلي.

قال اليهودي فإن موسى قد أعطي اليد البيضاء فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إن نورا كان يضيء عن يمينه حيثما جلس وعن يساره حيثما جلس وكان يراه الناس كلهم.

قال له اليهودي فإن موسى عليه‌السلام قد ضرب له طريق في البحر فهل فعل بمحمد شيء من هذا؟

فقال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد أعطي ما هو أفضل من هذا خرجنا معه إلى حنين فإذا نحن بواد يشخب فقدرناه فإذا هو أربع عشرة قامة فقالوا يا رسول الله العدو وراءنا والوادي أمامنا كما قال أصحاب موسى ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) فنزل رسول الله ثم قال ـ اللهم إنك جعلت لكل مرسل دلالة فأرني قدرتك وركب صلى‌الله‌عليه‌وآله فعبرت الخيل لا تندى حوافرها والإبل لا تندى أخفافها فرجعنا فكان فتحنا.

قال له اليهودي فإن موسى عليه‌السلام قد أعطي الحجر ( فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ).

قال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزل الحديبية وحاصره أهل مكة قد أعطي ما هو أفضل من ذلك وذلك أن أصحابه شكوا إليه الظمأ ـ وأصابهم ذلك حتى التقت خواصر الخيل ،

__________________

(١) فرقا : فرعا.

(٢) يبعجوا ـ بفتح العين ـ يشقوا.

(٣) في بعض النسخ : « بأيديهم ».

(٤) الشدخ : كسر الشيء الأجوف.

٢١٨

فذكروا له صلى‌الله‌عليه‌وآله فدعا بركوة يمانية ثم نصب يده المباركة فيها فتفجرت من بين أصابعه عيون الماء فصدرنا وصدرت الخيل رواء وملأنا كل مزادة وسقاء.

ولقد كنا معه بالحديبية فإذا ثم قليب جافة فأخرج عليه‌السلام سهما من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له اذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه فيها ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عينا من تحت السهم.

ولقد كان يوم الميضاة عبرة وعلامة للمنكرين لنبوته كحجر موسى حيث دعا بالميضاة ـ فنصب يده فيها فغاضت الماء وارتفع حتى توضأ منه ثمانية آلاف رجل فشربوا حاجتهم وسقوا دوابهم وحملوا ما أرادوا.

قال اليهودي فإن موسى عليه‌السلام أعطي ( الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) فهل أعطي لمحمد نظير هذا.

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إن الله عز وجل أحل له الغنائم ولأمته ولم تحل الغنائم لأحد غيره قبله فهذا أفضل من المن والسلوى ثم زاده أن جعل النية له ولأمته بلا عمل عملا صالحا ـ ولم يجعل لأحد من الأمم ذلك قبله فإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرة.

قال له اليهودي إن موسى عليه‌السلام قد ظلل عليه الغمام؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك وقد فعل ذلك بموسى في التيه وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من هذا إن الغمامة كانت تظله من يوم ولد إلى يوم قبض في حضره وأسفاره فهذا أفضل مما أعطي موسى.

قال له اليهودي فهذا داود عليه‌السلام قد لين الله له الحديد فعمل منه الدروع؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أعطي ما هو أفضل من هذا إنه لين الله له الصم الصخور الصلاب وجعلها غارا (١) ولقد غارت الصخرة تحت يده ببيت المقدس لينة حتى صارت كهيئة العجين (٢) وقد رأينا ذلك والتمسناه تحت رايته.

قال له اليهودي هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبل معه لخوفه.

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أريز [ أزيز ] كأريز [ كأزيز ] المرجل على الأثافي من شدة البكاء (٣) وقد آمنه الله عز وجل من عقابه فأراد أن يتخشع لربه ببكائه فيكون إماما لمن اقتدى به ولقد قام صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر سنين على أطراف

__________________

(١) يظهر من هذا الكلام أن الغار أحدث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن من قبل.

(٢) وذلك ليلة المعراج.

(٣) الأريز : وهو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء. والمرجل ـ كمنبر ـ : القدر والأثافي : الأحجار التي يوضع عليها القدر.

٢١٩

أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال الله عز وجل : ( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ) (١) بل لتسعد به ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه ـ فقيل له يا رسول الله أليس الله غفر لك ( ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ )؟ قال بلى أفلا أكون عبدا شكورا.

ولئن سارت الجبال وسبحت معه لقد عمل بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما هو أفضل من هذا إذ كنا معه على جبل حراء إذ تحرك الجبل فقال له قر فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق شهيد فقر الجبل مطيعا لأمره ومنتهيا إلى طاعته ولقد مررنا معه بجبل وإذا الدموع تخرج من بعضه فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يبكيك يا جبل فقال يا رسول الله كان المسيح مر بي وهو يخوف الناس من نار ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) ـ وأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة قال له لا تخف تلك الحجارة الكبريت فقر الجبل وسكن وهدأ وأجاب لقوله (ص).

قال له اليهودي فإن هذا سليمان أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده؟

فقال علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إنه هبط إليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله وهو ميكائيل فقال له يا محمد عش ملكا منعما وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك ـ ويسير معك جبالها ذهبا وفضة ولا ينقص لك مما ادخر لك في الآخرة شيء فأومى إلى جبرئيل وكان خليله من الملائكة فأشار عليه أن تواضع فقال له بل أعيش نبيا عبدا آكل يوما ولا آكل يومين وألحق بإخواني من الأنبياء فزاده الله تبارك وتعالى الكوثر وأعطاه الشفاعة وذلك أعظم من ملك الدنيا من أولها إلى آخرها سبعين مرة ووعده المقام المحمود فإذا كان يوم القيامة أقعده الله عز وجل على العرش فهذا أفضل مما أعطي سليمان.

قال له اليهودي فإن هذا سليمان قد سخرت له الرياح فسارت به في بلاده ( غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ )؟

قال له علي عليه‌السلام لقد كان كذلك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطي ما هو أفضل من هذا إنه سري به ( مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) مسيرة شهر وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقل من ثلث ليلة حتى انتهى إلى ساق العرش فدَنا بالعلم ( فَتَدَلَّى ) من الجنة رفرف أخضر وغشي النور بصره فرأى عظمة ربه عز وجل بفؤاده ولم يرها بعينه ( فَكانَ ) كقاب ( قَوْسَيْنِ ) بينه وبينها ( أَوْ أَدْنى ـ ) ( فَأَوْحى ) الله ( إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ) وكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة قوله : ( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢).

وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم عليه‌السلام إلى أن بعث الله تبارك وتعالى محمدا وعرضت على الأمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها وقبلها رسول الله وعرضها على أمته فقبلوها فلما رأى

__________________

(١) طه ـ ١.

(٢) البقرة ـ ٢٨٤.

٢٢٠