الإحتجاج - ج ١-٢

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

الإحتجاج - ج ١-٢

المؤلف:

أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٦

فويل ثم ويل ثم ويل

لمن يلقى الإله غدا بظلمي (١)

أنا الرجل الذي لا تنكروه

ليوم كريهة أو يوم سلم

فقال معاوية أخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب عليه‌السلام.

وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : لما قتل عمار بن ياسر (٢) ارتعدت فرائص خلق كثير وقالوا :

__________________

(١) وفي بعض النسخ : « لمن يريد القيامة وهو خصمي ».

(٢) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة المذحجي ثم العنسي ، أبو اليقظان حليف بني مخزوم ، وأمه سمية وهي أول من استشهد في سبيل الله طعنها أبو جهل في قلبها فاستشهدت وهو وأبوه وأمه من السابقين الأولين إلى الإسلام.

كان من المستضعفين ، وعذب في الله عذابا شديدا. أحرقه المشركون بالنار فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمر به ويمر يده على رأسه ويقول : « يا نار كوني بردا وسلاما على عمار ، كما كنت على إبراهيم (عليه‌السلام) ».

عن عثمان بن عفان قال : أقبلت أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آخذ بيدي نتماشى في البطحاء حتى أتينا على أبي عمار وعمار وأمه وهم يعذبون ، فقال ياسر : الدهر هكذا!! ». فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اصبر اللهم اغفر لآل ياسر ، وقال وقد فعلت » وروى أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مر بعمار وأهله وهم يعذبون في الله فقال : « أبشروا آل عمار فان موعدكم الجنة ».

قال الطبرسي في قوله تعالى : « إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان » إنها نزل في جماعة اكرهوا وهم عمار وياسر وأبوه وأمه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا وقتل أبو عمار وأمه فأعطاهم بلسانه ما أرادوا منه ، ثم أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال قوم : « كفر عمار » فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : « كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ».

وجاء عمار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكي فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ما وراك؟ قال يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح عينيه ويقول : « إن عادوا لك فعد لهم » فنزلت الآية.

وشهد بدرا ولم يشهدها ابن مؤمنين غيره وشهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أبشر يا أبا اليقظان فإنك أخو علي في ديانته ومن أفاضل أهل ولايته ومن المقتولين في محبته تقتلك الفئة الباغية وآخر زادك من الدنيا ضياح من لبن ».

وعن علي عليه‌السلام قال : جاء عمار يستأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب » وقال علي عليه‌السلام فيه : ذاك امرؤ حرم الله لحمه ودمه على النار وأن تمس شيئا منهما.

وكان رحمه‌الله من كبار الفقهاء ، وكان طويل الصمت ، طويل الحزن والكآبة ، وكان عامة كلامه عائذا بالله من فتنة.

وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمار ستكون بعدي فتنة فإذا كان كذلك فاتبع عليا (عليه‌السلام) وحزبه فانه مع الحق والحق معه ، يا عمار إنك ستقاتل مع علي صنفين الناكثين والقاسطين ثم تقتلك « الفئة الباغية » قلت : يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك قال :

نعم على رضا الله ورضاي ، ويكون آخر زادك شربة من لبن تشربه ، فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فقال له يا أخا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتأذن لي في القتال؟ قال : مهلا رحمك الله ، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام ، فأجابه بمثله ، فأعاده ثالثا فبكى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فنظر إليه عمار فقال : يا أمير المؤمنين إنه اليوم الذي وصف لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فنزل أمير المؤمنين عن بغلته وعانق عمارا وودعه ، ثم قال : يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيرا فنعم الأخ كنت ونعم الصاحب كنت ، ثم بكى وبكى عمار ثم برز إلى القتال فقاتل حتى قتل رحمه‌الله فأتاه أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وقال : انا لله وانا إليه راجعون ان امرأ لم يدخل عليه مصيبة من قتل عمار فما هو في الإسلام من شيء ثم صلى عليه ثم قال :

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي

أرحني فقد أفنيت كل خليل

أراك بصيرا بالذين أحبهم

كأنك تمضي نحوهم بدليل

وفي خبر انه اتى يومئذ بلبن فضحك ثم قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : آخر شراب تشربه من الدنيا مذقة من لبن حتى تموت وقال : والله لو ضربونا حتى بلغونا سعفات هجر لعلمت اننا على الحق وانهم على الباطل. ثم قتل رضي‌الله‌عنه قتله أبو العادية ( لع ) واحتز رأسه أبو الجوى السكسكي وكان عمره « ره » يوم قتل (٩٤) سنة.

راجع صفة الصفوة ج ١ ص ١٧٥ أسد الغابة ج ٤ ص ٤٣ سفينة البحار ج ٢ ص ٢٧٥.

١٨١

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمار تقتله الفئة الباغية فدخل عمرو على معاوية وقال يا أمير المؤمنين قد هاج الناس واضطربوا قال لما ذا؟ قال قتل عمار فقال قتل عمار فما ذا؟

قال أليس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تقتله الفئة الباغية.

فقال معاوية دحضت في قولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي بن أبي طالب عليه‌السلام لما ألقاه بين رماحنا فاتصل ذلك بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال :

فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي قتل حمزة لما ألقاه بين رماح المشركين.

وكتب عليه‌السلام (١) إلى عمرو بن العاص في أثناء كتاب :

فإنك جعلت دينك تبعا لدنيا امرئ ظاهر غيه مهتوك ستره يشين الكريم بمجلسه ويسفه الحليم بخلطته فاتبعت أثره وطلبت فضله اتباع الكلب للضرغام (٢) يلوذ إلى مخالبه وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته فأذهبت دنياك وآخرتك ولو أخذت بالحق أدركت ما طلبت ـ فإن يمكني الله منك ومن ابن أبي سفيان أخبرتكما بما قدمتما (٣) فإن نعجز أو تبقيا فما أمامكما شر لكما والسلام.

وقال عليه‌السلام في عمرو وجوابا عما قال فيه عجبا لابن النابغة (٤) يزعم لأهل الشام أن في دعابة (٥) وأني امرؤ تلعابة (٦) أعانس (٧) [ أعافس ] وأمارس (٨) لقد قال باطلا ونطق آثما أما وشر القول الكذب إنه يقول فيكذب ويعد فيخلف ويسأل فيحلف [ فيلحف ] ويسأل فيبخل ويخون العهد ويقطع الإل (٩) فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها أكبر مكيدته أن يمنح القوم استه (١٠) أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة وإنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه على البيعة آية (١١) [ أتية ] ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (١٢)

__________________

(١) تجد هذا الكتاب في ج ٣ من نهج البلاغة ص ٧١.

(٢) الضرغام : الأسد.

(٣) وفي بعض النسخ : اجزكما

(٤) نبغ الشيء ظهر وانما سميت أم عمرو : ( النابغة ) لشهرتها بالفجور وتظاهرها به.

(٥) الدعابة ـ بالضم ـ : المزاح.

(٦) تلعابة ـ بالكسر ـ : أي كثير اللعب

(٧) العفاس ـ بالكسر ـ : اللعب ، وفي بعض النسخ ( أعارس ) من أعرس الرجل إذا دخل بامرأته.

(٨) الممارسة : المزاولة والملاعبة.

(٩) الإل ـ بالكسر ـ العهد والقرابة.

(١٠) الاست : العجز او حلقة الدبر ، أشار (عليه‌السلام) إلى ما ذكر أرباب السير وصار مضربا للأمثال من كشفه سوأته شاغرا برجليه حين لقيه أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في بعض أيام صفين ، وقد اختلطت السيوف ، واشتد نار الحرب فانصرف عنه أمير المؤمنين (عليه‌السلام).

(١١) أي : العطية.

(١٢) الرضخ : العطاء القليل.

١٨٢

وكتب محمد بن أبي بكر (١) إلى معاوية احتجاجا عليه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر سلام الله على أهل طاعة الله ممن هو أهل دين الله وأهل ولاية الله.

أما بعد فإن الله بجلاله وسلطانه خلق خلقا بلا عبث منه ولا ضعف به في قوة ولكنه خلقهم

__________________

(١) محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة. وأمه أسماء بنت عميس مر لها ذكر فيما مضى ولد بالبيداء في حجة الوداع.

روي أن أبا بكر خرج في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزاة فرأت أسماء بنت عميس وهي تحته كأن أبا بكر متخضب بالحناء رأسه ولحيته ، وعليه ثياب بيض ، فجاءت الى عائشة فأخبرتها ، فبكت عائشة وقالت ان صدقت رؤياك فقد قتل أبو بكر ان خضابه الدم وان ثيابه اكفانه ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي كذلك فقال : ما ابكاها؟ فذكروا الرؤيا. فقال : ليس كما عبرت عائشة ولكن يرجع أبو بكر ، فتحمل منه أسماء بغلام تسميه محمدا يجعله الله تعالى غيظا على الكافرين والمنافقين.

قال ابن أبي الحديد : ونشؤه في حجر أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وانه لم يكن يعرف أبا غير علي ، حتى قال أمير المؤمنين عليه‌السلام محمد ابني من صلب أبي بكر ، وكان يكنى ( أبا القاسم ) وكان من نساك قريش ، وكان ممن اعان في يوم الدار ، ومن ولده ( القاسم بن محمد ) فقيه أهل الحجاز وفاضلها ، ومن ولد القاسم عبد الرحمن من فضلاء قريش ويكنى ( أبا محمد ) ومن ولد القاسم أيضا أم فروة تزوجها الإمام الباقر أبو جعفر محمد بن علي عليه‌السلام.

وكان من حواري أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وخواصه واحد المحامدة التي تأبى ان يعصى الله.

وروى عن حمزة بن محمد الطيار قال : ذكرنا محمد بن أبي بكر عند ابي عبد الله (عليه‌السلام) فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : رحمه‌الله وصلى عليه ، قال لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) ـ يوما من الأيام ـ : ابسط يدك أبايعك ، فقال : أو ما فعلت؟ قال : بلى ، فبسط يده فقال : أشهد انك إمام مفترض طاعتك وان أبي في النار. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : كان النجابة من أمه أسماء بنت عميس رحمة الله عليها لا من قبل ابيه. وعن زرارة بن أعين عن جعفر (عليه‌السلام) : ان محمد بن أبي بكر بايع عليا (عليه‌السلام) على البراءة من ابيه.

وعن شعيب عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سمعته يقول : ما من أهل بيت الا ومنهم نجيب من انفسهم ، وانجب النجباء من اهل ( بيت سوء ) محمد بن أبي بكر.

وينسب إليه قوله :

يا أبانا قد وجدنا ما صلح

خاب من أنت أبوه وافتضح

انما انقذني منك الذي

انقذ الدر من الماء الملح

يا بني الزهراء أنتم عدتي

وبكم في الحشر ميزاني رجح

وإذا صح ولائي فيكم

لا ابالي أي كلب قد نبح

وقتل بمصر قتله معاوية بن خديج ـ وكان فيها واليا من قبل أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ـ ثم وضعه في جوف حمار ميت واحرقه.

ولما بلغ أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قتل محمد بن أبي بكر حزن لذلك حزنا شديدا حتى ظهر ذلك عليه وتبين في وجهه ، وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه إلى أن قال : ألا وان محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه وعند الله نحتسبه.

وقيل له (عليه‌السلام) قد جزعت على محمد جزعا شديدا يا أمير المؤمنين؟ فقال : وما يمنعني انه كان لي ربيبا وكان لبني أخا ، وكنت له والدا ، أعده ولدا.

ولما سمعت أمه أسماء بقتله كظمت غيظها حتى شخبت ثدياها دما.

وكان استشهاده سنة (٣٧) هجرية.

سفينة البحار ج ١ ص ٣١٢ ، رجال الكشي ص ٦٠ ، خلاصة العلامة ص ١٣٨ ، النجوم الزاهرة ج ١ ص ١١٠

١٨٣

عبيدا ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) وغوي ورشيد ثم اختارهم على علم منه واصطفى وانتجب منهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله واصطفاه لرسالته وائتمنه على وحيه فدعا إلى سبيل ربه ( بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) فكان أول من أجاب وأناب وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب عليه‌السلام فصدقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ووقاه من كل مكروه وواساه بنفسه في كل خوف وقد رأيتك تساويه وأنت أنت وهو هو المبرز والسابق في كل خير وأنت اللعين بن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغضان وتبغيان في دين الله الغوائل وتجتهدان على إطفاء نور الله تجمعان الجموع على ذلك وتبذلان فيه الأموال وتحالفان عليه القبائل.

على ذلك مات أبوك وعليه خلفته أنت.

فكيف لك الويل تعدل عن علي وهو وارث علم رسول الله ووصيه وأول الناس له اتباعا وآخرهم به عهدا وأنت عدوه وابن عدوه فتمتع بباطلك ما استطعت وتبدد بابن العاص في غوايتك فكأن أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى ثم تستبين لك لمن تكون العاقبة العليا ( وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ).

فأجابه معاوية هذا إلى الزاري (١) على أبيه محمد بن أبي بكر سلام على أهل طاعة الله أما بعد:

فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه مع كلام ألفته ورصفته لرأيك فيه (٢) وذكرت حق علي وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصرته ومواساته إياه في كل خوف وهول وتفضيلك عليا وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك فالحمد لله الذي صرف ذلك عنك وجعله لغيرك.

وقد كنا وأبوك معنا في زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله نرى حق علي عليه‌السلام لازما لنا وسبقه مبرزا علينا فلما اختار الله لنبيه ما عنده وأتم له ما وعده قبضه الله إليه ـ وكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه (٣) وخالفه على ذلك واتفقا ثم دعواه على [ إلى ] أنفسهما فأبطأ عليهما فهما به الهموم وأرادا به العظيم فبايع وسلم لأمرهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما حتى قضى الله من أمرهما ما قضى.

ثم قام بعدهما ثالثهما يهدي بهداهما ويسير بسيرتهما فعتبه [ فعبته ] أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي حتى بلغتما منه مناكما وكان أبوك مهد مهاده فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله وإن يك جورا فأبوك سنه ونحن شركاؤه وبهذا اقتدينا ولو لا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا عليا ولسلمنا له ولكنا رأينا أباك فعل ذلك فأخذنا بمثاله فعب أباك أو دعه والسلام على من تاب وأناب.

__________________

(١) زرى عليه عمله : عابه عليه.

(٢) رصف الحجارة : ضم بعضها الى بعض.

(٣) ابتز منه الشيء : استلبه قهرا.

١٨٤

احتجاجه عليه‌السلام على الخوارج (*) لما حملوه على التحكم ثم أنكروا عليه ذلك ونقموا عليه أشياء فأجابهم عليه‌السلام عن ذلك بالحجة وبين لهم أن الخطأ من قبلهم بل وإليهم يعود.

روي أن رجلا من أصحابه قام إليه فقال إنك نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أرشد!!

فصفق عليه‌السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال :

هذا جزاء من ترك العقدة (١) أما والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي جعل الله فيه خيرا كثيرا (٢) فإن استقمتم هديتكم وإن اعوججتم قومتكم وإن أبيتم تداركتكم (٣) لكانت الوثقى ولكن بمن وإلى من (٤) أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها (٥) اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي (٦) وكلت النزعة بأشطان الركي (٧).

فقال عليه‌السلام (٨) وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة بعد كلام طويل ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة (٩) ومكرا وخديعة إخواننا وأهل دعوتنا

__________________

(*) قال الشهرستاني ـ في الملل والنحل ـ:

الخوارج : كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين ، أو كان بعدهم على التابعين باحسان ، والأئمة في كل زمان ( قال ) اعلم : ان اول من خرج على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه‌السلام) جماعة ممن كان معه في حرب صفين ، وأشدهم خروجا عليه ومروقا من الدين « الأشعث بن قيس » و « مسعود بن فدكي التميمي » و « زيد بن حصين الطائي » حين قالوا : « القوم يدعوننا الى كتاب الله وأنت تدعونا الى السيف » حتى قال : أنا أعلم بما في كتاب الله انفروا الى بقية الأحزاب انفروا الى من يقول : كذب الله ورسوله وأنتم تقولون : صدق الله ورسوله قالوا : لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين والا لنفعلن بك كما فعلنا بعثمان فاضطر الى رد الأشتر بعد ان هزم الجمع وولوا مدبرين ، وما بقي منهم الا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة ، فامتثل الأشتر أمره ، وكان من أمر الحكمين ان الخوارج حملوه على التحكيم أولا ، وكان يريد أن يبعث عبد الله بن عباس فما رضى الخوارج بذلك وقالوا : هو منك ، فحملوه على بعث أبي موسى الأشعري ـ على أن يحكما بكتاب الله تعالى ـ فجرى الأمر على خلاف ما رضي به فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه وقالوا : لم حكمت الرجال؟ ولا حكم الا الله.

(١) العقدة : الرأي والحزم أي هذا جزاؤكم حين تركتم الرأي الحازم الذي أمرتكم به فوقعتم في الحيرة والشك من جراء عنادكم واتباعكم أهواءكم.

(٢) المكروه : الحرب إشارة الى قوله تعالى : فعسى ان تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا.

(٣) يريد (عليه‌السلام) بالاعوجاج العصيان وبالتقويم الإرشاد فان ابيتم ولم تسمعوا النصيحة تداركتكم بالاستنجاد بغيركم واخذتكم بالقوة والقهر.

(٤) هذا هو الطريق ولكن بمن أستعين في هذا الأمر ، والى من أرجع.

(٥) نقش الشوكة : إذا استخرجها من جسمه ومنه سمي « المنقاش » الذي ينقش به والضلع ـ بالتحريك ـ الميل والطبع.

يريد (عليه‌السلام) أن طباع بعضهم تشبه طباع بعضهم الآخر وميولهم متماثلة ، كما تميل الشوكة لمثلها وهذا مثل للعرب : « لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها معها » أي إذا استخرجت الشوكة بمثلها فسوف تنكسر في رجلك كما انكسرت الأولى.

(٦) الداء الدوي : الشديد.

(٧) النزعة : جمع نازع وهو : الذي يستقي الماء ، والشطن هو : الحبل ، والركى جمع ركية وهي : للبئر.

(٨) تجد هذا الكلام له (عليه‌السلام) في نهج البلاغة ج ٢ ص ٢.

(٩) الغيلة ـ بالكسر ـ الخديعة.

١٨٥

استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم (١) فقلت لكم هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان وأوله رحمة وآخره ندامة فأقيموا على شأنكم والزموا طريقتكم وعضوا على الجهاد بنواجذكم (٢) ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق (٣) إن أجيب أضل وإن ترك ذل فلقد كنا مع رسول الله وإن القتل ليدور بين الآباء والأبناء والإخوان والقرابات فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيمانا ومضيا على الحق وتسليما للأمر وصبرا على مضض الجراح (٤) ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام ـ على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج (٥) والشبهة والتأويل فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها.

وقال عليه‌السلام في التحكيم (٦):

إنا لم نحكم الرجال (٧) وإنما حكمنا القرآن وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال ولما أن دعانا القوم إلى أن يحكم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله عز وجل وقد قال الله سبحانه : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (٨) فرده إلى الله أن نحكم بكتابه ـ ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به وإذا حكم بسنة رسوله فنحن أولاهم به (٩).

وأما قولكم لم جعلت بينك وبينهم أجلا في التحكيم فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل (١٠) ويتثبت العالم (١١) ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة ولا تؤخذ بأكظامها (١٢) فتعجل عن تبين الحق

__________________

(١) نفس عنه : فرج عنه.

(٢) النواجذ من الأسنان ـ بالذال المعجمة ـ : الضواحك وهي : التي تبدو عند الضحك

(٣) النعيق : صوت الراعي بغنمه يريد (عليه‌السلام) لا تتبعوا كل داع الى ضلالة.

(٤) المضض : وجع المصيبة.

(٥) الزيغ : الميل عن الحق.

(٦) تجد هذا الكلام في ج ٢ ص ٧ من نهج البلاغة.

(٧) هذا رد على قولهم ـ بعد ان حملوه على التحكيم ـ : « لم حكمت الرجال لا حكم الا لله » فردهم (عليه‌السلام) بهذا القول ، لأن القوم انما دعوه لتحكيم القرآن ، لا لتحكيم الرجلين ، وحيث ان القرآن صامت يحتاج الى ترجمان اضطر (عليه‌السلام) الى تحكيم الرجال ، والقرآن في الواقع هو الحكم ، وقد اشترط على الحكمين ان يحكما بكتاب الله وسنة رسوله فلما خالفا الشرط بطل تحكيمهما ولم يلزمه اتباع قولهما.

(٨) الآية ٥٩ النساء ـ

حين دعاه القوم لتحكيم القرآن لم يكن (عليه‌السلام) ليتخلف حتى ينطبق عليه قوله تعالى ( وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ).

(٩) أي : أحق بكتاب الله وأولى برسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

(١٠) أي ليظهر له وجه الحق.

(١١) أي : يطمئن قلبه بدفع الشبه.

(١٢) الأكظام جمع كظم ـ بالتحريك ـ وهو : مخرج النفس من الحلق.

١٨٦

وتنقاد لأول الغي (١).

وروي أن أمير المؤمنين عليه‌السلام أرسل عبد الله بن العباس إلى الخوارج وكان بمرأى منهم ومسمع قالوا له في الجواب :

إنا نقمنا يا ابن عباس على صاحبك خصالا كلها مكفرة موبقة تدعو إلى النار أما أولها فإنه محا اسمه من إمرة المؤمنين (٢) ثم كتب بينه وبين معاوية فإذا لم يكن أمير المؤمنين ونحن المؤمنون لسنا نرضى بأن يكون أميرنا.

وأما الثانية فإنه شك في نفسه حين قال للحكمين انظرا فإن كان معاوية أحق بها فأثبتاه وإن كنت أولى بها فأثبتاني فإذا هو شك في نفسه ولم يدر أهو المحق أم معاوية فنحن فيه أشد شكا.

والثالثة أنه جعل الحكم إلى غيره وقد كان عندنا أحكم الناس.

والرابعة أنه حكم الرجال في دين الله ولم يكن ذلك إليه.

والخامسة أنه قسم بيننا الكراع والسلاح يوم البصرة ومنعنا النساء والذرية.

والسادسة أنه كان وصيا فضيع الوصية.

قال ابن عباس قد سمعت يا أمير المؤمنين مقالة القوم وأنت أحق بجوابهم فقال نعم.

ثم قال يا ابن عباس قل لهم ألستم ترضون بحكم الله وحكم رسوله؟ قالوا نعم.

قال أبدأ على ما بدأتم به (٣) في بدء الأمر.

ثم قال كنت أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي والقضايا والشروط والأمان يوم صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو فكتبت:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وأبو سفيان صخر بن حرب وسهيل بن عمرو.

فقال سهيل لا نعرف الرحمن الرحيم ولا نقر أنك رسول الله ولكنا نحسب ذلك شرفا لك أن

__________________

(١) أي : حين عرضت لهم الشبهة من رفع المصاحف.

(٢) حين أمر أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كاتبه أن يكتب : ( إن هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين (عليه‌السلام) علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ) قال عمرو بن العاص : ( أكتب اسمه واسم أبيه ولا تسميه بإمرة المؤمنين فانما هو امير هؤلاء وليس هو بأميرنا ) ولما أصروا على ذلك قال أمير المؤمنين : الله أكبر سنة بسنة ومثل بمثل وذكر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له يوم الحديبية : لك مثلها ثم أمر فكتبوا. ( هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب .. )

(٣) أي : أبدا في الرد على إشكالاتكم مما بدأتم به في عرضها حسب التسلسل ، او أبدأ معكم بتحكيم القرآن كما بدأتم في أول الأمر.

١٨٧

تقدم اسمك على أسمائنا ـ وإن كنا أسن منك وأبي أسن من أبيك.

فأمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال اكتب مكان ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) باسمك اللهم فمحوت ذلك وكتبت باسمك اللهم ومحوت رسول الله وكتبت محمد بن عبد الله فقال لي إنك تدعى إلى مثلها فتجيب وأنت مكره (١).

وهكذا كتبت بيني وبين معاوية وعمرو بن العاص هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص فقالا لقد ظلمناك بأن أقررنا بأنك أمير المؤمنين وقاتلناك ولكن اكتب علي بن أبي طالب فمحوت كما محا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن أبيتم ذلك فقد جحدتم فقالوا هذه لك خرجت منها.

قال وأما قولكم إني شككت في نفسي حيث قلت للحكمين انظرا فإن كان معاوية أحق بها مني فأثبتاه فإن ذلك لم يكن شكا مني ولكن أنصفت في القول قال الله تعالى : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٢) ولم يكن ذلك شكا وقد علم الله أن نبيه على الحق قالوا وهذه لك.

قال وأما قولكم إني جعلت الحكم إلى غيري وقد كنت عندكم أحكم الناس فهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جعل الحكم إلى سعد يوم بني قريظة وقد كان من أحكم الناس وقد قال الله تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) فتأسيت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا وهذه لك بحجتنا.

قال وأما قولكم إني حكمت في دين الله الرجال فما حكمت الرجال وإنما حكمت كلام ربي الذي جعله الله حكما بين أهله وقد حكم الله الرجال في طائر فقال : ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٤) فدماء المسلمين أعظم من دم طائر قالوا وهذه لك بحجتنا.

قال وأما قولكم إني قسمت يوم البصرة لما ظفرني الله بأصحاب الجمل الكراع والسلاح ومنعتكم النساء والذرية (٥) فإني مننت على أهل البصرة كما من رسول الله على أهل مكة فإن عدوا علينا أخذناهم بذنوبهم ولم نأخذ صغيرا بكبير فأيكم كان يأخذ عائشة في سهمه ـ قالوا وهذه لك بحجتنا.

قال وأما قولكم إني كنت وصيا فضيعت الوصية فأنتم كفرتم وقدمتم علي وأزلتم الأمر عني وليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم إنما يبعث الله الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله فيدعون إلى أنفسهم وأما الوصي

__________________

(١) جاء في قصة الحديبية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

( يا علي إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة والذي بعثني بالحق نبيا لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد ).

(٢) ٢٤ : سبأ

(٣) الأحزاب : ٢١

(٤) المائدة ٩٥.

(٥) الكراع : جمعه أكرع وأكارع ، اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير.

١٨٨

فمدلول عليه مستغن عن الدعاء إلى نفسه وذلك لمن آمن بالله ورسوله ولقد قال الله جل ذكره : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (١) فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إياه ـ ولكن كانوا يكفرون بتركهم لأن الله تعالى قد نصبه لهم علما وكذلك نصبني علما حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى وأنت مني بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي فقالوا وهذه لك بحجتنا فأذعنوا فرجع بعضهم وبقي منهم أربعة آلاف لم يرجعوا ممن كانوا قعدوا عنه فقاتلهم وقتلهم

احتجاجه عليه‌السلام في الاعتذار من قعوده عن قتال من تآمر عليه من الأولين وقيامه إلى قتال من بغى عليه من الناكثين والقاسطين والمارقين

روي أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان جالسا في بعض مجالسه بعد رجوعه من نهروان (٢) فجرى الكلام حتى قيل له لم لا حاربت أبا بكر وعمر كما حاربت طلحة والزبير ومعاوية؟

فقال علي عليه‌السلام إني كنت لم أزل مظلوما مستأثرا على حقي (٣) فقام إليه الأشعث بن قيس فقال يا أمير المؤمنين لم لم تضرب بسيفك ولم تطلب بحقك؟ فقال يا أشعث قد قلت قولا فاسمع الجواب وعه واستشعر الحجة إن لي أسوة بستة من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

أولهم نوح حيث قال رب إني ( مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (٤) فإن قال قائل إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر وإلا فالوصي أعذر.

وثانيهم لوط حيث قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (٥) فإن قال قائل إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر وإلا فالوصي أعذر.

وثالثهم إبراهيم خليل الله حيث قال : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٦) فإن قال قائل إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر وإلا فالوصي أعذر.

ورابعهم موسى عليه‌السلام حيث قال : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) (٧) فإن قال قائل إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر وإلا فالوصي أعذر.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) النهروان : وهي ثلاث نهروانات ، أعلى وأوسط وأسفل ، وهو : كورة واسعة أسفل من بغداد من شرقي تامرا ، منحدرا إلى واسط ، فيها عدة بلاد متوسطة منها اسكاف وجرجرايا ، والصافية ، وديرقنى وغير ذلك. مراصد الاطلاع ج ٣ ص ١٤٠٧

(٣) استأثر بالشيء على الغير : استبد به وخص به نفسه.

(٤) القمر : ١٠.

(٥) هود : ٨٠.

(٦) مريم : ٤٨.

(٧) الشعراء : ٢١

١٨٩

وخامسهم أخوه هارون حيث قال يا ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (١) فإن قال قائل إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر وإلا فالوصي أعذر.

وسادسهم أخي محمد خير البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث ذهب إلى الغار ونومني على فراشه فإن قال قائل إنه ذهب إلى الغار لغير خوف فقد كفر وإلا فالوصي أعذر.

فقام إليه الناس بأجمعهم فقالوا يا أمير المؤمنين قد علمنا أن القول لك ونحن المذنبون التائبون وقد عذرك الله

وعن إسحاق بن موسى (٢) عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام خطبة بالكوفة فلما كان في آخر كلامه قال ألا وإني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقام إليه أشعث بن قيس فقال يا أمير المؤمنين لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلا وقلت والله إني لأولى الناس بالناس فما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله ولما ولي تيم (٣) وعدي (٤) ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك.

فقال أمير المؤمنين يا ابن الخمارة قد قلت قولا فاسمع مني والله ما منعني من ذلك إلا عهد أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرني وقال لي يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك وتنقض عهدي وإنك مني بمنزلة هارون من موسى فقلت يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان ذلك كذلك فقال إن وجدت أعوانا فبادر إليهم وجاهدهم وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوما فلما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ثم آليت يمينا (٥) أني لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ففعلت ثم أخذته وجئت به فأعرضته عليهم قالوا لا حاجة لنا به.

ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة فأنشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلا أربعة رهط سلمان وعمار والمقداد وأبو ذر ـ وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل بيتي وبقيت بين حفيرين قريبي العهد بجاهلية عقيل والعباس.

فقال له الأشعث كذلك كان عثمان لما لم يجد أعوانا كف يده حتى قتل.

__________________

(١) الأعراف : ١٥٠

(٢) إسحاق بن موسى عده الشيخ في أصحاب الإمام الرضا (عليه‌السلام) وكان يلقب بالأمين كما في عمدة الطالب وتوفي سنة (٢٤٠) كما في منتهى الآمال للشيخ عباس القمي

(٣) تيم : في قريش رهط أبي بكر وهو تيم بن مرة.

(٤) عدي : قبيلة من قريش وهم رهط عمر بن الخطاب.

(٥) آليت : أقسمت.

١٩٠

فقال له أمير المؤمنين يا ابن الخمارة ليس كما قست إن عثمان جلس في غير مجلسه وارتدى بغير ردائه صارع الحق فصرعه الحق والذي بعث محمدا بالحق لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهطا لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري ثم قال:

أيها الناس إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز (١)

وروى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال كنت عند أمير المؤمنين بالرحبة (٢) فذكرت الخلافة وتقدم من تقدم عليه فتنفس الصعداء (٣) ثم قال :

أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة (٤) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى (٥) ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا (٦) وطويت عنها كشحا (٧) وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء (٨) يشيب فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ويكدح فيها

__________________

(١) العفطة من الشاة : كالعطاس من الإنسان.

(٢) تجد هذه الخطبة في ج ١ من نهج البلاغة ص ٢٥ وهي الخطبة المعروفة ب « الشقشقية » لقوله (عليه‌السلام) في جواب ابن عباس :

« هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت » وتعرف أيضا « بالمقمصة » لقوله (عليه‌السلام) : « أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة » تسمية الشيء بأشهر ألفاظه كما هو الحال في أسماء سور القرآن الكريم كسورة آل عمران ، والرحمن ، والواقعة ، ويس وغيرها.

وهذه الخطبة الجليلة في حسن اسلوبها ، وبديع نظمها ، وفصاحة ألفاظها ، دليل لا يقبل التردد ، ولا يتطرق إليه الشك في كونها صادرة عن مركز الثقل الإلهي ، ومعدن الوصاية والإمامة ، فهي حقا كما قيل : « فوق كلام المخلوق دون كلام الخالق ».

وقد رواها الشيخ المفيد في الإرشاد ص ١٢٧ وقال ابن أبي الحديد في شرحه على النهج ص ٦٩ ج ١ : حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة « ٦٠٣ » قال : قرأت على الشيخ أبي محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ..

إلى أن قال : فقلت له : أتقول إنها منحولة؟ فقال : لا والله ، وإني لأعلم صدورها منه كما أعلم أنك « مصدق » قال : فقلت له : إن كثيرا من الناس يقولون : إنها من كلام الرضي رحمه‌الله تعالى ، فقال : أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب؟ قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور ، وما يقع مع هذا الكلام في « خل ولا خمر ».

ثم قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي قلت : وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ، ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر ابن قبة أحد متكلمي الإمامية ، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب « الإنصاف » وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه‌الله تعالى ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه‌الله تعالى موجودا.

(٣) تنفس الصعداء ـ بضم الصاد وفتح المهملتين ـ : المدفوع من التنفس يصعده المتلهف الحزين.

(٤) ابن أبي قحافة : أبو بكر واسمه « عبد الله » وفي الجاهلية « عتيق » واسم أبيه « عثمان » والضمير في تقمصها عائد إلى الخلافة ، وإنما لم يذكرها للعلم بها ، وتقمصها جعلها مشتملة عليه كالقميص كناية عن تلبسه بها.

(٥) قطب الرحى مسمارها الذي عليه تدور فكما ان الرحى لا تدور الا على القطب وبغيره لا يستقيم لها دوران ، فكذلك الخلافة محله منها محل القطب من الرحى : لا تستقيم حركتها ولا تأخذ استقامتها بغيره ، وهو وحده القادر على تدبير شئونها وادارتها حسب المصلحة العامة ووفق الخطة الإلهية الحكيمة.

(٦) سدلت : ارخيت كناية عن اعراضه عنها ، واحتجابه عن طلبها.

(٧) الكشح : ما بين الخاصرة والجنب ، أنزل الخلافة منزلة المأكول الذي منع نفسه عنه ، فلم يشتمل عليه كشحه.

(٨) طفقت : جعلت ، واخذت ، وشرعت ، وارتأى افكر طلبا للرأي الصائب وصال : حمل نفسه على الأمر بقوة والطخية :ـ

١٩١

مؤمن حتى يلقى ربه (١) فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى (٢) ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا (٣) أرى تراثي نهبا (٤) حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى عمر من بعده فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته (٥) لشد ما تشطرا ضرعيها (٦) ثم تمثل بقول الأعشى (٧)

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيان أخي جابر

فصيرها في ناحية خشناء يجفو مسها ويغلظ كلمها (٨) ويكثر العثار فيها والاعتذار منها (٩) ،

__________________

ـ قطعة من الغيم. والجذاء : المقطوعة.

أي جعلت أدير الفكر واجيله في امر الخلافة ، واردده في طرفي نقيض : أما ان أشهر السيف وأصول على الغاصبين للخلافة ، والمعتدين على حقي ، او اترك واصبر ، وفي كلا الحالين خطر ، فاما القيام والثورة فبيد مقطوعة من غير ناصر ولا معين ، واما الثاني فلما يؤول إليه الحال : من اختلاط الأمور ، وعدم انتظام الحياة ، والتمييز بين الحق والباطل ، فكما ان الظلمة والعمى لا يهتدي معهما للتمييز بين الأشياء ، فكذلك اضطراب الهيئة الاجتماعية ، وتشابك المشاكل وازدحامها لا يهتدي معه لوجه الحق.

(١) الهرم : شدة كبر السن والكدح : سعى المجهود.

وتلك الشدة ، وذلك الاضطراب ، وهاتيك الأحوال المظلمة وطول مدتها ادت الى أن : يهرم فيها الكبير ، ويشيب الصغير ، ويتعب المؤمن في تمييز الحقائق وتمحيصها وما يبذله من جهد في سبيل الدفاع عن الحق حتى يلقى ربه.

(٢) هاتا : هذه واحجى : اقرب للحجى وهو العقل

فرأيت الصبر على هذه الحال وترك المقاومة اقرب للعقل ، والصق بنظام الإسلام واحفظ لبيضته سيما وهو بعد غض لم ترسخ له قدم في نفوس اتباعه ، والثورة في هذه الحال ربما تؤدي الى خلاف الغرض ، وتعكس النتيجة ، وستكون سببا للردة ، والرجوع عن الدين ، فترك المقاومة احجى واضمن لسلامة الإسلام ، وتحمل الشر الحادث من جراء ذلك اهون.

(٣) القذى : الرمد. والشجا : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.

أي صبرت ولكن على مضض كما يصبر الأرمد وهو يحس بوجع العين ، وكما يصبر من غص بشيء فهو يكابد الخنق.

(٤) يريد بتراثه : الخلافة.

(٥) ادلى بها : القى بها إليه. والاقالة : فك العهد والاستقالة : طلب ذلك.

أشار بقوله (عليه‌السلام) : « يستقيلها » الى قول أبي بكر : « اقيلوني لست بخيركم »

(٦) شد الأمر : صعب وعظم. وتشطرا : اقتسما والضرع للحيوانات ـ مثل الثدي للمرأة.

(٧) هو اعشى قيس واسمه ميمون بن جندل من بني قيس من قصيدة أولها :

علقم ما أنت الى عامر

الناقص الأوتار والواتر

(٨) الكلم : الجرح

كنى عن طباع عمر بن الخطاب « بالناحية الخشناء » لأنه كان يوصف بالجفاوة وسرعة الغضب ، وغلظ الكلام ، حتى روى انه امر أن يؤتى بامرأة لحال اقتضت ذلك ـ وكانت حاملا ـ فلما دخلت عليه اجهزت جنينا لما شاهدته من غلظ طبيعة أبي حفص وظهور القوة الغضبية على قسمات وجهه وشدته في الكلام ، وذلك ما اراده أمير المؤمنين من قوله : « في ناحية خشناء » ثم انه (عليه‌السلام) وصف تلك الطبيعة بوصفين :

أحدهما : غلظ المواجهة بالكلام وقد قيل : جرح اللسان أشد من وخز السنان.

وثانيهما : جفاوة المس المانعة من ميل الطباع إليه.

(٩) عثر : إذا أصابت رجله حجرا ونحوه.

فيه إشارة إلى ما كان عليه عمر بن الخطاب من التسرع في إصدار الأحكام غير الصائبة كأمره برجم المرأة الحامل وطلاق الحائض ، وغيرها من الأمور التي كانت تدعوه للاعتذار بعد أن يتبين له الخطأ بارشاد أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وقد تكرر قوله : « لو لا علي لهلك عمر » و « لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن » و « لا عشت لمعضلة لا تكون لها يا أبا الحسن ».

١٩٢

فصاحبها كراكب الصعبة ـ إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم (١) فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض (٢) فصبرت على طول المدة وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله فجعلها شورى في جماعة زعم أني أحدهم (٣) فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا (٤) فصبرت على طول المحنة وانقضاء المدة ـ فمال رجل منهم لضغنه وصغا الآخر لصهره مع هن وهن (٥) إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه (٦) وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع (٧) ، إلى

__________________

(١) الصعبة من الإبل : الغير المذللة. وأشنق لها بالزمام : إذا جذبه إلى نفسه وهو راكب ليمسكها عن الحركة العنيفة والخرم الشق وأسلس لها : أرخى لها وتقحم في الأمر : ألقى نفسه فيه بقوة. فصاحبها أي : صاحب تلك الطباع الخشنة مثله. وهو يتولى شئون الرعية وتدبير أمورهم ـ كمثل راكب الناقة الصعبة التي لم تذلل ، فهو بين خطرين : إن جذبها إليه شق أنفها ، وإن أرخى لها القياد ألقت به في المهالك ، والناقة الصعبة أراد الرعية لأنها لم تألفه وتنفر من طباعه فلا تستقيم له بحال ، أو هي صاحب تلك الطباع ، وحينئذ يكون المقصود من قوله (عليه‌السلام) إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، أن الذي يريد إصلاح صاحب تلك الطباع واقع بين خطرين فان أنكر عليه عمله وقع الانشقاق والاختلاف بينهما ، وإن تركه وشأنه أدى به الأمر إلى الإخلال بالواجب.

ووجه ثالث : يمكن أن يكون المقصود بالناقة الخلافة ، فإذا استرجعها بالقوة شق عصا المسلمين وأوقع الخلاف في صفوفهم مما يؤدي بالنتيجة إلى الردة ، وإن تركها وسكت عنها ، سارت في غير اتجاهها فهو منها بين خطرين.

(٢) مني الناس : ابتلوا. والخبط الحركة على غير استقامة ، والشماس ـ بكسر ـ الشين ـ كثرة النفار والاضطراب. والتلون : اختلاف الأحوال والاعتراض ضرب من التلون وأصله المشي في عرض الطريق.

(٣) خلاصة حديث الشورى : أن عمر بن الخطاب لما طعنه أبو لؤلؤة وأيقن بالموت دعا وجوه الصحابة ، وعرض عليهم موضوع الخلافة ، واشير فيما اشير عليه بابنه عبد الله فقال. لا ، لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل ، حسب عمر ما احتقب! لا أتحملها حيا وميتا ، ثم قال : إن رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة « علي ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف » فأما سعد فلا يمنعني منه إلا عنفه وفضاضته ، وأما من عبد الرحمن فلأنه قارون هذه الأمة وأما من طلحة فتكبره ونخوته ، وأما من الزبير فحشه ، ولقد رأيته بالبقيع يقاتل على صاع من شعير ، ولا يصلح لهذا الأمر إلا رجل واسع الصدر وأما من عثمان فحبه لقومه وعصبيته لهم ، وأما من علي فحرصه على هذا الأمر ودعابة فيه. ثم قال : يصلي صهيب بالناس ثلاثة أيام ، وتخلوا الستة نفر في البيت ثلاثة أيام ليتفقوا على رجل منهم ، فان استقام أمر خمسة وأبى رجل فاقتلوه ، وإن استقر أمر ثلاثة وأبى ثلاثة فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.

(٤) أسف الطائر : إذا دنا من الأرض في طيرانه.

(٥) صغا : مال بسمعه إليه. والضغن : الحقد. والهن : على وزن أخ كناية عن شيء قبيح الذي مال لحقده هو : سعد بن أبي وقاص. والذي مال لصهره عبد الرحمن بن عوف حيث مال إلى عثمان لمصاهرة بينهما.

روى الشيخ المفيد في الإرشاد عن جيش الكناني قال : لما صفق عبد الرحمن على يد عثمان بالبيعة في يوم الدار قال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : حركك الصهر وبعثك على ما صنعت ، والله ما أملت منه الا ما أمل صاحبك من صاحبه ، دق الله بينكما عطر منشم ـ وعطر منشم هو عطر صعب الدق والمراد به هنا الموت ـ. وهكذا كان فقد بلغ الحال في الخلاف بينهما أن أعلن عثمان تحريم مجالسة عبد الرحمن ، ووجوب نبذه ، وأبرأ الذمة ممن يكلمه أو يعاطيه معاطاة أي مواطن يتمتع بحقوقه الاجتماعية.

(٦) النفج : النفخ. والنثيل : الروث. والمعتلف : موضع الاعتلاف.

(٧) الخضم : الأكل بجميع الفم وقيل : المضغ بأقصى الأضراس.

قال ابن أبي الحديد ـ في شرحه على النهج ج ١ ص ٦٦ ـ:

وصحت فيه فراسة عمر بن الخطاب ، اذ قد أوطأ بني أمية رقاب الناس ، وأولاهم الولايات واقطعهم القطائع ، وافتتحت ارمينيا في أيامه ، فاخذ الخمس كله فوهبه لمروان إلى أن قال : وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه اربعمائة ألف درهم واعاد الحكم بن أبي العاص بعد ان سيره يسور الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم لم يرده أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مائة ألف درهم وتصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بموضع سوق بالمدينة يعرف « بنهروز » على المسلمين ، فاقطعه عثمان الحارث بن

١٩٣

أن انتكث عليه فتله وكبت به بطنته وأجهز عليه عمله (١) فما راعني إلا والناس رسل إلي كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب (٢) حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي (٣) مجتمعين حولي كربيضة الغنم (٤) فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وفسق آخرون (٥) كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه وتعالى يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٦) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها (٧).

أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على أولياء الأمر أن لا يقروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم (٨) لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز.

قال فقام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا فقطع كلامه فأقبل ينظر إليه فلما فرغ من قراءته.

قال ابن عباس قلت له يا أمير المؤمنين لو اطردت مقالتك من حيث أفضيتها قال يا ابن عباس هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت.

قال ابن عباس فما أسفت على شيء ولا تفجعت كتفجعي على ما فاتني من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمثال هذه الأخبار من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام كثيرة أوردنا طرفا منها للإيجاز والاختصار.

ومما يوضح ما أثبتناه ما روي عن أم سلمة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنها قالت :

كنا عند رسول الله تسع نسوة وكانت ليلتي ويومي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتيت الباب فقلت أدخل يا رسول الله ص؟ فقال لا.

__________________

ـ الحكم اخا مروان بن الحكم ، واقطع مروان فدكا وقد كانت فاطمة طلبتها بعد وفاة أبيها رسول الله تارة بالميراث ، وتارة بالنحلة ، فدفعت عنها إلى آخر ما ذكره ابن أبي الحديد فاليراجع وعمل الحجة الأميني في ج ٩ من كتاب الغدير قائمة بمصر وفاته على قومه وذوبه فالتراجع أيضا.

(١) انتكث : انتقض. والفتل : برم الحبل. وكبا الفرس : أسقط لوجهه.

والبطنة : شدة الامتلاء من الطعام. واجهز ـ على المريض ـ : قتله واسرع.

والعرف : الشعر النابت في محدب رقبة الفرس.

(٢) الروع : الخلد والذهن راعني : أفزعني ، والعرف : الشعر النابت في محدب رقبة الفرس. وامثال ـ الشيء ـ : إذا وقع يتلو بعضه بعضا

(٣) العطاف : الرداء ، وعطفا الرجل : جانباه من لدن رأسه الى وركيه. أي شق قميصه من جانبيه من شدة الازدحام عليه.

(٤) ربيضة الغنم : المجتمعة برعاتها.

(٥) مروق السهم : خروجه من الرمية.

المراد بالناكثين للبيعة هم : طلحة والزبير وأصحابهم بايعوا ثم نكثوا البيعة. والمارقين هم : الخوارج ، والفاسقين هم : القاسطون وأصحاب معاوية.

(٦) القصص : ٨٣

(٧) الزبرج ـ بكسر الزاء والراء ـ : الزينة.

(٨) الكظة : البطنة ، ما يعتري الإنسان بعد الامتلاء من الطعام. والسغب : الجوع.

١٩٤

قالت فكبوت كبوة شديدة مخافة أن يكون ردني من سخط أو نزل في شيء من السماء ـ ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثانية فقلت أدخل يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال لا فكبوت كبوة أشد من الأولى ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثالثة فقلت أدخل يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فقال ادخلي يا أم سلمة فدخلت وعلي جاث بين يديه وهو يقول فداك أبي وأمي يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان كذا وكذا فما تأمرني؟ فقال آمرك بالصبر ثم أعاد عليه القول ثانية فأمره بالصبر ثم أعاد عليه القول ثالثة فأمره بالصبر ثم أعاد عليه القول رابعة فقال له :

يا علي يا أخي إذا كان ذلك منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك واضرب به قدما حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم.

ثم التفت إلي وقال ما هذه الكآبة يا أم سلمة؟ قلت للذي كان من ردك إياي يا رسول الله فقال لي والله ما رددتك لشيء خبرت من الله ورسوله لكن أتيتني وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي وأمرني أن أوصي بذلك عليا يا أم سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب عليه‌السلام وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة يا أم سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب وصيي وخليفتي من بعدي وقاضي عداتي والذائد عن حوضي اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين.

قلت يا رسول الله من الناكثون؟

قال الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة قلت من القاسطون؟ قال معاوية وأصحابه من أهل الشام قلت من المارقون؟ قال أصحاب نهروان.

وروي أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في أثناء خطبة خطبها بعد فتح البصرة بأيام.

حاكيا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله يا علي إنك باق بعدي ومبتلى بأمتي ومخاصم بين يدي الله فأعدد للخصومة جوابا فقلت بأبي وأمي أنت بين لي ما هذه الفتنة التي أبتلى بها وعلى ما أجاهد بعدك؟ فقال لي إنك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة وجلاهم وسماهم رجلا رجلا وتجاهد من أمتي كل من خالف القرآن وسنتي ممن يعمل في الدين بالرأي ولا رأي في الدين إنما هو أمر الرب ونهيه.

فقلت يا رسول الله فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة.

فقال نعم إذا كان ذلك كذلك فاقتصر على الهدى إذا قومك عطفوا الهدى على الهوى وعطفوا القرآن على الرأي فتأولوه برأيهم بتتبع الحجج من القرآن لمشتهيات الأشياء الطارية عند الطمأنينة إلى الدنيا فاعطف أنت الرأي على القرآن وإذا قومك حرفوا الكلمة عن مواضعه عند

١٩٥

الأهوال الساهية والأمراء الطامحة والقادة الناكثة والفرقة القاسطة والأخرى المارقة أهل الإفك المردي والهوى المطغي والشبهة الخالفة [ الحالقة ] فلا تنكلن عن فضل العاقبة فإِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) إلى آخرها (١) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجاهدن العمالقة يعني الكفار والمنافقين فأتاه جبرئيل فقال أنت أو علي عليه‌السلام

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (٢) قال : إني كنت لأدناهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع بمنى فقال لأعرفكم ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وايم الله لو فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم ثم التفت إلى خلفه فقال أو علي [ عليا ] أو علي [ عليا ] أو علي [ عليا ] ثلاث مرات فرأينا على أثر ذلك أن جبرئيل عليه‌السلام غمزه فأنزل الله تعالى على أثر ذلك : ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) (٣).

وعن ابن عباس أن عليا عليه‌السلام كان يقول في حياة رسول الله : إن الله يقول ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (٤) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت لأني أخوه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني.

وعن أحمد بن همام قال أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر فقلت يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف فقال يا أبا ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا ولا تبحثونا فو الله لعلي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من أبي بكر ـ كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحق بالنبوة من أبي جهل قال وأزيدكم إنا كنا ذات يوم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء علي عليه‌السلام وأبو بكر وعمر إلى باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل علي عليه‌السلام على أثرهما فكأنما سفي على وجه رسول الله الرماد ثم قال يا علي أيتقدمانك هذان وقد أمرك الله عليهما؟

فقال أبو بكر نسيت يا رسول الله وقال عمر سهوت يا رسول الله.

فقال رسول الله ما نسيتما ولا سهوتما وكأني بكما قد سلبتماه ملكه وتحاربتما عليه وأعانكما على

__________________

(١) التوبة / ٧٣.

(٢) جابر بن عبد الله من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شهد بدرا وأدرك الإمام محمد الباقر (عليه‌السلام) وبلغه سلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وممن انقطع لأهل البيت (عليهم‌السلام).

روي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنه قال : إن جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت ، وكان يقعد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو معتم بعمامة سوداء ، وكان ينادي يا باقر العلم ، يا باقر العلم! وكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر ، فكان يقول لا والله لا أهجر ولكني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « إنك ستدرك رجلا من أهل بيتي ، اسمه اسمي ، وشمائله شمائلي ، يبقر العلم بقرا » فداك الذي دعاني إلى ما أقول. رجال العلامة ص ٣٤ رجال الكشي ص ٤٢ ـ ٤٥

(٣) الزخرف ـ ٤١.

(٤) آل عمران ـ ١٤٤

١٩٦

ذلك أعداء الله وأعداء رسوله وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا ـ ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها وذلك لأمر قد قضي ثم بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى سالت دموعه ثم قال يا علي الصبر الصبر حتى ينزل الأمر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك فإذا أمكنك الأمر فالسيف السيف القتل القتل حتى يفيئوا ( إِلى أَمْرِ اللهِ ) وأمر رسوله فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل وكذلك ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة.

وعن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام قال كنت أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد بعد أن صلى الفجر ثم نهض ونهضت معه وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يتجه إلى موضع أعلمني بذلك ـ وكان إذا أبطأ في ذلك الموضع صرت إليه لأعرف خبره لأنه لا يتصابر قلبي على فراقه ساعة واحدة فقال لي أنا متجه إلى بيت عائشة فمضى صلى‌الله‌عليه‌وآله ومضيت إلى بيت فاطمة الزهراء عليها‌السلام فلم أزل مع الحسن والحسين فأنا وهي مسروران بهما ثم إني نهضت وسرت إلى باب عائشة فطرقت الباب فقالت من هذا؟ فقلت لها أنا علي فقالت إن النبي راقد فانصرفت.

ثم قلت النبي راقد وعائشة في الدار فرجعت وطرقت الباب فقالت لي من هذا؟ فقلت لها أنا علي فقالت إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على حاجة فانثنيت مستحييا من دق الباب ووجدت في صدري ما لا أستطيع عليه صبرا فرجعت مسرعا فدققت الباب دقا عنيفا فقالت لي عائشة من هذا؟ فقلت أنا علي ـ فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يا عائشة افتحي له الباب ففتحت ودخلت فقال لي اقعد يا أبا الحسن أحدثك بما أنا فيه أو تحدثني بإبطائك عني؟

فقلت يا رسول الله حدثني فإن حديثك أحسن.

فقال يا أبا الحسن كنت في أمر كتمته من ألم الجوع فلما دخلت بيت عائشة وأطلت القعود ليس عندها شيء تأتي به فمددت يدي وسألت الله القريب المجيب فهبط علي حبيبي جبرئيل عليه‌السلام ومعه هذا الطير ووضع إصبعه على طائر بين يديه فقال إن الله عز وجل أوحى إلي أن آخذ هذا الطير وهو أطيب طعام في الجنة فآتيك به يا محمد فحمدت الله عز وجل كثيرا ـ وعرج جبرئيل فرفعت يدي إلى السماء فقلت اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني يأكل معي من هذا الطير فمكثت مليا فلم أر أحدا يطرق الباب فرفعت يدي ثم قلت اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني وتحبه وأحبه يأكل معي من هذا الطير فسمعت طرق الباب وارتفاع صوتك فقلت لعائشة أدخلي عليا فدخلت فلم أزل حامدا لله حتى بلغت إلي إذ كنت تحب الله وتحبني ويحبك الله وأحبك فكل يا علي.

فلما أكلت أنا والنبي الطائر قال لي يا علي حدثني فقلت يا رسول الله لم أزل منذ فارقتك أنا وفاطمة والحسن والحسين مسرورين جميعا ثم نهضت أريدك فجئت فطرقت الباب فقالت لي عائشة من هذا؟ فقلت أنا علي فقالت إن النبي راقد فانصرفت ـ فلما أن صرت إلى بعض الطريق الذي سلكته رجعت فقلت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله راقد وعائشة في الدار لا يكون هذا فجئت فطرقت الباب فقالت

١٩٧

لي من هذا؟ فقلت لها أنا علي فقالت إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على حاجة فانصرفت مستحييا فلما انتهيت إلى الموضع الذي رجعت منه أول مرة وجدت في قلبي ما لا أستطيع عليه صبرا وقلت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على حاجة وعائشة في الدار فرجعت فدققت الباب الدق الذي سمعته فسمعتك يا رسول الله وأنت تقول لها أدخلي عليا.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبى الله إلا أن يكون الأمر هكذا يا حميراء ما حملك على هذا؟

قالت يا رسول الله اشتهيت أن يكون أبي يأكل من هذا الطير فقال لها ما هو بأول ضغن بينك وبين علي وقد وقفت [ على ما في قلبك ] لعلي إن شاء الله لتقاتلنه.

فقالت يا رسول الله وتكون النساء يقاتلن الرجال؟

فقال لها يا عائشة إنك لتقاتلين عليا ـ ويصحبك ويدعوك إلى هذا نفر من أهل بيتي وأصحابي (١) فيحملونك عليه وليكونن في قتالك له أمر يتحدث به الأولون والآخرون وعلامة ذلك أنك تركبين الشيطان ثم تبتلين قبل أن تبلغي إلى الموضع الذي يقصد بك إليه فتنبح عليك كلاب الحوأب فتسألين الرجوع فتشهد عندك قسامة أربعين رجلا ما هي كلاب الحوأب فتنصرفين إلى بلد أهله أنصارك (٢) وهو أبعد بلاد على الأرض من السماء وأقربها إلى الماء ولترجعن وأنت صاغرة غير بالغة ما تريدين ويكون هذا الذي يردك مع من يثق به من أصحابه وإنه لك خير منك له ولينذرنك بما يكون الفراق بيني وبينك في الآخرة وكل من فرق علي بيني وبينه بعد وفاتي ففراقه جائز.

فقالت يا رسول الله ليتني مت قبل أن يكون ما تعدني.

فقال لها هيهات هيهات والذي نفسي بيده ليكونن ما قلت حق كأني أراه.

ثم قال لي قم يا علي فقد وجبت صلاة الظهر حتى آمر بلالا بالأذان فأذن بلال وأقام وصلى وصليت معه ولم يزل في المسجد.

احتجاجه عليه‌السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من صفات المصنوعين من الجبر والتشبيه والرؤية والمجيء والذهاب والتغيير والزوال والانتقال من حال إلى حال في أثناء خطبه ومجاري كلامه ومخاطباته ومحاوراته.

الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعمه العادون ولا يؤدي حقه المجتهدون (٣)

__________________

(١) يريد بأهل بيته المعنى العام لأهل بيت الرجل أي : أقاربه والمقصود هنا هو « الزبير بن العوام » وليس المقصود من أهل البيت المعنى الخاص المقصور على الخمسة من أصحاب الكساء ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

(٢) وفي نسخة « فتصيرين » بدل تنصرفين.

(٣) الحمد : هو الثناء على الجميل من نعمة وغيرها ، والبلوغ : هو الوصول أو المشارفة. والمدحة : فعلة من المدح وهي :

١٩٨

الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن (١) الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود (٢) فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ووتد بالصخور ميدان أرضه (٣) أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال تصديقه توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه (٤) لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله (٥) ومن أشار إليه فقد حده ومن حده فقد عده ومن قال فيم فقد ضمنه ومن قال علام فقد أخلى منه (٦) كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم مع كل شيء لا بمزايلة

__________________

ـ « الهيئة » كالجلسة للجالس ، والركبة للراكب والاحصاء : إنهاء العدد والإحاطة بالمعدود والمجتهد من اجتهد في الأمر إذا بذل وسعه وطاقته في طلبه.

في الجملة الأولى : إشارة إلى العجز عن القيام بالثناء عليه سبحانه كما يستحقه وكما هو أهله ، وهي في معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك »

وفي الجملة الثانية : اعتراف بالقصور عن القدرة على حصر أنعم الله على تعددها وكثرتها بحيث لا يحيط بها حصر الإنسان ، وهذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ).

وفي الثالثة اعتراف بالعجز عن أداء شكر المنعم ، وأداء حقه اللازم على العباد مهما بذلوا من جهد ، فكل حركة وسكون يصدران من الإنسان مستندان إلى وجوده تعالى وهي نعمة منه تعالى على عباده ولذا جاء في الأثر : أن موسى (عليه‌السلام) سأل ربه قائلا : « يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكر إلا بنعمة ثانية من نعمك » فأوحى الله تعالى إليه : « إذا عرفت هذا فقد شكرتني ».

(١) الهمم ـ جمع الهمة ـ : وهي العزم والجزم الثابت الذي لا يعتريه فتور.

والنيل : الإصابة والفطن جمع فطنة بالكسر ـ : وهي الحذق وجودة استعداد الذهن لتصور ما يريد عليه.

بعد الهمم علوها وتعلقها بالامور العالية أي : إن الهمم وإن علت وبعدت لا يمكن أن تدركه مهما حلقت في سماء المدارك العالية ، كما أن الفطن الغائصة في بحار الأفكار هي الأخرى لا تصل إلى كنه حقيقته.

(٢) حد الشيء : منتهاه ، والنعت : الصفة ، والأجل : المدة المضروبة للشيء. أي ليس لصفاته الذاتية من القدرة ، والاختيار ، والعلم ، والحياة ، حد معين ينتهي إليه ويقف عنده كما هو الحال في الموجودات الممكنة فإنها جميعا لها حد تنقطع إليه وتقف عنده ، كما أنها لا تنعت بنعوت ، وموجودة أي : زائدة متغيرة ، فعلمه مثلا لا ينعت بالزيادة والنقصان ـ كما هو الحال بالنسبة لنا ـ وقدرته لا توصف بالقوة والضعف بل هو منزه عن كل هذه النعوت وصفاته عين ذاته ، كما أنها أزلية فليس لها وقت معدود ، وأبدية فليس لها أجل ممدود.

(٣) فطر : خلق والنشر : البسط. ووتد ـ بالتخفيف والتشديد ـ ثبت. والميدان ـ بفتح الميم والياء ـ الحركة.

أي : سكن الأرض بعد اضطرابها وهي من قوله تعالى : وَالْجِبالَ أَوْتاداً وقوله : « وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ».

(٤) أول الدين معرفته أي أن معرفته سبحانه اساس الطاعة والعبادة ، فما لم يعرف لا يمكن أن يطاع ، ولا تتم معرفته ، ما لم يذعن العبد ويحكم : بوجوب وجوده ولا يذعن ويحكم بوجوب وجوده ما لم يؤمن ويحكم له بالوحدانية ، وأنه لا شريك له في ذاته ، لأن الواجب لا يتعدد ، ثم أن كمال هذا التوحيد يكون بالإخلاص له ، وهو : اما جعله خاليا عن النقائص وسلب الجسمية والعرضية وأمثالها عنه ، او الإخلاص له بالعمل وكما هذا الإخلاص هو : نفي الصفات الزائدة عنه تعالى فصفاته تعالى عين ذاته علمه ، وقدرته ، وإرادته ، وحياته ، وسمعه ، وبصره ، كلها موجودة بوجود ذاته الأحدية وذاته جامعة ومستوعبة لها وهي عينها ، وليست هي على كثرتها وتعدد معانيها وتغاير مفهوماتها زائدة على الذات خارجة عنها.

(٥) أي : من وصف الله سبحانه بصفة زائدة على ذاته خارجة عنها ، « فقد قرنه » بغيره في الوجود ومن « قرنه » بغيره فقد صيره ثانيا لقديمين يصدق عليهما : « واجب الوجود » وحينئذ يكون قد « جزأه » لأن كل واحد من القديمين جزء لذلك الواجب ، و « من جزأه » فقد « جهله » اذ جعله في عداد الممكنات ، ولم يعرف الوجود الواجب فهو لا يتعدد ولا يتجزأ كما هو ثابت في علم الكلام.

(٦) ضمنه : جعله محتويا عليه وأخلى منه : جعله خاليا منه.

١٩٩

فاعل لا بمعنى الحركات والآلة بصير إذ لا منظور إليه من خلقه متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده (١) أنشأ الخلق إنشاء وابتدأه ابتداء بلا روية أجالها ولا تجربة استفادها ولا حركة أحدثها ولا همامة نفس اضطرب فيها أحال الأشياء لأوقاتها ولاءم بين مختلفاتها وغرز غرائزها وألزمها أشباحها عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها وانتهائها عارفا بقرائنها وأحنائها (٢).

وقال عليه‌السلام في خطبة أخرى : (٣)

أول عبادة الله معرفته وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه جل أن تحله الصفات بشهادة العقول أن كل من حلته الصفات فهو مصنوع وشهادة العقول أنه جل جلاله صانع ليس بمصنوع بصنع الله يستدل عليه وبالعقول يعتقد معرفته وبالفكر تثبت حجته جعل الخلق دليلا عليه فكشف به ربوبيته هو الواحد الفرد في أزليته لا شريك له في إلهيته ولا ند له في ربوبيته بمضادته بين الأشياء المتضادة علم أن لا ضد له وبمقارنته بين الأمور المقترنة علم أن لا قرين له.

__________________

ـ « ومن أشار إليه » سواء بالإشارة العقلية كأن يجعل له حدا منطقيا مركبا من جنس وفصل ، أو بالإشارة الحسية « فقد حده » وذلك أن كل مشار إليه لا بد أن يكون في جهة ما ، وكل ما هو في جهة فلا بد له من أطراف وأقطار هي حدوده وينتهي عندها و « من » فعل ذلك و « حده » « فقد عده » في عداد الممكنات. ومن قال « فيم » هو فقد جعله ضمن شيء ومن قال : « على م » هو فقد جعله مستعل على شيء وغير مستعل على غيره وحينئذ يكون قد « أخلى منه » ذلك الغير.

(١) حدث الشيء : تجدد وجوده. والمزايلة : المفارقة. والسكن ـ بفتحتين ـ : ما يسكن إليه من أهل ومال.

هذه الفقرات كل منها مركبة من قضيتين ، إحداهما موجبة ، والأخرى ، سالبة ، والفرق بين الفقرتين الأوليتين « كائن لا عن حدث » و « موجود لا عن عدم » اذ يبدو ان معناهما واحد في نفيهما تجدد الوجود ، هو : أن الفقرة الأولى تنفي تجدد الحدوث الزماني يعني أنه كائن منذ الأزل ، والثانية تنفي التجدد الذاتي وتثبت وجوب وجوده « مع كل شيء لا بمقارنة » كما أنه « غير كل شيء » ولكن « لا بمزايلة » ومفارقة ، فالمقارنة والمفارقة من الصفات الجسمانية وذاته المقدسة منزهة عن الجسمانيات فهو مع كل شيء بمعنى أنه عالم بكل شيء محيط به ، شاهد عليه ، غير غائب عنه ، ولكن هذه المعية وتلك الغيرية ليست كما هي بالنسبة لنا من المقارنة والمفارقة التي هي من خصائص الجسمية ولوازمها ، وذاته المجردة لا تشبه شيئا من ذوات الموجودات الممكنة فهو « فاعل » ولكن « لا بمعنى الحركات والآلة » ومن ضيق الألفاظ نعبر عن صفاته القدسية بهذه الألفاظ المتعارفة بيننا ، والتي نطلقها عليه كما نطلقها على سائر الممكنات ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، « بصير » منذ الأزل « إذ لا منظور إليه من خلقه » « متوحد » في سلطانه وملكوته « إذ لا سكن يستأنس به » و ( لا ) أنيس ( يستوحش لفقده ) فالوحشة والانس من لوازم الطبيعة الحيوانية ، وهو منزه عنها.

(٢) نشأ الشيء : حدث وتجدد. والابتداء : بمعنى الإنشاء ، والروية : الفكر والتدبر ، وأجال به : إذا أداره ، والتجربة : الاختبار. والهمامة : التردد. وأحال الأشياء : صرفها وحولها ، ولائم : أصلح. والغريزة : الطبيعة ـ والأشباح : الأشخاص والإحاطة :

الاستدارة والشمول. والأحناء ـ جمع الحنو ـ : الجانب والناحية. ( أنشأ الخلق إنشاء ) من غير مادة ( وابتدأهم ) ابتداء من دون مثال سبق ( بلا روية أجالها ) ولا فكر أداره ( ولا تجربة استفادها ) ولا خبرة اكتسبها من قبل ( ولا أحدثها ) كالحركة الحادثة لنا إذا أردنا فعل شيء ما ( ولا همامة نفس اضطراب فيها ) كما تتردد نفوسنا وتضطرب فكل هذه الأمور من لوازم الجسمية تقدست ذاته عنها ( أحال الأشياء ) ونقلها وصرفها حسب مقتضيات الحكمة والمصلحة ( لأوقاتها ) للقضاء والقدر وأصلح ( ولائم بين ) ما كان من عالم الغيب ، كالأرواح المجردة ، وما كان من عالم الشهود كالأجسام المركبة ، وغير ذلك من ( مختلفاتها ) كتوفيقه في سائر العناصر ( وغرز ) للأشياء ( غرائزها ) ثم خص كل جنس او نوع بغرائزه الخاصة به ( وألزمها أشباحها ) وأشخاصها ( عالما بها قبل ابتدائها ) كما هو عالم بها بعد إيجادها من غير فرق بين الحالين ( محيطا بحدودها وانتهائها ) شاملا بقدرته وعلمه جميع أطرافها.

(٣) ارشاد الشيخ المفيد ( قده ) أبو الحسن الهذلي عن الزهري وعيسى بن زيد عن صالح بن كيسان عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال ـ في الحث على معرفة الله ـ : أول عبادة الله معرفته ... الخ.

٢٠٠