مرآة العقول - ج ٢٦

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

والإنصاف له في جميع حقه فإنه ليس العباد إلى شيء أحوج منهم إلى التناصح في ذلك وحسن التعاون عليه وليس أحد وإن اشتد على رضا الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما أعطى الله من الحق أهله ولكن من واجب حقوق الله عز وجل على العباد النصيحة له بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق فيهم ثم ليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته وجسمت في الحق فضيلته بمستغن عن أن يعان على ما حمله الله عز وجل

______________________________________________________

بمعنى تعال ، قال الخليل : أصله لم من قولهم : لم الله شعثه ، أي جمعه ، كأنه أراد لم نفسك إلينا ، أي أقرب وها ، للتنبيه وإنما حذفت ألفها لكثرة الاستعمال ، وجعل اسما واحدا يستوي فيه الواحد والجمع والتأنيث في لغة أهل الحجاز (١).

قوله عليه‌السلام : « حقيقة ما أعطى الله من الحق أهله » أي جزاء ما أعطى الله فيه أهل الحق من الدين المبين ، وسائر ما هداهم الله إليه بأن يكون المراد بالحقيقة الجزاء مجازا ، أو يكون في الكلام تقدير مضاف أي حقيقة جزاء ما أعطى الله ، أو يكون المراد بالبلوغ إليها كونه بإزائها ومكافأة لها ، وفي النهج « حقيقة ما الله أهله من الطاعة له ، وفي بعض النسخ القديمة من الكتاب [ حقيقة ما الحق من الله أهله ].

قوله عليه‌السلام : « النصيحة له » أي لله أو للإمام ، أو نصيحة بعضهم لبعض لله تعالى بأن لا يكون الظرف صلة ، وفي النهج النصيحة بمبلغ بدون الصلة ، وهو يؤيد الأخير.

قال الجزري : النصيحة في اللغة الخلوص ، يقال : نصحته ونصحت له ، ومعنى نصيحة الله صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته ، والنصيحة لكتاب الله هو التصديق به ، والعمل بما فيه ونصيحة رسول الله التصديق بنبوته ورسالته والانقياد لما أمر به ونهى عنه ، ونصيحة الأئمة : أن يطيعهم في الحق ، ونصيحة

__________________

(١) الصحاح : ج ٥ ص ٢٠٦٠.

٥٢١

من حقه ولا لامرئ مع ذلك خسأت به الأمور واقتحمته العيون بدون ما أن يعين على ذلك ويعان عليه وأهل الفضيلة في الحال وأهل النعم العظام أكثر في ذلك حاجة

______________________________________________________

عامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم (١). قوله عليه‌السلام : « ولا لامرئ مع ذلك » كأنه راجع إلى ما حمل الله على الوالي أو إلى الوالي الذي أشير إليه سابقا ، أي لا يجوز أو لا بد لامرئ مع الوالي أو مع كون وإليه مكلفا بالجهاد وغيره من أمور الدين وإن كان ذلك المرء ضعيفا محقرا بدون أن يعين على إقامة الدين ويعينه الناس ، أو الوالي عليه.

وفي النهج « ولا امرؤ وإن صغرته النفوس ، واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه » وهو الظاهر.

قوله عليه‌السلام : « خسأت به الأمور » يقال : خسأت الكلب خسأ طردته ، وخسأ الكلب بنفسه يتعدى ولا يتعدى ذكره الجوهري (٢) فيجوز أن يكون هنا استعمل غير متعد بنفسه ، قد عدي بالباء أي طردته الأمور ، أو يكون الباء للسببية ، أي بعدت بسببه الأمور.

وفي بعض النسخ [ حبست به الأمور ] وعلى التقادير المراد أنه يكون بحيث لا يتمشى أمر من أموره ولا ينفع سعيه في تحصيل شيء من الأمور « واقتحمته العيون » أي أحقرته وكلمة ـ ما ـ في قوله « ما أن يعين » زائدة.

قوله عليه‌السلام : « وأهل الفضيلة في الحال » المراد بهم الأئمة والولاة والأمراء والعلماء وكذا أهل النعم العظام ، فإنهم لكونهم مكلفين بعظائم الأمور كالجهاد في سبيل الله وإقامة الحدود ، والشرائع والأحكام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فهم إلى إعانة الخلق أحوج.

__________________

(١) النهاية : ج ٥ ص ٦٣.

(٢) الصحاح : ج ١ ص ٤٧.

٥٢٢

وكل في الحاجة إلى الله عز وجل شرع سواء.

فأجابه رجل من عسكره لا يدرى من هو ويقال إنه لم ير في عسكره قبل ذلك اليوم ولا بعده.

فقام وأحسن الثناء على الله عز وجل بما أبلاهم وأعطاهم من واجب حقه عليهم والإقرار بكل ما ذكر من تصرف الحالات به وبهم

______________________________________________________

ويحتمل أن يكون المراد بأهل الفضيلة العلماء ، فإنهم محتاجون فيما حمل عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أعوان ، ولا أقل إلى من يؤمر وينهى ، وبأهل النعم أصحاب الأموال ، لأن ما حمل عليهم من الحقوق أكثر كأداء الأخماس والصدقات ، وهم محتاجون إلى الفقير القابل لها ، وإلى الشهود وإلى غيرهم والأول أظهر.

قوله عليه‌السلام : « وكل في الحاجة إلى الله تعالى شرع سواء » بيان لقوله : « شرع » وتأكيد ، وإنما ذكر عليه‌السلام ذلك لئلا يتوهم أنهم يستغنون بإعانة بعضهم بعضا عن ربهم تعالى ، بل هو الموفق والمعين لهم في جميع أمورهم ، ولا يستغنون بشيء عن الله تعالى ، وإنما كلفهم بذلك ليختبر طاعتهم ، ويثيبهم على ذلك ، واقتضت حكمته البالغة أن يجري الأشياء بأسبابها ، وهو المسبب لها والقادر على إمضائها بلا سبب.

قوله عليه‌السلام : « فأجابه ، رجل » الظاهر أنه كان الخضر عليه‌السلام ، وقد جاء في مواطن كثيرة ، وكلمه عليه‌السلام لإتمام الحجة على الحاضرين ، وقد أتى بعد وفاته عليه‌السلام وقام على باب داره وبكى وأبكى وخاطبه عليه‌السلام بأمثال تلك الكلمات ، وخرج وغاب عن الناس (١).

قوله : « والإقرار » الظاهر أنه معطوف على الثناء ، أي أقر إقرارا حسنا

__________________

(١) لاحظ بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ٣٠٥ ـ ٣١٣.

٥٢٣

ثم قال أنت أميرنا ونحن رعيتك بك أخرجنا الله عز وجل من الذل وبإعزازك أطلق عباده من الغل فاختر علينا وأمض اختيارك وائتمر فأمض ائتمارك فإنك القائل المصدق والحاكم الموفق والملك المخول لا نستحل في شيء معصيتك ولا نقيس علما بعلمك يعظم عندنا في ذلك خطرك ويجل عنه في أنفسنا فضلك.

فأجابه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

______________________________________________________

بأشياء ذكرها ذلك الرجل ، ولم يذكره عليه‌السلام اختصارا أو تقية من تغير حالاته عليه‌السلام من استيلاء أئمة الجور عليه ومظلوميته ، وتغير أحوال رعيته من تقصيرهم في حقه وعدم قيامهم بما يحق من طاعته ، والقيام بخدمته ، ويحتمل عطفه على واجب حقه.

قوله : « من الغل » أي أغلال الشرك والمعاصي ، وفي بعض النسخ القديمة [ أطلق عنا رهائن الغل ] أي ما يوجب أغلال القيامة.

قوله : « وائتمر » أي أقبل ما أمرك الله به فأمضه علينا.

قوله : « والملك المخول » أي الملك الذي أعطاك الله للإمرة علينا وجعلنا خدمك وتبعك ، قوله : « لا نستحل في شيء من معصيتك » لعله عدي بفي لتضمين معنى الدخول ، وفي بعض النسخ القديمة [ لا نستحل في شيء معصيتك ] وهو أظهر.

قوله : « في ذلك » أي في العلم بأن تكون كلمة ـ في ـ تعليلية ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى ما دل عليه الكلام من إطاعته عليه‌السلام ، والخطر : القدر والمنزلة.

قوله : « ويجل عنه » يحتمل إرجاع الضمير إلى القياس أي فضلك أجل في أنفسنا من أن يقاس بفضل أحد ويمكن إرجاعه إلى حد العلم ، فيكون كلمة « عن » تعليلية كما في قوله تعالى : « وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ » (١) أي يجل ويعظم بسبب ذلك العلم في أنفسنا فضلك.

__________________

(١) سورة هود : ٥٣.

٥٢٤

فقال إن من حق من عظم جلال الله في نفسه وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ولطف إحسانه إليه فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا زاد حق الله عليه عظما وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ـ ولست بحمد الله كذلك ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « من عظم جلال الله » إما على التفعيل بنصب جلال الله ، أو بالتخفيف برفعه ، يعني من حق من عظم جلال الله في نفسه ، وجل موضعه في قلبه أن يصغر عنده كل ما سوى الله لما ظهر له من جلال الله ، وإن أحق من كان كذلك أئمة الحق عليه‌السلام لعظم نعم الله عليهم ، وكمال معرفتهم بجلال ربهم ، فحق الله عليهم أعظم منه على غيرهم ، فينبغي أن يصغر عندهم أنفسهم فلا يحبوا الفخر والإطراء في المدح أو يجب أن يضمحل في جنب جلال الله عندهم غيره تعالى ، فلا يكون غيره منظورا لهم في أعمالهم ليطلبوا رضى الناس ومدحهم.

قوله عليه‌السلام : « من أسخف » السخف : رقة العيش ورقه العقل ، والسخافة : رقة كل شيء أي أضعف أحوال الولاة عند الرعية أن يكونوا متهمين عندهم بهذه الخصلة المذمومة.

قوله عليه‌السلام : « إني أحب الإطراء » أي مجاوزة الحد في المدح والمبالغة فيه.

قوله عليه‌السلام : « انحطاطا لله سبحانه » أي تواضعا له تعالى ، وفي بعض النسخ القديمة [ ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتناهيت له أغنانا الله ، وإياكم عن تناول ما ما هو أحق به من التعاظم ، وحسن الثناء ] والتناهي : قبول النهي ، والضمير في « له » راجع إلى الله تعالى وفي النهج كما في النسخ المشهورة.

٥٢٥

عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من البقية في حقوق

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « وربما أستحلي الناس » يقال : استحلاه : أي وجده حلوا.

قال ابن ميثم (ره) : هذا يجري مجرى تمهيد العذر لمن أثنى عليه ، فكأنه يقول : وأنت معذور في ذلك حيث رأيتني أجاهد في الله ، وأحث الناس على ذلك ، ومن عادة الناس أن يستحلوا الثناء عند أن يبلوا بلاء حسنا في جهاد أو غيره من سائر الطاعات ، ثم أجاب عن هذا العذر في نفسه. بقوله عليه‌السلام : « ولا تثنوا علي بجميل ثناء » أي لا تثنوا علي لأجل ما ترونه مني من طاعة الله ، فإن ذلك إنما هو إخراج لنفسي إلى الله من حقوقه الباقية علي لم أفرغ بعد من أدائها وهي حقوق نعمه وفرائضه التي لا بد من المضي فيها ، وكذلك إليكم من الحقوق التي أوجبها الله علي من النصيحة في الدين ، والإرشاد إلى الطريق الأفضل ، والتعليم لكيفية سلوكه ، وفي خط الرضي (ره) « من التقية » بالتاء والمعنى فإن الذي أفعله من طاعة الله إنما هو إخراج لنفسي إلى الله وإليكم من تقية الحق فيما يجب علي من الحقوق ، إذ كان عليه‌السلام إنما يعبد الله لله من غير ملتفت في شيء من عبادته وأداء واجب حقه إلى أحد سواه ، خوفا منه أو رغبة إليه ، وكأنه قال : لم أفعل شيئا إلا وهو أداء حق واجب على ، وإذا كان كذلك فكيف أستحق أن يثني علي لأجل إتيان الواجب بثناء جميل ، وأقابل بهذا التعظيم ، وهذا من باب التواضع لله وتعليم كيفيته ، وكسر النفس عن محبة الباطل والميل إليه انتهى (١).

وقال ابن أبي الحديد : معنى قوله عليه‌السلام : « لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم » أي لاعترافي بين يدي الله وبمحضر منكم أن علي حقوقا في إيالتكم ورئاستي عليكم لم أقم بها بعد ، وأرجو من الله القيام بها انتهى (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ، ج ٤ ص ٤٦ ـ ٤٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١١ ص ١٠٧.

٥٢٦

لم أفرغ من أدائها وفرائض لا بد من إمضائها ـ فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي لما لا يصلح لي فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عني مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي بفوق ما أن أخطئ ولا آمن ذلك من

______________________________________________________

فكأنه جعل قوله عليه‌السلام : « لإخراجي » تعليلا لترك الثناء لا مثنيا عليه ، ولا يخفى بعده.

ثم اعلم أنه يحتمل أن يكون المراد بالبقية الإبقاء والترحم ، كما قال الله تعالى « أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ » (١) أي إخراجي نفسي من أن أبقى وأ ترحم مداهنة في حقوق لم أفرغ من أدائها.

قال الفيروزآبادي : وأبقيت ما بيننا : لم أبالغ في إفساده والاسم البقية « أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ » أي إبقاء أو فهم (٢).

قوله عليه‌السلام : « ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة » البادرة : الحدة والكلام الذي يسبق من الإنسان في الغضب أي لا تثنوا علي كما يثني على أهل الحدة من الملوك خوفا من سطوتهم.

أو لا تحتشموا مني كما يحتشم من السلاطين والأمراء كترك المسارة والحديث إجلالا وخوفا منهم ، وترك مشاورتهم أو إعلامهم ببعض الأمور والقيام بين أيديهم.

قوله عليه‌السلام : « بالمصانعة » أي الرشوة أو المداراة.

قوله عليه‌السلام : « كان العمل بهما أثقل عليه » وشأن الولاة العمل بالعدل والحق أو أنتم تعلمون أنه لا يثقل على العمل بهما.

قوله عليه‌السلام : « بفوق » أي أخطأ هذا من الانقطاع إلى الله ، والتواضع الباعث

__________________

(١) سورة هود / ١١٦.

(٢) القاموس : ج ٤ ص ٣٠٦.

٥٢٧

فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من أنفسنا وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة بعد العمى.

فأجابه الرجل الذي أجابه من قبل.

فقال أنت أهل ما قلت والله والله فوق ما قلته فبلاؤه عندنا ما لا يكفر وقد حملك

______________________________________________________

لهم على الانبساط معه بقول الحق ، وعد نفسه من المقصرين في مقام العبودية ، والإقرار بأن عصمته من نعمه تعالى عليه ، وليس أنه اعترافا بعدم العصمة كما توهم بل ليست العصمة إلا ذلك ، فإنها هي أن يعصم الله العبد عن ارتكاب المعاصي ، وقد أشار عليه‌السلام إليه بقوله : « إلا أن يكفي الله » وهذا مثل قول يوسف عليه‌السلام : « وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي » (١).

قوله عليه‌السلام : « ما هو أملك به مني » أي العصمة عن الخطإ ، فإنه تعالى أقدر على ذلك للعبد من العبد لنفسه.

قوله عليه‌السلام : « مما كنا فيه » أي من الجهالة وعدم العلم والمعرفة والكمالات التي يسرها الله لنا ببعثه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال ابن أبي الحديد : ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه عليه‌السلام ، لأنه لم يكن كافرا فأسلم ، ولكنه كلام يقوله ويشير به إلى القوم الذين يخاطبهم من أفناء الناس فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا ، ويجوز أن يكون معناه : لو لا ألطاف الله تعالى ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لكنت أنا وغيري على مذهب الأسلاف انتهى (٢).

قوله : « فبلاؤه عندنا لا يكفر » أي نعمته عندنا وافرة ، بحيث لا نستطيع كفرها وسترها ، أو لا يجوز كفرانها وترك شكرها.

__________________

(١) سورة يوسف : ٥٣.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١١ ص ١٠٨.

٥٢٨

الله تبارك وتعالى رعايتنا وولاك سياسة أمورنا فأصبحت علمنا الذي نهتدي به وإمامنا الذي نقتدي به وأمرك كله رشد وقولك كله أدب قد قرت بك في الحياة أعيننا وامتلأت من سرور بك قلوبنا وتحيرت من صفة ما فيك من بارع الفضل عقولنا ولسنا نقول لك أيها الإمام الصالح تزكية لك ولا نجاوز القصد في الثناء عليك ولم يكن في أنفسنا طعن على يقينك أو غش في دينك فنتخوف أن تكون أحدثت بنعمة الله تبارك وتعالى تجبرا أو دخلك كبر ولكنا نقول لك ما قلنا تقربا إلى الله عز وجل بتوقيرك وتوسعا بتفضيلك وشكرا بإعظام أمرك فانظر لنفسك ولنا وآثر أمر الله على نفسك وعلينا فنحن طوع فيما أمرتنا ننقاد من الأمور مع ذلك فيما ينفعنا.

فأجابه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

فقال وأنا أستشهدكم عند الله على نفسي لعلمكم فيما وليت به من أموركم وعما قليل يجمعني وإياكم الموقف بين يديه والسؤال عما كنا فيه ثم يشهد بعضنا

______________________________________________________

قوله : « سياسة أمورنا » سست الرعية سياسة أمرتها ونهيتها ، والعلم بالتحريك ـ ما ينصب في الطريق ليهتدي به السائرون.

قوله : « من بارع الفضل » قال الفيروزآبادي : برع ـ ويثلث ـ براعة ، فاق أصحابه في العلم وغيره ، أو تم في كل جمال وفضيلة فهو بارع وهي بارعة (١).

قوله : « ولم يكن » على المجهول من كننت الشيء سترته ، أو ـ بفتح الياء وكسر الكاف ـ من وكن الطائر بيضه يكنه ، إذا حضنه ، وفي بعض النسخ [ لم يكن ] وفي النسخة القديمة [ لن يكون ].

قوله : « وتوسعا » أي في الفضل والثواب.

قوله : « مع ذلك » أي مع طاعتنا لك أي نفس الطاعة أمر مرغوب فيه ، ومع ذلك موجب لحصول ما ينفعنا. وما هو خير لنا في دنيانا وآخرتنا.

__________________

(١) القاموس : ج ٣ ص ٤.

٥٢٩

على بعض فلا تشهدوا اليوم بخلاف ما أنتم شاهدون غدا فإن الله عز وجل لا يخفى عليه خافية ولا يجوز عنده إلا مناصحة الصدور في جميع الأمور.

فأجابه الرجل ويقال لم ير الرجل بعد كلامه هذا لأمير المؤمنين عليه‌السلام فأجابه وقد عال الذي في صدره فقال والبكاء يقطع منطقه وغصص الشجا تكسر صوته إعظاما لخطر مرزئته ووحشة من كون فجيعته.

فحمد الله وأثنى عليه ثم شكا إليه هول ما أشفى عليه من الخطر العظيم والذل الطويل في فساد زمانه وانقلاب جده وانقطاع ما كان من دولته ثم نصب المسألة إلى الله عز وجل بالامتنان عليه والمدافعة عنه بالتفجع وحسن الثناء فقال

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « إلا مناصحة الصدور » أي خلوصنا عن غش النفاق ، بأن يطوي فيه ما يظهر خلافه أو نصح الإخوان نصحا يكون في الصدر لا بمحض اللسان.

قوله : « وقد عال الذي في صدره » يقال : عالني الشيء أي غلبني ، وعال أمرهم اشتد.

قوله : « وغصص الشجا » الغصة ـ بالضم ـ ما اعترض في الحلق ، وكذا الشجا والشجو : الهم والحزن.

قوله : « لخطر مرزءته » الخطر ـ بالتحريك ـ : القدر والمنزلة والإشراف على الهلاك ، والمرزءة : المصيبة ، وكذا الفجيعة و ـ كونها ـ أي وقوعها وحصولها ، والضميران راجعان إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام والقائل كان عالما بقرب أو أن شهادته عليه‌السلام فلذا كان يندب ويتفجع ، وإرجاعها إلى القائل بعيد.

قوله : « أشفى » أي أشرف عليه ، والضمير في قوله « إليه » راجع إلى الله تعالى.

قوله : « وانقلاب جده » الجد : البحث ، والتفجع والتوجع في المصيبة أي أسأل الله دفع هذا البلاء ، الذي قد ظن وقوعها عنه مع التفجع والتضرع.

٥٣٠

يا رباني العباد ويا سكن البلاد أين يقع قولنا من فضلك وأين يبلغ وصفنا من فعلك وأنى نبلغ حقيقة حسن ثنائك أو نحصي جميل بلائك فكيف وبك جرت نعم الله علينا وعلى يدك اتصلت أسباب الخير إلينا ألم تكن لذل الذليل ملاذا وللعصاة الكفار إخوانا فبمن إلا بأهل بيتك وبك أخرجنا الله عز وجل من فظاعة تلك الخطرات أو بمن فرج عنا غمرات الكربات وبمن إلا بكم أظهر الله معالم ديننا واستصلح ما كان فسد من دنيانا حتى استبان بعد الجور ذكرنا وقرت من رخاء العيش أعيننا لما

______________________________________________________

قوله : « يا رباني العباد » قال الجزري : الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون ، وقيل : هو من الرب بمعنى التربية ، لأنهم كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها ، والرباني : العالم الراسخ في العلم والدين ، أو الذي يطلب بعلمه وجه الله ، وقيل العالم العامل المعلم (١).

قوله : « ويا سكن البلاد » السكن ـ بالتحريك ـ كلما يسكن إليه.

قوله : « وبك جرت نعم الله علينا » أي بجهادك ومساعيك الجميلة لترويج ، الدين وتشييد الإسلام في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده.

قوله : « والحصاة الكفار إخوانا » أي كنت تعاشر من يعصيك ويكفر نعمتك معاشرة الإخوان شفقة منك عليهم ، أو المراد الشفقة على الكفار ، والعصاة والاهتمام في هدايتهم ، ويحتمل أن يكون المراد المنافقين الذين كانوا في عسكره وكان يلزمه رعايتهم بظاهر الشرع ، وقيل : المراد بالإخوان ، الخوان الذي يؤكل عليه الطعام ، فإنه لغة فيه ، كما ذكره الجزري (٢) ولا يخفى بعده ، وفي النسخة القديمة [ ألم نكن ] بصيغة المتكلم ، وحينئذ فالمراد بالفقرة الأولى أنه كان ينزل بنا ذل كل ذليل ، أي كنا نذل بكل ذلة وهوان وهو أظهر وألصق بقوله : ـ فيمن.

قوله : « من فظاعة تلك الخطرات » أي شناعتها وشدتها.

قوله : « بعد الحور » قال الجوهري : نعوذ بالله من الحور بعد الكور ، أي من

__________________

(١) النهاية : ج ٢ ص ١٨١.

(٢) النهاية ج ٢ ص ٨٩.

٥٣١

وليتنا بالإحسان جهدك ووفيت لنا بجميع وعدك وقمت لنا على جميع عهدك فكنت شاهد من غاب منا وخلف أهل البيت لنا وكنت عز ضعفائنا وثمال فقرائنا وعماد عظمائنا يجمعنا في الأمور عدلك ويتسع لنا في الحق تأنيك فكنت لنا أنسا إذا رأيناك وسكنا إذا ذكرناك فأي الخيرات لم تفعل وأي الصالحات لم تعمل ولو لا أن الأمر الذي نخاف عليك منه يبلغ تحويله جهدنا وتقوى لمدافعته طاقتنا أو يجوز الفداء عنك منه بأنفسنا وبمن نفديه بالنفوس من أبنائنا لقدمنا أنفسنا وأبناءنا قبلك

______________________________________________________

النقصان بعد الزيادة (١) وفي بعض النسخ بالجيم.

قوله عليه‌السلام : « وثمال فقرائنا » قال الجزري : الثمال ـ بالكسر ـ : الملجإ والغياث وقيل : هو المطعم في الشدة (٢).

قوله : « يجمعنا من الأمور عدلك » أي هو سبب لاجتماعنا وعدم تفرقنا في جميع الأمور أو من بين سائر الأمور ، أو هو سبب لانتظام جميع أمورنا ، أو عدلك يحيط بجميعنا في جميع الأمور.

قوله : « ويتسع لنا في الحق تأنيك » أي صار مداراتك وتأنيك وعدم مبادرتك في الحكم علينا بما نستحقه سببا لوسعة الحق علينا وعدم تضيق الأمور بنا.

قوله : « يبلغ تحريكه » أي تغييره وصرفه ، وفي النسخة القديمة [ تحويله ].

قوله : « ولا خطرناها » أي جعلناها في معرض المخاطرة والهلاك أو صيرناها خطرا ورهنا وعوضا لك.

قال الجزري : فيه « فإن الجنة لا خطر لها » أي لا عوض لها ولا مثل ، والخطر ـ بالتحريك ـ في الأصل : الرهن وما يخاطر عليه ، ومثل الشيء وعدله ، ولا يقال إلا في الشيء الذي له قدر ومزية ، ومنه الحديث « ألا رجل يخاطر بنفسه

__________________

(١) الصحاح : ج ٢ ص ٦٣٨.

(٢) النهاية : ج ١ ص ٢٢٢.

٥٣٢

ولأخطرناها وقل خطرها دونك ولقمنا بجهدنا في محاولة من حاولك وفي مدافعة من ناواك ولكنه سلطان لا يحاول وعز لا يزاول ورب لا يغالب فإن يمنن علينا بعافيتك ويترحم علينا ببقائك ويتحنن علينا بتفريج هذا من حالك إلى سلامة منك لنا وبقاء منك بين أظهرنا نحدث لله عز وجل بذلك شكرا نعظمه وذكرا نديمه ونقسم أنصاف أموالنا صدقات وأنصاف رقيقنا عتقاء ونحدث له تواضعا في أنفسنا ونخشع في جميع أمورنا وإن يمض بك إلى الجنان ويجري عليك حتم سبيله فغير متهم فيك قضاؤه ولا مدفوع عنك بلاؤه ولا مختلفة مع ذلك قلوبنا بأن اختياره

______________________________________________________

وماله » أي يلقيهما في الهلكة بالجهاد ، ومنه حديث النعمان « إن هؤلاء ـ يعني المجوس ـ قد أخطروا لكم رثة ومتاعا وأخطرتم لهم الإسلام » المعنى أنهم قد شرطوا لكم ذلك ، وجعلوه رهنا من جانبهم وجعلتم رهنكم دينكم (١).

قوله : « حاولك » أي قصدك.

قوله : « من ناواك » أي عاداك.

قوله : « ولكنه » أي الرب تعالى.

قوله : « وعز » أي ذو عز وغلبة « وزاوله » أي حاوله وطالبه ، وهذا إشارة إلى أن تلك الأمور بقضاء الله وتقديره ، والمبالغة في دفعها في حكم مغالبة الله في تقديراته ، وقد سبق تحقيق القضاء والقدر في كتاب الإيمان والكفر (٢) وحققناهما في كتابنا الكبير (٣).

قوله : « نعظمه » الضمير في قوله ـ نعظمه ـ و ـ نديمه ـ راجعان إلى الشكر والذكر.

قوله : « بلاؤه » يحتمل النعمة أيضا.

__________________

(١) النهاية : ج ٢ ص ٤٦ ـ ٤٧.

(٢) لاحظ ج ٨ ص ١ ـ ١٥.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٤ ـ ١٣٥.

٥٣٣

لك ما عنده على ما كنت فيه ولكنا نبكي من غير إثم لعز هذا السلطان أن يعود ذليلا وللدين والدنيا أكيلا فلا نرى لك خلفا نشكو إليه ولا نظيرا نأمله ولا نقيمه.

( خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام )

٥٥١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن علي جميعا ، عن إسماعيل بن مهران

______________________________________________________

قوله : « بأن اختياره لك » قوله : « ما عنده » خبر أن ، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفا أي خير لك ، والمعنى أنه لا تختلف قلوبنا بل تتفق على أن الله اختار لك بإمضائك النعيم والراحة الدائمة على ما كنت فيه من المشقة والجهد والعناء.

قوله : « من غير إثم » أي لا نأثم على البكاء عليك ، فإنه من أفضل الطاعات أو لا نقول ما يوجب الإثم.

قوله : « لعز » متعلق بالبكاء و « أن يعود » بدل اشتمال له أي نبكي لتبدل عز هذا السلطان ذلا.

قوله : « أكيلا » الأكيل يكون بمعنى المأكول ، وبمعنى الأكل والمراد هنا الثاني أي نبكي لتبدل هذا السلطان الحق بسلطنة الجور ، فيكون أكلا للدين والدنيا ، وفي بعض النسخ [ لعن الله هذا السلطان ] فلا يكون مرجع الإشارة سلطنته عليه‌السلام ، بل جنسها الشامل للباطل أيضا ، أي لعن الله السلطنة التي لا تكون صاحبها ، ويحتمل أن يكون اللعن مستعملا في أصل معناه لغة ، وهو الإبعاد أي أبعد الله هذا السلطان عن أن يعود ذليلا ولا يخفى بعده.

قوله : « ولا نرى لك خلفا » أي من بين السلاطين لخروج السلطنة عن أهل البيت عليهم‌السلام.

خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام

الحديث الحادي والخمسون والخمسمائة : مجهول لكنها معروفة.

٥٣٤

وأحمد بن محمد بن أحمد ، عن علي بن الحسن التيمي وعلي بن الحسين ، عن أحمد بن محمد بن خالد جميعا ، عن إسماعيل بن مهران ، عن المنذر بن جيفر ، عن الحكم بن ظهير ، عن عبد الله بن جرير العبدي ، عن الأصبغ بن نباتة قال أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام عبد الله بن عمر وولد أبي بكر وسعد بن أبي وقاص يطلبون منه التفضيل لهم فصعد المنبر ومال الناس إليه فقال :

الحمد لله ولي الحمد ومنتهى الكرم لا تدركه الصفات ولا يحد باللغات ولا يعرف بالغايات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نبي الهدى وموضع التقوى ورسول الرب الأعلى جاء بالحق من عند الحق لينذر بالقرآن المنير والبرهان المستنير فصدع بالكتاب المبين ومضى على ما مضت عليه

______________________________________________________

قوله : وولد أبي بكر هو عبد الرحمن لعنة الله على أبيه.

قوله عليه‌السلام : « ولي الحمد » أي الأولى به ، أو المتولي لحمد نفسه كما ينبغي له بإيجاد ما يدل على كماله واتصافه لجميع المحامد ، وبتلقين ما يستحقه من الحمد أنبياءه وحججه عليه‌السلام ، وإلهام محبيه وتوفيقهم للحمد.

قوله عليه‌السلام : « ومنتهى الكرم » أي ينتهي إليه كل جود وكرم ، لأنه موجد النعم والموفق لبذلها ، أو هو المتصف بأعلى مراتب الكرم ، والمولى بجلائل النعم ، ويحتمل أن يكون الكرم بمعنى الكرامة والجلالة على الوجهين السابقين.

قوله عليه‌السلام : « لا تدركه الصفات » أي توصيفات الواصفين ، أو صفات المخلوقين.

قوله عليه‌السلام : « ولا يعرف بالغايات » أي بالنهايات والحدود الجسمانية أو بالحدود العقلية ، إذ حقيقة كل شيء وكنهه حده ونهايته ، أو ليس له نهاية لا في وجوده ولا في علمه ولا في قدرته ، وكذا سائر صفاته أو لا يعرف بما هو غاية إنكار المتفكرين.

قوله عليه‌السلام : « فصدع بالكتاب المبين » قال الفيروزآبادي : قوله تعالى : « فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ » أي شق جماعاتهم بالتوحيد ، أو أجهر بالقرآن ، أو أظهر أو احكم

٥٣٥

الرسل الأولون أما بعد.

أيها الناس فلا يقولن رجال قد كانت الدنيا غمرتهم فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا أفره الدواب ولبسوا ألين الثياب فصار ذلك عليهم عارا وشنارا ـ إن لم يغفر لهم الغفار إذا منعتهم ما كانوا فيه يخوضون وصيرتهم إلى ما يستوجبون فيفقدون ذلك فيسألون ويقولون ظلمنا ابن أبي طالب وحرمنا ومنعنا حقوقنا فالله عليهم المستعان من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وآمن بنبينا وشهد شهادتنا ودخل في ديننا أجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى ألا

______________________________________________________

بالحق وافصل بالأمر ، أو اقصد بما تؤمر ، أو أفرق به بين الحق والباطل (١).

قوله عليه‌السلام : « فلا تقولن رجال » الظاهر أن قوله ـ رجال ـ فاعل لا ـ تقولن ـ وما ذكر بعده ، إلى قوله ـ ويقولون صفات تلك الرجال وقوله ـ ظلمنا ابن أبي طالب مقول القول ، وقوله ـ يقولون ـ تأكيد للقول المذكور في أول الكلام إنما أتى به لكثرة الفاصلة بين العامل والمعمول.

ويحتمل أن يكون مقول القول محذوفا ، يدل عليه. قوله : « ظلمنا ابن أبي طالب ».

وقال الفاضل الأسترآبادي : مفعوله محذوف تقدير الكلام فلا تقولن ما قلتم من طلب التفضيل وغيره ، رجال كانت الدنيا غمرتهم في زمن الخلفاء الثلاثة ، إذا منعتهم ما كانوا يأخذون وأعطيتهم ما يستوجبون ، فيصرفون ما أعطيتهم ويسألون الزيادة عليه ، ويقولون ظلمنا ابن أبي طالب انتهى.

أقول : لا يخفى أن ما ذكرناه أظهر وفي بعض النسخ [ رجالا ] ـ بالنصب ـ ولعل فيه حينئذ حذفا أي لا تقولن أنتم نعتقد أو نتولى رجالا صفتهم كذا كذا.

قوله : عليه‌السلام « أفره الدواب » يقال : دابة فارهة أي نشيطة قوية نفيسة ، والشنار : العيب والعار.

__________________

(١) القاموس : ج ٣ ص ٥٠.

٥٣٦

وإن للمتقين عند الله تعالى أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمآب لم يجعل الله تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثوابا « وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ » انظروا أهل دين الله فيما أصبتم في كتاب الله وتركتم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاهدتم به في ذات الله أبحسب أم بنسب أم بعمل أم بطاعة أم زهادة وفيما أصبحتم فيه راغبين فسارعوا إلى منازلكم رحمكم الله التي أمرتم بعمارتها العامرة التي لا تخرب الباقية التي لا تنفد التي دعاكم إليها وحضكم عليها ورغبكم فيها وجعل الثواب عنده عنها فاستتموا نعم الله عز ذكره بالتسليم لقضائه والشكر على نعمائه فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا وإن الحاكم يحكم

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « ألا وإن للمتقين » أي ليس الكرم عند الله إلا بالتقوى وجزاء التقوى ليس إلا في العقبى ، ولم يجعل الله جزاء عملهم التفضيل في عطايا الدنيا.

قوله عليه‌السلام : « فانظروا أهل دين الله » أي يا أهل دين الله كذا في النسخ المصححة وفي بعضها [ إلى أهل ] والمراد بقوله : « فيما أصبتم في كتاب الله » نعوت الأنبياء والأولياء الذين ذكرهم الله في القرآن ، أو مواعيده الصادقة على الأعمال الصالحة وبقوله : « تركتم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صفاته الحسنة وصفات أصحابه وما كان يرتضيه صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك له ضمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم المثوبات على الصالحات كأنه وديعة لهم عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله عليه‌السلام : « وجاهدتم به » أي بسببه وهو ما رأيتم من فضله وكماله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو ما سمعتم من المثوبات عليه.

قوله عليه‌السلام : « أبحسب أم بنسب » أم لم تكن تلك الأمور بالحسب والنسب ، بل بالعمل والطاعة والزهادة.

قوله عليه‌السلام : « وفيما أصبحتم » أي انظروا فيما أصبحتم راغبين فيه ، هل يشبه ما رأيتم وعهدتم مما تقدم ذكره ، وانظروا أيهما أصلح لأن يرغب فيه.

قوله عليه‌السلام : « وجعل الثواب عنده عنها » كلمة ـ عن ـ لعلها بمعنى من ـ للتبعيض أو قوله ـ التي ـ بدل اشتمال للمنازل ، والمراد بها الأعمال التي توصل إليها ، ولا

٥٣٧

بحكم الله ولا خشية عليه من ذلك « أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » في نسخة ولا وحشة وأولئك « لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ».

وقال وقد عاتبتكم بدرتي التي أعاتب بها أهلي فلم تبالوا وضربتكم بسوطي الذي أقيم به حدود ربي فلم ترعووا أتريدون أن أضربكم بسيفي أما إني أعلم الذي تريدون ويقيم أودكم ولكن لا أشتري صلاحكم بفساد نفسي بل يسلط الله عليكم قوما فينتقم لي منكم فلا دنيا استمتعتم بها ولا آخرة صرتم إليها فبعدا وسحقا « لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ».

٥٥٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى وأبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار جميعا ، عن علي بن حديد ، عن جميل ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سأله حمران فقال جعلني الله فداك لو حدثتنا متى يكون هذا الأمر فسررنا به فقال

______________________________________________________

يبعد أن يكون في الأصل ـ والتي ـ أو ـ بالتي ـ فصحف.

قوله عليه‌السلام : « ولا خشية عليه من ذلك » أي لا يخشى على الحاكم العدل أي الإمام أن يترك حكم الله ، ولا يجوز أن يظن ذلك به ، أو لا يخشى الحاكم بسبب العمل بحكم الله من أحد ، أو أن يكون معاقبا بذلك عند الله.

وعلى نسخة [ ولا وحشة ] المعنى أنه إذا عمل الحاكم بحكم الله لا يستوحش من مفارقة رعيته عنه بسبب ذلك.

قوله عليه‌السلام : « بدرتي » الدرة ـ بالكسر ـ : التي يضرب بها ، ويظهر من الخبر أن السوط أكبر وأشد منها ، والإرعواء : الانزجار عن القبيح ، وقيل : الندم على الشيء والانصراف عنه ، وتركه ، والأود بالتحريك ـ : العوج.

قوله عليه‌السلام : « بفساد نفسي » أي لا أطلب صلاحكم بالظلم ، وبما لم يأمرني به ربي ، فأكون قد أصلحتكم بإفساد نفسي.

قوله عليه‌السلام : « وسحقا » أي بعدا.

الحديث الثاني والخمسون والخمسمائة : ضعيف.

٥٣٨

يا حمران إن لك أصدقاء وإخوانا ومعارف إن رجلا كان فيما مضى من العلماء وكان له ابن لم يكن يرغب في علم أبيه ولا يسأله عن شيء وكان له جار يأتيه ويسأله ويأخذ عنه فحضر الرجل الموت فدعا ابنه فقال يا بني إنك قد كنت تزهد فيما عندي وتقل رغبتك فيه ولم تكن تسألني عن شيء ولي جار قد كان يأتيني ويسألني ويأخذ مني ويحفظ عني فإن احتجت إلى شيء فأته وعرفه جاره فهلك الرجل وقي ابنه فرأى ملك ذلك الزمان رؤيا فسأل عن الرجل فقيل له قد هلك فقال الملك هل ترك ولدا فقيل له نعم ترك ابنا فقال ائتوني به فبعث إليه ليأتي الملك فقال الغلام والله ما أدري لما يدعوني الملك وما عندي علم ولئن سألني عن شيء لأفتضحن فذكر ما كان أوصاه أبوه به فأتى الرجل الذي كان يأخذ العلم من أبيه فقال له إن الملك قد بعث إلي يسألني ولست أدري فيم بعث إلي وقد كان أبي أمرني أن آتيك إن احتجت إلى شيء فقال الرجل ولكني أدري فيما بعث إليك فإن أخبرتك فما أخرج الله لك من شيء فهو بيني وبينك فقال نعم فاستحلفه واستوثق منه أن يفي له فأوثق له الغلام فقال إنه

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « إن لك أصدقاء وإخوانا » لعل المقصود من إيراد تلك الحكاية إن هذا الزمان ليس زمان الوفاء بالعهود ، فإذا عرفت زمان ظهور الأمر ، فلك معارف وإخوان فتحدثهم به ، فيشيع الخبر بين الناس وينتهي إلى الفساد العظيم ، والعهد بالكتمان لا ينفع ، لأنك لا تفي به إذ لم يأت بعد زمان الميزان ، أو المراد إن لك معارف وإخوانا فانظر إليهم هل يوافقونك في أمر أو يفون بعهدك في شيء فكيف يظهر الإمام في مثل هذا الزمان ، أو المراد أنه يمكنك استعلام ذلك ، فإن لك معارف وإخوانا فانظر في حالهم فمهما رأيت منهم العزم على الانقياد والإطاعة والتسليم التام لإمامهم ، فاعلم أنه زمان ظهور القائم عليه‌السلام فإن قيامه عليه‌السلام مشروط بذلك ، وأهل كل زمان يكون عامتهم على حالة واحدة ، كما يظهر من الحكاية فيمكنك استعلام أحوال جميع أهل الزمان بأحوال معارفك ، والأول أظهر.

قوله : « ولكني أدري » لعل علمه كان بإخبار ذلك العالم ، وكان العالم أخذه

٥٣٩

يريد أن يسألك عن رؤيا رآها أي زمان هذا فقل له هذا زمان الذئب فأتاه الغلام فقال له الملك هل تدري لم أرسلت إليك فقال أرسلت إلي تريد أن تسألني عن رؤيا رأيتها أي زمان هذا فقال له الملك صدقت فأخبرني أي زمان هذا فقال له زمان الذئب فأمر له بجائزة فقبضها الغلام وانصرف إلى منزله وأبى أن يفي لصاحبه وقال لعلي لا أنفد هذا المال ولا آكله حتى أهلك ولعلي لا أحتاج ولا أسأل عن مثل هذا الذي سئلت عنه فمكث ما شاء الله ثم إن الملك رأى رؤيا فبعث إليه يدعوه فندم على ما صنع وقال والله ما عندي علم آتيه به وما أدري كيف أصنع بصاحبي وقد غدرت به ولم أف له ثم قال لآتينه على كل حال ولأعتذرن إليه ولأحلفن له فلعله يخبرني فأتاه فقال له إني قد صنعت الذي صنعت ولم أف لك بما كان بيني وبينك وتفرق ما كان في يدي وقد احتجت إليك فأنشدك الله أن لا تخذلني وأنا أوثق لك أن لا يخرج لي شيء إلا كان بيني وبينك وقد بعث إلي الملك ولست أدري عما يسألني فقال إنه يريد أن يسألك عن رؤيا رآها أي زمان هذا فقل له إن هذا زمان الكبش فأتى الملك فدخل عليه فقال لما بعثت إليك فقال إنك رأيت رؤيا وإنك تريد أن تسألني أي زمان هذا فقال له صدقت فأخبرني أي زمان هذا فقال هذا زمان الكبش فأمر له بصلة فقبضها وانصرف إلى منزله وتدبر في رأيه في أن يفي لصاحبه أو لا يفي له فهم مرة أن يفعل ومرة أن لا يفعل ثم قال لعلي أن لا أحتاج إليه بعد هذه المرة أبدا وأجمع رأيه على الغدر وترك الوفاء فمكث ما شاء الله ثم إن الملك رأى رؤيا فبعث إليه فندم على ما صنع فيما بينه وبين صاحبه وقال بعد غدر مرتين كيف أصنع وليس عندي علم ثم أجمع رأيه على إتيان الرجل فأتاه فناشده الله تبارك وتعالى وسأله أن يعلمه وأخبره أن هذه المرة يفي منه وأوثق له وقال لا تدعني على هذه الحال فإني لا أعود إلى الغدر وسأفي لك فاستوثق منه فقال إنه يدعوك يسألك عن رؤيا رآها أي زمان هذا فإذا سألك فأخبره أنه زمان الميزان قال فأتى الملك فدخل عليه فقال له لم

______________________________________________________

من الأنبياء حيث أخبروا بوحي السماء أن هذا الملك سيري تلك الأحلام ، وهذا تعبيرها ، أو بأن أخذ من العالم نوعا من العلم يمكنه استنباط أمثال تلك الأمور

٥٤٠